الفصل الرابع

ما إن دق جرس الباب وفتحت له صاحبة المنزل وهي تلقي على وجهها الناحل العظمى الأصفر بمنشفة قطنية، متراجعة هلعة من منظره، بمنظاره وقامته العظيمة التي بدت مفرطة الطول في مواجهتها، مثقل تحت حقيبتيه الجلديتين وكيس ملابسه المنزلية.

ساعدته في إدخال حاجياته وهي تجاهد في تذكر اسمه، وقامت بدورها أختها هلعة من فراشها رغم النيران المستعرة على المحاور.

أزالوا بقايا المياه والجليد المتساقط من على معطفه وتحلقوا حول الفراش من فورهم يرتشفون الشاي، وحكى لهم في ملل قصير ما حدث، وعم صمت مفتعل اندفع المهاجر خلاله يحاسب نفسه، فلعله أيضًا ذات الجو، ذلك الحزن الدفين الرابض في أعماق الفتاتين، وهو بدوره معهم، لماذا هو في كل حالاته، تذكر على الفور السور الطيني الممتد على طول مرمى البصر ومن داخله تمتد أشجار الكافور والسنط وذقن الباشا، للمقابر الممتدة في مواجهة شباك بيتهم الريفي، ولا ينقطع، لجنازات النساء المتشحات بالسواد، والنيلة التركوازية والزرقاء ضاربة القتامة تلطخ وجوههن وسواعدهن وهن يندبن، ويَنُحْن، ويرقصن في حلقات. وفي حالة نادرة، حين يكون الميت من «أسرة» وهو صبي صغير، لم يتزوج بعد — ويدخل دنيا — تستخدم الجنازات الدفوف الواسعة العنيفة.

بينما تستخدم جنازات الرجال المصاحبة المُشيِّعة لنعش الميت فرق المزيكة الشعبية التي تُستقدم من المدينة القريبة بكامل أزيائها الفرايحي الأوكر، وطرابيشهم الحمراء، وآلاتهم النحاسية تدق أمام المرحوم العازب، وكورس دلائل الخيرات ينشدون بأصواتهم الباص والباريتون، متبوعين بجوقات النساء.

كل هذا من أمام شباك بيتهم، وهو لا يزال يعتلي كتف أمه، يشهده يوميًّا عشرات المرات.

قال حين سألته كُبراهن عن شروده وهي تميل عليه لتعطيه قطعة من البسكوت المجفف ألقى بها على الكنبة: تذكرت الحزن في مصر.

قامت صغراهن وكان لها وجه فينيقي ينحو إلى الاستطالة، وشعر أسود طويل مسترسل، وكانت تمقت المهاجر، تثاءبت طويلًا وهي تطوق رأسها بمرفقيها، بيدها كتاب لمح عنوانه «الشقيقات الثلاث»: عن إذنكم.

تذكر تشيكوف، ذلك الأسى المقطر داخل المنازل، شقق عواصم المدن المحتدمة بالنار والتربص.

الناس حين تتبادل الأحاديث بلا طعم، أهمية، انتباه، في الشرفات، ومن حول المدافئ وألسنة اللهب.

حين يرتشفون الشاي، ويعانون من كره بعضهم البعض، الأم وابنتها وشقيقتها، الأم وأبناؤها الذكور والإناث، حيوانات البيت الأليفة، برامج أجهزة البث والتوتر.

قال: لعله شيء أو احتياج ضروري تعرفه بكثرة، وضوح أكثر في زنازين المنافي وقلاياتها على مدى الثلاثين عامًا الماضية.

لكم وُفِّق سارتر في مأثوره الملخص عن جحيم الآخرة، الابنة، الحبيب.

تعرَّف من فوره، حين نزع — بريهه — الأسود عن شعره وصلعته، أن كلتا الأختين تضيق بوجود الأخرى، إلى حد الكره.

وتذكَّر بالدقة أنه هو بذاته ما يجاهد في البحث عنه، بدءًا من عمله — وكاره — ومهنته، وهو حقل حكاياته وطرائفها: الكره.

ذلك الذي يحاول الجميع تجنبه والإفلات من قبضته الماثلتين على الدوام ممزوجًا في حنكة بنقيضه وتوءمه، من حب وتدلُّه.

وهو ما أغفلته النصوص القديمة التي خلفها الموتى من الأسلاف والجدود، في ثنايا وصاياهم وتمائمهم المقدسة والمحظورة، ذلك أن الحديث عن نقيضه أنساهم واقعة الماثل المتواجد، سواء في ثنايا ذلك النقيض الوله يبطنه متدثرًا، ويخالطه مخالطة التنفس.

إنه الشهيق الزفير
الخارج المنسل
عبر عمليات التلوث
عبر اللحظة
طرفة العين
ودقة ساعد
الناس هنا تحت الشرفة
في الشوارع ونواصيها
أين موتانا؟
قتلانا؟
أين؟

تساءل حين أخرجه من غفوته على حافة الفراش صوت الأخرى العظيمة الكبرى الطفولي: أحسن حاجة في الدنيا الحب.

– لماذا يكرهها؟

صحيح أنه لا يعرف كلتا الأختين بالقدر الكافي، ورغم أنها فتحت له بابها في الساعة الثالثة ليلًا وأخذت عنه أغراضه، حين لم يجد صديقه، لمجرد المعرفة العابرة للجيرة، إلا أنه يبدو غارقًا في حرجه، إفلاته اللامجدي من قبضة تواجدها.

قالت: أخذوا كل شيء، الأم والأب ماتوا، والضيعة نُهبت، حرتوا أرضها بالشاحنات والدبابات، قطعوا كل أشجار الحديقة، شجرتي وشجرة عالية، فاكهة من كل الأصناف، زهوري … أحواضي.

مالت عليه مسرعة لاكرة، مشيرةً إلى حجرة عالية التي كانت وقتها تسعل في عنف متلاحق عالي الصوت: أطلقوا النار على الوالد، والد عالية، في حديقة بيتنا الجبلي، من ثلاث جهات متقاربة.

صنعت بمعصميها العظميتين هيئة مثلث متساوي الأضلاع أطلت منه بوجهها فترة في مواجهته.

تعالى سعال العالية بشكل مجهد، وجاهد هو في ألا تعاوده الحالة. هب واقفًا مزيحًا الستارة عن الشرفة الزجاجية معاتبًا.

المدينة كانت قد بدأت يقظتها، دويها اليومي مع مطلع ضوء النهار البيروتي، والحرب الأهلية العنصرية تعتصر رحيق أناسها وشوارعها.

ها هو الشارع في بيروت.

سعال صغرى الفتاتين لا ينقطع، بينما الأخرى تعدد مصائب بيتهم الريفي وضيعتهم الجبلية ذات الفردوس الصغير المفتقد الذي كان.

وتصور المشهد عبر أسطح العمارات الممتدة من حوله، العالية بجدائلها السوداء تقف في شرفتها مطلة على الوالد الهرم، مفتش البريد والبرق العتيد بسترته الداكنة وحقيبة يده الجلدية خارجًا عبر طرقة حديقته المتعرجة، ومثلت الجنود الفاشست يطبقون عليه من أضلعه العدة مُطلقين النيران في لحظة متقاربة.

الأب يسقط على وجهه في طين حوض زهور البنفسج، ومن حقيبته تتناثر الخطابات.

العالية تلطم وتسعل بشدة بلا صوت.

ولم يكن هناك بد من الخروج.

عاد المهاجر متخليًا عن الشرفة، باحثًا عن معطفه الجبردين إلى داخل الشقة.

وحين غطس بوجهه الطويل الضامر العظمي في ماء حوض غسيل الحمام الدافئ قال: تكفي مرة واحدة، حاله، البكاء ليلًا، يكفي ما جرى، لولا ذلك الصول المكرش السمين، تذكر تعبيرات وجه، انكماشه بعيدًا بحذاء الجدار المُشاد من الآجر الأحمر، ويبدو أنه غطَّى جانب وجهه الملحم بقبضتيه يرقبه عبر أصابعه، بنفس ما فعلته الأخت الكبرى … الماجدة، منذ هنيهة، حين أطلت عليه من مثلث ساعديها الصفراويين، وهي تصف الطريقة.

أزاح الصابون عن عينيه، فالشمالية تعاني آثار رمد قديم: حين أحاطت شلة الجند بالوالد في حديقة البيت، ودوت الطلقات، وسقط مدير البوستة، غاص وجهه بلا تعبير في طين حوض الورد ورغامه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤