الحياة ثانية

١

كان الجوُّ شتويًّا دافئًا؛ فتركتُ نافذةَ السيارة مفتوحة.

قالت زوجتي: هل ذهَبَ المَغَص؟

قلتُ: إنَّه يذهب ويعود.

قالت وهي تهمُّ بالنزول: فلْنُرجِئ الزيارةَ إذن.

كنَّا في الطريق لزيارة قريبٍ، أطال المرضُ رُقادَه. قلتُ وأنا أُدير مفتاحَ السيارة، وأضغط على زر الإضاءة: ربما لا تُتاح لنا هذه الفرصةُ ثانيةً.

توقَّفنا في ميدان روكسي.

استبدلتُ نظَّارتي التي عميتْ عدساتُها بنظَّارةٍ جديدة، ثم واصلتُ السَّير إلى شارع بورسعيد، بالتحديد إلى شارع سكة المناصرة، المتفرِّع من شارع بورسعيد، حيث يسكن قريبنا المريض.

كان المغَصُ يؤلمني. شيء في بطني كالتمزُّق، كتقطيع السكين، كالأنياب الحادَّة. اعتدتُ الإحساس بحموضةٍ شديدة في منطقة فَم المَعِدة، أو في أسفل صدري من الأمام. تتصاعد، فأحسُّها في حَلْقي، وربما ارتجع بعض ما في المَعِدة إلى الفم. أستعين على تهدئة الحموضة بأقراصٍ وفوار. قد تزيد فتصبح ألمًا حادًّا، يسري في بطني. قوة هائلة، باطشة، تفري أمعائي … وتشدُّها.

إذا كانت نفس كافكا قد تآمرت مع رئته من وراء ظَهْره — على حدِّ تعبيره — فإن المرض كان يُعلن عن وجوده في داخلي بتلميحاتٍ وتأثيرات معلَنة؛ فأُهْمِلها.

كنت أحسُّ بالألم؛ فلا يشغلني التحدُّث عنه. لا أحرص على إخفائه، وإنما أبرِّر بواعثه. أصِلُه بمتاعبَ سابقة، قد لا يكون لها صلةٌ بباعث الألم الجديد، لكن الصمت كان هو ردَّ الفعل الذي أواجه به نشوء ألمٍ ما، وتزايُده. حالة من التكاسُل والتبلُّد، لا صلة لها بقول فان جوخ: «الدرس الوحيد الذي يجب أن نتعلمه في هذه الحياة، هو أن نعاني دون أن نشكو.»

مرحبًا أيها الألم!

عبارةٌ قرأتُها — يومًا — في مجلةٍ طبيَّة. الكاتب لا يعبِّر في ترحيبه عن مازوشية، إنما هو يجِدُ في الألم جرسَ إنذار، تنبيهًا للخطر داخل الجسم. الألم مؤشِّر، بوصلة، نذيرُ إعلانٍ بالمرض. ثمَّة مرضٌ يعلن عن نفسه في بداية تسلُّله في جسم الإنسان، بينما يظلُّ مرضٌ آخر — أشدُّ خطورةً — صامتًا، لا يعلو حتى بالهمس؛ فيُكتشف مصادفةً، أو بأعراضٍ عامة كالهُزال، والعزوف عن الطعام.

قال لي صديقي الطبيب محمد إبراهيم طه: تسمية المرض الخبيث تعني أنه لا يعلن عن وجوده إلا بعد أن يكون قد انتصر بالفعل في الجزء من الجسم، أو في الجسم كلِّه. ربما يُجري المرء تحليلًا لإرهاقٍ أحسَّ به، أو مجرَّد تحليلٍ روتيني؛ فتروِّعه نظراتُ الأطباء المُشفِقة، وأوامرهم بإجراء المزيد من التحليلات والأشعة والفحوص، ويكتشف أنه قد أصيب بالمرض الخبيث. لا إرهاصات، لا بوادر تُشير إلى المرض في بداياته، ولا يصرخ الألم داخل الجسم إلا بعد أن يتمكن منه فعلًا.

اكتفيتُ بشرح الحال لزوجتي، وإن واصلتُ قيادةَ السيارة.

وصلت إلى قُرب البيت الذي نقصده. على بُعد أمتارٍ قليلة من مديرية أمن القاهرة، وقُبالة شارعٍ ضيِّق يُفضي إلى سكة المناصرة … عَلَت الرغبة بالغثيان. أحكمتْ قبضتها، واعتصرتُ أمعائي بما لم أقوَ على تحمُّله.

همستُ لزوجتي: زينب … أريد أن …

وتفجَّر الغثيان قبل أن أُتمَّ الجملة. دفقاتٌ متتالية من الدم الأسود. تماوجَت المرئيات. بدَت مغلَّفة بضبابٍ كثيف كأنها حُلم، أو كابوس (حين عدتُ إلى المكان — فيما بعدُ — رأيتُ كلَّ شيءٍ مغايرًا لمَا كان عليه في لحظات الأزمة).

كانت النُّذر قد أعلنتْ عن نفسها دون أن أفطن لذلك. اعتدتُ المغص بتأثيراتٍ شتَّى: القُرحة، المُصران الغليظ، القَولون العصبي، ارتباك الأمعاء، أو مجرَّد انعكاس الحالة النفسية. أتوقَّع زوال الألم بتناول الدواء. ولاحظتُ تغيُّرًا في لون البُراز؛ اصطبغ بسوادٍ قاتم. قلَّبتُ الذاكرةَ للتعرُّف إلى الطعام الذي ربما سبَّبَ ذلك. لم أتصوَّر أن القُرحة قد اتَّسعتْ؛ فأثَّرتْ في شُريانٍ بجدار المَعِدة؛ فنَزَف.

ظللتُ في مكاني، أنتظر انحسار موجات الألم … لكنَّ الأصوات الزاعقة عَلَت في داخلي. صرخاتٌ حادَّة، متوالية.

لم أعُد أقوى على الوقوف، أطوِّح يدَيَّ، وأدقُّ الأرض بقدَمَيَّ، وأهزُّ رأسي، وأُغمِض عينَيَّ، وأفتحهما، وأضغط بأسناني على شفتي … ثم أحسستُ بجسمي يتثاقل، وبساقَيَّ لا تساعدانني. قاومتُ شعورًا بأن أجلس حيث أقف. جذَبَني التخاذُل إلى الأرض. لمحتُ — من خلال غيوم الرؤية — كرسيًّا في دكَّان على ناصية الشارع الضيِّق. قرَّرتُ أن أتَّجه إليه؛ أن أُريح جسمي المُتعَب عليه … لكنَّ الكرسيَّ بدا بعيدًا للغاية.

لم يعُد يهمُّني سوى أمنيةٍ واحدة: أن أجلس على ذلك الكرسي، هناك. أصِلُ إليه على قدمي، أو تساعدني زينب، أو أيُّ أحَدٍ … لكنَّه بدا أملًا صعبَ التحقيق؛ مات إدجار آلان بو على كرسيٍّ في الشارع، فهل تكون جلستي على ذلك الكرسيِّ — إذا وصلتُ إليه — آخِرَ ما أصِلُ إليه من رغبات؟!

أسرَعَ شابٌّ، فأتى بكوبِ ماءٍ من مكانٍ قريب، وأظهَرَ الملتفُّون حولي، ممَّن اجتذبهم ما حدَثَ، تأثُّرهم وتعاطفهم. زاد رجُل فخلَعَ حذائي، وانهمَكَ في تدليك قدمَي.

كان الدكَّان لتاجرِ أدوات نجارة. المناصرة — كما تعلم — هو حيُّ النجارين في القاهرة. أذكُر انشغالَ صاحبِ الدكَّان الشابِّ، قلَقَه لمَا أُعانيه، همْسَه المتوتِّر: الأفضل أن نذهب إلى المستشفى.

نذهب؟! … سيذهب معنا إذن!

أردف متسائلًا: معكم سيارة؟

وقال وهو يجلس على مقعد السائق: فلْنذهبْ إلى مستشفًى قريب.

قالت زينب: أحمد ماهر هو المستشفى الأقرب.

جاوزَت السيارة ميدانَ باب الخَلْق. ثم مال الشابُّ ناحيةَ اليسار، حتى مستشفى أحمد ماهر.

لم أكُن قد ترددتُ على المستشفى من قبل، وإنْ بدا مثلَ غيره من المستشفيات الحكومية: المبنى المُتهالِك، والجدران المتَّسخة ببُقَع الصديد والدم، والأرضيَّة التي لم تتبدَّل رائحتها بالليزول والمطهِّرات؛ لكثرة ما أُلقي فيها من سرنجات وإبَر حقنٍ وأربطة ومخلَّفات علاج، والعنابر المُزدحِمة بالمرضى، والمتناثرين أمام الباب الخارجي، وأمام أبواب العنابر، وفي الطُّرُقات.

بدا الطبيب الشابُّ، ذو الرُّوب الأبيض والنظَّارة الطبيَّة السميكة والابتسامة القلِقَة، عاجزًا عن التصرُّف.

– هذه حالةُ نزيف!

ونصَحَ بدواءِ التجاميت Tagamet من صيدلية الإسعاف.

استأذن «الصديق الطارئ» — هذا هو التعبير الذي يحضُرني — في قيادة سيارتي؛ ليأتي بالدواء. ثم أعلن الطبيب — في اللحظة التالية — أنَّ المستشفى غير مجهَّز لإنقاذي، ونصح بانتقالي إلى مستشفى ذي إمكانيات أكبر.

قلتُ: فلْنعُد إلى البيت.

سألتْ زينب: والنزيف؟

قلتُ: توقَّف!

ووضعتُ في عيني إصرارًا كافيًا؛ ليوافق مَن معي على قراري.

٢

قاد الصديق الطارئ سيارتي.

جلستُ إلى جواره، وفي المقعد الخلفي جلستْ زينبُ وثلاثةٌ من الأقارب الذين كانوا في الطريق لزيارة مريضهم. اتصلتْ بهم زينب، وأبلغتْهم بما حدَثَ.

ما كِدتُ أدخُل الحمَّام؛ حتى فُوجئتُ بعودة القَيْء. نفس الدم الأسود؛ دفعاتٌ متتالية مَلَأت الحوضَ، وتناثرتْ على الأرض والجدران.

أدركتُ أنَّ الذهاب إلى المستشفى هو الخيار الوحيد. أودعت استسلامي في نظراتي المتحيِّرة. وضعتْ زينب فوق كتفي «رُوبًا»، واكتفيتُ بنظرة وداعٍ صامتة إلى ابنيَّ أمل ووليد.

ونزلنا.

– هل نتَّجه إلى هليوبوليس؟

قالت زينب: مستشفى القاهرة أفضل.

قلتُ بتلقائية: أفضِّل عين شمس التخصُّصي.

كانت صورته — في بالي — غيرَ واضحةٍ ولا محدَّدة. ربما اخترتُه لكلمة «التخصصي». أفضِّل التخصُّص في كلِّ المجالات. زُرتُ مرضى، أقارب وأصدقاء، في مستشفياتٍ استثمارية. أُتابع تنقُّل الطبيب النائب بين غرَفٍ تختلف أمراضُ نزلائها. الطبيب المتخصِّص يفوت مرةً أو اثنتَين كلَّ أسبوع. التخصص معناه — كما تصورتُ — أن يُشرف أطباء متخصِّصون على أقسامٍ متخصِّصة.

قاد صديقي الطارئ سيارتي في شارع الحِجاز.

خمَّنتُ أنَّه توقَّع قرارًا مغايرًا بالميل إلى مستشفى القاهرة، القريب من ميدان روكسي … لكنني — في اللحظة التالية لاتخاذ قراري بالذهاب إلى مستشفى عين شمس — كنتُ قد أسلمتُ نفسي لمَا يصعُب تسميته: تأمُّل، شرود، استعادة مواقفَ وذكريات، تبلُّد، استشرافٌ للآتي … مشاعرُ متباينة، اختلطتْ وتشابكت. أهملتُ حتى تأثيرها في داخلي.

أسلمتُ لها نفسي بما يُشبه الاستسلام. حاولتُ مغالبتَها بالتحدُّث إلى مَن استقلُّوا السيارة معي: زوجتي، وأسرة قريبها الذي كنا في الطريق لعيادته. قلتُ ما لا أتذكَّره الآن، وإن أحسستُ — لحظتها — بشدَّة سخفه وسذاجته.

٣

ملأ كاتب الاستقبال استمارات الدخول، ثم قال: نريد مبلغًا تحت الحساب.

سألتْ زينب: كم؟

– أيَّ مبلغ.

– معي خمسمائة جنيه.

– قليل … لكنْ لا بأس!

كنت قد سألتُ زينب — بعفويَّة — ونحن نغادر البيت: معكِ نقود؟

قالت وهي تربِّت بيدها حقيبتها الصغيرة: أخذتُ كلَّ ما بدُرج مكتبك.

أُصارحك: إنَّه بقَدْر ما أفزعني — لا يحضُرني تعبيرٌ سواه — رأى نقيبٌ أسبق للأطباء بأنَّه على المريض أن يدفع أولًا، ثم يبدأ علاجه ثانيًا؛ فإني قدَّرتُ تمامًا رأي الدكتور سمير فياض رئيس المؤسسة العلاجية بأنَّ الواجب يقضي بإنقاذ حياة المريض أولًا، ثم يُعرض عليه — بعدها — أن ينتقل إلى الدرجة الأولى، أو الثانية، أو إلى القسم المجاني. ولا يدفع — قبل ذلك — أيَّ مبلغ تحت الحساب … فالمشكلة الأهمُّ — لحظةَ استقبال المستشفى له — هي أن يُنقذ حياته! أرفض ذلك الخيار السخيف: إمَّا الدفع، وإمَّا الموت!

٤

جلست على كرسيٍّ حديدي بمساند من الجِلد. دفَعَه الممرِّض في ردهات وممرَّات، حتى دخَلَ حجرةً واسعة، صفَّت على جانبَيها أسِرَّة وأسلاك وأجهزة مونيتور ومعدَّات. ثم الْتفتَ إلى السائرين خلفنا: ممنوع الدخول!

دخلتُ في الأبيض. كلُّ ما حولي أبيضُ في أبيض، بما يذكِّرني — الآن — بقصيدة صديقي الراحل أمل دُنقل:

في غُرَف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض،
لون المعاطف أبيض،
تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات،
الملاءات،
لون الأسِرَّة، أربطة الشاش والقطن، قرص المنوِّم، أنبوبة المصل،
كوب اللبن.
كلُّ هذا يُشيع بقلبي الوهن.
كلُّ هذا البياض يذكِّرني بالكفن.

خمَّنت أنها حجرة الإنعاش … قرأتُ الكثير عن حجرة الإنعاش؛ فلَمْ أضَع لها تصوُّرًا محدَّدًا. تخيلتُها من البلاستيك الشفاف، أشبه بالخيمة، امتلأتْ بالأكسجين الذي يحفظ على المريض حياته، وتخيلتُها حُجرةً عاديَّةً، أشبهَ بالزنزانة المُصمَتة، تستقبل المريض بمفرده، وتضمُّ كلَّ المُعِدَّات التي تكفل إنقاذه من الحالة الحَرِجَة.

أيًّا كان الأمر؛ فقد طالعتْني حجرة الإنعاش، بما يُخالف كلَّ ما تصورتُه (لا أعرف إن كانت كلُّ حجرات الإنعاش متشابهة؟!) كانت الرؤية في عيني غير واضحة. الملامح ملتفَّة بغِلالةٍ شفيفة، وإن ميَّزتُ ستَّة أسِرَّة، صفَّت في صفَّين متقابلَين، وإلى جوار كلِّ سرير جهازُ مونيتور، يُصدر صوتًا كالصفير المتقطِّع.

ساعَدَني الممرِّض على النزول من الكرسيِّ ذي العَجَلات، والتمدُّد على السرير.

رفعَت الممرِّضة كُم القميص، وعلَّقت زجاجةَ الجلوكوز في الحامل، إلى جوار السرير، يتَّصل بها جهازُ إعطاء المحاليل، ووصلتْ طرَفه المقابل بيدي، غرسَت الإبرةَ في يدي، واكتفيتُ — من ناحيتي — بالتأمُّل الصامت، وهزِّ الرأس لمَا أستمع إليه. لا أدرك — بصورةٍ حقيقية — ما يدور حولي.

٥

لم أكُن رأيتُ — من قبل — إنسانًا يُحتضَر، ولا أعددتُ نفسي لذلك.

كانت رؤية الموت عندي، هي الموتَ نفسه. التصوُّر، مجرَّد التصوُّر، مستحيلٌ أن أرى ميتًا محمولًا، أو ممدَّدًا. العُقدة قديمة، ترتبط بحادثةٍ في طفولتي، رويتُها في كتابي «حكايات عن جزيرة فاروس». ربما لا تكون قرأته، فها أنا ذا أعيد روايتها:

«أمَّا محمود أفندي، الموظف بوزارة الداخلية، والذي كان يسكن الشقة الموازية لشقتنا في البيت المقابِل — جسدٌ ضئيل، ومِذَبَّة، وطربُوش معتدلُ الزِّر، وخطواتٌ ثابتة — فقد تركتْ وفاتُه في نَفْسي تأثيرًا صاخبًا، لم أُفلِح — أعترف — في تجاوُزه حتى الآن. حان موعد بدء الجنازة، فأدرَكَ الحانوتي صعوبةَ الهبوط بالنَّعش — لضيق السُّلَّم — من الطابق الثالث. وحمَلَ الجثَّة رجلان، هبطا بها إلى الطابق الأرضي، فأوسداها النعشَ، ومَضَت الجنازة.

كانت تلك أولَ مرَّة أشاهد فيها ميتًا لُفَّ بكفنه. بدا لي ما رأيت — داخل خيمة البكاء والصراخ والصوات — حزينًا ومُقبِضًا. صارحتُ شقيقي الأكبر بمشاعري؛ فتعمد — من يومها — أن يُخيفني بالجار الراحل؛ فهو يهتف أثناء جلستي الهادئة مع لُعَبي: محمود أفندي! أترك ما بيدي، وأجري نحو أمي حيث تكون، فألوذ بحضنها.»

كانت تجربتي الأولى مع الموت، وأنا في الثالثة أو الرابعة، من عمري. صحبني زوجُ خادمةِ أُسرتنا — اسمه فيما أذكُر، إبراهيم، واسمها دهب — إلى دار سينما، كان أنور وجدي يقود سيارته، وبجواره ليلى مراد. وكانت تغنِّي: مِش ممكن أقدَر أصالحك … وكمان ماقدرش أخاصمك! … لا أذكُر من الفيلم إلا هذا المشهد الذي تذكرتُه عندما شاهدتُه ثانيةً بعد أن كبِرتُ. ولم يعُد بي إبراهيم إلى البيت؛ صحبني إلى بيت عمِّي في محرَّم بك، ثم عُدنا إلى البيت. كانت الظلال ترافق خطواتنا للنور، المنبعِث من الدكاكين والنوافذ وأعمدة الطريق. اللحظات التالية لدخولي الشقة أذكُرها جيدًا. تحولتُ كليًّا إلى متابعة كلماتِ أمي، وتصرفاتها. كانت تتنقَّل بين الحجرات، وتبكي، وتكلِّم نفسها، وتخاطب أخي الأصغر الذي لم يكُن موجودًا. كانت تسأل: أين هو؟ … وحين أراد أبي أن يُغلق باب الشقَّة في وجوه النظرات المُشفِقة، أو الفضولية؛ طلبت أمي أن يظلَّ الباب مفتوحًا، لأن أخي يلعب على السُّلَّم، وسيعود بعد قليل.

واساها أبي بكلماتٍ عن الموت، ورحمة الله. وقال كلامًا ظلَّ في ذهني كالأصداء البعيدة، حتى تذكرتُه عندما قاله آخرون: الله جاب … الله أخد … الله عليه العوض!

ورافقنا أبي إلى مقابر العامود. عرفتُ أنَّ أخي الأصغر — أحمد — مدفونٌ بالقُرب من المدخل، عندما رأيت أبي، يسوِّي الأرضَ بيده، ويثبت شجرةَ الصبَّار الصاعدة بجوارها، ويقرأ الفاتحة فوقها (لماذا دُفن أخي في لَحْد، ولم يُدفن في مقبرةِ العائلة؟ … لا أدري! … وإن علمتُ — فيما بعد — أنَّ بعض الأُسَر التي يموت أحد أطفالها، تدفنه في لحْدٍ؛ كي تحصل على طفلٍ جديد. مُعتقَد تغيب بواعثه، لكن ربما كان ذلك هو السبب في دفْنِ أخي بالقرب من باب المدفن).

كانت تلك تجربتي الأولى مع الموت، وإن كان أول ميت أراه، هو جارنا في البيت المقابل: محمود أفندي.

ثم ماتتْ أمي.

تابعتُ مرضها في مراحله الأخيرة. الرُّقاد لأشهُر متصلة، وحالات الإغماء، وكلماتها عن الموت. أشرتُ إلى ذلك أيضًا في كتابي «حكايات»، وفي بعض القصص القصيرة.

أمَّا تجربتي الهائلة الثالثة؛ فهي موت أبي.

ألِفتُ الموت فيمَن رحلوا، لكن الصدمة التي واجهتُها في جثمان الجار ظلَّت في تناميها، وتفاقمها، واتساعها، حتى صارت عُقدةً لا أملك التخلُّص منها. وإلى الآن، فإنَّ مشهد الموت؛ ممَّا لا أقوى على الوقوف أمامه. أكتفي بتشييع الجنازة — أيًّا كانت صِلَتي بالميت — إلى المسجد، فأقدِّم العزاء، أو أتقبَّل العزاء. أمَّا السعي إلى المقابر، ومتابعة خطوات الدفن؛ فذلك ما لا تقوى نفسي الضعيفةُ عليه.

حاولتُ — يومًا — أن أُعالج الداء — كما دعا أبو نواس — فلم أفارق جنازةَ الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن شكري، حتى غيِّب الجثمان داخل القبر.

عدتُ إلى البيت؛ فلَمْ أنَم ثلاثةَ أيام، وظلَّ الخوف يطاردني أيامًا طويلة، تالية. كنتُ أرى الجثمان المكفَّن مُمدَّدًا في السرير جواري؛ فأهبُّ فزعًا. وألمحه في حنية السُّلَّم أثناء عودتي إلى البيت، وأتخيَّله مُقبِلًا ناحيتي أثناء جلوسي — بمفردي — في الشقَّة. ثم بهتَت التأثيرات، وإنْ ظلَّت في داخلي، كالعقدة التي يصعب حلُّها.

٦

بصراحة، فإنَّ ما أخافه هو من صُنع خيالي. هو الذي يبتدعه، ويعطيه ملامحه وقسماتِه، والصورةَ التي يطالعني بها، والتصرُّف الذي يُقدِم عليه … ثم يبتعد التصوُّر ليحلَّ يقينٌ بأنَّ ذلك كذلك بالفعل! المشكلة في خيالي الذي ينطلق بلا قيد، وبلا حدود؛ يخترع، ثم يصدِّق ما يخترعه، ويتعامل معه على الصورة التي اخترعه بها. فأنا أتصوَّر فُلانًا يقف فوق رأسي، أو أنَّ يدَ فلانٍ تداعبني من تحت السرير، أو أنَّ المخدَّة بجانبي ليست إلا جثَّة مكفَّنة ممدَّدة؛ ويتحوَّل الخيال، التصور، إلى واقعٍ أثِقُ في حُدوثه.

وأذكُر أنِّي أمضيتُ في طفولتي أيامًا مُرعِبة، بعد أن تحدَّث إمامُ جامع سيدي علي تمراز المُجاوِر لبيتنا، في خطبة الجمعة، عن المَلَكَين اللذَين يرافقان المرءَ في صحوه ومنامه، ملك عن يمينه، وملك عن يساره، يسجِّلان أقوالَه وأفعاله؛ ليُحاسَب عليها يومَ القيامة. كنتُ إذا خلوتُ إلى نفسي، تلفَّتُّ حولي، أتصوَّر الملَكَين الملازمَين لي؛ يغلبني الخوف، فأُسرع إلى حيث تجلس أمي، أو إخوتي. وكانت أمي تحذرني من محاولة قتْلِ الفراشة المسمَّاة «أبو دقيق»، أو حتى مجرَّد الإمساك بها؛ فهي رُوحٌ لأحد الراحلين من عائلتنا، قدمت لزيارة البيت. وهو ما قد يحدُث في أيَّة ليلة، وإن زاد احتمال الزيارة ليلة الجمعة؛ فهي ليلةٌ مباركة تفضِّل الأرواح أن تزور فيها محبِّيها. وكنتُ أنفِّذ نصيحة أمي؛ فأهرش رأسي إذا مرَّت بالقُرب منِّي سيارة إسعاف. أهرشها بشدَّة، وبسرعة، حتى لا تنتقل إليَّ عدوى الأمراض التي تحملها سيارة الإسعاف، إضافةً إلى تخويفي من «أبو رِجْل مسلوخة» و«عفريت الليل» و«أم سحلول» و«الشمَّامة» التي تزورنا في أُسرتنا ليلًا؛ لتتأكَّد إنْ كنَّا قد غسلنا أفواهنا. وكانت أحاديث أمي تجوس بنا عالمًا أبطاله المَرَدة والعفاريت والجَانُّ والموتى والأرواح والمساخيط، التفاصيل غايةٌ في القسوة والبشاعة. أُضيف إليها من خيالي؛ فأعاني — في الصحو والمنام — وأتأكَّد دومًا من وجود الونيس.

٧

لكنَّ الرَّجُل الممدَّد بجواري كان يموت. وكنتُ أعرف أنَّه كذلك. الجهاز الملتفُّ برأسه يرجُّه، يزلزِله، وفمه يُصدر صوتًا غريبًا كالشخير، أو كالحشرجة.

كنت أتأمَّل — بحَيدةٍ لم أعهدْها في نفسي — اهتزاز الرَّجُل. اهتزازات متوالية، عنيفة، ترجُّ جسمه، ورأسه بالتحديد، رجًّا شديدًا. لكنَّه لا يتألَّم ولا يصرُخ. تصوَّرتُ أنَّ الجهاز الحديدي الملتفَّ برأسه هو مصدر الاهتزازات. قيل أمامي إنَّ الرَّجُل يعاني انفجارًا في المخِّ؛ فخمَّنتُ أنَّ الجهاز يعالج تأثيراتِ الانفجار. ثم علمتُ — فيما بعد — أنَّ الانفجار في المخِّ هو باعث الاهتزازات، وأنَّ الجهاز لإسكاتها، أو لتهدئتها. المهمُّ أنِّي ظللتُ أتابع صراعَ الرَّجُل من أجل أن يفوزَ بحياته، من أجل أن تتواصل الحياة، وهو في غيبوبة، لا يدري ما حوله، ولا مَن حوله.

وكما علمتُ، فإنَّ خلايا المخِّ غايةٌ في الحساسية لأيِّ نقصٍ في الأكسجين. إنها تموت بلا عودة، بعد دقائقَ قليلةٍ — بعد ذلك — من انقطاع التغذية عنها. وإذا فُحصتْ بالوسائل المِجهريَّة والهيستوكيميائية؛ يتبيَّن وجود تحلُّل نهائي في العديد من مكوِّناتها، بحيث يُصبح من المستحيل محاولةُ استعادةِ شكلها، أو وظائفها.

كان الرَّجُل قد مات إكلينيكيًّا بلغة الطبِّ، بمعنى أنَّ خلايا المخِّ قد تحلَّلت. ربما أفلَحَ الأطباء في تشغيل عضلة القلب، والاحتفاظ صناعيًّا بوظائف التنفُّس، والإبقاء على ضغط الدم، وحيوية أنسجة الجسم الأخرى … لكنَّ ذلك كلَّه لا يُعيد الحياة إلى خلايا المخِّ المتحلِّلة … ورغم الأجهزة التي كانت تُحيط برأس الرَّجُل وصدره وذراعَيه؛ فإنَّ الاستمرار في استعمال التكنولوجيا الطبيَّة لإنقاذه — على حدِّ تعبير الدكتور شريف عمر — نوعٌ مبتكَر من التحنيط، لا أكثر ولا أقل.

مَن يحكمون على الوفاة بالنَّظَر المجرَّد — سواءٌ أكانوا من الأطباء أم الناس العاديِّين — يرون أنَّ الموت قد حدَثَ عندما يتوقَّف النبض، ويختفي الضغط، ويتوقَّف التنفُّس، وتجحظ العينان، ويخمد الجسد، ويبرد. والحقُّ أنَّ مراكز التنفُّس، ومراكز الإحساس، ومراكز الدورة الدموية؛ توجد جميعها في جزع المخِّ. وتوقُّف المخِّ يعني الموت إكلينيكيًّا. أمَّا توقُّف القلب؛ فيعني الموت الحقيقي. يموت الإنسان بتوقُّف مخِّه. قلبه قد يظلُّ يعمل، فيضخُّ الدم في الشرايين، ويظلُّ التنفُّس، ويظلُّ الجسد محتفِظًا بحرارته، ويبذل الأطباءُ محاولاتهم لإنقاذ المريض. محاولات تنتهي — في الأغلب — بالفشل، والفُرَص النادرة عندما لا يتوقَّف المخُّ وتوابعه جميعًا. حقَّقَ الطبُّ — في العقود الأخيرة — تقدُّمًا مذهلًا؛ بحيث أُتيح للأطباء تنظيم ضربات التنفُّس، وضربات القلب، والتحكُّم في ضغط الدم، في العديد من التفاعلات الكيميائية بجسم الإنسان، ولم يعُد توقُّف قلبِ الإنسان، بالتالي، مرادفًا للموت. فبوُسع أيِّ طبيبٍ مبتدئ، في أيِّ مستشفى متوسِّط، أو حتى في الطريق، أن يبادر ببعض الإجراءات البسيطة؛ فيعود النبض إلى القلب الساكن! بل إنَّ الجرَّاح قد يُوقِف القلبَ عن النبض، كي يُجري عمليةً جراحية تمتدُّ لعدَّة ساعات. الإنسان يعدُّ ميتًا إذا توقَّفتْ جميعُ أجهزته عن العمل، إذا أصبح بلا حياة. موت الدماغ، أو موت جزع المخ — حسب التعبير الطبي — يعني موتَ الجسم كلِّه. وكما قلتُ، فقَدْ تُتيح التكنولوجيا المتطوِّرة، الإبقاءَ — صناعيًّا — على النبض، وضغط الدم، ووظائف الكثير من الأعضاء، لفترة محدودة، لكنَّها لا تصنع شيئًا للمخ الميت.

ولعلَّنا نذكُر وفاة الراحلة العظيمة أم كلثوم؛ كانت قد ماتتْ إكلينيكيًّا، لكنَّ الأطباء أصرُّوا على استخدام الوسائل الصناعية لإطالة عمرها، وبدا وكأنَّ عمرها قد طال بالفعل، والحقيقة كانت غير ذلك. كان المخُّ قد تحلَّل، مات. وكان البديهي أن يُوقَف استخدام الوسائل الصناعية؛ لأنَّه لم يعُد لها معنًى!

٨

شغلتني المتابعة عن حالة الرَّجُل، وعن نفسي. نسيتُ الخطرَ الذي دخَلَ بي المستشفى. اجتذبتْني ملامح القلَق في وجوه الأطباء، والخطوات المُهروِلة، والشخط، والنَّطْر، والنظرات القلِقة إلى «المونيتور» بصفَّارته المتقطِّعة.

– الرجل مات!

أتبعَت الممرضة قولها برفْعِ الطوق الحديدي من حول رأسه.

أعدتُ تأمُّل الرَّجُل.

كان هادئًا، ساكنًا، كأنَّه قد أسلَمَ نفْسَه للنوم.

لم تغادِرني الحيرة. قلتُ لك إني أخاف الموتى، وإن كنتُ لا أخاف الموتَ في ذاته. لا أقوى على رؤية إنسان ميت. إذا رأيت إنسانًا ميتًا — ولو في صورة — قضيتُ ليلةً، وربما أيامًا صعبة.

أذهلني — بعد أن جاوزتُ التجربة — أني لم أشعُر بالخوف. هل لأنَّ الحياة في التجربة تختلف عن رؤيتها؟ هل لأنَّ الحياة في الخطر تختلف عن تصوُّره؟!

قلتُ لزينب: الرَّجُل في السرير المجاوِر مات!

بسرعة قالت: لا أظنُّ!

– بل مات … ورفعوا الأجهزة من حوله.

كانت تعرف خوفي، عُقدتي؛ لكنَّها لم تعرف أنِّي كنتُ إنسانًا آخر غير الذي تعرفه. تمطَّت في اللحظة سَكينةٌ غامضة، مريحة، لا شأن لها بما قبل ولا بعد. انفصلتُ عن الزمان والمكان. لا يهمُّني الحياة ولا الموت ولا الخوف ولا القلَقُ ولا التنبُّؤ. فرضَت اللحظةُ المغايرة نفْسَها؛ فلَمْ ألحَظ إنْ كنتُ في صحوٍ، أو منام، في سريرٍ داخل مستشفى، أو في حُجرة نومي. أحيا على موروثٍ متراكِم من المخاوف والوساوس والمعتقَدات، أو أنِّي تطهَّرتُ من ذلك كلِّه؛ فأصبحتُ إنسانًا آخر، تكتفي عيناه بالمتابعة والرَّصد، لا تنقلان ما تريانه إلى داخل النفس، إلى مشاعر الحُب والكراهية والتوتر والإعجاب والدهشة والتساؤل واستشراف الآتي.

، وحين توقَّف جهاز «المونيتور» المجاوِر لي — فجأةً — رفعتُ رأسي مستوضحًا: هل مِتُّ؟! … أعرف أن الصفير المتقطِّع الذي يُصدره الجهاز، دليلُ حياة المريض … فهل انتهتْ حياتي؟!

لم يكُن في داخلي قلَقٌ ولا خوف. وكان تساؤلي الساذج خاضعًا — بالتأكيد — للسَّكينة التي دخلتُ نفقها. وبات تصاعُد اللحظة إلى حيث لا أدري، عندما ضرَبَ الطبيب النائب المونيتورَ بقبضة يده، وقال: هذا الجهاز دائم التعطُّل!

واستعاد المونيتور صفَّارته المتقطِّعة.

٩

كيف كانت صورة الحياة خارج حجرة الإنعاش؟

عرفتُ أنَّ أمل استجابتْ لطلب المستشفى — الإطلاق أو التعميم؛ لأنِّي لم أعرف صاحبَ الطَّلَب — بأنْ يتبرَّع أحدُ أقاربي بكميَّة من الدم، تُسهم في تعويض الكميات التي نزفتُها. اكتشفتْ أمل أنَّ فصيلة دمها مطابقةٌ لفصيلة دمي. وأقدمتْ على التبرُّع، لكنني لم أَجِد اسمها على أكياس الدم التي أُعطيتْ لي. ويبدو أنَّ إدارة المستشفى تحرص على تعويض الدم الذي تصرفه من أهل المريض، مع أنَّهم قدَّموا فاتورة بكلِّ نقطة دم، على داير مليم!

لم أكُن — كما قلتُ لك — مهمومًا بشيء، لكنَّ الخوف من عَدوَى الإيدز أو فيروس الكبد الوبائي، كان شاغِلَ أُسرتي. فالعدوى تنتقل بنقل الدم، أو بحقنة ملوَّثة. أسقطَت الحُقَن البلاستيكية احتمالَ الحُقَن الملوَّثة. أمَّا الاحتمال الأول؛ فقد ظلَّ هاجسًا منذ تبدَّتْ ضرورةُ نقل الدم. وعرفت — فيما بعد — أنَّ المستشفى لم يكُن يسمح بتداول أيِّ كيسٍ للدم، قبل تأمين سلامة الدم المنقول، وخلوِّه من الأمراض … والإيدز — بالطبع — أخطرها!

ولعلَّ دخولي حجرة الإنعاش، والتجُّهمَ الذي يمارس به الأطباء عمَلَهم، وغيابَ الكلمات المُطمئنة، والإلحاحَ في أن يعود الجميع من حيث جاءُوا؛ ليفرغ الأطباءُ إلى عملهم … ذلك كلُّه، أضفى جوًّا مأساويًّا. فقالت أمل في نبرةٍ يائسة: يعني خلاص … بابا راح؟

أمَّا زينب؛ فقد عادت إلى البيت، تعدُّ ثيابها لقضاء أيامٍ إلى جواري.

وأما وليد؛ فهو يواجه المواقف الخطِرة — مثل أبيه — بفقدان القدرة على التصرُّف، كأنَّه اللامبالاة!

١٠

ثمَّة تعبيرٌ جميل: كلما ظننتَ أنَّك إنسانٌ لا يمكن الاستغناء عنه، ألقِ نظرةً على سِرج الحصان القديم، المُلقى في حظيرة السيارات!

مع ذلك، فإنَّ أول ما حرصتُ عليه، قبل أن أغادر الحياة — هذا هو التعبير الأدقُّ! — أن أسلِّم مفاتيح مكتبي لمحرِّرٍ شابٍّ من العاملين معي بالمساء. وأرفقتُ ذلك بمجموعةٍ من الملاحظات والنصائح، حتى لا يتأثَّر العمل بغيابي!

١١

قاد «الصديق الطارئ» سيارتي إلى مستشفى أحمد ماهر، ثم إلى بيتي في مصر الجديدة، فإلى مستشفى عين شمس التخصُّصي، وترك السيارة في الموقف داخل المستشفى، وعاد إلى بيته بسيارة تاكسي. ثم عاد — في اليوم التالي — ليطمئن على حالتي، ويقدِّم لزوجتي ألف جنيه، إسهامًا منه في تكاليف العلاج. واستعانت زينب بإداريِّي المستشفى؛ لإقناعه بأنَّ النفقات تكفَّلتْ بها دار الجمهورية للصحافة، التي أعمل بها.

أصارحك بأنَّ السؤال يشغلني أحيانًا: ماذا لو أنَّ النزف فاجأني في شقتي، في بيتي، وسط جيراني الطيبين؟

أغلبُ الظنِّ أنِّي لم أكُن سأجِدُ — عندي عشرات الشواهد — ذلك الاهتمام الذي لقيتُه، في حيٍّ شعبي. أقدِّر أنَّ العناية الإلهية أرادت إنقاذي؛ فاخترتُ ذلك اليوم — تحديدًا — لمغادرة البيت إلى المناصرة، سعيًا لعيادة قريبٍ مريض، ولإنقاذ حياتي من خطرٍ مؤكَّد! (يصِفُ صديقي الدكتور مصطفى المنيلاوي، نزيف الجهاز الهضمي المفاجِئ بأنَّه «أشدَّ المضاعفات خطرًا على حياة المريض»).

شاغلٌ آخر، أثِقُ أنَّه ما زال مطروحًا: كيف كانت زوجتي تواجه الموقفَ لو أنَّ المؤسسة التي أتَّبِعها لم توفِّر الرعاية الصحيَّة للعاملين بها؟

أذكُر قريبةً لي، فاجأها نزيفٌ حادٌّ. حملتُها إلى المستشفى في أقرب تاكسي. قالت لي الطبيبة — وهي سيدة في أواخر الخمسينيات — آنذاك — واشتهرت بعلمها وأخلاقها: إيقاف النزف يحتاج إلى عمليةٍ عاجلة.

استطردتْ في لهجةٍ مُعتذِرة: هات إيصالًا بمائتَي جُنيه، تدفعها في الخزينة.

واجهتُ الحيرةَ: مبلغٌ كبير … لا أملكه الآن!

– لا أستطيع فتْحَ حجرة العمليات، إلا إذا أتيتَ بالإيصال.

– الْحقوها بالعملية … وسأذهب لإحضار المبلغ.

قالت في هدوءٍ بارد: مستحيل! … ادفعْ مقدَّم العمليةِ أولًا.

– لكنَّها قد تموت.

قالت بنفس الهدوء البارد: ستكون مسئولًا؛ لأنَّك تضيِّع الوقت!

طِرتُ إلى البيت، وطِرتُ عائدًا إلى المستشفى، ودفعتُ المائتَي جُنيه. أذِنَت الطبيبة؛ ففُتِحتْ حجرة العمليات!

أذكُر «سيِّد» — الجنايني في الحديقة المقابِلة لبيتي — وهو يحدِّثني، في بساطةٍ مُذهِلة، عن المولودَين المبتَسَرَين اللَّذَين طال ترقُّبه لهما. ذهب بأولهما إلى مستشفًى قريب. طلَبَ المستشفى مقابلًا يوميًّا لإبقاء المولود في الحضَّانة. اعتذر سيِّد بأنَّه لا يملك المبلغ؛ فاعتذر المستشفى — بالتالي — عن استحالة وضْعِ المولود في الحضَّانة.

قال سيِّد في بساطته المذهلة: دعوه يموت!

ورفضوا وضع المولود في الحضَّانة — بالفعل — حتى مات!

وتكرَّر الأمر مع شقيقه التالي، الذي وُلد مبتسرًا كذلك!

ولم يكُن أمام سيِّد — كي يُصبح أبًا — إلا أن يدعو الله؛ فيَهَبه مولودًا صحيحًا!

عندما همستُ بالألم في عيادة صديقي الدكتور فؤاد البدري: اشمعنى أنا؟ كان قد أجرى لي عمليةَ اللحميَّة في أنفي. البِنج موضعي، والجِفْت ينتزع اللحميَّة من خلال ألمٍ قاسٍ.

قال لي الدكتور فؤاد في لهجةٍ موبِّخة: لا تقُل هذا … غيرك أوجاعه أقسى!

وتذكَّرتُ — بحكاية سيِّد، وحكاياتٍ أخرى غيرها — ذلك الرجُل الذي كان يشكو من أنَّه لا يجِدُ ثمَنَ حِذاء؛ فلا يزال حافيًا. فلمَّا رأى شخصًا آخر مقطوعَ الساقَين؛ رضي عن قدَرِه، ولم يعُد يشكو عدمَ وجودِ ثمَنِ الحِذاء لقدمَيه الحافيتَين … ومع ذلك، فإنِّي كنتُ أسأل اللهَ دائمًا أن يهَبَني — مثلما سأله ابن سينا من قبل — حياةً عريضةً، لا طويلة. لا معنى لأعوامٍ متقدِّمة، وأمراضِ شيخوخةٍ، واكتئاب، وقُعود عن الحركة، دون معطياتٍ حقيقيَّة تسبق ذلك كلَّه أو ترافقه. والمعنى — كل المعنى — في الحياة التي قد تقصُر أعوامها — نسبيًّا — وإن حفلت في مضمونها بالمعطيات التي تُبين عن تأثُّر صاحبها بثقافة عصره، وتأثيره — من ثم — في تيارات ذلك العصر.

كنت — بلغة الطبِّ — أُعاني حالةً حرِجة، أو طارئة. بمعنى أنَّها تحتاج إلى تدخُّلٍ طبيٍّ سريع. وأيُّ تأخير في إنقاذها؛ يؤدي إلى الوفاة. (ليت مستشفياتنا — الكبرى تحديدًا — تحرص على وجود أطباء متخصِّصين، طيلةَ الأربع والعشرين ساعة، فلا يُبادر إلى إنقاذ المريض طبيبٌ في غير تخصُّصه!)

أتصوَّر لو أننا لم نكُن نملك مقدَّم الدخول إلى المستشفى. أتصوَّر الحالات المُماثِلة، الكثيرة، التي تستقبلها المستشفيات الحكومية ومستشفيات الاستثمار في آنٍ معًا. بل إنَّ بعض كبار الأطباء قد ألغى نظام الاستشارة، وألزم مَن يريد زيارته ثانية، أن يدفع قيمةَ الزيارة!

واجب الطبيب: المستشفى يفرض أن يُنقذ حياة المريض أولًا، ثم يُناقش ظروفه الماديَّة، وما إذا كان يستطيع الإنفاقَ على علاجه. تلك — في تقديري — مهمَّة الطبِّ الأُولى، وإلا اكتسبت صفةً أخرى، غير إنسانية. إنقاذُ حياةِ المريض — أيًّا كانت الظروف التي أدخلتْه المستشفى — جزءٌ من إنسانية الطبيب.

١٢

سألني الطبيب المناوب: ما الأمراض التي سبَقَ أن أُصبتَ بها؟ … هل أجريتَ عملياتٍ من قبل؟ … هل تعاني الضغطَ أو السُّكَّر؟ … كيف عرفتَ أنَّ النزيف مَبعَثه قُرحةٌ في الاثنا عشر؟ … ولماذا الاثنا عشر بالتحديد؟

كنتُ أُجيب بقَدْر ما تواتيني ذاكرتي الشاحبة، وكان الطبيب يلحُّ في الأسئلة، يكرِّرها، ويعلو بها صوتُه. وأدركتُ — للمرَّة الأُولى — أنَّ التاريخ المرضيَّ لمَن يدخُل المستشفى يجب أن يسبق علاجه، أو دخوله حُجرة العمليات. بل إنه على الطبيب ألَّا يقرِّر العلاج، أو إجراء العملية الجراحية — إذا استلزمت ذلك حالةُ المريض — إلا إذا أنصَتَ جيدًا إلى التاريخ المرضي للمريض. وأدركتُ كذلك أنَّ لي تاريخًا مرضيًّا، وأنِّي يجب أن أحفظ ذلك التاريخ جيدًا.

كنت أسافر مع أبويَّ وإخوتي إلى دمنهور لزيارة أسرة أمي — جدي وجدتي وأخوالي — وكان اهتزاز سيارة الأوتوبيس يُصيبني بالغثيان، وربما تقيَّأتُ. ويستأذن أبي السائق، فأجلس بجانبه الْتماسًا للهواء. وعندما ركبت مع شقيقتي «المُرجيحة» — للمرة الأولى — في سوق العيد أمام بيتنا، يتناثر القَيْء على الواقفين في أسفل، فلم أعُد إلى ركوب «المُرجيحة» ثانية!

من الصعب إذن نسبة القرحة إلى الأسباب النفسية وحدها: التوتر والانفعال والحساسية، وغيرها من البواعث التي يُرجِع إليها الأطباء معظمَ أمراض زماننا الحالي. (عرفتُ — فيما بعد — أن اشتداد القرحة يرتبط باستعمال الأسبرين وأدوية الروماتيزم والكورتيزون. وكنت قد تعاطيتُ ذلك كله بشراهة مُدهِشة!)

وإذا كان علماء الوراثة يؤكِّدون أنَّ معظم الأمراض التي يُصاب بها المرء، إنما هي وراثة من أبيه، أو من أحد أخواله أو أعمامه، وربما من أحد أجداده. لعبة الجينات. فلعلِّي أستطيع التخمين أنِّي قد ورثتُ معظم أمراضي عن أبويَّ، وإن كان من الصعب كذلك أن أهمل العوامل النفسية في كل ما عانيتُه، وأعانيه: ضغط دم، وسكَّر، وقرحة، وحساسية في الأنف والصدر والعين، وحصوات في الكلى … مجموعة أمراض قد يستغني بها طالب الطب، أو الطبيب المبتدئ، عن دراسة حالات مرضى كثيرين!

١٣

ثمَّة رأيٌ أنَّ ٦٠٪ من الأمراض، لها علاقة بسلوكيات الإنسان. وإذا لم يتعرَّف الطبيب إلى هذه السلوكيات؛ فلن يُتاح له حقيقةُ المرض، بواعثه ومدى خطورته واحتمالات المستقبل، ولن يُتاح له بالتالي مساعدةُ المريض على تجاوُز محنة المرض وبلوغ الشفاء. وقد قرأتُ للكاتب النفسي جورج جروديك أنَّ الأمراض التي تبدو عضوية، إنما هي — في الأصل — أمراضٌ نفسية. أثبتَت الأبحاث أنَّ الحالة النفسية تعكس تأثيراتها — سلبًا وإيجابًا — على الصحة العامة. وفي حالات الحُزن، فإن الجهاز المناعي للإنسان يُصاب بالحالة نفسها؛ فلا يقاوم الأمراض. والمبادرات الطبيَّة الجديدة تحاول تنشيط الجهاز المناعي بواسطة الإيحاء له؛ فيضاعف المقاومة ضدَّ الأمراض التي قد تُهاجمه.

فهل الحساسية عرَضٌ لمرضٍ نفسي؟

تعريف صديقي الدكتور فؤاد البدري للحساسية: إنها تغييرٌ في حساسية الأجسام الحيَّة — جسم الإنسان — زيادةً أو نقصانًا؛ لوجود أجسامٍ مثيرةٍ للحساسية، تؤدِّي إلى إنتاج الجسم لمضادات، خاصَّة بهذه الأجسام الغريبة والمثيرة للحساسية. ومعظم الأمراض التي رافقتْني — وما زالت — مبعثها الحساسية؛ حساسية في الجِلد، وفي البطن، والصدر، والأنف، والعين. حتى فروة الرأس تُعاني حساسية، تُبين عن نفسها بمجرَّد الملامسة!

قال لي أحمد بهاء الدين — يومًا — ونحن نُطلُّ من نافذةِ فندق «الفلج» المطلَّة على جبال مسقط: لم يعُد في جسمي عضوٌ يخلو من الأمراض!

وأغمضتُ عيني بالتأثُّر.

ثم استطاعت الأمراض أن تخترق جسمي في العديد من المواضع.

١٤

كيف ظهرتْ — للمرَّة الأُولى — أعراضُ القُرحة؟

كنتُ أضع قدمي على عتبة الصحافة. كتبتُ أخبارًا محلية وأدبية وفنية، وتحقيقاتٍ ومقالات ودراسات. كنتُ أعتبر كلَّ الاقتراحات أوامرَ يجب تنفيذها، ونشرتْ لي «المساء» تحقيقًا عن ضرورة تأميم الطب — استبدل الرقيب المُقيم في الجريدة، كلمة «التأميم» ﺑ «التنظيم» — وموضوعًا خبريًّا عن فتاة مصرية أجرى لها حمدي السيد — الطبيب المصري المهاجِر إلى لندن (نقيب الأطباء فيما بعد) — عمليةَ رتقِ ثُقبٍ في القلب، ودراسةً مطوَّلةً عن مجموعة صديقي عز الدين نجيب «أيام العزِّ»، وتحقيقًا رئيسيًّا للصفحة الأُولى عن الأوضاع في السعودية، وتحقيقًا مماثِلًا عن الأوضاع في اليَمَن الإمامي، ومقالًا عن عيد الميلاد الخمسين لأستاذنا نجيب محفوظ، ومتابعةً لأفلامٍ سينمائية ومسرحيات … موادُّ صحفيَّة تباينتْ في نوعيتها، لكنَّها تصدُر عن ذاتٍ تسعى إلى الاكتشاف والتحقُّق! وليلةً، قال لي كمال الجويلي: هل تستطيع أن تحرِّر «المُفكِّرة الدبلوماسية»؟

– لماذا؟

– هدى توفيق لم تسلِّم المفكِّرة.

كانت هدى توفيق — مراسلة التليفزيون في نيويورك الآن — مندوبةَ «المساء» في وزارة الخارجية. وكانت «المُفكِّرة الدبلوماسية» جزءًا من عملها. ويبدو أنَّ الجويلي لاحظ تردُّدي في الموافقة؛ فقال: أنت تُنقذ وضعًا؛ لأنَّ هدى توفيق خارج مصر.

اتصلتُ بالجامعة العربية، وبسفارات وساسة مصريين وعرب وأساتذة جامعات، حتى اكتملتْ صفحاتٌ تعرض لتطورات الأوضاع السياسية، في أوائل الستينيات.

ولأني ممَّن يحرصون على تحويل الصداقة الطارئة، أو التي أتتْ بالمصادفة، إلى صداقةٍ ثابتة ومستمرة (أحَبُّ أصدقائي؛ عرَّفتْني بهم المصادفة: محمد بهنسي، عطية السيد، عاطف الغمري، أحمد عبد الوهاب، ماهر شفيق فريد، وغيرهم) فقد كان اتصالي بمكتب الجنوب العربي بدايةَ صداقةٍ بيني وبين قيادات المكتب: أحمد بافقيه، وشيخان الحبشي، والأشقَّاء: محمد وعلوي وعبد الرحمن الجفري. وحاولتُ أن أُسهم في النشاط الإعلامي للقضية التي يدعون إليها، فأصدرتُ ثلاثةَ كتب عن الأحوال في جنوب اليَمَن هي: مؤامرة في عدن، مدينة المهاجرين (حضرموت)، صور من الجنوب العربي.

وأصبحتُ على معرفةٍ جيدة بطبيعة الأوضاع في تلك المنطقة المنسية — حينذاك — من عالمنا العربي. وذات أصيل، استقبلتُ في بيتي سكرتيرَ مكتب الجنوب العربي. اسمه — فيما أذكُر — محمد لطيف. نصحني وهو يُغالب توتُّرًا وخوفًا، ألَّا أتردَّد على المكتب ثانية! همستُ بالدهشة: لماذا؟

قال: مباحث أمن الدولة اقتحمَت المكتب، وفتَّشتْه … ثم ختمتْه بالشمع الأحمر.

عاودتُ السؤال: لماذا؟

– قيل إنَّ الحكومة قرَّرت قصْرَ تأييدها، على جماعة عبد القوى مكاوي (أحد زعماء الجنوب في تلك الفترة).

كانت ابنتي أمل مولودةً في شهرها الثاني. وتنبَّهتُ، بالغثيان الذي تصاعد داخلي، أني أحملها في يدي. طلبتُ من محمد لطيف أن يحملها بدلًا منِّي، وأسرعتُ إلى الحمَّام … وتقيَّأتُ دمًا!

قلقٌ أم توتُّر أم خوف؟!

أيًّا كان الباعث؛ فقد كانت تلك بدايةَ مشواري، مع قرحة الاثني عشر. (في «رسالة الأعضاء» لابن النفيس التي حقَّقها صديقي يوسف زيدان، لم أجِد إشارةً إلى الاثني عشر الذي كاد يقتلني!)

ترددتُ — في الأيام التالية — على أكثرَ من طبيب، وأجريتُ أشعةً وتحليلاتٍ، وتعاطيتُ أدوية، واعتدتُ قدومَ الألم دون توقُّع، وملاحقته بالأدوية، حتى يهدأ، أو يختفي. وحين تخلَّفتُ عن موعد إجراء عملية، وعرفتُ — بعد أيام — بوفاة الجرَّاح لنفس المرض؛ صُرفت فكرةُ إجراء العملية تمامًا!

١٥

لاحظتُ ارتباكًا في وجه الطبيب النائب: هل أنت مريض بالسكَّر؟

– لا.

– متأكِّد؟

– هذا ما أعرفه.

– لكنَّ نسبة السكَّر في تحليل الدم مرتفعةٌ للغاية.

لحقه صوتُ الطبيب الأستاذ: هذا تأثير الجلوكوز … فلا تقلق! (اقتحمني السكَّر في العام التالي.)

استمعتُ — للمرة الأولى — إلى عبارة «التدخُّل الجراحي»؛ تهامَسَ بها الطبيب الأستاذ الذي لم أكُن أعرفه، مع الطبيبَين اللَّذَين خمَّنتُ من صِغَر سنِّهما، وتأدُّبهما أمامه، أنهما نائبان أو طبيبا امتياز.

اقترب الطبيب الأستاذ من سريري، وهو يُخلي ملامحه لابتسامةٍ مُطمئِنة: ما اسمك؟

– محمد … محمد جبريل.

– ماذا تعمل يا أستاذ محمد؟

– صحفي.

– أين؟

– جريدة المساء.

قال مستوضِحًا: دار الجمهورية؟

– نعم.

– أنا الدكتور رضا عبد التواب.

أردف مبتسمًا: صديقي الأستاذ أبو الحجاج حافظ … تعرفه؟

– طبعًا.

– عيادتي تعلو شقَّته.

ثم بلهجةٍ مترفِّقة: نحن أقارب إذن.

وقال وهو يمسح الدم بقطعةِ قطنٍ من جانب فمي: هذا النزيف يحتاج إلى عمليةٍ بسيطة.

هززتُ رأسي بالموافقة.

– عظيم … الأمر يحتاج إلى موافقتك.

– أوافق!

فرصة النزف في الشتاء ضِعف فرصة النزف في الصيف. معلومة يهَبُها لنا الأطباء. في الشتاء، يزداد تعاطي المسكِّنات وأقراص الأسبرين؛ لعلاج آلام الروماتيزم ونزلات البرد. ويؤدي استمرار تناول الأدوية إلى قُرَح مُزمِنة، يمكن أن تتحوَّل إلى قُرَح خبيثة.

كنتُ قد تفهَّمتُ الموقف منذ البداية، وإنَّ كلَّ لحظةٍ تمرُّ، تعني المزيد من النزف، ودخول باب الخطر، دون عودة.

الوظيفة الأساسية للدم هي النقل، فهو ينقل الدفء إلى الجسم كلِّه، يوزِّعه عليه، يأخذ الموادَّ الغذائية من الأمعاء، والأكسجين من الرئتَين، يوصلها إلى أجزاء الجسم. وكل ما يوجد في الدم، وما تحمله الأوعية الدموية؛ يذهب إلى خلايا الجسم، تأخذ منه كلَّ الضروريات، وتستخدمها لاحتياجاتها الخاصَّة. والمواد التي تحتوي على الأكسجين هي التي يجب أن تظلَّ دون مساس، لأنَّها لو تراكمتْ في الأنسجة؛ فستتحلل، وتسد احتياجات الجسم، وتنشأ — من ثَم — صعوباتٌ في نقل الأكسجين.

قال الطبيب: الرسميات تقضي بأنْ تكون الموافقة مكتوبة.

– هات ورقةً وقلمًا؛ لأكتب ما تُمليه.

– الصيغة جاهزة … وقِّع عليها فقط!

دفع لي بقلمٍ وورقة، وأشار إلى موضع التوقيع.

لم أقرأ ما تضمنتْه الصيغة.

ولأني كنت عاجزًا عن القراءة، أو النظر عمومًا، بصورةٍ سليمة، وربما جاء توقيعي مهزوزًا؛ فقد طلَبَ الدكتور رضا أن أوقِّع ثانية. وقَّعتُ، وتأمَّل الرجُل الحروف التي عانيتُ في كتابتها، ثم طوى الورقةَ وهو يهزُّ رأسه في غير اقتناع.

والحقُّ أنِّي لم أكُن أملك إلا أن أوقِّع الإقرار الذي قدَّمه لي الدكتور رضا. صارحني بأنَّ حالتي خطيرة، وأنَّ الحلَّ المتاح هو إجراء عمليةٍ جراحية عاجلة. وكنت أعرف أنَّ لجوء الطبيب إلى الحصول على إقرار من المريض بالإذن بإجراء عمليةٍ جراحية؛ إنما يستهدف حماية الطبيب، مقابلًا للعمليات التي تنطوي على خطورة؛ فحالتي خطيرةٌ إذن. وكان التوقيع على الإقرار — وكنت بمفردي في الإنعاش! — خياري الوحيد!

أهملتُ كلَّ ما كنتُ قرأتُه، واستمعتُ إليه، عن الأخطاء الطبيَّة التي ربما تُودِي بحياة المريض: نسيان فوطةٍ أو مقصٍّ أو مِشرط، تلوُّث الدم بفيروس. ماذا لو أخطأ طبيب التخدير؟ … الجرعة الزائدة تعني إصابة المريض بالشَّلل، أو تعرِّضه لغيبوبة، أو أنَّه يموت على طاولة العمليات. أما إذا كانت الجرعة بالنقص، فإنَّ المريض يصاب بصدمةٍ عصبيَّة – تسبق الموت — أثناء إجراء العملية. مهمَّة طبيبُ التخدير أن يغيب المريض عن الإحساس بطريقةٍ آمنة؛ فلا يشعُر بالألم أثناء الجراحة، على أن يُعيده إلى الوعي ثانية. وثمَّة مرضى ودَّعوا الحياة أثناء جراحةٍ «بسيطة» لعلاج عيبٍ خلقي بالأنف. أهمَلَ طبيبُ التخدير؛ فلم يصِل الأكسجين إلى خلايا المخِّ، وحدَثَ هبوطٌ في الدورة الدموية، أفضى إلى الموت … ربما ينسى الطبيب داخل جسم المريض مشارط ومقصَّات وفُوَط، يعاني المريض بعدها حتى تُظهِر الأشعَّة ما نسيه الطبيب داخل جسمه. كنتُ أتصوَّر أنَّ الفوطة التي ينساها الطبيب هي فوطةٌ حقيقية مما تنتجه مصانع المحلَّة، وإن كنت لم أحاول التصوُّر؛ كيف دخلتْ بطنَ المريض. دَارَت الممرضة الصغيرة ابتسامتها، وهي توضِّح الأمر. الفوطة مجرَّد قطعةِ قماشٍ صغيرة، مربَّعة، أو مستطيلة، يستخدمها الأطباء أثناء العمليات. وربما أغلق الطبيب على موضع العملية، ثم يكتشف — بألَمِ المريض، أو بالتذكُّر — أنَّه نسِيَ الفوطة داخلَ جسم المريض. ومع ذلك، فإنَّ صِغَر الفوطة لا يلغي خطورتها. إنها قد تؤدي إلى حدوث الْتصاقات في موضع العملية، أو إلى حدوث تعفُّن أو صديد. وقد يُجري الطبيب جراحة، يستخرج فيها حصوةً من الحالب، لكنه يترك في أحشاء الرجل «جِفْت» جراحة طوله ۲۰ سنتيمترًا، يمزِّق الكُلْيَة، ويُصيب الأوردة والشرايين.

لم يعُد في الحديث عن تلك الأخطاء — بعد أن عادت إليَّ نفسي — ما يُحرج. قال لي الدكتور رضا عبد التواب: إنَّ الخطأ لا يحدُث بالبساطة التي يتصوَّرها البعض؛ فلا بد من أنْ تُطابق الممرِّضة المسئولة أعداد المعدَّات والأدوات على ما سبق أن دوَّنته من قبل، بل إن بعض المستشفيات — مسايرةً للعالَم المتقدِّم — تخصِّص مساعِدةَ طبيبٍ لمتابعةِ حالة المريض، والإشراف على أجهزة وأدوات حجرة العمليات، تمامًا مثلما تخصِّص مساعِدةً لطبيب التخدير، ومساعِدةً للطبيب الجرَّاح، وإن عانى ذلك غيابًا في العديد من مستشفياتنا العامة والخاصة. وقال لي الدكتور رضا: إنَّ الطبيب إذا أخطأ؛ يُحاسب أمام ثلاثِ جهات: إدارة المستشفى الذي يعمل فيه، ثم نقابة الأطباء، وأخيرًا المحكمة التي قد تُودعه السِّجن! وروى لي الدكتور رضا أنَّ بعض المحامين تخصَّصوا في رفْعِ قضايا ضدَّ الأطباء الذين يُؤخذ عليهم تقصيرٌ في العلاج، أو في العمليات الجراحية!

١٦

كنتُ قد أعددتُ نفسي — في ظروفٍ سابقة — لإجراء عمليتَين جراحيتَين. الجراحة الأُولى قرَّرها الدكتور جلال السعيد، وأنا أُجري فحصًا عن تأثيرات القرحة في جسمي. كنت — كما رويتُ لك — قد تقيَّأت دمًا، وأثبتَت الأشعة وجودَ قرحةٍ صغيرة في الاثني عشر. وصحبني صديقي الطيِّب الراحل بكر درويش إلى قصر العيني، لأُجري تحليلًا شاملًا … فمَن يدري؟

تأكَّد وجودُ القُرحة. ولاحظ الدكتور السعيد ما يثير القلق وهو يجري الكشف بالسمَّاعة؛ فأمَرَ بإجراء رسمِ قلب. وأسلمتُ نفسي لأخصَّائي الجهاز، وأنا أتساءل: ما دخل القرحة برسم القلب؟!

قرأ الدكتور السعيد نتيجة رسم القلب. وأعاد الكشف بالسمَّاعة. دقَّةٌ غريبة تختلط بدقَّات القلب. إنَّه ثقب، عيب خلقي لا بد من معرفة مدى اتساعه وخطورته.

حدَّثني الدكتور السعيد عن الطفل الأزرق، وأني كنت، ذلك الطفل، وإن لم أعرف، ولا عرف أهلي أيضًا!

قلت: لكنني كنتُ طفلًا شقيًّا … وكان الجري هوايتي الأُولى؟

– ربنا سلِّم! … فقد كنتَ عُرضةً للتعب — هل كان يعني الموت؟ — في حالة الجهد الزائد!

حدَّد الدكتور السعيد موعدًا لإجراء قسطرةٍ في القلب. وكما روى لي، فإن القسطرة هي إدخال أنبوبةٍ رفيعة في الأوعية الدموية لذراعي. يتمُّ — من خلالها — حقْن صبغة؛ حتى تؤخذ صورةٌ بالأشعة للقلب، فيتمكَّن الطبيب من معرفة أسباب عدم قيام القلب بوظيفته بصورةٍ طبيعية.

استطرد الدكتور السعيد: في حالتك، فإن الأنبوبة تسير في شُريان اليَد، حتى تصل إلى القلب؛ فنتعرَّف على الثقب ومدى اتِّساعه. (قرأت — فيما بعد — لصديقي الكاتب الصحفي رياض توفيق، أنَّ القسطرة لم تعُد تقف عند حدِّ اكتشاف المرض وتشخيصه بدقَّة متناهية؛ لكنها تجاوزتْ ذلك مُعلِنةً عن عصرٍ جديد بالمساهمة في العلاج نفسه، وإنقاذ حياة الإنسان في أحرج اللحظات، عندما تداهمه الأزمات القلبية.)

صحبني الدكتور إلى حجرة القسطرة.

التسمية فيها تجاوز، فهي قاعة عملياتٍ كاملة بالأضواء العلوية، وأدوات الجراحة، وسرير العمليات، والأدوية، والمطهِّرات … كلُّ أدوات الحاجز الأخير لتأجيل الموت. هذه هي الجراحة كما أتصوَّرها: حاجزٌ أخير، إن أفلح المرض في اجتيازه؛ قفَزَ إلى نقطةِ النهاية.

تأملتُ الحجرة، وفي داخلي مشاعرُ متباينة.

وحدَّد لي الدكتور السعيد موعدًا لإجراء القسطرة بعد أربعة أيام. وظلَّت العملية شاغلًا لي، حتى أتى اليوم الرابع؛ فلَمْ أذهب إلى قصر العيني. لا تسلني عن بواعث قراري؛ فلا أذكُرها. صحوتُ في موعدي، وذهبتُ إلى عملي، ورويتُ الحكاية من بداياتها لصديقي الأديب الكبير الراحل عبد الحميد السحَّار، في جلستنا الأسبوعية بكازينو تريامف، فلَمْ يوافق على تصرُّفي: هذا إرجاء لمواجهة المشكلة!

وصحبني — في مساءِ اليوم نفسه — إلى طبيب من أصدقائه كشف الرجل — بالسماعة — على صدري وظَهْري، ونقَرَ بإصبعه على مواضع من جسمي، وأمَرَ بالشَّهيق والزفير، ثم نزع السماعة من أذنَيه، وقال: الحالة لا تحتاج إلى قسطرة.

قال السحَّار: يعني عنده ثقبٌ بالفعل؟

قال الطبيب: حالةٌ نصادفها في المئات ممَّن يتقدَّمون لشغل وظائف، ونوافق على توظيفهم.

ثم بلهجةٍ واثقة: إنه عيبٌ خَلقيٌّ مستقِر … ولا خوف منه!

وظلَّ الأمر يناوشني في الأيام التالية. ثم تباعدت لحظاتُ تذكُّري له، حتى نسيتُه تمامًا.

١٧

أما الجراحة الثانية، فقد كان المفروض أن يُجريها لي الطبيب الراحل هاني القاضي.

صحبني إليه قريبه الزميل الراحل بكر درويش — أَدين له بأفضالٍ كثيرة! — طالَعَ الأشعة ونتائج التحاليل، ونصَحَ بضرورة إجراء عمليةٍ جراحية لعلاج القُرحة.

حدَّد لي هاني القاضي موعدًا، تعمَّد أن يكون سابقًا للإجازة الأسبوعية؛ كي يقضي اليوم كلَّه بجانبي. وقال وهو يُشير إلى بدانتي: ستُتعبني في العملية … لكنني هاني القاضي!

كان يبدو واثقًا من نفسه، ومعتزًّا. وانتظرني في قصر العيني لتحديد نوعية فصيلة دمي. ولاحقتُ خطواته السريعة، وهو يتَّجه إلى المعامل، والطُّلاب يرقُبونه بإعجابٍ واضح واحترام؛ فلا تبين ملامحه إن كان الأمرُ يشغله.

في اليوم المحدَّد لإجراء العملية، ركبتُ المترو، ونزلتُ في محطة مستشفى السكة الحديد، واتَّجهتُ إلى مبنى الجريدة. حاولتُ تناسي الأمر تمامًا، ربما للمشهد الذي رأيتُ فيه هاني القاضي وهو يغادر حجرة العمليات. كان يرتدي بالطو أبيض، مُلطَّخًا بالدم، وفي يده قُفَّازان من المطاط، وفي قدمَيه حذاء من المطاط، يصل إلى أعلى الساقَين. بدا لي المشهد غريبًا، ومقزِّزًا. والْتزمتُ الصمت عندما واجهني بكر درويش بتوبيخاته الغاضبة.

ثم فاجأني بكر درويش — بعد أقلَّ من شهر — بسحنة متألِّمة: هل عرفتَ؟

– ماذا؟!

– الدكتور هاني القاضي.

وأردف لدهشتي المتسائلة: مات بنزيفٍ في الاثني عشر وهو في طريقه إلى قصر العيني.

نكتةٌ سخيفة، أم حقيقة مُفزِعة؟

كيف مات الرَّجُل؟

أفاض بكر درويش في رواية الجزئيات والتفاصيل، والشرود يحتويني. أستعيد الوجه الضاحك، والعبارات الواثقة، والخطوات المعتزَّة، بين نظراتِ الإعجاب من طُلَّاب قصر العيني!

١٨

هل كان تصرُّفي صحيحًا؟

ربما الْتمستُ العذر لنفسي في عدم إجراء القسطرة. قال طبيبٌ إنَّه لا حاجة لي بها. أمَّا جراحة الاثني عشر؛ فقد كانت التواكُلية — مرضٌ مصري متوطِّن! — هي الباعثَ لأنْ أرفض الذهاب في موعد العملية. عرفتُ من الدكتور مصطفى المنيلاوي، أنِّي لو أقدمتُ على علاج القرحة قبل إجراء الجراحة؛ لمَا واجهتُ الآلام القاسية، والنزف، وفتْحَ البطن، وعانيتُ الخطر.

وعلا صوته بالتوبيخ: أنت إنسانٌ مُهمِل!

موت الطبيب الجرَّاح بالمرض نفسه، لا يعني عدم رتْقِ «القُرحة» قبل أن تتَّسع. أو قبل أن يتقدَّم السنُّ؛ فيصبح إجراء العملية متعذِّرًا. صورةٌ أخرى للتَّواكلية التي يعقبها الاعتذارية … هذا ما أحسستُ به في الأيام التي أعقبتْ خروجي من المستشفى!

ثمَّة مقولة: «السبب في أنَّ التاريخ يكرِّر نفْسَه، هو أنَّ أغلب الناس كانوا لا يُصغون إليه في المرة الأولى.»

قد يمنعنا من الذهاب إلى الطبيب، خوفنا أن نُفاجَأ بما نتوقَّعه. ليس في الأمر مفاجأةٌ إذن؛ لكنَّنا نفضِّل أن نكتُم أوجاعنا، أن نُلغي المرض بإهماله، ورفْضِ إجراءِ ما قد يُظهره. نعلم — أو في الأقلِّ نشكُّ — أنَّه موجود، لكننا نفضِّل وضْعَ النعامةِ التي تدسُّ رأسها في الرمال. لا تشغلنا النتائج القاسية، المتوقَّعة. وربما — لثقتنا أنَّ الألم موجود — نستبدل بالتردُّد على الأطبَّاء، اللجوءَ إلى الوصفاتِ الشعبية، والتردُّد على العطَّارين. ولعلَّك استمعتَ من صديقٍ عن تردُّده على العطَّار الشهير حراز، ودهشته لرجالٍ ونساء ينتمون إلى كلِّ المستويات الاجتماعية، وينشدون الشفاءَ بوصفاتِ حراز. تزيد أعدادهم على المتردِّدين على عمارات ميدان باب اللوق المُتخَمة بالأطباء!

أصارحك بأنَّ الإحساس بالذنب كان يملأني، وأنا أُنصت إلى نصيحة الدكتور رضا عبد التواب، بألَّا أُهمل أيَّ ألَمٍ أو عارض: معظم النار من مُستصغَر الشَّرَر … أليس كذلك؟

وأهزُّ رأسي موافِقًا.

المؤكَّد أنَّ الأيام القاسية لم تكُن تفاجئني، لو أنِّي حرصتُ على تعاطي الأدوية التي نصَحَ بها الأطباء. وحرصتُ — بين فترةٍ وأُخرى — على التأكُّد من سكونِ القرحة، أو غيابها، بأشعَّةٍ وتحليلات. العلاج الدوائي — بإجماع الأطباء — هو الأساس في علاج قرحة الاثني عشر. لا يُفرض احتمالُ الجراحة إلا إذا أهمَلَ المريض تعاطي الدواء، وأهمَلَ نصائحَ الأطباء.

هذا ما فعلتُه!

اسأل مجرب، ولا تسأل طبيب. المثلُ قديم، كنتُ أنصح بأنْ نثِقَ في بعضه، ولا نثِقَ في بعضه. بمعنى أنه يمكن المزاوجة بين نصائح الأطباء وتجارب المرضى الذين سبقونا. تلك كانت نصيحتي التي طالما بذلتُها للآخرين، دون أن أعمل بها. لم أكُن أتردَّد على الأطباء، واكتفيتُ بتعاطي الدواء حين يصرُخ الألم في بطني!

ربما كان باعثُ السكينة التي صاحبتْني — منذ دخلتُ المستشفى، إلى ما بعد إجراءِ الجِراحة — (أثبَتَها الأطباء في تقارير المستشفى!) أنِّي كنتُ أدْرَى الناسِ بخطورة حالتي، وأنِّي أهملتُ المرض؛ فاتسعتْ تأثيراته السلبية. جاوزتُ مرحلةَ التداوي بالعقاقير!

١٩

الموت هو التجربة الوحيدة التي لن يرويها كلُّ مَن خاضوها. إنَّه العدم والنهاية المُطلَقة. قد يقترب المرء — في لحظاتِ الخطر — من الموت؛ فيروي ما عاشه. لكنَّه — حين يدخُل العتمة — تنقطع الصلة بينه وبين كلِّ إنسان، وكلِّ شيء. إنها مغامرةُ اللاعودة.

أنت تحيا مع الناس، تخالطهم، تمارس الحبَّ والأُبَّهة والسِّيادة والعبودية والإعجاب والرفض. تسأل، وتُجيب، وتناقش، وتُبدي الرأي … لكنَّك — في لحظةٍ ما، ولسببٍ ما — لا بدَّ أن تكون بمفردك. لا أحد معك سوى نفْسِك، تفكيرك ومشاعرك وغرائزك التي لا يتدخَّل فيها أحَدٌ، ولا تتأثَّر بأحَدٍ، ولا تؤثِّر في أَحَد … فإذا مات المرءُ؛ لم يعُد هناك شيءٌ إلا الجسد الميت. لا ينزل محِبُّوه القبرَ معه، مهما يكونوا لصيقين به، مهما أسرفوا في النَّدْب واللَّطم والعويل والصُّراخ؛ فإنَّ المجاديل لا بد أن تُغلق على القبر في النهاية، وينصرف الجميع. ويطلُّ — على استحياء، في البداية — بطلٌ بلا ملامح، لكنَّ تأثيراته بلا حدود. واسم ذلك البَطَل — كما نعرف — هو النسيان! يتوقَّف الزمن في حياة الإنسان، تتوقَّف حياته. لا زمنَ ولا حياة. لكنَّ الزمن — مع ذلك — يستمرُّ في حياة الآخَرين، وفي الطبيعة والحيوان والنبات والأشياء؛ تطلُع الشمسُ كلَّ صباح، ويواصل النيل جريانه، وتظلُّ الأماكن في مواضعها: البيوت والميادين والشوارع والكباري والأشجار. وتُقلع الطائرات في مواعيدها، ويسهر الناس في القهاوي والحدائق والمسارح ودُور السينما. وتعلو صيحاتُ لاعبي الكوتشينة والطاولة، ونداءات الجرسون على الطَّلَبات، وتهتف المظاهرات بالشِّعارات المؤيِّدة والرافضة، ويعلو الأذان في الصلوات الخمس، وتدقُّ أجراس الكنائس، وتصخب الموالد، ويتطوَّح الذاكرون، وتُزغرِد النِّسوة أمام أضرحة الأولياء للنُّذور التي تحقَّقتْ، ويرتشفنَ — تطلُّعًا للخِلفة — في حلقة السمك، كوبًا من دم التِّرْسَة، ويعانينَ آلامَ الحَمْل، ويحتفل الناسُ بالأعياد والمناسبات السعيدة، ويفرقعون زجاجات الشمبانيا في استقبالهم للعام الجديد، وتُعقد الصفقات، وتشغي الأسواق بالبيع والشراء، وتتناثر الهمسات في الأركان المُظلِمة، ويحتدم الفِصال والمساومات والإشفاق والاختلاف، وتمتلِئُ الملاعب بمُشاهدي مبارياتِ الكُرَة، ويتأمَّل الناسُ بضائعَ الأوكازيونات، ويعدُّ الشبَّان أوراقهم للعمل خارج البلاد أو للهجرة، وتزدحم الأوتوبيسات، ويدخُل الأولاد المدارسَ، وينام المشرَّدون تحت الجسور. ويغرِس فلاحٌ نخلةً، يعرف أنَّه لن يجني ثمارها. وتبدأ المناقشاتُ ولا تنتهي حول السؤال: هل كان عبد الناصر زعيمًا وطنيًّا أم دكتاتورًا؟

لحظاتٌ متباينة، تلاقتْ وتشابكت في لحظةٍ واحدة، يصعُب أن أصِفَها: الأمل واليأس، والحياة والموت، والخوف والإرادة واليقين الديني والتعاطف والمشاركة والحُب والقلق وتوقُّع المجهول … ثم تغطِّي ذلك كلَّه برداءٍ من السَّكينة، لا ملامح ولا قَسَمات ولا صوت. الأبديَّة مطلقًا. لا قبل ولا بَعد. التواصُل في الذات، الامتداد في الداخل.

٢٠

في روايتي «الخليج» يتذكَّر الراوي (الكاتب) خطواتِ تجهيزه لدخول غرفة العمليات. أزال الممرِّض شَعر بطنه بشفرة حِلاقة، ثم حمَّمتْه الممرِّضة بماءٍ فاتر، وارتدى القميص ذا الأزرار الخلفيَّة.

كنتُ أُعاني من لحميَّة الأنف، بتأثير الحساسية … لكنَّ الطبيب النائب دسَّ أنبوبة رايل من فتحةِ أنفي. وتأوَّهتُ من آلام حادَّة، حتى وصَلَت الأنبوبة إلى تجويفِ المَعِدة. إنَّها أنبوبة رفيعة من البلاستيك، تشفُط كميَّات الدمِ المتجمِّعة في المَعِدة، وتغسلها.

ظللتُ في نفقٍ مُصمَت، بلا تكويناتٍ أتعرَّف إليه بها، وإنْ داخَلَتْني مشاعر مُقبِضة، لمَّا قالت الممرضة — نجوى — وهي تودِّعني: لا تخَف … ستعود إلينا بإذن الله!

العودة؟! هل هي مشكوكٌ فيها؟!

دهمني إحساسٌ بالخوف؟ بالانقباض؟ بالتوتُّر؟ … لا أدري! … لكنَّ الشعور الذي عانيتُه، بعد أن قالت الممرضة نجوى كلماتها، اختلف تمامًا عن الإحساس بالسكينة الذي كنتُ قد توسَّدتُه، منذ بدَأَت الأزمة. تذكرتُ قصة «الموت والحياة» في مجموعة «الظُّنون والرُّؤى» — تلقَّيتُها بإهداءٍ جميل من صديقي الراحل عبد الحكيم قاسم — قال الرَّجُل: «مَن يمُت إنَّما يُذبح ذبحًا. من يمُت إنما يفنى ويندثر ويصير ترابًا. لا تبحثوا عن عزاءٍ كاذب في الحكايات القديمة!»

هل هذه هي النهاية فعلًا؟ هل ينتهي كلُّ شي إلى لا شيء؟!

٢١

لست أذكُر القائل: «ارفضْ أن تكون مريضًا. لا تذكُر لأحدٍ أبدًا أنَّك مريض، حتى ولا لنفسك … فالمرض من الأشياء التي يجب أن يقاومها المرء من حيث المبدأ.»

اعتدتُ أن أتحمَّل الألم في صمت. لا أُزعج أُسرتي أو القريبين. أتصوَّر أنَّ ما يحدُث هو طارئٌ سيزول، وربما لفَّتْني وساوسُ عن أمراضٍ خطيرة أصابتْني؛ فأظلُّ أُعاني في صمت.

أرفض مصارحةَ أحَدٍ، وأخشى — في الوقت نفسه — أيَّةَ احتمالاتٍ للجراحة؛ البِنج والمِشرَط وفتْح البطن.

يروي يوجين يونيسكو أنه سأل أمَّه — يومًا — وهو صغير، عن موكبٍ جنائزي شهِدَه للمرَّة الأُولى: لماذا؟

أجابَت الأمُّ: إنَّ أحَدَهم مات!

كرَّر السؤال: لماذا؟

أجابَت: لأنَّه كان مريضًا!

يقول يونيسكو: «في هذه اللحظة، اعتقدتُ أنَّ الذي يتَّقي المرضَ لا يموت، لكنني أدركتُ — فيما بعد — أننا جميعًا نموت، مرضنا أو لم نمرض، بل نحن نسعى حثيثًا إلى الموت، ذلك المجهول» (فتحي العشري: دقَّات المسرح، ص۱۷). الموت همٌّ رئيسي في العديد من أعمالي، بل إنَّ الموت هو الحدَثُ الرئيس في روايتي «اعترافات سيِّد القرية» عندما يمثِّل الإنسان أمامَ محكمةِ الآخرة؛ ليُجيب عن أسئلتها الاثنين والأربعين، فيحاول تبرئة ساحته، حتى لا يواجه مصيرَ الخاطئين!

أنا لا أخشى الموت. أثِق أنَّ اليوم المحدَّد لوفاة أيِّ إنسان سيأتي في موعده تمامًا. بصرف النظر عمَّا إذا كنتُ أحبُّ الموت أم أكرهه؛ فإني أتوقعه، أعِدُّ نفسي له في استسلام، باعتباره قدَرًا حتميًّا، وليس من قبيل الشجاعة، وأنَّها — كما يقول سينيك — هي الفضيلة الوحيدة التي يجب أن نتحلَّى بها في مواجهة الموت. أقرأ الشهادتين قبل أن أُغادر بيتي في الصباح، وأقرؤهما وأنا أذهب للنوم، وأعرف جيدًا أنَّ المرء ربما عاش دون أن يشعُر أنَّه قد عاش لحظةً في حياته فعلًا، لكنَّ الموت يظلُّ هو الحقيقة الوحيدة في حياة كلِّ إنسان. أوافق أستاذنا يحيى حقي على أنَّ الخطَّ الأصيل في الكون هو القوس، وليس الخطَّ المستقيم. الحضارات تبدأ وتزدهر، ثم تضمحل، وتذوي. الشمس تشرق وتعلو في السماء حتى تتوسطها، ثم تبدأ في المغيب. الطفل يَكبُر فيُمسي شابًّا، ثم يَكبُر فيمسي شيخًا ينتظر الموت، قوسٌ مُحكَم صارم.

أقسى ما في الموت أننا لا نعرفه شخصيًّا. نتعرَّف إليه في موتِ أعزَّائنا، لكننا لا نلتقي به، لا نخوض تجربته إلا بعد أن يكون الموت قد أخذنا بالفعل. من هنا، جاء قول شبحُ أخيل إلى أوديسيوس: إنَّه يفضِّل أن يكون عبدًا في الدنيا، على أن يكون ملِكًا في العالم السُّفلي؛ لأنَّ الموت بدا أكثر هولًا بالنسبة له. الإنسان يعبِّر عن رؤيته للموت بهذه الكيفية؛ لأنَّه النهاية الأشدُّ هولًا من كلِّ ما يُعانيه في حياته. وقد أعلن الشاعر الإسباني الكبير جون مرجال، عشيَّة وفاته، أنَّ أعظم ما تَمدحُ به الموتَ، هو أن تقول: إنَّه لا يوجد! … ثم مات الرَّجُل في اليوم التالي.

الموتُ لا يوجد لأننا لم نخُض تجربةَ عِناقه؛ إنه ينتمي إلى عالَمٍ آخر غير العالم الذي نحياه. نحن لا نستطيع أن نتحدَّث عن الموت بعد موتنا: ماذا رأينا؟ وهل ظهَرَ لنا المَلَكان؟ وماذا سألا؟ وبماذا أجبْنَا؟ وهل ضاق بنا القبْرُ، أو اتَّسع؟ … إلى آخر تلك «المعلومات» التي يتحدَّث بها الأحياء، دون أن يرافقها دليلٌ من عالَم الموتى! أذكُر قولَ أناتول فرانس: «لا داعي للفزع من الموت؛ لأنه حين نكون لا يأتي، ولأننا حين يأتي لا نكون.»

استوقفني في قصةٍ قصيرة — لا أذكُر متى قرأتُها، ولا اسمها، أو اسم كاتبها — أنَّ مشيِّعي الجنازة تابعوا المراسم حتى إغلاق القبر على الميت، وفي داخلهم مشاعرُ غير معلَنة بالانبساط؛ لأنهم لم يكونوا ذلك الميت، فهم يثقون أنَّ المصير واحد، وأنَّ الموعِدَ آتٍ! … وعلى حدِّ تعبير باسكال؛ فإنَّ الصمت الأبديَّ لهذه الآماد اللانهائية يُرعِبني. ولعلَّي أذكُر رواية «السحر الأسوَد» لشفيق مقَّار … تحدَّث الراوي عن القاعدة الذهبية القائلة: إنَّ كلَّ واحدٍ منَّا هو العدو، وإنَّ موته أو سقوطه أو دماره، هو انتصارٌ شخصي لكلِّ الآخَرين. الإنسان أيامٌ، مَهمَا تُسرِف في الطُّول. إذا مضى يومٌ، مضى بعضُ الإنسان، بعض بقائه في الدنيا، وتظلُّ الأيام في تناقُص حتى يحين الأجل. نحن نعيش الموت. نعيش موتنا. نحن هلْكَى أحياء على حدِّ التعبير الأيرلندي، ونحن أمواتٌ في إجازة كما يقول كوستا يانكوف. في الحياة يموت الإنسان — القول لباسكال — كلُّ يومٍ يمرُّ يقرِّبُنا من الموت. كلُّ مناسبةٍ سعيدة أو حزينة، تتحوَّل بانقضائها إلى ذكريات. فتتوالى الأيام؛ فتتوالى الذكريات. تأتي اللحظة التي يتوقَّف فيها الزَّمن، حيث لا ذِكرَى.

هل يستطيع المرءُ تذكُّر لحظةِ وفاته؟!

٢٢

يقول يوليوس قيصر في مسرحية شكسبير: «من بين كلِّ العجائب التي سمعتُ بها في حياتي؛ فإنَّ عجيبة العجائب بالنسبة لي هي أن يخاف الإنسان من الموت، وهو النهاية المحتومة للجميع، والتي ستجيء في موعدها، مَهْمَا فعَلَ الإنسان، ومَهْمَا خاف منها، أو لم يخَف!» … أمَّا بول بوفر؛ فهو لا يرى شيئًا مخيفًا في الموت. العالَم يصِفُه بأنَّه وهدةٌ وهاويةٌ نسقط فيها، والتشبيه مغلوطٌ عندما يكون المرء مريضًا. يتصوَّر أنَّه سيقطع حافةً أو ممرًّا سهلًا بسيطًا، أشبه بستارة خفيفة تفصل بين سريره والعالَم الآخر، ومن خلال ذلك نتمكَّن من تفسير هذا الجانب بأنَّه الحياة. أمَّا الجانب الآخر؛ فهو الموت.

المصريُّ يحبُّ الحياة، ويكره الموت. تقديسه للموت، احترامه له، إجراء الطقوس العديدة التي تتَّصل بلحظات الموت وما بعدها … يعكس خوفه من الموت، وكُرهه له. إنه هو الذي يحول دون استمرار الحياة.

كانت مياه النيل تفِدُ أيام الصيف — بعد أشهُر الجدب — فتعيد الحياة إلى الأرض التي كاد يتهدَّدها العطش، والموت بالتالي. وحين تُشرق الشمسُ كلَّ صباح — بعد ظُلمة الليل — فإنَّها تعني تجدُّد الميلاد، انتصار الحياة على الموت. وهكذا تولَّدتْ في نفس المصري عقيدةُ الانتصار على الموت. إنَّه يستطيع — بإرادة الحياة — أن ينتصر على الموت!

نحن نكرَهُ الموتَ إذن؛ لأننا لا نعرفه. ونضيق بالحياة، لكننا نتشبَّث بها؛ فهي ليست مجهولةً لنا. ونحن لا نعرف من الموت إلا الصُّور المُفزِعة: توسُّد التراب، الظُّلمة، التحلُّل، الرائحة الكريهة، الديدان والنَّمل وحساب القبر … عالَم نتخيَّله؛ لأننا لم نرَه. فإذا رأينا صورةً منه في حيوانٍ قبْرُه الطريقُ؛ انساقتْ أخْيلَتُنا إلى آفاقٍ لا نهايةَ لها … حتى الصورة التي نتخيَّلها لمَلَك الموت، لا أدري مَن كان صاحب التخيُّل الأولِ، فهي شوهاءُ وقاسية!

قبل أن نموت، فإننا يجب — أولًا — أن نعيش. وكما يقول الفلاسفة، فإنَّ الموت هو الذي يمنح الحياة. وعلى حدِّ تعبيرِ كامي، فليس هناك سوى الموتِ يُعطي معنًى لحياتنا.

أذكُر قولَ صديقي العالِم الكبير الراحل عبد المحسن صالح: إنَّ الحياة مصيرُها الموت. كما أنَّ الموت يؤدي إلى حياةٍ جديدة. وكلُّ مَن يولد، وكلُّ ما ينشأ — على مستواه الكوني الكبير والصغير — لا بد أن يموت. وما يموت تعوِّضه ولادةٌ جديدة، وخَلْق جديد. طبِّقْ هذا — الكلام لعبد المحسن صالح — على الجُسيمات والذرَّات والميكروبات والدِّيدان والحشرات والنباتات والكلاب والخنازير والبَشَر والكواكب والشُّموس والمجرَّات؛ تخرُجْ بنفس النتيجة. وفي هذا الحقُّ كلُّ الحقِّ: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُإِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُيَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ (من كتاب «هل لك في الكون نقيض»).

يُضيف العالِم الرَّاحل: «لو لم يكُن هناك موتٌ؛ لبقيَت الحياة منذ مئات الملايين من السنين، راكدةً آسِنة، كأنَّما هي بِركةٌ عفِنة، أو مستنقعٌ قَمِيءٌ يعجُّ بالميكروبات. الموت والحياة ما هما إلا صورتان، تؤدِّي كلٌّ منهما إلى الأخرى، هما كالذرَّة والطاقة، والجسم الحيُّ جمَعَ منهما الحُسْنيَين. وعندما يموت، تروح الطاقة، وتبقى المادَّة، تبقى الذرَّة … ولكي تكون هناك حياةٌ؛ لا بد أن يكون هناك موت. ولكي تظهر أنت على هذا الكوكب؛ كان لا بد أن يذهب غيرك. وسنروح نحن؛ لنُفسح الطريق لغيرنا، ويجيء غيرنا. وهكذا تسير الأمور.» (من كتاب «لماذا نموت».)

لا أحاول التَّفلسُف، لكني أطرح السؤال: كيف كان يحيا الإنسانُ حياته، لو أنَّها بلا انتهاء؟ … لو أنَّها امتدَّت في الخلود؟

أغلبُ الظنِّ أنَّه سيمارس الحياة باعتبارها تحصيلَ حاصلٍ. أمَّا الحياة في ظِل الموت، وأننا لا بد أن ندخُل نفَقَهُ المُظلِم؛ فهي ستَهَبنا الشُّعور بقيمتها. أذكُر قولَ الجَدَّة العجوز في رواية «عالَم صوفيا» للنرويجيِّ يوستن جاردر، حين صُورحتْ بأنَّها تُعاني مرضَ الموت: «الآن فقط أُدرك قيمةَ الحياة وروعتها!» … ولعلِّي أُضيف قولَ سيمون دي بوفوار: إنَّ الغياب متمِّمٌ للحضور، والحياة البشرية التي لا تنتهي بالموت تفقد مغزاها.

أتصوَّر أن تربيةَ دودةِ القزِّ التي نتعلَّمها ونحن صِغارٌ في المدارس، مؤشرٌ بالغُ الدلالة، بل هي تجسيدٌ لرحلة الإنسان منذ ما قبل مولده إلى ما بعد الموت: الدودة الحيَّة، فالشَّرنقة، فالفراشة.

الموت نهاية حتميَّة لكلِّ حيٍّ، لكنَّها ليست نهايةً عبثيَّة. إنَّها تأكيدٌ لمعنى الحياة، ولاستمرارها … فالإنسان يموت بعد حياةٍ قصيرة أو طويلة. تتوقَّف حركته، وتتوقَّف في خلاياه تلك الميكانيكية العجيبة؛ فلا تزفر الرِّئة، ولا ينبض القلب، ولا يُصدر المخُّ توجيهاته، ولا تتحرَّك الجُفون أو العيون. انتهى الإنسانُ ككائنٍ حيٍّ. مات، لكنَّه — في الحقيقة — لم ينتهِ؛ فهو يتحوَّل — فيما بعد — إلى عناصره الأُولى، لتدورَ في أحياء أُخرى. والمعنى أبعد ما يكون عن تناسُخ الأرواح. إنَّه يعني تلك العَجَلة الضَّخمة، التي تدور بعناصر الأرض وبأَحيائها؛ فتُحيل التُّرابَ حياةً، والحياة تُرابًا! (دورات الحياة: ص٤٤.)

أتأمَّل قولَ أستاذنا نجيب محفوظ لي: إنَّ كلَّ محاولات البشريَّة منذ فجر تاريخها، محاولات العلماء والأدباء والفنَّانين، هدفها النهائي هو الانتصار على الموت. وهو هدفٌ لن يتحقَّق إلا إذا توصَّل الإنسان إلى سرِّ الموت، ومن قبله سرُّ الحياة!

٢٣

كانت نجوى في أواخر العشرينيَّات، أو أوائل الثلاثينيَّات.

يصعُب أن أتذكَّر ملامحها بصورةٍ مؤكَّدة؛ لأنِّي لم أكُن متيقِّظًا بصورةٍ مؤكَّدة، وإن كان من الصعب أن أنسى تِلقائيتها الغريبة في التعامُل مع هؤلاء الذين دخلوا حُجرة الإنعاش، أيْ أنَّهم يستلقون على الأَسِرَّة الصراط بين الحياة والموت!

أذهَلَني قولُها، حين تلاشت الرَّجفة من الرَّجُل الممدَّد بجواري: مات! … ثم انشغالها برفْعِ الأسلاك والأنابيب من جسمه، ودندنتها — في اللحظة التالية — بما لم أتبيَّنه من كلماتٍ مغنَّاة!

ذهبتُ للعزاء في والد صديقٍ طبيب. فُوجِئتُ بهُدوئه وابتسامته المُحايدة. ثم تبيَّنتُ — في تصرُّفات الأيام التالية — مدى حُزنه. وتفهَّمتُ أنَّ العاطفة — وحدها — تحرِّك مشاعرنا، نحن البَشَر العاديين، وتصرُّفاتنا … لكنَّ فَهْم حقيقة الموت، هو الذي يُملي على العلماء والأطباء ما نتصوَّره تبلُّدًا في المشاعر.

أمَّا هؤلاء الذين قد تغيب عنهم حقيقةُ الموت بالمعنى العلمي — والمِثلُ نجوى — فإنَّهم يتعاملون معه بمنطقِ العاديِّ والمألُوف، الحادث الذي يلتقون به مرةً أو مراتٍ في اليوم الواحد. القطار الذي يمضي على القُضبان بجوار الحقول، اعتاد الفلَّاحون رؤيته؛ فهم نادرًا ما يرفعون رُءُوسهم لتبيُّنه. السيارة التي تدخُل حيًّا شعبيًّا يندُر استقباله للسيارات، تُواجَه بنظراتِ التساؤل والفُضول، وبشقاوةِ العيال!

أنا أحاول تفسير تصرُّفات نجوى اللامبالية في حجرة الإنعاش: يا حبيبي … يا روحي … أنت مافِكش حاجة … يا راجل قُوم بلاش دَلَع … كلها يومين وتبقى زي البُمب … كلماتٌ وتعبيرات تلوكُها في اعتياديَّةٍ كقطعةِ اللبان، لكنَّها — أتذكَّر الآن — كانت مهمَّة جدًّا في تخفيف الحدَّة الكابوسية التي تملأ حجرة الإنعاش. مجرَّد تبديد الصمت بالحركة، وبالكلام، وبالدندنة — أحيانًا — يشي بالحياة، وبأنَّها تمثِّل إمكانيةً مطروحة، مقابلًا لإمكانية الموت!

٢٤

قاد الممرض «التُّرولِّي» في ممرَّاتٍ متتالية.

لم أكُن أرى فيما حولي إلا الأسقف، تتدلَّى منها أضواءٌ زرقاءُ باهتة، ولا أحد. لا أصواتُ أبوابٍ تُفتح أو تُغلق، ولا نداءاتٌ، ولا كلماتٌ زاعقة أو هامسة.

وتبيَّنتُ أنوارًا مختلفة. أبطأ الممرض من سير «التُّرولِّي»، ثم أوقفه تمامًا. أدركتُ أنَّ الأنوار المختلفة تأتي من حجرة العمليات. ظلَّت السَّكينة سادرةً في داخلي، وإن تلوتُ الفاتحة والشهادتَين، عادتي وأنا أتهيَّأ للنوم. لم يَدعُني إلى ذلك أحدٌ، ولا استمعتُ إلى نصيحة.

ثم لم أعُد أدري متى، ولا كيف، ولا أين … غِبتُ عن الوعي.

المرَّة الأُولى التي أخذ مني فيها الوعيَ بِنْج كليٌّ؛ حين أُجريتْ لي عمليةُ الخِتان. تأخرَت العملية لمرضِ أمي الدائم. تجدَّد الإرجاء حتى ماتت؛ فذهب بنا أبي — أخي الأكبر وأنا — إلى طبيبٍ في العطَّارين، اسمه — فيما أذكر — السرياقوسي. تمددتُ على سرير العمليات. وضَعَ طبيبُ البنجِ الكمامةَ على أنفي، وقال: عدَّ من واحدٍ إلى عشرة. كنتُ قد غبتُ عن الوعي في العدِّ السادس. ذلك هو البنج كما هيَّأتُ له نفسي، لكنني — في الحقيقة — لا أذكُر شيئًا بعد اللحظة التي أوقَفَ فيها الممرِّض التُّرولِّي أمام باب حجرة العمليات. هل غِبتُ عن الوعي قبل أن أدخل الحجرة، أو بتأثير البنج على مائدة العمليات؟ … أُصارحك: إنَّ نطقي بالشهادتَين أمام باب الحُجرة هو آخر ما أذكُره، ثم لا شيء. لا نزيف ولا أطباء ولا بَشَر ولا حياة. امتدَّ المُطلَق فاحتواني داخله.

٢٥

كانت الأشياء — التي لم أتعرَّف إلى ملامحها جيدًا — تهتزُّ وترتجُّ، وتعلو وتهبط. أهتزُّ معها وأرتجُّ، وأعلو وأهبط. تتلقَّفني قوًى قاسيةٌ باطشة. تقذف بي إلى أعلى، تقذف بي إلى أسفل. تطوِّحني، تدوسني. طَرَقاتٌ لعينة تدقُّ رأسي، تسحقها، تفتِّتها. ألتقط — بالكاد — تكويناتٍ مبتورةً، متداخِلة: أسطُح عماراتٍ وبحارًا، وسُفنًا، وأشجارًا، وصُخورًا، وشوارع، وميادين، وسيارات، وأنوار، ونوافذ مفتوحة، ومغلَقة، وسيولًا، وأمطارًا، وجسورًا، وحقولًا، وأحراشًا، وأقْبِية، ودكاكين. وأوتوبيسات يخنقني زحامها. وجوهًا أعرفها، ووجوهًا لا أعرفها، وظُلمة قبر. تجتذبني أصواتُ ارتطامٍ وضحكات وصرخات وزعيق وتشنُّجات وصيحات وقِطَع زجاجٍ متطايرة ووقع أقدامٍ وكلاكس سيارةٍ واندفاع سيلٍ وزخَّات مطَرٍ وصفير باخرةٍ وحوافر خيلٍ وصخب أسواقٍ، وعبارات أفهمها وأخرى لا أفهمها، ولغات ولهجات. نبحت في داخلي كلاب، وماءت قِطَط، وزأرتْ أُسُود، ونعَقَ بُوم، ونقنقتْ ضفادعُ، وصهلتْ خُيول. انفجرتْ قنبلة؛ فتحولتْ إلى شظايا صغيرة، تناثرتْ في رأسي وعيني وأنفي وجبهتي وفمي. أحدثت ما لا قِبَل لي على احتماله. اشتعلت النيران، وارتفعتْ أمواج البحر إلى أعلى، ثم تهاوتْ دفعةٌ واحدة؛ فابتلعتني. دارتْ بي الدوَّامة في تلاحُق. أحاطت شِبَاك الصيَّادين؛ فقيدتني تمامًا، وبدا البئرُ بلا قَرار.

صحوت على ذبابة تقِفُ على أنفي. حاولتُ أن أهشَّها بيدي، وحاولت أن أنهض بنصف جسمي الأعلى. فوجئتُ بأني مقيَّد بما لم أتعرَّف إليه جيدًا من القيود. تحسَّستُها؛ فتلمَّستُ أسلاكًا وأنابيب موصولة بأجهزة، وتناثرتْ في مواضعَ من جسمي: الأنف، والصدر، والبطن، والذراعَين. حتى أسفل البطن؛ كان قد عُولج — هل هو التعبير الأدقُّ؟! — بالقسطرة. غابةٌ من الأسلاك والأنابيب اختلطتْ، وتشابكت. غابتْ عني بداياتها، لكنَّها كانت قد الْتصقتْ بجسمي، أو نفذت داخله.

لم أكُن أستطيع التحرُّك؛ فاكتفيتُ بالصراخ: دبَّانة!

عرفتْ زينبُ، الواقفة في الخارج، صوتي.

قالت: إنه يشكو من ذبابة.

قالت نجوى: لا يشكو … فهو نائم!

أَتَت الممرِّضة لمجرَّد إرضاءِ زوجتي. وجدَت الذبابةَ واقفةً على أنفي؛ فهشَّتْها، وعرفتْ أني صحوتُ!

٢٦

كانت اللحظات — قبل الاستيقاظ — أشبهَ بكابوسٍ رهيب، وإن غابت فيه الوقائع الواضحة. صنَعَ المخدِّر جزئياتِها واختلاطَها؛ فلفَّني التَّعبُ تمامًا، كأنِّي قد صعدتُ آلافَ الدَّرَجات، جريتُ عشراتِ الكيلومترات، أسلمتُ جسمي لدوَّامةٍ قاسية.

يصِفُ ابن سيرين أضغاثَ الأحلام، بأنَّها رُؤًى سيئة، يرى فيها الإنسان «كأنَّ السماء صارتْ سقفًا، ويخاف أن يقع عليه، وأنَّ الأرض رحًى تدور، أو نبَتَ من السماء أشجارٌ، وطلَعَ من الأرض نجومٌ، أو تحوَّل الشيطان ملَكًا، والفيلُ نملةً، وما أشبهَ ذلك» … وكان ذلك كلُّه — في رأي ابن سيرين — بلا تأويل؛ بمعنى أنَّ المَشاهِد التي تتضمَّنها غيرُ ذاتِ دلالة (تفسير ابن سيرين: ص٢٤).

أتصوَّر أنَّ المَشاهد التي توَالَتْ، وعِشتُ فيها، وعانيتُ تأثيراتِها المُفزِعةَ. كانت من نوعِ أضغاث الأحلام التي تحدَّث عنها ابنُ سيرين. عانيتُ الكوابيسَ فتراتٍ طويلةً في حياتي، تأتي وتذهب، فلا أدري لماذا أتتْ، ولماذا ذهبتْ؟ … أُحاول التفسير، والبحثَ عن الباعث والدلالة؛ فلا أصِلُ إلى شيء محدَّد، وإن لاحظتُ أن الكوابيس كانت تقتحم نومي في الأيام التي واجهني فيها الآخرون بمضايقات، أو بعَداءٍ. ثمَّة ظروفٌ أُسريَّة قاسية، كشف فيها «الآخر» عن أسوأ ما في الحياة. بدا كلُّ شيءٍ سخيفًا، ومتعفِّنًا. وبعد أن حُوِّلتْ جريدةُ الوطن العُمَانية إلى يومية، أعلنتُ اعتزامي العودة إلى مصر؛ تنفيذًا لاتِّفاقٍ معلَن قبل أن أترك دنياي التي أحبُّها … لكنَّ صاحب الجريدة؛ تصوَّر أنَّه قد امتلكني! — أليس اسمه «الأرباب»؟! — أصرَّ أن أواصِل الإصدار اليومي إلى غير زمنٍ محدَّد، وواجه إصراري بأحطِّ ما في الذِّهن البدوي من خسَّة ونذالة. واعتدتُ — أيامها — رفقةَ الكوابيس كلَّما هدَّني التعبُ، فنمتُ … كان أولَ من فطنتُ — الأدقُّ وعيتُ — إلى وجوده؛ الزميلان محمد فُودة ومحمد عبد الدايم. بدتْ لي وقفتُهما بالقُرب منِّي كأنَّهما داخلَ سحابةٍ من الدُّخان الأبيض. بالكاد ميَّزت الملامح. ظلَّا صامتَين، ولم أكُن — من ناحيتي – أقوى على الكلام. ثم تقاطرَت الزياراتُ مع استعادتي الوعيَ. تخلَّصَت المرئياتُ شيئًا فشيئًا من غلالات الضَّباب، واستطعت أن أتأكَّد من الملامح، وأن أتحدَّث.

٢٧

يصِفُ العالِم الروسي بوريس فيدروفيتش سيرجيف القناة الهضمية، بأنَّها معملٌ كيميائي معقَّد … فالطعام الذي يصِلُ إليها يُطحن، يُمزَج بالعُصارات الهضمية المختلفة، ويتحرَّك تدريجيًّا من جزءٍ إلى آخَر. وتُحتجز الكتلةُ الغذائية في كلِّ جزءٍ من القناة الهضمية لفترةٍ تكفي لمعاملتها … وفي كلِّ جزء تُصبُّ عليها موادُّ خاصَّة. ومع الهضم، أو بمعنًى آخر، بتحلُّل المواد الكيميائية المركَّبة إلى بسيطة، والبروتينات إلى أحماضٍ أمينيَّة، والدهون إلى جِليسرِين وأحماضٍ دُهنيَّة، والكربوهيدرات إلى سُكَّريَّات أُحاديَّة … يحدُث الامتصاص، وما لا يستطيع الجسمُ هضْمَه، والاستفادةَ منه؛ يطرُده للخارج (وظائف الأعضاء من الألف إلى الياء: ص٤٨).

والاثنا عشر جزءٌ في القناة الهضميَّة، يلي المعدة مُباشَرة، ويليه: الصائم، اللفائفي، الأعور، القَولون، فالمستقيم. أمَّا الذي يسبق المعدة، فهو المَرِيء الذي يستقبل الطعام من الفم.

ومع أنَّ الدكتور رضا عبد التواب ألغى عمَلَ الاثني عشر؛ فإنَّه لم يستأصله. لم أسأله عن السبب، وإن قرأتُ، فيما بعد، أنَّ الحيوان — وما الإنسان؟! — الذي يُستأصل منه الاثني عشر؛ يموت في الأيام الأُولى بعد العملية. أمَّا مَن ينجح في اجتياز هذه الأيام الأُولى العصيبة؛ فإنَّه يموت خلال شهرٍ إلى ثلاثة أشهُر. تهبط حرارةُ الجسم فجأةً، ويفقد الحيوان شهيَّته، ويعاني الهُزال، وينخفض وزنُهُ تدريجيًّا، ثم يموت! (من كتاب «وظائف الأعضاء».)

وقَدْ طرَحَ العلماء احتمالَين لهذه الظَّاهرة، أوَّلُهما أنَّ استئصال الاثني عشر يُحدِث خللًا في عملية الهضم … وثانيهما أنَّه يؤدِّي عملًا آخر حيويًّا للجسم، بالإضافة إلى وظائفه الهضمية الأساسية.

حسب حالتي، فإنَّ الاحتمال الثاني هو الأرجح. وكما يقول العلماء، فإنَّ الاشتراك في عملية الهضم ليس هو المهم بالنسبة للاثني عشر، بل إنَّ له وظيفةً أخرى «ويبدو أن الاثني عشر تعمل بمثابة غدَّة ذات إفراز داخلي، تُفرز في الدم موادَّ حيويَّة لا تزال مجهولةً لنا» (وظائف الأعضاء: ص٦١).

لذلك، فإنَّ الجرَّاح قد يستبعد الاثني عشر بأكمله من العملية الهضمية، فلا يمرُّ به الغذاء، لكنَّه لا يستأصله.

هذا — كما قلتُ لك — هو ما فعَلَه الدكتور رضا عبد التواب.

٢٨

لا أذكُر — بالتحديد — متى عدتُ إلى الإحساسِ بالعادي والمألوف. زوال الحلم، أو الكابوس، والرؤى الضبابية وغيرُ المتحقِّقة؛ فأتعرف إلى التكوينات والملامح. حاولتُ التحرُّك — بعفويَّة — في موضعي، لكنني كنتُ مقيَّدًا؛ فلا أقوى على التحرُّك. كانت يداي مقيَّدتَين إلى جانبي. وكان جسمي كلُّه مقيَّدًا بما لا أراه من الأنابيب والأسلاك واللاصقات المثبتة في مواضع مختلفة، لكنني لا أراها … لا أعرف متى وُضعتْ، ولا كيف، ولا لماذا. وتدلَّتْ إلى جِواري «درنقة» يصِلُ خرطومٌ بينها وبين بطني.

تنبَّهتُ إلى ألَمٍ حادٍّ في مجرى البول.

قالت ممرضة: هذه قسطرة.

– يعني؟

– تساعدك على التبوُّل.

– أليست العملية في بطني؟!

– لكنَّك لن تستطيع الذهاب إلى الحمَّام!

– لا أتصوَّر أني سأستطيع التبوُّل.

– لا تشغل بالك بها.

انداحتْ — لمجرَّد المحاولة — موجاتٌ من الألم.

قلتُ للدكتور رضا عبد التواب: لا أريد هذه القسطرة!

قال في لهجته الهادئة: سنرفعها بعد يومَين.

صرختُ: الآن … لا أستطيع تحمُّلها … الموتُ أرحم!

أطال تأمُّلي بعينَيه الزرقاوَين: عرفتُ الآن لماذا أصابتْك القُرحة … هذا الانفعال الزائد!

ثم وهو يغتصب ابتسامة: لماذا أنقذناك ما دمت تطلُب الموت؟!

أمَرَ؛ فرفعَت الممرِّضة القسطرة. وتذكَّرتُ قولَ مونتي: «ما إن يُصَب الإنسان بآفةٍ تعوقه عن أداءِ مهامِّه، ولو كانت هذه الآفةُ مجرَّدَ ألَمٍ في أمعائه؛ حتى يثور ويطالب بإصلاح الكون!»

٢٩

أظهَرَ الدكتور رضا عبد التواب قلَقَه؛ لتأخُّر دخولي دورة المياه. تكرَّرت أسئلته: هل دخلتَ دورة المياه؟ لماذا لا تدخُل؟ لماذا لا تتحرَّك؛ فتستطيع الدخول؟

لم أكُن أعرف أنَّ قضاء الحاجة — هل هذا هو التعبير الأنسَب — لا يحدُث إلا إذا تحرَّك الإنسان. إذا بذَلَ جهدًا، ولو بالمشي، لتنشيط عضلات البطن، فيُؤدِّي الجهاز الهضمي وظائفه. وحين دفَعَني إلى النُّزول من السرير، والتَّمشِّي في ردهات المستشفى، وانتهى المشوار القصير بدخولي دورةَ المياه؛ هزَّ الدكتور رضا رأسه في اطمئنان، وانصرف.

٣٠

انتقلتُ — بعد ثلاثة أيام — من حُجرة الإنعاش، إلى حُجرةٍ مستقلَّة. الحجرة رقم ۲۱.

كانت الحجرة مُعدَّة، بحيث يظلُّ المريض فيها بمفرده … ولأنَّه كان من الصعب — لظروف رويتُها لك — أن أظلَّ في الحُجرة بلا ونيس؛ فقد أصررتُ على مرافقة زينبَ لي، واشترطَتْ إدارة المستشفى — للموافقة — أن تقضي زينبُ الليلَ على الكرسيِّ المجاوِر لسريري. وأمْضَت الليلةَ الأُولى بالفعل قاعدةً نائمة، ثم بدَّلتُ موضعي معها في الليالي التالية، أتركُ لها السرير، وأتمدَّد على الكرسيِّ، حتى يأتي الصباحُ؛ فأعود إلى موضع المريض!

الحجرة متوسطة، ولعلَّها أقربُ إلى الضِّيق. بها سريرٌ أشبهُ بطاولةِ عمليات، إلى جانبه حاملُ محاليل، معلَّق عليه زجاجةُ جلوكوز، وكومودينو صغير تُوضع الأدويةُ فوقَه وداخلَ أدراجِه، ومقعد بمسندَين، وكرسيَّان أصغرُ حجمًا، ونافذةٌ مغلَقة، بيضاءُ في لون الحُجرة والسَّرير. ويتَّصل بمدخلِ الحجرة حمَّامٌ مغطًّى بالسيراميك. أمَّا الردهة أمام المدخل؛ فتطلُّ على حجراتٍ مماثلة، وتتفرَّع منها ممرَّات إلى أرجاءِ المستشفى. وبالقُرب من حُجرتي مباشرةً؛ وُضِع «كاونتر» استعلاماتِ الطابق كلِّه؛ فأصواتُ الممرضات لا تكفُّ عن التلاغُط، حتى يأتي الليل!

دخلتُ عالَمًا لم أكُن أعددتُ نفسي له، مفرداته: الجلوكوز، والحُقَن، ونقل الدم، والبلازما، والقطن، والشاش، والأنابيب، والمطهِّرات، والضِّمادات، والعقاقير، والمضادات الحيوية، وقياس النبض والضغط والحرارة، والفحص الظاهري، والتحليل، والأشعة، والأحذية المطاطية، والأقنعة الحافظة، وأغطية الرأس، والأجساد المريضة، والوجوه الشاحبة، والصمت الذي تخترقه أنَّاتٌ متقطِّعة، وأحاديث الممرِّضات خارجَ الحُجرة، وصوت عرَبات التُّرولِّي على بلاط الردهة المُوصلة بين الحجرات، ورائحة الليزول.

ألِفْتُ النَّقرَ على صدري بالأصابع المتصنِّتة، والوخزَ بالإبَر، وجسَّ اللحم، والعضلات.

تدخُل الممرِّضة؛ تضع أقراصَ أدوية على كفِّي، تُلحقها بكوبِ ماء. تقيس نبضي بأصابعها. تضَعُ ميزان الحرارة تحت لساني. تستعيده بعد ثوانٍ، وتقرؤه. تهزُّه وتسجِّل رقمًا — لا تُطلِعني عليه — في دفتر الملاحظات على مقدمة السرير. ثم تُعيد تثبيتَ زجاجة المحلول، وتلقي كلماتٍ مُطَمئنة، وتغادر الحجرة.

حاولتُ أن أفهم شيئًا من الكلمات والبيانات، في استماراتِ الكشف اليومي المعلَّقة على مقدمة السرير. عباراتٌ — بالإنجليزية — غير واضحة، وخطوطٌ بيانية، صاعدة وهابطة.

تركتُ للممرِّضات حفظَ مقاديرِ جُرعات الدواء، ومواعيدَ تناوُلها. ربما وضعتْها الممرِّضة في زجاجةِ الجلوكوز.

كانت الممرِّضة محجَّبةً — وهذا حقُّها — لكنَّها حاولتْ أن توفِّق بين ما يفرِضُه الحِجاب على المرأة من سلوكياتٍ، وبين ما تتطلَّبه مِهنة التمريض. أرادتْ أن تضَعَ «لبوسًا»؛ فأدارتْ وجهها، وأصابَنِي اللبُوس بنزيف، لا زِلتُ أُعاني تأثيراته حتى اليوم.

وليلةً، فُوجئتُ بأنَّ ظَهْر يدي قد انتفخ، وصرختُ بألَمٍ لم أقوَ على احتماله. وفطِنَ الطَّبيب — بمجرَّد النَّظر — إلى ما حدَثَ؛ فقد وضَعَت الممرِّضة إبرةَ المحلول خارجَ الوريد. ولاحظتُ — بعد انصرافها — أنَّ ظاهرَ كفِّي ينتفخ، ويعلو، ويسري بالسُّخونة والألَم في جِسمي. حاولتُ — كعادتي — أن أكتُم الألم. لكنَّه ازداد تفاقُمًا؛ فتأوهتُ به. واكتشف الدكتور رضا عبد التواب ما حدَثَ؛ فأوقَفَ المحلول … وتذكَّرتُ — بعد أن زال الألم — قولَ أبقراط، أشْهَر أطباء الإغريق: «إنَّ للطب هدفَين: الشفاء وعدم الإيذاء؛ فعلينا أن نُسقِط من حسابنا تمامًا، عاملَ الصدفة في الطب. بل علينا أن نُدرك أنَّ النجاح والفشل هما حصيلةُ ما نقوم به من رعايةٍ جيدة أو سيئة.»

إذا كانت الثقافة التمريضيَّة مهمَّة للممرِّضة؛ فإن البُعد الإنساني مهمٌّ كذلك. ولعلَّه أهمُّ. عملُ الطبيب يقتصر على التشخيص والعلاج وإجراء العملية الجراحية، إن استلزم الأمر ذلك … ثم يأتي دور الممرِّضة في تنفيذ أوامر الطبيب، والمتابَعة، والرعاية الصحيَّة، والرعاية الإنسانية أيضًا.

٣١

كان من الصعب أن أتبيَّن، في ابتسامة الدكتور رضا عبد التواب المحايدة؛ ما إذا ظلَّت الحالة على خطورتها، أم أنِّي تجاوزتُ الخطر؟ لاحظتُ أنَّ وزني تناقَصَ بصورةٍ واضحة. زال الكرشُ، وأصبحتُ أكثر رشاقة.

قلتُ في أسًى: فقدتُ الكثير من الدم؛ فنقص وزني!

قال الدكتور رضا عبد التواب: الدم الذي فقدتَه عوَّضناك عنه.

أردف موضِّحًا: نقصُ وزنك سببه الرِّجيم الذي أخضعناك له!

تأمَّلتُ الدكتور رضا عبد التواب … صورته التي رأيتُه فيها، وهي صورته إلى الآن. صادقتُه — فيما بعد — وتردَّدتُ على عيادته … لكنَّ الصورة الأولى، الانطباع الأول، التأثير الأول — قُل ما شئت — انطبع في ذهني، فلَمْ يغادره.

يقول الفيلسوف الأمريكي هنتر ميد: الطبيب الجرَّاح الذي يتذوَّق الفنَّ، ينظُر إلى المريض الذي يُجري له العملية على أنَّه إنسانٌ له آماله وطموحاته وعشقه للحياة وللجمال. فهو يحرص على أن يحافظ على تلك الشُّعلة المقدَّسة توهُّجها. أمَّا الطبيب الجرَّاح الذي لا يُعنى بما يجاوز مهنته؛ فإنَّ المريض بين يدَيه جثَّةٌ. مجرَّد جثَّة حيَّة، ربما تموت، وربما يُكتب لها الحياة! (من كتاب نجيب محفوظ «صداقة جِيلَين»). وقد تعرَّفتُ إلى الدكتور رضا عبد التواب، بعد أن عُدت إلى المألوف كصديقَين، وحدَّثني عن قراءاته في الفنِّ، والكتَّاب الذين يفضِّلهم، والأفلام — أو المسرحيات — التي أُتيحَ له مشاهدتها. وجهه الأبيض، المُشرَب بحُمرة، وعيناه الزرقاوان، وابتسامته الهادئة، والعفويَّة التي تسِمُ تصرُّفاته … ذلك كلُّه جسَّدَ ملامحَ فنَّانٍ حقيقي!

وحين أبديتُ إشفاقي من كثرة زيارات الدكتور رضا؛ قال في هدوئه الحاسم: إنَّ إجراء العملية ليست — وحدها — مهمَّة الطبيب. الأهمُّ أن يتابع المريضَ عقبَ إجراءِ الجراحة!

لاحظتُ أنَّ الدكتور رضا عبد التواب يتعامل مع مرضاه كبَشَرٍ، وليس كحالاتٍ مرَضيَّة. يُصادقهم عقبَ إفاقتهم من العمليات الجراحية التي أُجريت لهم، يستمع إلى مشكلاتهم الشخصية، ويروي لهم — ببساطة — بعضَ ما يَشغَله من مشكلاتٍ شخصيَّة، ويناقشهم في التطوُّرات السياسية والأحداث الاجتماعية والثقافية والفنية، ومباريات كُرَة القدم، ويدعوهم — بعد قضاء فترة النَّقاهة — إلى زيارته في مكتبه.

والحقُّ أنَّ العَلاقة الإنسانية بين المريض والطبيب مهمَّة جدًّا. أذكُر قولَ أحد الأطبَّاء إن المُداواة شقٌّ من هذه العلاقة. أمَّا المواساة، فهي الشقُّ الثاني. يصعب على المريض التعامُل مع طبيبٍ يعتبره حالةً؛ ما يَشغَله هو الفهم والتفهُّم وإبداء الودِّ والصَّداقة ومحاولة الإقناع. بل إنَّ أستاذنا سعيد عبده — وهو طبيبٌ شهير — يذهب إلى أنَّ «الثقة في الطبيب، كثيرًا ما تصنع المعجزات؛ فالجسم البشريُّ له مداعبات عجيبة، طاقات طبيعية لإصلاح ما يختلُّ منه، لا حدَّ لها. وإذا ظاهَرَ ذلك كلَّه ثقةُ المريض في طبيبٍ بذاته؛ فكثيرًا ما يلعب العامل النفساني المستمدُّ من هذه الثقة، أدوارًا خارقة يحار في تعليل بعضها الطبُّ والأطباء» (قصة «ضرس توفيق الحكيم» من مجموعة «شرَّابة الخُرج»).

وقد امتدَّت صداقتي للدكتور رضا — فيما بعد — إلى خارج المستشفى. زُرتُه في عيادته؛ لمجرَّد الزيارة لا للعلاج. ظننتُ — وبعضُ الظنِّ إثم! — أن باعثَ دعوته لزيارة العيادة ترويجُ الحياة فيها، لكنَّه فاجأني — بعد أن أجرى الكشف على تأثيرات الجراحة — برفضِ تقاضي أيِّ مقابل. قال في بساطة: أنت الآن صديق … فكيف أحوِّل صداقتنا إلى علاقة بين طبيبٍ ومريض؟!

٣٢

قال لي الدكتور رضا عبد التواب في غضبٍ واضح: يبدو أنَّك لا تنوي تركَ السَّرير.

أردف قبل أن أتكلَّم: إذا وجدتُك في السرير ثانية … سأرفعه من الحُجرة! اعتبرتُ التهديد حقيقيًّا. كانت كلماته خاليةً من نبرةِ المُجامَلة، وبدأتُ في النزول إلى الأرض، والوقوف، والمشي بخطواتٍ بطيئة داخل الحجرة، ثم في الطُّرقة الخارجية.

فاجأتْني صيحتُه: شُدَّ قامتك … وأسرع … وتجوَّل في المستشفى!

استعدتُ قدرتي على المشي قليلًا. أمضي خطواتٍ إلى باب الحجرة، وأعود. أعاود التمدُّد على السرير، كأنِّي بذلتُ جهدًا مُضنيًا.

رائحة الليزول والمطهرات ترافقني في مشواري، عبْرَ الطُّرقات الطويلة، كثيرة الالتواء. على جانبَيها حجراتٌ مفتوحة، أو مغلقة، خالية إلا من نُزلائها، أو بها زوَّار. أُهمل النظرات المتأمِّلة، أو المُشفِقة، وأردُّ التحيَّة بهزَّة من رأسي. أصِلُ إلى النافذة المُغلَقة في نهاية المستشفى؛ فأقِفُ. نهاية العالم، عالمي. النافذة الوحيدة التي أطلُّ منها على الحياة خارجَ المستشفى. لا حياة. أمامي سُورٌ أصفرُ، مرتفِعٌ نسبيًّا، يمتد من ورائه أشجارُ كافورٍ وجازورينا عالية؛ فلا يبين ما بداخل المبنى الذي يُحيط به السُّور، وإن خمَّنت أنَّه مُعسكَر. والمارَّة في الشارع الفاصل بين المستشفى والمبنى المُقابِل، قليلون، وحركة السيارات معدومة، أو تكاد. وكانت — دائمًا — ملبَّدة بالغيوم المتكاثِفة. وثمَّة بِرَك مائيةٌ في الحُفَر التي تخلَّلتْ أسفلتَ الطريق.

كنتُ أتذكَّر صبيَّ طه حسين في «الأيام». تصوَّر سِياجَ البُوص على شاطئ الترعة، نهايةً للعالَم. تمنعه عاهتُه من تجاوُزه، أو من مجرَّد التطلُّع إلى ما ورائه. العملية الجراحية في بطني، عاهتي — المؤقَّتة — جعلَت المرئياتِ خلفَ النافذة المغلقة، كلَّ ما أُتيحَ لي رؤيته. نهاية العالَم خارجَ المستشفى. وكنتُ أعبُر الشارعَ، والمبنى المقابِل، والشوارع التالية، والبنايات، فأستقرُّ في بيتي، في مكتبتي على وجه التحديد.

لم أكُن أتصوَّر الحياةَ في مستشفى.

أمضيتُ في العديد من المستشفيات ما تفرضه عيادةُ مريض؛ لكنني لم أتصوَّر الإقامةَ داخل مستشفًى، باعتباري أحدَ نُزلائه. وكنتُ أمرُّ على مستشفَى عين شمس التخصُّصي وأنا أتَّجه إلى قلْبِ القاهرة، أو أثناء عودتي إلى البيت. ألمحه — لا أقول أتطلَّع إليه — بحيادية. هو مجرَّد مستشفًى، بِناية. لا يَشغَلني ما وراءها، ولا أُحاول رسمَ صورةٍ في ذهني للحياة داخله. ثم أصبحتُ جزءًا من ذلك العالَم، الذي لم أكُن أحاول تخيُّلَ ما وراء أسواره!

٣٣

كنتُ أعرف أنَّ طبيعة الجوِّ خارجَ المستشفى، تختلف عن الدفء — وربما الحرُّ — الذي نحياه في الداخل. أنظُر إلى ملابس زُوَّاري الثقيلة، والأحذية المتَّسخة ببقايا الأمطار؛ فأخمِّن صورةَ الحياة في الخارج.

لم يكُن الأصدقاءُ يُعانون في الوصول إلى حجرتي؛ المستشفى — في عمومه — متداخِل الأجنحة والحُجرات والردهات، لكنَّ الخطوط الملوَّنة التي تُرافق الزائر، منذ باب المستشفى الداخلي؛ تدلُّه على الجناح الذي يقصده. ويسأل؛ فتدلُّه الممرِّضة في «كاونتر» الاستعلامات على التي يريدها!

٣٤

ربما لا تَشغَلني كلماتُ الودِّ والمجاملة والحُب … لكنَّ الذي يهمُّني — في علاقتي بمَن أحبُّهم — أنْ تعبِّر التصرُّفات عن ذلك كلِّه. أُهمل الكلماتِ الطيِّبة. لا قيمةَ لها ما لم تُرافقْها تصرُّفاتٌ تعبِّر عنها.

قالت لي ابنتي أمل: رءوف — خطيبها، ثم زوجها — يحبُّني جدًّا.

قلت: هذا جميل … والأجمل أن تعكس تصرُّفاتُه ذلك الحُبَّ!

الحُب! … أُشفق على الكلمة ذات الأبعاد المُطلَقة من استهلاكها في نقيض معانيها. حتى الغالية مِصرُ تحوَّل حبُّها إلى أغنياتٍ وأناشيدَ وتمثيليات، تعاني السذاجة والفجاجة؛ لأنَّ صانعيها يَشغَلهم الاتِّجار بالمعنى الجميل، دون أن يحاولوا ترجمته إلى أفعال. وكما يقول أندريه مالرو، فإن الإنسان في النهاية، هو ما يفعله وليس ما يقوله.

خليَّة نحْلٍ، تعبيرٌ قرأتُه، واستمعتُ إليه، كثيرًا، في وصف المكان المُزدحِم. مع ذلك، فإنِّي لا أجِدُ ما أصِفُ به الحجرة رقم ۲۱ سوى ذلك التعبير. زياراتُ الأصدقاء تتقاطر، منذ الصباح الباكر، إلى ساعاتِ الصباح الأُولى. لا تَشغَلُهم المواعيد، ولا التعليمات، ولا تشدُّد الأمن، ويسعون للقفزِ فوق كلِّ الأسوار؟

رأيتُ خطورةَ حالتي في عينَي زوجةِ صديقي. مهندسةُ كهرباء، لو أنَّ مجموعها ارتفَعَ قليلًا، ربما دخلتْ كلية الطب … لكنَّها بدتْ خائفةً للغاية. جلستْ مُحاذِرة، بعيدًا عن السرير، وعلى وجهها أماراتُ معاناة، تحوَّلتْ إلى ما يُشبِه الفزع. وانتترتْ من مكانها لمَّا أخَذَني سُعالٌ مُفاجِئ. أشفقتُ عليها؛ فادَّعيتُ مَوعِدًا للسَّير، حتى يغادر بها صديقي الحُجرة.

تحولت الحُجرة ٢١ إلى مصدرٍ للمتاعب، يعانيه الأطباء وهيئة التمريض ورجال الأمن. فترة الزيارات لا يَشغَلها إلا شخصان؛ لكنَّ الأصدقاء أفلحوا في تخطِّي التعليمات. زادتْ أعدادهم داخل الحُجرة على العشرين والثلاثين. ثمَّة كرسيٌّ وحيد؛ فاقتعدوا الأرضَ، يتساندون على السرير، أو على الجدران، أو على ظهور الأصدقاء الآخَرين. موعد الزيارة ينتهي في التاسعة مساءً. يخلو المستشفى تمامًا، إلا من مرضاه وأطبائه وهيئة التمريض … لكنَّ بعضَ الأصدقاء يظلُّون في الحُجرة إلى منتصف الليل أحيانًا. إذا ترامى وقْعُ أقدامٍ؛ اختبَئُوا داخلَ دورةِ المياه المُلحَقة بالحُجرة، أو تحت السرير! وكان بعضُهم يتحايل للصعود إلى حجرتي، بالنفاذ من داخل المَشرحة! وكتَبَ مؤمن أحمد «قصيدة وداع!» ضمَّنها ديوانه الجميل «مسافة الحُلم» وصدَّرها بإهداء إلى م. ج الإنسان الذي أحبَّني؛ فكان حُزني فادحًا:

في بَدء توهُّجه ينطفِئ النَّجم!
«فوا حُزناه عليك!»
لمَن تترك هذا النخلَ العالي من أوردتك، فوق شواطئنا،
يتمايل؟!
مِن بعدك يرقُص فوق البحر/الألَم اللُّجِّي،
ولا يغشاه الموج.
ويُسكِنه الغوصُ، الركضُ إلى مُعترك الياقوت،
ولا يغشاه الغرق،
ويخشى الغرق.
لمَن تتركُ منْحَ النقطة لبَياض القوسَين؛
لتُصبح عينًا … عاشقةً
للحلم، وللشِّعر، وللثورة؟
مَن بَعدك يَقدِر/يَرسُم فوقَ خلايانا موسيقى لحبيبته،
يا نجم …؟!
في بَدء توهُّجه ينطفئ النَّجمُ الراحل في أجواء القلب،
بذاك تنبَّأ مَن لا نعرف؛
لكنَّا أدركنا، حين رأينا في عينَيك حنينًا،
لبلادٍ ليست تُرسلك إلى الشِّعر،
ولم نكُ للغيب بحُفَّاظ.
هل حقَّ عليك، الآن، القول؟
تمهَّل …
فالوهَج يشقُّ فضاءَ القلبِ وزحمتَه،
ينقُش فوق خرائطِ دمنا وشْمَ العُذريَّة …
يا نجم تمهَّل.
يا نجم تمهَّل …
هذي الأعيُن يتخطَّفها برقُ العتمة،
يسكنها لونٌ غُولي …
وسكونٌ حجريٌّ يرقد فوق محاجرها!
نرجوك بحقِّ جراحك أن تبقى؛
ليضمِّد جُرحُك آلافَ جِراحٍ،
أثقلها الماضُون،
وشقَّ الآتون بها أنفاقَ رغائبهم …
فتمهَّل.
إنَّا أسكنَّاك الكوثر؛
فامدُد موجَك …
خيلك …
لا تَستَكثِرْ …
مِن دَغَل الزَّمن أتيناك،
ومِن شبَق نزيفك تأتي …
فتمهَّلْ.

مؤمن أحمد رمزٌ مهمٌّ في ندوتي الأسبوعية. بدأتْ في جريدة المساء عام ١٩٨٥م، ثم صادفتُ — شخصيًّا — ظروفًا قاسية. انتقَلَت الندوة — بتأثيرها — إلى نقابة الصحفيين. والحقُّ أنَّ رموز الندوة كثيرون، وقد حقَّقوا وجودًا أدبيًّا متميزا في معظم المجالات الثقافية.

۳٥

مع أنَّ زينب — منذ تزوجنا — لم تفترقْ عني إلا لساعاتٍ قليلة، صباحَ كلِّ يوم، أثناءَ عملها بالتدريس في سلطنة عُمَان. ثم تعود إلى مبنى الجريدة التي كنتُ أتولَّى تحريرها، لا نفترق إلى صباح اليوم التالي، وبعد عودتنا إلى القاهرة لزمَت البيت، لا نفترق إلا في أوقات خروجي إلى العمل … مع ذلك، فإنَّ الأيام التي لازمتْني فيها الإقامةَ في المستشفى، أظهرتْ لي الزوجةَ والصديقةَ في آنٍ معًا. لم نكُن نتكلَّم كثيرًا، لكنني كنتُ أشعُر بأنَّها قريبةٌ منِّي للغاية.

قلت لزينب: أعرفُ أنَّ المشرحة قريبةٌ من هنا.

قالت: كيف عرفتَ؟

قلت: أعرف! … قال لي أصدقائي إنهم يتسلَّلون إلى حُجرتي عن طريق المشرحة … فهي لا بد أن تكون قريبة!

هزَّتْ رأسها في عدمِ تصديق: تصوُّر غيرُ صحيح!

كانت تخشى أن يُسلِمني تصوُّري إلى الخوف. وكما قلتُ لك؛ فإنِّي لا أخافُ الموت، وإنْ كنتُ أخاف الموتى، أتمثَّلهم بأكفانهم. عُقدةٌ قديمةٌ حدَّثتُك عنها!

٣٦

كانت الحُجرة الضيِّقة تضيق بالزُّوار. تتكاثف تردُّدات الأنفاس ورائحة العرَق؛ فلا أستطيع احتمالها. أخرج إلى الردهة الطويلة بحجَّة تطبيق تعليمات الطبيب. يسند خطواتي صديقٌ من زُوَّاري. زيارتهم باقاتُ حُب؛ فالبديهي أن أُسرَّ.

ثم يغادر الزُّوار المستشفى. لا يظلُّ في داخله سوى المرضى والأطباء وهيئة التمريض. يتملَّكني شعورٌ بأنِّي مريض، وأنِّي ألزم سريرًا في مستشفى. أتناسى هذا الشعور في صخَبِ النَّهار؛ زيارات الأصدقاء، والحكايات التي تشرِّق وتغرِّب، والفُرجة على التليفزيون، وقراءة الصُّحف، والنداءات والصَّخَب خارجَ الحُجرة … يسكُن كلُّ شيء، فيما عدا صمتُ الحياة داخلَ مستشفى. صمتٌ من نوعٍ غريب، يصعُب تحديدُ ملامحه؛ لكنَّك تشعُر به، ربما من الهدوء السادر، أو من التنبُّه إلى رائحة المطهِّرات، أو من توقُّعك للممرضة زائرًا وحيدًا، تقيس الضغطَ ودرجةَ الحرارة، وتطمئن إلى عدمِ نفاد الجلوكوز، وتُعطيك الدواء … ما عدا ذلك؛ فلا شيء. أنت معزولٌ عن العالَم، أو أنَّ عالَمك مقتصِرٌ على مساحة المستشفى، وعلى المُقيمين فيه من مرضى وممرضات وأطباء.

إذا خلَت الحُجرة؛ ظللتُ مستيقظًا. تقتحم الذاكرةَ مشاهدُ بعيدةٌ، وقريبة. تختلط وتتشابك. تبدو واضحةً أو غائمة: لَعِبي مع الأطفال في الشارع الخلفي، احتضان أمي وأنا أفرُّ من مطاردة الطبيب الأرمني بعد أن أغلقتُ عليه عيادته في الطابق الأول، المذاكرة في صحن أبو العباس، الموالد وحلقاتُ الذِّكر وسوق العَبْد، تطلُّعي من نافذة بيتنا إلى صيَّادي المياس في الميناء الشرقية، تناهي أغنيات عبد الوهاب من قهوة فاروق القريبة، وقفة أبي فوق رأسَينا — أخي الأكبر وأنا — لا نترك السرير إلى المَخبأ عقبَ انطلاق صفَّارة الإنذار، وقفتي فوق سطح البيت أُشاهد السُّفن الضخمة، وضوء البوغاز في الميناء الغربية، لَعِب البِلي والدُّوم والنحل والطائرات الورقيَّة، ولعِبُ كُرة الشَّراب في الشارع الخلفي، رحلاتي في بلادٍ قريبة وبعيدة، غناءُ فرقةِ أحمد المسيري في بداية كلِّ حفلة: يا اللي زرعتُوا البرتقان … تعرُّفي للجنس — للمرة الأُولى — في جسد امرأةٍ جاوزَت الستين، إصداري لجريدةٍ أُسبوعية — بمفردي — في مسقط، جلساتي مع عبد الحميد السحَّار في كازينو تريامف، لازمة سيد عويس وهو يناقشني: مش واخد بالك؟ ظروفي الأسرية القاسية واقتحامها لجسمي بالعديد من الأمراض، التواحيش والمراجيح وألعاب القوة والنشان وصندوق الدنيا والمرأة الكهربائية وألعاب القمار، سهرات حي الحسين والمُرسي أبو العباس، شِباك الصيَّادين ووِرش المراكب في الأنفُوشي، عُمق البحر ولا إنهائيَّته، الغناء الشعبي في قهوة السيَّالة، مواكب الصوفية في مولد النبي، مئذنة أبو العباس بوصلة يهتدي بها القادم إلى المدينة، الزِّحام الدافئ في الجُمرك وباب سدرة واللبان والورديان وكوم الشقافة وغربال والباب الجديد والحضرة، صخب المُصيِّفين من الشاطبي إلى المنتزة، انتظاري لأمل ووليد — ابني وابنتي — في مطار السيب، تردُّدي وزينب صباحَ كلِّ جمعة على سُوق السَّمَك بمطرح، وقفة يحيى حقي في مدخل صالة «المساء»: مبروك يا جبريل … أخذت جائزة الدولة! زياراتي شبه اليومية لنجيب محفوظ في مكتبه بمؤسسة دعم السينما، ثم قصر عائشة فهمي، صعلكتي وأنا أبحث في القاهرة عن موطئ قدَم، تسلُّمي مكافأتي من «الجمهورية» مشفوعةً باعتذارٍ مهذَّب من محمد علي بشير أن الدار استغنتْ عن خدماتي، اتفاقي مع أمل على حُب صوت عبد الحليم حافظ، رفض وليد لكلِّ اهتماماتي، تعرُّفي إلى زينب في ظروفٍ محيِّرة وصعبة، أبوَّة عبد الناصر منذ مشاهدته بالقُرب من سراي رأس التِّين، ثم وهو يُعلن — من مبنى البورصة — تأميم شركة القناة، ومواقفه المختلفة، وذهولي الرافض لإعلانه التَّنحِّي عن الحُكم، تردُّدي على مكتبة البلديَّة الملاصِقة لمدرستي الإسكندرية الثانوية، تردُّدي على دار الكتب ودار المحفوظات بالقلعة، وقفتي أسفلَ القلعة وتأمُّل القاهرة الممتدَّة إلى نهاية الأفق.

كنتُ أصحو. الأدقُّ: أغفو وقتًا متقطِّعًا، فأُعاني في حَلْقي جفافًا وتشقُّقًا. يغيب سقْفُ حلقي وراء طبقاتٍ من الجَفاف المتصلِّب. تمدُّ زينبُ طرَف إصبعها، تقطِّعه مِزَقًا صغيرةً، حتى يسهُل عليَّ إغلاق فمي!

٣٧

الحياة أقوى من الموت.

شعارٌ قرأتُه، واستمعتُ إليه، كثيرًا. اعتبرتُه من الشِّعارات الزاعقة. لا أحاول التعبيرَ به عن فَهْمي للحياة. ثمَّة كلماتٌ أصدَقُ في التعبير عن قوة الحياة، وجمالها، وانتصارها على العدم … لكنني تذكَّرتُ ذلك الشِّعار الجهير وأنا أحيا تلك الأيام الاثني عشر التي أمضيتُها في مستشفى عين شمس التَّخصُّصي … إنه هو التعبير الأبلغ عن كلِّ ما عِشتُه. لحظات الخطر والتوقُّع والأمل والسكينة والتوتر والارتماء في حضن المُطلَق.

أذكُر قولَ الحكيم في «يوميات نائب في الأرياف»: إنَّ الجُثث الآدميَّة لا تعدُو في نظَرِ الأطباء قِطَع الأخشاب وعيدان الحطَبِ وقوالبَ الطُّوب والآجُرِّ. إنَّها أشياءُ تتداولها أيديهم في عملهم اليومي، انفصل عنها الرمزُ الذي هو كلُّ قوَّتها. تقديري أنَّ القسوةَ الظاهرة واللامبالاة في التعامُل مع الجسم البشري؛ واجهةٌ لهدف أسمى، هو الحفاظ على الرمز، على الجسم البشري، باعتباره القيمةَ الفعليَّة للرمز. حتى عملياتُ التشريح ليست تسليةَ فراغ، أو إظهارَ مهارة؛ لكنَّها معنيَّة بالوصول إلى الحقيقة الكامنة في داخل الرمز، في داخل الجسم البشري، ومَن سلَبَه حقَّ الحياة، وكيف حدَثَ ما حدث.

أذكُر أيضًا — من التعبيرات التي ألِفتُ سماعها منذ طفولتي — أنَّ البتْرَ قد يكون هو الوسيلةَ الوحيدة – رغم قسوتها — لإنقاذ حياة المريض … ربما قلتُ للتعبير وللتدليل على رأيٍ في قسوة قرارٍ ما كان لا بد من اتخاذه، لكنَّ المعنى انفسح أمامي بتكويناته وملامحه وقسَمَاته، وأنا أتأمَّل التشوُّهات التي أحدثها الدكتور رضا عبد التواب في بطني؛ لجَأَ إلى لغةٍ البتر لإنقاذ الحياة، ولم يكُن ما فعَلَه بترًا بالتحديد، لكنَّه كان جراحة قاسية، لم يشغلْهُ تأثيراتُها الجانبية، وإنما كان انشغاله بالهدف الأهمِّ، وهو أنْ يُوقِف النَّزف، يكتمه، يوقف تدفُّقه، حتى لا تواجه الدورة الدموية خلَلًا، له تأثيراته السلبية المؤكَّدة.

قلتُ للدكتور رضا عبد التواب: أتصوَّر أنَّ مهنة الجرَّاح لا تختلف كثيرًا عن مهنة الجزَّار.

قال ضاحكًا: الاتفاق الوحيد في «التقطيع» … لكنَّ الطبيب يُنقذ الحياة، بعكس ما يفعله الجزَّار!

وتذكرتُ مقولةَ «هاملت»: لا بد أن أقسو؛ لكي أكون رحيمًا!

لكنَّ الدكتور مصطفى المنيلاوي قال لي، فيما بعد: لو أنَّك زُرتَني — قبل أن يحدُث ما حدَثَ — لعالجتُ القرحة بالمنظار، دون اللجوء إلى فتْحِ البطن.

والحقُّ أنَّ جراحة المناظير في مصر، بدأتْ منذ ١٩٩٠م، أيْ بعد إجراء العملية بعامَين. واجهَتْ — في البداية، وكالعادة — هجومًا قاسيًا من أطباء الجراحة التقليدية. ثم وجَدَت الجراحة مستقبلها في المناظير. إنَّها البديلُ الأكثر أمانًا للجراحة التقليدية؛ فهي توفِّر خاصيَّة تكبيرِ أجهزة الجسم، ممَّا يهَبُ الطبيبَ الجراح فرصةَ الجِراحة الدقيقة. يكفي أن يفتح الجرَّاح بما لا يتعدَّى ١٫٥ سم، يتضاعف — بالاستكشاف والتكبير — ۲۰ مرةً، وتوفِّر الكاميرا والأشعَّة فوق الصوتية إمكانيةَ كشْفِ الأجزاء البعيدة عن أماكن إجراء الجراحة، وغير المكشوفة للكاميرا.

ثمَّة جراحات بالمنظار لاستئصال المرارة، وحصواتها، وقُرحة الاثني عشر، والزائدة الدودية، ودوالي الخصية، والفتق الأُرْبِيِّ، وفتق الحجاب الحاجز، واستئصال أورامِ القولون، واستئصال الطُّحال والرَّحِم والمِبْيَض. بل إنَّ ثورة المناظير تقترب من مجالات جراحة الأوعية الدموية والعِظام واعوجاج العمود الفقري. لقد سهَّلَت المناظيرُ إجراءَ الكثير من الجراحات، بدلًا من فتْحِ الصَّدر والبطن.

باختصار، فإنَّ مستقبل الجراحة في المناظير. الصورة التقليدية للجراحة التي تعتمد على المهارة الفردية — وهي الصورة التي ألِفَتْها البشرية منذ بداية وجودها — تأخُذ الآن سبيلَها إلى الاختفاء. ثمَّة إنجازاتٌ طبيةٌ خطيرة تتحقَّق — ولا تزال — مثل تكنولوجيا الكمبيوتر، والأساليب الحديثة للتشخيص بالأشعة المقطعيَّة، والرنين المغناطيسي، والتصوير النووي، وقيام الروبوت — الإنسان الآلي — بإجراء العمليات، أو توجيه العمليات بواسطة الأقمار الصناعية، كما دخلتْ أشعَّة الليزر مجالاتٍ جديدةً في العلاج الطبي، وهي حُزمة ضوئية قويَّة، تتكوَّن من لونٍ واحد؛ فهو يختلف عن الضوء العادي الذي يتألَّف من ألوان الطيف السبعة المعروفة، وكلُّ نوع من أنواع الليزر له موجةٌ واحدة منتظمة، ومتوافِقة التردُّد، ومتوازية، ويسهُل توجيهها إلى أيِّ مكان بدقَّة متناهية.

ونتيجة للتقدُّم في مجالات علوم الطب، وحتى يُلاحق الأطباء ذلك التقدُّم؛ فقد فرضت الولايات المتحدة نظامًا سمِّي «إعادة التقويم»، يخضع أساتذةَ الطب — الأساتذة! — في ضوئه، لاختبارٍ كلَّ خمس سنوات؛ فيتقرَّر ما إذا كان الأستاذ يستمرُّ في عمله، أم يُوقَف التعامل معه لفترة، يحاول فيها متابعةَ الجديد في علوم الطب!

مع ذلك، فإنَّ علاج القُرحة في بداياتها، كان سيُغني — بالتأكيد — عن الجراحة، سواءٌ الجراحة التقليدية التي أُجريت لي، أو جراحة المناظير … أو حتى جراحة الروبوت!

وعمومًا، فإنَّ النظرة إلى وظيفة الطب في حياتنا، يجب أن تتغيَّر؛ فلا تزال الغلَبَة للوسائل التقليدية، بدءًا من العلاج بالأعشاب، إلى العلاج بالجِنِّ والعفاريت وتحضير الأرواح … إلخ.

كانت استعمالات الدواء سببًا في دخول مريض بين كلِّ سبعة مرضى، إلى المستشفى للعلاج. وبدأ عددٌ كبير من الأطباء في العلاج بالنباتات الطبيَّة، حتى بلغتْ نسبة العلاج باستخدام الأعشاب في دول أوربا ٣٠٪ من جملة الاستهلاك الدوائي بها. كما ارتفعت نسبة الأدوية المستخلَصة من أعشابٍ في بعض دول الشَّرق الأقصى إلى ٨٥٪ من استهلاكها الدوائي. بل إنَّ العديد من كليات الطب في تلك الدول؛ قصرتْ بعضَ كراسيِّها على تدريس الأدوية الشعبية. وفرارًا من الآثار الجانبية المدمِّرة للكيميائيات، مقابلًا لتقدُّم علوم الطبيعة والتكنولوجيا الحديثة؛ اتَّجه الكثيرُ من الدول إلى العلاج بوخْزِ الإبَر، كبديلٍ، أو في موازاة الطبِّ التقليدي.

الأطفال والمواليد الجُدد، سيشهدون ما يسمِّيه العلماء عصرَ الصحة المثالية. ثمَّة ثورةٌ علمية نحيا إرهاصاتها منذ أعوامٍ بعيدة. ملامح هذه الثورة: العلاج بالماء، وبالأملاح، والمغناطيس، والروائح، والأعشاب، والموسيقى، والخيال الخلاق، والطاقة، والقطبية. وقد قرأتُ لصديقي رياض توفيق: إنه بحلول عام ۲٠١٥م سيصبح علماءُ الوراثة والهندسة الوراثية قادرين على رسْمِ خريطةٍ جينيَّة لكلِّ إنسان، عندما يبلغ الثامنة عشرة، تحتوي على كلِّ ما يُمكن أن يكون عليه الإنسانُ في المستقبل، وما يمكن أن يُصيبه من أمراض. فإذا لجأ المرءُ إلى العلماء؛ أشاروا عليه بمَن تصلُح شريكةً لحياته من الناحية الوراثية؛ حتى يُنجِب أطفالًا أصحاء. بل إنَّ هذا النَّوع من العلاج يُتيح للأطباء التدخُّل؛ لتلافي ما يحول دون الإخصاب، وتكوين البويضة الملقَّحة. معنى ذلك أنَّ طبَّ المستقبل سيُعنى بمنع ظهور الأمراض، بدلًا من علاجها … فضلًا عن استخدام أساليب الهندسة الوراثية في علاج الكثير من الأمراض، والتعامُل مع الجينات بما يحفظ على الإنسان صحته، وترويض الفطريات والفيروسات، وتوفير قِطَع الغِيار البشرية. حتى الخلايا العصبيَّة سيصبح بالإمكان استبدالها؛ لكي يستعيد المُعاق القدرةَ على استخدام أطرافه … بل إنَّه ربما أفلَحَ العلماءُ في اختراع عينٍ صناعية، ودمٍ صناعي، وكَبِد صناعي … إلخ، وقد تختفي من قاموس حياتنا كلمة «شيخوخة».

إنَّه طبُّ المستقبل، أو الخيال العلمي للمستقبل، مثلما كانت الطائرات والغوَّاصات والصواريخ والأقمار الصناعية، خيالًا علميًّا في عصورٍ سابقة لعصرنا الحالي.

قرأتُ عن توصُّل مركز الجراحات الدقيقة — الأسيويز — بإسبانيا، إلى نتائجَ مهمَّة في أبحاثٍ رائدة مشترَكة لاستخدام الروبوت في إجراء الجراحات الدقيقة، ليس للاستغناء عن الجرَّاح، وإنما للإفادة من خبرته، حتى لو كان بعيدًا عن حُجرة العمليَّات؛ فهو قد يُصدر تعليماته إلى الروبوت من موضع يبعد آلاف الكيلومترات عن حُجرة العمليات، وينفِّذ الروبوت تعليمات الجرَّاح في جسم المريض!

مع ذلك، فإني أتفهَّم قولَ جيرالدين بترو مُشرِفة التمريض على تجارب إجراء الروبوت عمليةً جراحية: «قد ينجح الروبوت في القيام بدور الجرَّاح، لكنني أرفض التصوُّر أن يعمل الروبوت في مجال التمريض، الذي يعتمد على العلاقة الإنسانية بين المريض والممرِّض.»

والحقُّ أنَّ التقدُّم العلمي، وانعكاسه — بالضرورة — على تقدُّم الطب؛ يصعُب أن يحقِّق أهدافه في بلادنا، ما لم توازيه وتشتبك معه، محاولاتٌ جادَّة للقضاء على التلوث البيئي. إنه مصدرُ أخطرِ الأمراض التي يعانيها المصريون: الفشل الكلوي، الفيروس الكبدي، الفشل الكبدي، السرطان. مبعثها تلوُّث الهواءِ بالرَّصاص، ودُخان المصانع وعَادمِ السيارات، وتلوُّث النهر — مصدر مياه الشرب! — بمخلَّفات المصانع، وموادِّ التنظيف، ومياه الصرف الصحي … إلخ.

٣٨

الطريقُ إلى الجنة تمرُّ عبْرَ النار.

مقولةٌ تذكَّرتها وأنا أُغادر مستشفى عين شمس التخصُّصي.

كانت التجربة قاسيةً، أفلَحَ الألمُ في التغلُّب — أحيانًا كثيرة — على المخدِّر والمسكِّنات، لكنْ تلك كانت هي الطريق إلى الجنَّة. وكانت الجنَّة هي الحياة التي خرجتُ إليها. كانت تلك الأيام الحافلة بالألم والخوف والخطر، أيامًا للحياة بالفعل.

عدْتُ إلى البيت، في صُحبة أصدقاء. وكان الجوُّ صحوًا، رغمَ برودةِ ديسمبر.

أحضرتْ زينب تلفيعةً من الصُّوف، كانت ترتديها في البيت أوقاتَ البرد. ارتديتُ الرُّوب الشتوي، ووضعتُ التلفيعةَ حول رأسي ووجهي. تأكدتْ زينب أن عينيَّ وحدهما هما اللَّتان انحسرَت التلفيعةُ عنهما.

كانت خطواتي تعاني التعثُّر؛ للضَّعف، ولانقطاعي — لفتراتٍ طويلة — عن المشي.

لم تستوقفني قائمةُ المحظورات التي ذكَرَها الدكتور رضا عبد التواب … لكنَّ شعورًا أقربَ إلى الإحباط تملَّكني وهو يُضيف الشايَ إلى تلك القائمة؛ فأنا أعتبر كُوبَ الشاي بُعدًا ثابتًا في حياتي اليومية. ظللتُ أجهل طعمه، مثل كلِّ المشروبات التي تُضاف إلى الماء «القَرَاح» على حدِّ تعبير أستاذنا يحيى حقي. كان يضع الكوب أمامي: «أعرف يا جبريل أنَّك لا تشرب إلا الماء القَرَاح!» ثم قبِلتُ — مجاملةً — دعوةَ أصدقاءَ لشُربِ الشاي، وتكرَّرت الدعوةُ والقَبول المجامِل، حتى أصبحتُ أطلُبُ الشاي دون أن أنتظر تقديمه لي.

قلتُ بعفويَّة: مش ممكن …!

وأفاضتْ زينب في شرْحِ عشقي للشاي؛ فقال الدكتور رضا: إذن فليكُنْ شايًا بالحليب.

ثم قرأتُ — فيما بعد — دراسةً طبيَّة، تؤكِّد أنَّ الشاي الأخضر والأحمر والأسود، يساعد على إنقاص الكولسترول في الدم، ويقلِّل من ضغط الدم، وفوائد أخرى.

٣٩

تأمَّلتُ مكتبتي، وراجعتُ أوراقي، وتحسَّستُ — بتلقائية — موضعَ العملية، واستقبلتُ الأصدقاء، وتبادلنا ذكرياتٍ حزينةً ومُفرِحة، وروى لي صديقٌ حكايةَ أحد الطقوس الغريبة، عن سيدةٍ عاقرٍ، يُقيم لها أهلُها مزادًا وهميًّا. مَن يستقرَّ عليه المزاد؛ يخلعْ نقابًا تضَعُه على وجهها، فتبرأ من العُقم.

جلستُ إلى مكتبي — بعد انصراف الصديق — أُحاول أن أكتب … ابتسمتُ لصيحاتِ زوجتي المُشفِقة وأنا أكتب الصفحات الأولى من روايتي «الصهبة». الأحداث كما رواها صديقي، وإن بدَّلتُ المكان والشخصيات، واحتفظتُ بطرافة الوقائع إلى لحظةِ رفْعِ النقاب من وجه المرأة. أدرَكَ الرَّجل الذي انتهك حُرمةَ «الطقس» خطورةَ ما فعَلَ؛ فادَّعى الانجذابَ، حتى يفرَّ من الأذى. أمَّا منصور سطوحي — بطل «الصهبة» — فقَدْ ترَكَه أهلُ الصهبة، لتبدأ أحداثُ الرواية كما أمَّلتُها على قلمي؛ فأنا من غلاة المؤمنين بأن العمل الفنيَّ يجب أن يكتُبَ نفْسَه!

قرَّرتُ أن أعبِّر عن امتناني للدكتور رضا عبد التواب. كان النزف المفاجئ قد أرْجَأ استكمالي لرواية «قلعة الجبل»؛ فأنهيتُها، وصدَّرتُها بإهداءٍ، قلتُ فيه: «أدين لك بفضلِ إتمام هذه الرواية … لقد تدخَّلتَ — في لحظات قاسية، وحاسمة — فأضفتَ إلى حياتي — بإرادة الله — ما أتاح لي استكمالَ ما كنتُ بدأتُه.»

وفاجأني الصديقان مصطفى نبيل ومحمود قاسم؛ بأنَّ «روايات الهلال» — التي قدَّمتُ إليها الرواية — ترفُض الإهداءات. ولأنَّ إهداءَ عملٍ لي، كان التصرُّف الذي أملكه، مقابلًا لانتزاع الدكتور رضا حياتي من موتٍ محقَّق؛ فقد كتبتُ الإهداءَ — بنصِّه — في روايتي «النظر إلى أسفل» الصادرة عن هيئة الكتاب. كنتُ قد أنهيتُ هذه الرواية قبل مفاجأة النزف، ولم أكُن أهديتُها لأحدٍ؛ فقرَّرتُ أن أنقل إهداءَ «قلعة الجبل» إليها.

٤٠

عندما ينجو أحدٌ من حادثة، أو من مرض، فإنه في الموروث الشعبي يكون قد كُتب له عُمرٌ جديد. بمعنى أن حياة المرء صفحات، تنتهي كلٌّ منها — في الأغلب — بمواجَهة أزمة تتهدَّد حياته؛ فتأتي الصفحة الجديدة بعُمرٍ جديد، ونهنِّئ: مبروك … انكتب لك عُمر جديد!

فهل كان ما عشتُه خلال تلك الأيام، التي بدأتْ في السادس عشر من ديسمبر ۱۹۸۸م صفحةً جديدة في كتابِ حياتي؟

هل كان بدايةَ عُمرٍ جديد؟

محمد جبريل، الإسكندرية، ٣ / ٨ / ١٩٩٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤