الفصل الخامس

نظرية الدساتير المكتوبة

الدستور الإنكليزي – الدساتير الأميركية – الدساتير المكتوبة الفرنسية والأجنبية – الفرق بين القوانين الدستورية والقوانين العادية – القوانين الأساسية عند أصحاب مذهب الحقوق الطبيعية – صفة القوانين الدستورية: ثباتها النسبي – كيف يمكن تعديلها؟ نظرية فاتل وسيايس وروسو – الفرق بين السلطة الاشتراعية والسلطة التأسيسية – نسخ الدساتير المكتوبة – السلطة التأسيسية بعد حدوث إحدى الثورات – القوانين الدستورية المقيدة للسلطة الاشتراعية والقوانين غير الدستورية – المذهب الأميركي – المذهب الأوربي – هيئة المحلَّفين الدستورية التي قال بها سيايس – مجلس الشيوخ المحافظ الذي نص عليه دستور السنة الثامنة ودستور سنة ١٨٥٢ – المذهب الفرنسي.

يمكن تحديد القواعد الدستورية (كما تحدَّد قواعد الحقوق الأخرى) على وجهين؛ إما بالعادة وإما بقانون مكتوب، وقد كانت العادة هي المحدِّدة لدساتير مختلف البلدان، وذلك حتى حدوث الحركة الفكرية التي نشأت عن الثورة الأميركية والثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، وكان يوجد بين الدساتير المعيَّن أمرها بضع وثائق دستورية مكتوبة كالمنح التي كان أحد الملوك يوافق أحيانًا على مَنحها للشعب، وكالمُعاهدات التي كان يوقِّعها بعض الإمارات المستقلَّة بُغية الوصول إلى تأليف دولة واحدة منها، وقد حافظت إنكلترة — التي ظلَّت خارجة عن نطاق الحركة الثورية في القرن المذكور — على دستور لها من هذا النوع، فمُعظم دستورها قائم على العرف والعادة، وهو لا يَشتمل على غير عدد قليل من النُّظُم المكتوبة التي نخصُّ بالذكر منها المنشور الكبير وذيوله وعريضة الحقوق ومشروع الحقوق ومُعاهَدات اتحاد اسكتلندا وأيرلند بإنكلترة.

والمبدأ القائل بضرورة تدوين دستور الأمة في شكل قانون أساسي مكتوب هو من أعزِّ المبادئ على فقهاء القرن الثامن عشر؛ فقد كان هؤلاء الفقهاء يرون أن القانون المكتوب — وهو أفضل من العادة — يجب أن تُسْكَب في قالبه قواعد الدستور، وكانوا يرون أيضًا أن الدستور الجديد الذي تُمليه سيادة الأمة كنايةٌ عن تجديد للعقد الاجتماعي يُقْتَضى صوغه في مواد قانونية، وكانوا يَعُدُّون الدساتير المكتوبة أحسن وسيلة لنشر الثقافة السياسية بين أبناء الوطن.

ودساتير المُستعمَرات الأميركية الشمالية المحرَّرة التي سُنَّت منذ سنة ١٧٧٦ هي أول الدساتير اتِّباعًا للرأي المذكور، ثم لما وضعت الولايات المتحدة دستور التعاهد في سنة ١٧٨١ ودستور الاتحاد في سنة ١٧٨٧ سارت على ذلك النحو، وقد سارت فرنسا عليه أيضًا في دستورها الذي وضعته في سنة ١٧٩١، ولم تشذَّ فرنسا عنه في دساتيرها التي سنَّتها منذ هذا التاريخ على رغم ما اشتعل فيها من الثورات المتعاقبة، وعندما اكتسحت فرنسا بجيوشها ومبادئها أوربة في الدور الجمهوري الذي استمرَّ بين سنة ١٧٩٢ والسنة الثانية عشرة، وفي الدور الإمبراطوري الذي استمر بين السنة الثانية عشرة وسنة ١٨١٤ نشرت في أوربة عددًا من الدساتير المنسوجة على منوال دساتيرها، ولكنه لما وقعت حوادث سنة ١٨١٤ وسنة ١٨١٥ استردت مبادئ الحقوق السماوية قوتها، ورقَدت نظرية الدساتير المكتوبة المستندة إلى مبدأ السيادة القومية، ثم عادت لهذه النظرية حركتها السابقة في أوربة، فنُشِرَت دساتير مكتوبة ولكن كدساتير منحها الملوك؛ وذلك إذا استثنينا دستور بلجيكا الموضوع في سنة ١٨٣١، ودستور سويسرة الموضوع في سنة ١٨٤٨ اللذين سُنَّا باسم السيادة القومية، وكلما كانت مستعمرات أميركا الوسطى والجنوبية تتحرَّر من ربقة إسبانيا والبرتغال وتَصير مستقلة، كانت تضع لنفسها دساتير مكتوبة مقتبسة من دستور الولايات المتحدة، وكذلك البلدان التي حرَّرتها الحرب العامة سَنَّت لنفسها دساتير مكتوبة، وهكذا يسود البلدان الحرة في أوربة — إلا ما ندر — مبدأ الدساتير المكتوبة.

ولم يحافَظ في أوربة على مبدأ الدساتير المُستندة إلى العادة كما أوجدها النشوء التاريخي سوى دولتين؛ وهما: إنكلترة وهنغاريا. ولم تَفترق هاتان الدولتان عن الدول الأخرى في مسألة تدوين الدساتير كتابةً وعدمه، بل تفترق أيضًا في كون القوانين العادية تَختلف في البلدان القائلة بنظرية الدساتير المكتوبة عن القوانين الدستورية طبيعةً وقوةً.

•••

إنَّ التفريق بين القوانين الدستورية والقوانين العادية هو مِن عمل فقهاء القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر المُنتسِبين إلى مذهب الحقوق الطبيعية والناس؛ فالقوانين الدستورية عند هؤلاء كناية عن عمل السيادة القومية الرئيس الذي لم تكن أعمال السيادة القومية الأخرى سوى نتائج له، وهي عندهم لم تكن مصدر السلطة التنفيذية والسلطة القضائية وحدهما، بل مصدر السلطة الاشتراعية أيضًا، ومن هنا ذهبوا إلى أن القوانين الدستورية أقدم وأسنى من القوانين العادية، وأنه يُفْرَض على السلطة الاشتراعية احترامها، وأن هذه السلطة لا تستطيع أن تلغيها أو تعدِّلها، وأنها لا تستطيع أن تشترع إلا ضمن الشروط والأشكال المعينة فيها؛ قال فاتل: «إنَّ الأمة قادرة على تفويض سلطة وضع القوانين وإلغائها إلى أمير أو إلى مجلس أو إليهما معًا، ولكن على الأمير أو المجلس إذ ذاك أن يُقدِّس القوانين الأساسية، وأن لا يُبدِّلها إذا لم تمنحه الأمة ذلك صراحةً؛ فهو يستمدُّ سلطانه من القوانين الأساسية نفسها.» ومثل هذا ما صرَّح به سيايس في سنة ١٧٨٩، فقد قال: «إنَّ القوانين الدستورية تُقسَّم إلى قسمين؛ القسم المنظِّم لتركيب الهيئة الاشتراعية ووظائفها، والقسم المنظِّم لتركيب الهيئات الأخرى ووظائفها، والسبب في تسمية هذه القوانين بالقوانين الأساسية هو أنَّ الهيئات المذكورة التي تستمدُّ سلطاتها منها لا تقدر على مسِّها؛ فهي وليدة السلطة المؤسِّسة لا السلطة المفوَّض إليها أمر مُباشَرة السلطات.»

ومع ذلك، فإنَّ لمبدأ القوانين الدستورية قاعدتَين حقوقيتين مختلفتين؛ فلنبحث في كلٍّ منها على حدة.

•••

أول ما ينتج عما تقدَّم كون القوانين الدستورية ثابتة لا تتبدَّل، ولكن هذا الثبات غير مطلق؛ فمن مقتضيات السيادة القومية أن تستطيع الأمة تغيير دستورها على الدوام، وإلا انطوى تحت جمود القوانين الدستورية المُطلَق تمرُّد على سنن التاريخ والارتقاء، وإذا كان من الممكن تعديل القوانين الدستورية أو تبديلها فكيف يوصل إلى ذلك والمشترع عاجز عن أن يمسَّها؟ لم يتفق علماء النظر في القرن الثامن عشر على كيفية التعديل؛ فقد دار حولها ثلاثة آراء مختلفة:
  • (١)

    فالرأي الأول يقول بأنه يقتضي أن يوافق أبناء الوطن بالإجماع على تعديل القوانين الدستورية، وهذه نتيجة لعدِّ الدستور المكتوب من فصيلة العقد الاجتماعي، ولكن هذا الرأي يؤدي إلى جمود القوانين الدستورية جمودًا مطلقًا، فالإجماع المطلوب أمر وهميٌّ يتعذَّر تحقيقه، حتى إنَّ فاتل الذي أبدى الرأي المذكور في كتابه المسمى «حقوق الناس» لطَّفه بقوله: إنَّ الكلمة الأخيرة تكون لأكثرية أبناء الوطن، وإنه يحقُّ للأقلية المنشقَّة أن تنفصل عن المجتمع الذي لم يحترم عقده الأساسي.

  • (٢)

    والرأي الثاني هو الرأي الذي عرضه سيايس، فعدَّ به القوانين الدستورية أمرًا تُلْزم به السلطات المؤسِّسة دون الأمة؛ فللأمة وحدها أن تعدِّله متى أرادت، وذلك من غير أن تتقيَّد بشكل، ويمكن الأمة أن تنيب عنها بنص صريح أناسًا ممثلين لها كي يقوموا بهذا التعديل.

  • (٣)

    والرأي الثالث (وهو الذي تمَّ له الفوز في دساتير أميركا وفرنسا لبساطته وموافقته للصواب) يقول بأنه لا يمكن تعديل الدستور وإعادة النظر فيه إلا من قِبَل السلطة التي ينص عليها وبموجب الطريقة التي يشير إليها، وجان جاك روسو هو الذي أبدى هذا الرأي.

وقد نشأ عن القاعدة المذكورة الفرق بين السلطة الاشتراعية والسلطة التأسيسية ولو كان مصدر هاتين السلطتين واحدًا، فوظيفة السلطة الاشتراعية هي سنُّ القوانين العادية، ووظيفة السلطة التأسيسية هي سنُّ القوانين الدستورية، وإنَّ تَينك السلطتين وإن كانتا من حيث العموم مختلفتَين اختلافًا ملائمًا للفرق الذي بين وظيفتيهما نرى هذا الاختلاف يبقى عند تفويض الدستور إلى أعضاء الهيئة الاشتراعية أمرَ إعادة النظر في القوانين الدستورية أيضًا؛ إذ يسير هؤلاء الأعضاء حينئذٍ ضمن شروط غير الشروط التي يسيرون بها عند سنِّ القوانين العادية، وذلك إما أن يختلط (كما يقع في فرنسا) بعضهم ببعض مؤقتًا حتى يتألَّف منهم جميعهم مجلس واحد جديد، وإما أن يجدَّد (كما يقع في بلجيكا) انتخابهم قبل أن يسيروا كسُلطة تأسيسية، وإما أن يُشْتَرَطَ لتعديل الدستور أكثرية أقوى من الأكثرية التي تُشْتَرط لسنِّ القوانين العادية، وقد ذهب سيايس إلى أنَّ التفريق بين السلطة الاشتراعية والسلطة التأسيسية من مُبتكَرات الثورة الفرنسية الكبرى، فلا تنسَ أنَّ الفكرة التي قام عليها أقدم من هذه الثورة؛ بدليل أن المستعمَرات الإنكليزية الأميركية المحرَّرة اتخذته في دساتيرها كما اتخذته الولايات المتحدة في دستورها الاتحادي الذي سُنَّ في ١٧٨٧–١٧٨٩.

وإن دستور سنة ١٧٩١ هو أول دستور اتخذت فيه فرنسا هذا النظام، ولو استثنيت ثلاثة دساتير لرأيتَ أن الدساتير الفرنسية التي سُنَّت منذ ذلك التاريخ نصَّت على النظام المذكور بصراحة، وتلك الدساتير الثلاثة الشاذة عن النظام المذكور هي: دستور شهر ٢٢ فريمير1 من السنة الثامنة، ودستور سنة ١٨١٤، ودستور سنة ١٨٣٠، فأما دستور السنة الثامنة فقد نصَّ على إحداث مجلس شيوخ محافظ يفوَّض إليه أمر المحافظة على الدستور، ولما أراد بونابرت في السنة العاشرة والسنة الثانية عشرة أن يكون قنصلًا مدى الحياة، ثم أن يُنصَّب إمبراطورًا قدَّر أن يكون لمجلس الشيوخ المشار إليه حق في تعديل الدستور.

وأما دستور سنة ١٨١٤ الفرنسي فيظهر أنه ذُهِبَ إلى إمكان تعديله من قِبَل الملك والمجلسين اللذَين نص على تأليفهما، وهذا ملائم لوصفه بأنه منحة من الملك، ولكنه كان يرى أن هنالك أمرًا رادعًا للملك من تعديل هذه المنحة؛ وهو العهد الذي عاهد الملك به البلاد على المحافظة عليه هو وخلفاؤه من بعده إلى الأبد. وأما دستور سنة ١٨٣٠ الذي اقترع له المجلسان ووافق عليه الملك فقد وقع اختلاف في أمر تعديله؛ فبعضهم اقترح أن تُطبَّق عليه النظرية القائلة بالتفريق بين السلطة الاشتراعية والسلطة التأسيسية، وبعدم إمكان تعديله بقانون عادي، والبعض الآخر (وهو صاحب الرأي السائد) قال بإمكان تعديله عندما يتَّفق الملك والمجلسان على هذا التعديل.

وقد تسرَّب مبدأ التفريق بين السلطة الاشتراعية والسلطة التأسيسية في أكثر الدساتير المكتوبة في الوقت الحاضر، بَيْدَ أن هنالك أممًا كبيرة لم تقُلْ بهذا المبدأ، فانظر إلى إنكلترة ترَ أن معظم دستورها ظل قائمًا على العادة، وأنَّ الإنكليز لا يَرون فرقًا بين القوانين الدستورية والقوانين العادية من حيث القوة والشكل؛ ففي إنكلترة يستطيع البرلمان (أي التاج ومجلس اللوردات ومجلس النواب) أن يشترع أمورًا دستورية جوهرية على الوجه الذي يشترع به أي أمر آخر، هذا هو المبدأ الذي يصرِّح به فقهاء إنكلترة المتأخِّرون ليُعارضوا به النظام السائد لفرنسا والولايات المتحدة وغيرهما من الأمم التي اقتبستْه منهما، ولا تظن أن رجال الثورة الفرنسية كانوا يجهلون المبدأ المذكور؛ فقد قال سيايس في المجلس التأسيسي الفرنسي الأول: «إنَّ إنكلترة لم تفرِّق بين السلطة التأسيسية والسلطة الاشتراعية، وسوف تتمتَّع بمبدأ دستوري قائل بأنه ليس للسلطة الاشتراعية أن تُمارس السلطة التأسيسية، كما أنه ليس لها أن تمارس السلطة التنفيذية، وبأن المجلس الوطني العادي لا يكون غير مجلس اشتراعي محظور عليه أن يمس شيئًا من الدستور.» ومع ذلك فإننا نعترف بأن محافظة الإنكليز على تقاليدهم في هذا المضمار أمر أرادوه عن شعور؛ فهم أول الأمم حيازةً لدستور مكتوب (وأعني بهذا الدستور نظام الحكومة الذي نشره كرومويل في ١٦ ديسمبر سنة ١٦٣٣، واحتوى على نصوص قائلة ببطلان كل قانون مناقض له)، وإن ظلَّ غير مؤثِّر في تقاليد إنكلترة المناقضة له.

وقد سلك بعض الأمم الأوربية — التي تتمتَّع بدساتير مكتوبة — سبيل إنكلترة في عدم التفريق بين السلطة التأسيسية والسلطة الاشتراعية، ومن هذه الأمم نَذكُر بروسيا وإيطاليا.

ومما لا مراء فيه أنَّ لكلا المبدأين فوائد ومحاذير؛ فالمبدأ الإنكليزي يتَّصف بمرونة كبيرة يمكن بها تعديل الدستور من غير أن تقع في البلاد أزمة، وهو (على ما يظهر) يُطبَّق من غير خطر في البلدان القائلة بنظام المجلسَين، وفي البلدان القائلة بالنظام الملكي الدستوري الذي يقتضي موافقة الملك على القانون حتى يتمَّ وضعُه؛ فالزواجر التي تحُول دون الاسترسال في تعديل القوانين العادية تَكفي إذ ذاك لضمان ثبات القوانين الدستورية، والمبدأ الفرنسي الأميركي أفضل في الجمهوريات الديموقراطية، ولا سيما في القائلة منها بنظام المجلس الواحد؛ حيث يوجب هذا المبدأ ثبات الدستور الذي يعلو السلطة الاشتراعية.

على أن محاذير الدساتير المكتوبة الشديدة وفوائدها تقلُّ أو تزيد بحسب سعة نطاقها وضيقه؛ فإذا أُدْمِجَ في الدستور (ما عدا القواعد التي هي من خصائص الحقوق الدستورية؛ كالقواعد التي يتعيَّن بها شكل الدولة، وشكل الحكومة، وضمان الحقوق الفردية) قواعدُ أخرى تخصُّ الحقوق الإدارية والنظام القضائي والحقوق الجزائية والحقوق المدنية، فإنَّ نشوء هذه الحقوق يتقيَّد ويصعب نموه كصعوبة نمو القواعد الدستورية، وإذا اقتصر الدستور على النص على القواعد الجوهرية التي تخص شكل الدولة وشكل الحكومة والحقوق الفردية، فإنَّ الدساتير الشديدة المكتوبة تقترب بذلك من الدساتير المَرِنة، مع تخلُّصها من تعدِّي المُشترع العادي.

ولا تبالغ في وصف شدة الدساتير التي نُسِجَت على منوال الدساتير الأميركية والدساتير الفرنسية؛ فهذه الدساتير — وإن كان لا يمكن تعديلها إلا باتِّباع الطريقة التي تنص عليها — تنمو وترتقي بتفسيرها تفسيرًا يُعدُّ سابقةً دستورية. فالدستور المكتوب مهما كان تامًّا لا يحلُّ كثيرًا من المسائل التي لا تبدو للأذهان عند تدوينه، وحينما تُوجب الحوادث ظهور إحدى هذه المسائل لا يبقى مناصٌ من حلِّها؛ وذلك خشية وقوف سير الأمور، والحل الذي يقع إذ ذاك يكون سابقةً مضافة إلى الدستور، على هذا الوجه ارتقى دستور الولايات المتحدة، وكذلك الأمر في فرنسا؛ حيث جاوزت منذ سنة ١٧٨٩ أدوارًا ثورية كثيرة، سُنَّ في كل واحد منها دستور لم تلبث بعض قواعده أن عُدَّتْ سوابق لتفسير الدستور اللاحق مع نسخ هذا للدستور السابق.

•••

ولما كان الدستور قانونًا أعلى من القانون العادي وأثبتَ منه، وجب أن لا يُنسخ إلا بقانون دستوري جديد يتمُّ وضعه على الشكل المرغوب فيه، ومع أن هذه نتيجة لمبادئ الحقوق الفرنسية القائلة بأنَّ عدم استعمال القانون لا يوجب نسخَه؛ ذهبوا في فرنسا — بحكم الغريزة — إلى أن الدستور يُنْسَخ ويفقد قوته على الفور عندما يتمُّ الفوز لثورة تَشتعل في البلاد، ولا يُمكن تفسير هذا الأمر إلا بالقول: إنَّ الشعب بقبوله الثورة التي تمَّت من غير أن يُقاومها يكون قد أظهر بلسان الحال رغبتَه في نسخ الدستور السابق.

ولكن إذا كانت الدساتير تسقُط جملة واحدة بفعل إحدى الثورات، فإنَّ الفقه الفرنسي استطاع أن ينقذ بعض محتوياتها باتخاذه طريقة دقيقة معقولة، وبيان ذلك أن القوانين العادية تبقى معمولًا بها على رغم ما يشتعل من الثورات، وعلى رغم ما يطرأ على شكل الدولة مِن تبديل ما لم ينسخ قانون جديد تلك القوانين صراحةً أو ضمنًا، وإنَّا لنعلم أنه يمكن أن تشتمل الدساتير المكتوبة على أمور دستورية شكلًا لا موضوعًا، ومِن هذه الأمور بعض القواعد الإدارية أو الجزائية التي لا علاقة بينها وبين ما تنصُّ عليه تلك الدساتير من شكل الدولة أو شكل الحكومة. فهذه القواعد التي قد تكون ملائمة للنظم الأخرى لم تُدْمَج في نصوص دستورية إلا لتنال ما للمبادئ الدستورية الجوهرية من ثبات وقوة، من أجل هذا السبب يرى الفقيه الفرنسي أن القواعد المذكورة لا تُنْسَخ بنسخ الدستور المُشتمِل عليها، وإنما يعدُّها بعد نسخ ذلك الدستور أنها فقدت صفتها الدستورية، وأصبحت من فصيلة القوانين العادية التي تظلُّ نافذةً ما لم تُلْغَ أو تُعدَّل بقانون آخر.

وقد أُتِيَ بتطبيقات كثيرة على هذه النظرية؛ فمنها اعتبار نَص المادة الخامسة من دستور سنة ١٨٤٨ القائل بإلغاء عقاب الإعدام في الأجرام السياسية نافذًا على رغم نسخ هذا الدستور، ومنها عدُّ المادة الخامسة والسبعين من دستور السنة الثامنة الضامنة لموظَّفي الحكومة من تعقُّبهم معمولًا بها على رغم نسخ هذا الدستور بالدساتير التي سُنَّت بعده، وهي لم تُلْغَ إلا بنص صريح جاء في مرسوم قانوني نشرته حكومة الدفاع الوطني في ١٩ سبتمبر سنة ١٩٧٠.

وقد نشأ عن عمل الثورات في فرنسا مبادئ في ممارسة السلطة التأسيسية غير المبادئ المشروحة آنفًا؛ فالدستور المكتوب بحسب هذه المبادئ لا يمكن تبديله إلا بالطريقة التي نصَّ عليها ما دام هذا الدستور معمولًا به، فإذا أُلْغِيَ الدستور على وجه آخر ووقعت البلاد مؤقتًا في حال غير دستورية فإن الدستور الجديد لا يتمُّ وضعه إلا من قِبَل مجلس تأسيسي، ومن ثَمَّ يجب أن لا يسنَّ مجلسٌ انتُخِبَ كمجلس اشتراعي دستورًا. مع هذا تُرى في تاريخ الثورات الفرنسية سوابق مخالفة لذلك، وكثيرًا ما حدَث أنَّ فوز الثورة وسقوط النظام السابق لم يوجبا سقوط بعض هيئات الحكومة السابقة؛ كالمجالس التمثيلية التي ظلَّت قابضة على زمام السلطة الاشتراعية، وقد مارست هذه المَجالس غير مرة السلطة التأسيسية، فأعلنت مثلًا سقوط الملك، ونادت برجل آخر ملكًا على البلاد، وعدَّلت الدستور السابق، أو وضعت للبلاد دستورًا جديدًا، ويُفسَّر هذا الأمر بالقول: إنَّ المجالس التمثيلية لم تستمدَّ سُلطتها التأسيسية إذ ذاك إلا من استحسان الشعب لسيرها استِحسانًا ضمنيًّا.

وأول حلقة لتلك السوابق ظهرت مع الثورة الفرنسية الكبرى نفسها، فلا أحد يُمكنه القول أن المجلس العام الفرنسي الذي اجتمع في سنة ١٧٨٩ تمَّ انتخابه ليضع دستورًا لفرنسا، ومع ذلك فقد ساقتْه الحوادث التي وقعت في تلك السنة إلى التصريح «بأنه المُمثِّل الوحيد لإرادة الأمة، وبأنه لا يُمكن التاج أن يَرفض مقرراته»، وفي ٦ يوليو من السنة المذكورة ألَّف لجنة لوضع لائحة الدستور.

وفي ١٠ أغسطس سنة ١٧٩٢ لم يُرِد المجلس الاشتراعي أن يمارس السلطة التأسيسية ممارسة كاملة؛ فقد قال بانتخاب مجلس العهد الوطني ليضع دستورًا جديدًا لفرنسا، وهذا لم يمنعه من مباشرة السلطة التأسيسية بنزعه يد الملك والسلطة التنفيذية خلافًا لدستور سنة ١٧٩١، وبتقريره الشروط التي تتمُّ بها انتخابات مجلس العهد الوطني القادم خلافًا لنصوص هذا الدستور أيضًا.

ولما قامت لجنة قنصلية تنفيذية مؤلَّفة من سيايس2 وروجير دوكوس3 وبونابرت مقامَ حكومة الديركتوار تمَّ ذلك بقانون ١٩ برومير4 الذي اقترع له مجلس الخمس مائة ومجلس الشيوخ، وقد نزع هذا القانون صفة التمثيل من بعض أعضاء الهيئة الاشتراعية، وقال بتأجيل هذه الهيئة إلى اليوم الأول من شهر فانتوز5 على أن ينتخب كل من المجلسين اللذين تتألَّف منهما هذه الهيئة لجنةً مؤلَّفة من خمسة وعشرين عضوًا؛ لكي تقوم في أثناء ذلك بوظائفهما كما تقترح اللجنة القنصلية المذكورة. ومما فُوِّض إلى تينك اللجنتين «أن يُهيِّئا ما يجب تعديله في الدستور الذي دلَّت التجربة على وجود عيوب ونقائص فيه.» إلا أن هذا لم يكن في غير الظاهر، فلم يكن المجلسان ولجنتيهما سوى آلة في قبضة بونابرت يسيِّرها كما يشاء.
ومجلس الشيوخ ومجلس النواب الإمبراطوريان هما اللذان أعلنا ختام العهد الإمبراطوري الأول؛ ففي مرسوم وضعه مجلس الشيوخ في ٣ أبريل سنة ١٨١٤ نادى بسقوط نابليون من العرش، وبإلغاء حق أسرته في وراثة عرشه، وبجعل الأمة الفرنسية والجيش الفرنسي في حِلًّ من يمين الإخلاص نحوه، وفي ذلك اليوم صرَّح مجلس النواب «بموافقته على عمل مجلس الشيوخ، وبإعلانه سقوط نابليون بونابارت وأفراد أسرته.» وفي ٦ أبريل من تلك السنة اقترع مجلس الشيوخ للائحة دستورية مؤلَّفة من تسع وعشرين مادة، على أن تُعْرَضَ على الشعب الفرنسي وعلى لويس ستانيسلاس أكزافيه6 «الذي دُعِيَ إلى العرش بكل حرية» لكي يُوافقا عليها، غير أن هذه اللائحة لم تلبس صفة الدستور؛ فقد صرَّح لويس الثامن عشر في ٢ مايو من السنة المذكورة بأنه — مع قبول ما اشتملت عليه من المبادئ — يرى أن يرسل إلى مجلس الشيوخ ومجلس النواب عملًا آخر، وقد تجلَّى هذا العمل في دستور سنة ١٨١٤.

ولو اقتصرْنا على الظاهر لرأينا أن شكل الدولة لم يتبدَّل في سنة ١٨٣٠ حين حلَّت أسرة مالكة دستورية محلَّ أسرة أخرى مثلها، والحقيقة تدلُّنا على وقوع تبدُّل دستوري عظيم في تلك السنة؛ فقد أعيد النظر في دستور سنة ١٨١٤ الذي أُعْلِنَ كمنحة من الملك، فأصبح هذا الدستور — بعد إعادة النظر فيه — دستورًا مستندًا إلى سيادة الأمة صادرًا عنها، وما هي الهيئة التي أعادت النظر فيه فكَسَتْهُ تلك الحُلَّة؟ إنَّ السلطة الاشتراعية التي بقيت عائشة بعد ثورة سنة ١٨٣٠ هي التي أعادت النظر فيه، وما الذي يمنعها من جعل الدستور ملائمًا للحالة التي أوجبتها تلك الثورة؟

وبعد أن أصيبت فرنسا بنكبة سيدان7 اجتمعت الهيئة الاشتراعية في ٢ سبتمبر سنة ١٨٧٠ اجتماعًا غير عادي، فأعلنت النظام الجمهوري، وعيَّنت «حكومة الدفاع الوطني»، وبذلك أضافت سابقة جديدة إلى السوابق الأخرى.

تلك هي السوابق التي أمكن المجلس الوطني في سنة ١٨٧١ أن يحتجَّ بها عندما انتحل السلطة التأسيسية.

•••

لا تُفرض القوانين الدستورية على المشترع العادي، فتجعله غير قادر على تعديلها فقط، بل تستطيع من بعض الوجوه أن تقيِّد سلطاته في عالم الاشتراع أيضًا، فتردعه عن مسِّ الحقوق الفردية مثلًا، ولكنه كيف يُضمن ذلك؟ لا يحتاج مبدأ عدم التطاول على القوانين الدستورية إلى مؤيدٍ على وجه التقريب، فضرورة ممارسة السلطة التأسيسية من قِبَل مجلس تأسيسي خاصٍّ أو ضرورة اتباع طرُق خاصة لممارسة السلطة تكفي لردع السلطة الاشتراعية عن التطاول على تلك القوانين، غير أنه إذا وُضِعَ قانون عادي مِن قِبَل السلطة الاشتراعية فمَنْ يكون حَكمًا في تقدير مجاوزتها فيه لحدود الدستور أو عدم مجاوزتها له؟ يظهر هنا أنه يجب أن تكون في الميدان سلطة مُنفصلة عن السلطة الاشتراعية قادرة على الحكم في موافقة القوانين العادية للدستور أو مناقضتها له؛ وذلك ليتمَّ سير الدستور المقيِّد للقوانين العادية سيرًا حسنًا.

لقد قال الأميركيون في الولايات المتحدة بقدرة السلطة القضائية على فعل ذلك؛ فهم قد ذهبوا إلى أن المحكمة التي تُعْرَض عليها قضيةٌ تستطيع أن ترفض تطبيق قانون يستشهد به أحد المتخاصِمِين متعلِّلة بأنَّ هذا القانون منافٍ للدستور، على هذا الوجه يمكن المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة أن تعلن عدم دستورية القوانين التي يسنُّها المؤتمر، وأن تمتنع من تطبيقها، وعلى هذا الوجه أيضًا يُمكن محاكم الولايات التي تتألَّف منها دولة الولايات المتحدة أن تعلن دستورية قوانين الولايات الموجودة فيها هذه المحاكم، وأن تمتنع من تطبيقها، وكذلك يحق للمحكمة الاتحادية العليا المذكورة أن تأبى العمل بقانون وضعته إحدى الولايات إذا احتجَّ به أحد الخصمين في قضية تُعْرَض عليها ورأت أنه يناقض الدستور.

ومن أين استنبط الأميركيون هذا النظام؟ يقول الأميركيون: إن ما يتعلَّق بدستور الولايات المتحدة من جهة المحكمة الاتحادية العليا صُرِّح به في هذا الدستور نفسه؛ فقد جاء فيه: «إن السلطة القضائية الاتحادية تشمل كل خصومة يمكن أن تنشأ عن تطبيق هذا الدستور أو قوانين الولايات المتحدة.» وجاء فيه: «إن قانون البلاد الأعلى يتألَّف من دستور الولايات المتحدة وقوانينها التي تُسن وفقًا لهذا الدستور.» ومن هذه النصوص يستنبطون النتيجة الآتية؛ وهي: «إن سلطة تفسير القوانين تشتمل — بحكم الضرورة — على إمكان تقدير ملاءمة هذه القوانين للدستور أو عدم ملاءمتها له، وعلى القول ببطلانها عندما تكون مناقضةً له، ولما كان الدستور قانون البلاد الأعلى كان من واجبات السلطة القضائية أن تتبعه عندما يتصادم هو والقوانين التي يسنها المؤتمر أو الولايات التي تتألَّف دولة الولايات المتحدة منها.» واليوم يزعم كثير من فقهاء إنكلترة أن الحق الذي تمارسه محاكم الولايات المتحدة هو من المبادئ التي قال بها النظام القضائي الإنكليزي الذي يَمنح المحاكم حقًّا في تفسير القوانين وتقدير صحتها، إلا أنه لا يمكن المحاكم في إنكلترة أن تعلن عدم دستورية قانون يسنُّه البرلمان الإنكليزي صاحب السيادة الذي لا يَرتبط بأي دستور ولا يُعتبر القانون الذي يسنُّه حسب الأصول غير دستوري. وعكس هذا ما وقع في المستعمَرات الإنكليزية في أميركا الشمالية؛ فهذه المستعمَرات التي نالت قسطًا من السلطة الاشتراعية في دساتير صادرة عن التاج لم يكن في إمكانها أن تسنَّ قوانين منافية لهذه الدساتير؛ وذلك خشية عدِّها ملغاةً من قِبَل مجلس الملك الخاص في إنكلترة، فربما كانت الولايات المتحدة قد استمدت تلك القاعدة من هذه الطريقة التي اتُّبِعَت في المستعمرات المذكورة.

ومهما يكن الأمر فإن الاستقراء يدلُّ على أن النظام الأميركي المذكور ظهر في أميركا قبل سَنِّ دستور الولايات المتَّحدة؛ فقد طُبِّق عقب إعلان الاستقلال على كثير من الولايات ولا سيما ولاية رود أيلند وولاية كارولين الجنوبية، ولكنه لم يبرز في تلك الحُلَّة القشيبة إلا بعد أن صار أمر النظر فيه من وظائف المحكمة الاتحادية العليا.

وقد يُسأل هنا على سبيل الاعتراض: ألا يؤدي ذلك النظام إلى تطاول السلطة القضائية على السلطة الاشتراعية وجعلها أعلى من المَجالس التمثيلية التي هي مظهر إرادة الأمة؟ يظن الأميركيون أنه يَكفي أن يُجيبوا عن هذا السؤال بقولهم: إن المحكمة لا تنقض القانون المسنون حسب الأصول، ولا تُعلن بطلانه إزاء الكل، وإنما تمتنع من تطبيقه على القضية التي تُعْرَض عليها عندما ترى أن تطبيقه مخالف للدستور، ومِن ثم يقولون: إن السلطة القضائية لا تستطيع أن تقدِّر من تلقاء نفسها دستورية القانون المقترع له قبل أن تُعْرَضَ عليها قضية يطلب فيها أحد المتخاصمين تطبيق القانون غير الدستوري، ويطلب فيها المتخاصم الآخر عدم تطبيقه.

وعلى ما في الأدلة التي يُدْلِي بها الأميركيون من صحة، لم يَنَلْ ذلك النظام حظوة كبيرة خارج بلادهم، فقد اقتصر في خارج الولايات المتحدة على جمهوريات أميركا الاتحادية التي سنَّت دساتيرها على منوال دستور الولايات المتحدة كالمكسيك والأرجنتين والبرازيل، وعلى المستعمرات الإنكليزية ذات البرلمانات المنتخبة والحكومة المسئولة ولو قسمًا؛ فالسلطات الاشتراعية في هذه المستعمَرات لا تقدر على الاشتراع فيما عدا الأمور التي قيَّدتها بها دساتيرها، والتي لم تناقض المبادئ الجوهرية في القوانين الإنكليزية، وإلا فإنَّ التاج البريطاني أو حاكم المستعمرة القائم مقام التاج لا يُوافق على القانون المسنون، أو إنَّ مجلس الملك الخاص يُلغي ذلك القانون ويُبطل عمله، وفي هذه المستعمرات يحقُّ للأفراد أن يُجادلوا أمام المحاكم في مُوافَقة هذه القوانين التي تضعها مجالسها الاشتراعية للدستور أو عدم موافقتها له، بخلاف ما ساد أوربة التي ذهبت إلى المبدأ القائل بأنه لا يحقُّ للمحاكم أن تُقدِّر دستورية القوانين وعدم دستوريتها، فالقوانين التي توضع في أوربة على الشكل المُوافِق تُعْرَض على المحاكم التي يجب عليها أن تطبِّقها، لا أن تحكم في دستوريتها أو عدمها؛ أي إنه إذا كان من وظائف المحاكم في أوربة أن تُفسِّر القوانين العادية وتطبِّقها، فليس من وظائفها أن تطبِّق الدستور وتفسره، فالمؤيد الوحيد للدستور من حيث القواعد التي يفرضها على السلطة الاشتراعية هو ضمير أعضاء هذه السلطة ومسئوليتهم الأدبية أمام الأمة.

ذلك ما أعلنه المجلس التأسيسي الفرنسي الأول في سنة ١٧٩٠ متأثرًا من ذكرى البرلمانات الفرنسية في العهد السابق، وذلك ما ذهبت إليه بلجيكا وإيطاليا، وقد قالت به سويسرة على رغم وجه الشبه بين نُظُمها والنظُم الأميركية؛ ففي سويسرة محكمة اتحادية ينتخبها المجلس الاتحادي لمدة معينة، فمع اقتراب هذه المحكمة من محكمة الولايات المتحدة العليا من حيث الوظيفة لا يمكنها (كما أنه لا يمكن المحاكم السويسرية الأخرى) أن ترفض تطبيق القوانين الاتحادية بحجة مناقضتها للدستور، وقد علَّل السر فرنسيس أوتيويل آدم8 هذا الأمر بقوله: «ليس على المحكمة الاتحادية أن تشغل نفسها بالبحث في دستورية القوانين العادية التي يقترع لها المجلس الاتحادي أو عدم دستوريتها؛ فهي مكرهة على تطبيق هذه القوانين بأمر الدستور نفسه؛ وذاك لأن القوانين التي يقترع لها المجلس الاتحادي ويوافق عليها الشعب حسب طريقة الرفرندم تكون مؤيدة من قِبَل الشعب، فما على المحكمة الاتحادية إذ ذاك إلا أن تخضع لإرادة الشعب فتعُدَّ القوانين المذكورة دستورية لا يجوز مسها.» غير أن إقامة الحجة على هذا الوجه ليست صوابًا؛ فالنظام المذكور كان سائدًا لسويسرة قبل إدخال طريقة الرفرندم إليها في دستور سنة ١٨٧٤، على أن هذا الدستور قال بأنه يحقُّ للمحكمة الاتحادية أن تحكم في أعمال سلطات المقاطعات عندما تتعدَّى على حقوق أبناء الوطن السويسري التي ضمَّنها الدستور الاتحادي أو دساتير المقاطعات، ولو استندت في إتيانها بهذه الأعمال إلى قانون إحدى المقاطعات الذي اقترع له الشعب، فإذا أمكن المقاضاة في شأنها لعدم دستوريتها؛ فذلك لأنَّ سلطات الشعب المشترع في المقاطعة مقيَّدة بالدستور الاتحادي ودستور المقاطعة نفسها، ولكن لماذا لا يحقُّ للمحكمة الاتحادية أن تنظر في القوانين الاتحادية كما تنظر في غيرها؟

إنَّ النظام الأميركي — مع إمكان الدفاع عنه قضائيًّا — يؤدي إلى تمتع السلطة القضائية بشأن سياسي. نعم، لا يمكن هذه السلطة أن تتدخَّل إلا إذا رفع الأفراد قضيةً إليها، ولكنها عندما تحكم بمناقضة القانون للدستور توجب حبوط السلطة الاشتراعية في أمر الاشتراع من حيث النتيجة، ولكي يكون للمحاكم شأن مهمٌّ كالشأن المذكور يقتضي أن يكون الشعب واثقًا بحكمة القضاة وبحذقهم الفني وثوقًا تامًّا، وقد نال القضاء الإنكليزي مثل هذه الثقة، وظل الأنغلوسكسونيون يرونه مظهرًا لها، وعلى هذا الأساس استطاع النظام الأميركي أن يتمَّ، واستطاع قضاة محكمة الولايات المتحدة العليا أن يبقوا حتى الآن قابضين على ناصية ذلك الأمر. على أن الروح الديموقراطية في الولايات المتحدة أخذت ترفع عقيرتها؛ يتجلَّى ذلك في كتاب المستر ودرو ويلسن الذي يعتبر السلطة الاشتراعية المتجلية في المجالس التمثيلية هي السلطة الحقيقية الممثلة للأمة.

وللمبدأ الذي سار عليه الأميركيون أنصار بين فقهاء فرنسا في القرن الثامن عشر وبين رجال ثورتها الكبرى، ومِن هؤلاء نذكر سيايس الذي بيَّن — في خطبة كبيرة ألقاها في مجلس العهد في ٢ ترميدور من السنة الثالثة — ضرورة وجود سلطة خاصة تكون وظيفتها إلغاء القوانين والأعمال المنافية للدستور، وعنده أنَّ ذلك نتيجة طبيعية عملية لفصل السلطة التأسيسية عن السلطة الاشتراعية الذي أُعْلِنَ في سنة ١٧٨٩. غير أنه لم يرَ أن تكون السلطة القضائية هي المحافَظة على الدستور، وإنما رأى أن تقوم بهذه المحافظة هيئة خاصة سياسية تمثيلية، فاسمع ماذا قال: «أطلب قبل كل شيء وجود محلِّفين ممثِّلين للدستور للحكم في كل تعدٍّ يطرأ عليه، فإذا كنتم تودون أن تحافظوا على الدستور وأن تَحصُروا كل عمل تمثيلي ضمن الدائرة المرسومة فألِّفوا هيئة محلِّفين للمدافعة عن الدستور.»

ومن الفكرة التي أبداها سيايس على الوجه المذكور اقتبس دستور السنة الثامنة الفرنسي نظام مجلس الشيوخ المحافظ؛ فقد نص هذا الدستور على أنه يحقُّ لمجلس الشيوخ «أن يُبْطِلَ الأعمال التي تُعْرَض عليه من قِبَل مجلس التريبونا9 أو الحكومة لعدم دستوريتها.» وعلى «أن القنصل الأول ينشر كل قانون تصدره الهيئة الاشتراعية في اليوم العاشر من تاريخ إصداره ما لم يُعْرَض على مجلس الشيوخ قبل اليوم العاشر أنَّ المرسوم المذكور غير دستوري»، والذي كان يُمكنه أن يهاجم القوانين العادية أمام مجلس الشيوخ هو مجلس التريبونا وحده؛ أي إنه كان لا يحق (بحسب قانون السنة الثامنة) لأفراد الأمة أن يدْعوا بعدم دستورية القوانين أمام مجلس الشيوخ المحافظ.

وقد حافظ مجلس الشيوخ المذكور على تلك الوظيفة في عهد القنصلية الدائمة وفي العهد الإمبراطوري، ولكنه لما أُلْغِيَ مجلس التريبونا في سنة ١٨٠٧ لم يبقَ لأحد حق في عرض عدم دستورية القوانين على مجلس الشيوخ سوى أعضاء هذا المجلس والحكومة التي حُصِرَ أمر اقتراح القوانين في يدها.

وإلى مثل هذا النظام ذهب دستور ١٤ يناير سنة ١٨٥٢ الفرنسي، فقد جاء فيه «أن مجلس الشيوخ هو حارس العهد الأساسي والحرية العامة، فلا يمكن نشر قانون قبل أن يُعْرَضَ عليه، ومجلس الشيوخ يحُول دون نشر القوانين المُناقضة للدستور والدين والآداب وحرية العبادات والحرية الفردية ومساواة أبناء الوطن أمام القانون وحرمة التملك ومبدأ عدم إمكان عزل القضاة، كما أنه يمكنه أن يُلْغِي كل الأعمال غير الدستورية التي يُخبر بها من قِبَل الحكومة أو من قِبَل أبناء الوطن.» ومع المجال الواسع الذي فتحته هذه العبارة أمام أبناء الوطن نشك في أنها كانت تشمل القوانين غير الدستورية التي يُخبرون بها.

ولم تُطرح على بساط البحث المسألة القائلة بحق نظر المحكمة في دستورية القوانين وعدمه منذ سُنَّت قوانين فرنسا الدستورية في سنة ١٨٧٥، وهي لا يمكن طرحها على كل حال، فإذا فصَل الدستور الفرنسي السلطة الاشتراعية عن السلطة التأسيسية، وحظر على الهيئة الاشتراعية أن تمسَّ القوانين الدستورية، فإنه لم يُحدِّد قطُّ دائرة أعمال المشترع.

ولما سنَّت دولة شكوسلوفاكيا دستورها في ٢٩ فبراير سنة ١٩٢٠ نصَّت فيه على تأليف محكمة لمراقبة القوانين التي تُناقض الدستور أو التي تعدِّل هذا الدستور من غير أن تقترع لها الأكثرية المطلوبة دستوريًّا، وهذه المحكمة الدستورية تؤلَّف من سبعة أعضاء، على أن يعيَّن عضوان منهم من قِبَل المحكمة الإدارية العليا، وعضوان من قِبَل المحكمة العليا، ويعيَّن رئيس المحكمة وعضوان منهم من قِبَل رئيس الجمهورية.

هوامش

(1) Frimaire.
(2) Sieyès.
(3) Roger Ducos.
(4) Brumaire.
(5) Ventose.
(6) Louis-Stanislas-Xavier.
(7) Sedan.
(8) Sir Francis Ottiwel Adams.
(9) Tribunat.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤