الفصل الثالث

الأخلاق عند ابن مسكويه

الخلق — كما عرفه ابن مسكويه — حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية. فهو بهذا غير التخلق؛ لأن التخلق يقتضى شعورًا بالكلفة عند إرادة العمل الحسن وعند تجنب العمل القبيح، وقد عرض ابن مسكويه لآراء القدماء في أصل الخلق، فبين أن منهم من ظنوا «أن الناس كلهم يخلقون أخيارًا بالطبع ثم بعد ذلك يصيرون أشرارًا بمجالسة أهل الشر، والميل إلى الشهوات الرديئة التي لا تقمع إلا بالتأديب.»١ وأن منهم آخرين «ظنوا أن الناس خلقوا من الطينة السفلى وهي كدر العالم فهم لأجل ذلك أشرار بالطبع، وإنما يصيرون أخيارًا بالتأديب والتعليم.»٢ وهناك رأي ثالث اختاره ابن مسكويه؛ وهو الرأي الذي يقول بأنه «ليس شيء من الأخلاق طبيعيًّا للإنسان» وإنما طبع الإنسان على قبول الخلق، فهو يتحول وفقًا لما يؤثر فيه من أعمال الأخيار والأشرار.
وليس لابن مسكويه في أصل الخلق رأي خاص، وإنما يتخير من بين الآراء، ومزيته أنه يعتمد على المشاهدة والاختبار، فيقول مثلًا: «وهذا الرأي هو الذي نختاره لأنا نشاهده عيانًا.» وحين يشرع في بيان مراتب الناس في قبول الآداب يذكر أنها كثيرة ثم يقول: «وهي تشاهد وتعاين فيهم وخاصة في الأطفال، فإن أخلاقهم تظهر فيهم منذ بدء نشأتهم، ولا يسترونها بروية ولا فكر كما يفعله الرجل التام الذي انتهى في نشوئه وكماله إلى حيث يعرف من نفسه ما يستقبح منه فيخفيه بضروب من الحيل والأفعال المضادة لما في طبعه، وأنت تتأمل من أخلاق الصبيان واستعدادهم لقبول الأدب أو نفورهم عنه، أو ما يظهر في بعضهم من القحة وفي بعضهم من الحياء، وكذلك ما ترى فيهم من الجود والبخل والرحمة والقسوة والحسد وصده، ومن الأحوال المتفاوتة ما تعرف به مراتب الإنسان في قبول الأخلاق الفاضلة وتعلم معه أنهم ليسوا على مرتبة واحدة وأن فيهم المتواني والممتنع، والسهل السلس، والفظ العسر، والخير والشرير.»٣

والواقع أنه ليس لابن مسكويه غير هذه المزية، وهي محاولة الانتفاع من المشاهدات والاختبارات، ولكن هذه المزية نفسها تكدرت عليه بسبب حيرته في تعليل ما يعرض له من مختلف الآراء؛ فهو تارة مع جالينوس، وتارة مع أرسططاليس، وطورًا مع العقل، وطورًا مع الشرع؛ بحيث تصطدم في كتبه معالم المعقول والمنقول، ولذلك تراه يرتب أقوال الحكماء ترتيبًا سيئًا في أكثر الأحوال؛ لأنه لا يمضي إلى غاية معينة يسوق في سبيلها الحجج والبراهين، وقد يحتطب أحيانًا في ليل من الظنون والأوهام فيجمع بين الجيد والرديء، والطيب والخبيث، ولهذا الخبط قيمته عند من يريدون تبيين ما فعلت الفلسفة اليونانية بالعقلية العربية، فقد كانت في أذهان كثير من الناس صورة للغبار الذي يثور عند هبوب الرياح، وكانت الأذهان العربية هادئة مطمئنة، فجاءتها فلسفة اليونان بزوابع وأعاصير أطارت ما كان استقر فيها من أمن وسكون.

وقد آن أن يعرف الناس أن الآراء التي تأتي من أقطار أجنبية لا تنفع من يتلقونها إلا بعد أن يهضموها ويسلموا من الافتنان بما فيها من طرافة وبريق، ومثلهم في ذلك مثل من يشرب الدواء لا تصفو نفسه ولا تزكو قريحته، ولا يعتدل مزاجه إلا بعد أن يزول ما أحدث الدواء بأعصابه وحواسه من قلق واضطراب، وكذلك وقع لمفكري العرب حين غزتهم الفلسفة اليونانية؛ فكان منهم المفتون بكل ما (نقل) عن سقراط وأفلاطون وأرسططاليس، وكان منهم من هضم تلك الفلسفة واستبقى لعقله وروحه ما فيها من تثقيف للعقل وتهذيب للحس وتقويم للوجدان، ونحن نشهد في عصرنا شواهد لذلك، ففي رجال اليوم من له في كل صباح رأي جديد؛ لأنه لا يأخذ عن نفسه، وإنما يتتلمذ لعدد من الفلاسفة والمفكرين قد يتوافقون وقد يتناقضون، وهو لهم في توافقهم وتناقضهم تابع أمين، وقد يكون في المساء صدى لكتاب قرأه في الصباح، وكذلك يفعل فلان وفلان! ومن معاصرينا من خلص من قيود ما قرأ وعاد يفكر ويتذوق ويحس وهو حر العقل والذوق والإحساس.

رسم ابن مسكويه لنفسه خطة تجدر بمثله وهي القصد إلى تثقيف الخواص؛ فهو لا يكتب في الأخلاق للناس أجمعين، وإنما يتوجه بآرائه وأبحاثه إلى من درسوا المنطق وعرفوا كيف يكون القياس والبرهان، وكان يشعر — فيما يظهر — بأن خواص زمانه كانوا على حافة الشك والارتياب، لهذا نراه يهتم أولًا وقبل كل شيء بإثبات وجود النفس وجودًا مستقلًّا عن الجسم أتم استقلال؛ بحيث لا تضعف حين يضعف، ولا تزول حين يزول، ولم يضطره إلى مواجهة هذا البحث الشائك إلا اهتمامه — كما قلنا — بتقويم الخواص، ولو كان يكتب للعوام لأراح نفسه من آصار هذه المخاطرة العقلية؛ لأن العوام مطمئنون أو كالطمئنين إلى خلود الروح وعودتها يوم البعث إلى بقايا جسمها في التراب، وإقناع الخواص بوجود النفس واستقلالها وخلودها هو حجر الزاوية في جذبهم إلى جمال الأخلاق؛ لأنه لا يخشى على الخواص إلا شر الريب وعدم الاكتراث، وهم لا يضلون — وما أكثر ما يضلون! — إلا ليأسهم من خلود النفس الإنسانية، وقولهم مع سائر الدهريين: «إن هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين».

وابن مسكويه واثق بالمنطق ثقة مطلقة، ومن أجل ذلك يعتمد عليه في جميع الأحوال، مطمئنًا إلى أنه متى صحت المقدمات حقت النتائج. فلنختبر ما صنع في بيان وجود النفس لنعرف مبلغ ما وصل إليه في إثبات ما يريد، وهو يذكر «إنا لما وجدنا في الإنسان شيئًا ما يضاد أفعال الأجسام بحده وخواصه، وله أيضًا أفعال تضاد أفعال الجسم وخواصه حتى لا يشاركه في حال من الأحوال، وكذلك نجده يباين الأعراض ويضادها كلها غاية المباينة، ثم وجدنا هذه المباينة والمضادة منه للأجسام والأعراض إنما هي من حيث كانت الأجسام أجسامًا والأعراض أعراضًا؛ حكمنا بأن هذا الشيء ليس بجسم، ولا جزءًا من جسم ولا عرضًا، وذلك أنه لا يستحيل ولا يتغير، وأيضًا فإنه يدرك جميع الأشياء بالسوية، ولا يلحقه فتور ولا كلال ولا نقص.»٤

ومعنى هذا أن الإنسان مركب من شيئين؛ أحدهما الجسم، وثانيهما النفس، والجسم محسوس ملموس لا يختلف في تقديره اثنان، فلم يبق موضعًا للنزاع إلا النفس، وهي عنده تضاد الأجسام في الحدود والخواص.

«وبيان ذلك — كما شرح في كتاب تهذيب الأخلاق٥ — أن كل جسم له صورة ما، فإنه ليس يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد مفارقة الصورة الأولى مفارقة تامة.

مثال ذلك: أن الجسم إذا قبل صورة وشكلًا من الأشكال؛ كالتثليث مثلًا، فليس يقبل شكلًا آخر من التربيع والتدوير وغيرهما إلا بعد أن يفارقه الشكل الأول، وكذلك إذا قبل صورة نقش أو كتابة أو أي شيء كان من الصور فليس يقبل صورة أخرى من ذلك الجنس إلا بعد زوال الأولى وبطلانها البتة، فإن بقي فيه شيء من رسم الصورة الأولى لم يقبل الصورة الثانية على التمام، بل تختلط الصورتان فلا يخلص له إحداهما على التمام، مثال ذلك: إذا قبل الشمع صورة نقش في الخاتم لم يقبل غيره من النقوش إلا بعد أن يزول عنه رسم النقش الأول».

هذا هو الجسم، أما النفس فتقبل صور الأشياء كلها على اختلافها من المحسوسات والمعقولات «على التمام والكمال من غير مفارقة للأولى ومعاقبة ولا زوال رسم، بل يبقى الرسم الأول تامًّا كاملًا، وتقبل الرسم الثاني أيضًا تامًّا كاملًا، ثم لا تزال تقبل صورة بعد صورة أبدًا دائمًا من غير أن تضعف أو تقصر في وقت من الأوقات عن قبول ما يرد ويطرأ عليها من الصور».

تلك إحدى محاولات ابن مسكويه في استقلال النفس، وكلامه في هذا الباب كلام الواثق من صحة ما يقول، وليته تذكر أننا حين نؤمن بوجود شيء لا ينهض إيماننا حجة على وجود ذلك الشيء على النحو الذي نتصوره ونراه، فليس اطمئنان ابن مسكويه إلى أن النفس موجودة مستقلة خالدة بكافٍ في محو ما يحيك في الصدور من الريب في استقلالها عن الجسم وتفردها دونه بالخلود، وأخشى أن يقف قوم في وجه ابن مسكويه فينكروا عليه ما ادعاه من أن النفس «تدرك جميع الأشياء بالسوية، ولا يلحقها فتور ولا كلال ولا نقص»، فقد شاهد ناس أن النفس تتبع الجسم في الصحة والمرض، والقوة والضعف، والنشاط والخمول، وأن الإنسان يرى المعنويات والمحسوسات بأشكال مختلفة في وجوه متباينة تبعًا لاختلاف الذوق والحس والمزاج.

ولاحظ ناس كذلك أننا عبيد لحواسنا وأعصابنا، وأن جمهورنا مدين في تكوين ذوقه وحسه وعقله إلى ما يأكل وما يشرب وما يلبس وما يرى وما يذوق، وأنه كذلك مدين إلى من يصادق ويخاصم في تكييف ما يعتلج بصدره من ألوان المودات والعداوات، وقد راعى ذلك فقهاء الشريعة الإسلامية حين وضعوا آداب القضاء، واستحبوا للقاضي أن يمتنع عن الحكم إذا شعر ببعض عوارض المرض أو الظمأ أو الجوع، فليس من السهل الإقناع بأن النفس معصومة من التحول والتغير والفساد، كما ظن ابن مسكويه وكما توهم متابعوه.

إن خلود النفس مشكلة قديمة تعبت في حلها العقول، والقول الفصل هو كلمة القرآن: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا، ولو سكت عنها ابن مسكويه لأراح واستراح، ولكنه ظن المنطق والفلسفة يغنيان في كشف ذلك السر الذي لم يحاول كشفه بالقرآن.

فإذا تركنا الجوانب النظرية في أساس الأخلاق ومضينا نتعقب جهود ابن مسكويه في شرح الجوانب العملية رأيناه في أكثر الأحوال من الموفقين، من ذلك أنه عرض لشرح القاعدة التي تقول: «الإنسان مدني بالطبع»، فأخذ يفصلها بأن ذلك معناه: «أنه لم يخلق الإنسان خلق من يعيش وحده ويتم له البقاء بنفسه كما خلق كثير من الوحش والبهائم والطير وحيوان الماء؛ لأن كل واحد من تلك خلق مكتفيًا بنفسه غير محتاج في بقائه إلى غيره، بل قد أزيحت علته في جميع ما تتم به حياته خلقة وإلهامًا؛ أما الخلقة فلأنه مكتسٍ بما يوافقه من وبر وصوف وشعر وريش وما أشبه ذلك، وذو آلة يتناول بها حاجته؛ إن كان لاقط حب فمنقاره، وإن كان آكل عشب فمشفر وأسنان موافقة للقطع والقلع، وإن كان سبعًا أو آكل لحم فأنياب أو مخالب أو مناسر … وأما الإلهام فلأنه يتناول من الأغذية ما يوافقه ويتجنب ما يضره وينتقل من مصيفه إلى مشتاه، ويعد مصالحه كلها من القوت ولكن بغير تعليم ولا تدبير، بل بالإلهام المولود معه، فكل واحد منها مكتفٍ بذاته في حياته التي قدرت له.

فأما الإنسان فإنه خلق عاريًا غير متهد لشيء من مصالحه إلا بالمعاناة والتعليم، ولا يكفيه القليل من المعاونين حتى يكونوا عدة كثيرة وجماعة وافرة، وإذا كان هذا على هذا، وكان سبيل الإنسان في حياته وحسن عيشته على خلاف الحيوان كله قيل: إنه مدني بالطبع؛ أي محتاج إلى ضروب المعاونات التي تتم بالمدينة واجتماع الناس، وهذا الاجتماع للتعاون وهو التمدن سواء كان ذلك الناس وبرًا ومدرًا أو على رأس جبل.»٦
ويخلص ابن مسكويه من ذلك إلى نتيجيتن عظيمتين:
  • الأولى: أنه من العدل أن نعين الناس بأنفسنا كما أعانونا بأنفسهم، ونبذل لهم عوض ما بذلوه لنا.
  • الثانية: أن الذهاب إلى التزهد وتحريم المكاسب ظلم؛ لأن الزاهد مضطر لا محالة إلى استنجاد الناس في ضرورات بدنه وحاجاته إلى ما يقيم أوده، فهو يطلب معاونتهم ثم لا يعاونهم، وذلك ظلم وعدوان، فإن ظن أحد من المتزهدين أن مقدار حاجته إلى معونات الناس قليل، فليعلم أن ذلك القليل يحتاج فيه إلى استخدام عالم كثير من الناس لا يحصون «وإن كان لا يشعر بذلك.»٧

وهذه دقة في فهم الأخلاق؛ لأننا قد نحسب أننا نحسن إلى الناس على حين لا نعمل غير قضاء ما علينا لهم من ديون، وكل إنسان في الواقع مدين إلى إخوانه في الإنسانية من قرب أو من بعد، فالمصباح الذي نقرأ في ضوئه، ونظام البيت الذي نأوي إليه، والكتاب الذي نهتدي بهديه، والشرائع التي نعيش في حماها؛ كل أولئك جزء من جهود إنسانية عديدة منها القريب ومنها البعيد، وتلك الجهود تظلنا ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، وترعانا حين نولد، ثم تظل تلاحقنا ببرها طول الحياة، إلى أن تشمل أجسامنا بالكرامة والرعاية يوم نموت، فلنعرف بعض ما أسدته إلينا الإنسانية، ولنذكر أن أفضلنا وأكرمنا هو من آمن حق الإيمان بأن الحياة تعاون وتساند وأن المرء بنفسه قليل.

ولعل أفضل ما كتب ابن مسكويه هو الفصل الذي عقده للكلام عن آداب الصداقة ورعاية الصديق، وهو في هذا مسبوق بعدد عظيم من الكتاب والمفكرين، ولكنه بسط القول في الصداقة بسطًا شافيًا ينساب إلى النفس انسياب الماء إلى الأشجار الظماء، وهو في ذلك الفصل خاصة يتكلم كلام المفكر المجرب الذي صادق وعادى وعرف كيف تكون مرارة العداوات وحلاوة الصداقات، وهو يشعرنا بأن الاحتفاظ بالصداقة ليس من الأمور الهينة كما يتوهم الأكثرون. وقد نقتنع بعد قراءة ما كتب بأن تألف العدو أيسر من الاحتفاظ بالصديق، وتلك مسألة في غاية من الدقة، فطالما ضيعنا أصدقاءنا حين ظننا بأن في الصداقة ما يغني عن التلطف والتودد ورعاية الحقوق.

هوامش

(١) تهذيب الأخلاق ص٣٧.
(٢) ص٣٨.
(٣) تهذيب الأخلاق ص٤١.
(٤) تهذيب الأخلاق ص٤.
(٥) ص٤، ٥.
(٦) راجع: ص٦٣ من الفوز الأصغر.
(٧) راجع: ص٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤