الصاع بالصاع

منذ عدة قرون لم أهتمَّ بإحصائها، كان أهل فيينا يُحكَمون على نحو متساهل. والسبب أن الدوق فيتشنتيو، الذي كان يحكمهم، كان طيبًا للغاية، وكان يكره أن يُجعل المذنبين غير سعداء.

كانت النتيجة أن عدد المسيئين في فيينا كان كافيًا لأن يجعل الدوق يهزُّ رأسه في حزن عندما أراه إياه كبير مساعديه في نهاية قائمة بأسمائهم؛ لذا قرر أن المخطئين يجب أن يعاقبوا. لكن شعبيته كانت مهمة بالنسبة إليه. وكان يدرك أنه إذا أصبح حازمًا فجأة بعد أن كان متساهلًا، فسيجعل الناس يرون أنه قد أصبح طاغية. ولهذا السبب، أخبر مجلسه الخاص بأنه يجب أن يذهب إلى بولندا في شأنٍ هامٍّ خاصٍّ بالدولة. ثم قال: «لقد اصطفيت أنجيلو نائبًا عني في أثناء غيابي.»

إن أنجيلو هذا، رغم أنه كان يبدو نبيلًا، كان رجلًا وضيعًا. فقد وعد فتاة تدعى ماريانا بالزواج، لكنه تخلَّى عن وعده لأن مهرها فُقد؛ لذا أخذت ماريانا المسكينة تعيش يائسة، تنتظر كل يوم قدوم حبيبها البخيل والذي كانت لا تزال تحبه.

بعد أن عين الدوق أنجيلو نائبًا له، ذهب إلى راهب يُدعى توماس وطلب منه أن يعطيه ملابس راهب ويعلمه فن إعطاء المواعظ الدينية لأنه لم يكن ينوي الذهاب إلى بولندا وإنما نوى البقاء في بلده ليرى كيف سيحكم أنجيلو.

لم يمرَّ يوم على تولي أنجيلو لمنصبه حتى حكم بالموت على شابٍّ يُدعى كلاوديو لارتكابه فعلًا أنانيًّا مندفعًا والذي كان سيُعاقب عليه — لولا تولي أنجيلو — بأن يُوبَّخ توبيخًا عنيفًا.

كان لدى كلاوديو صديق غريب يدعى لوشيو، ووجد لوشيو أن هناك فرصة لإطلاق سراح كلاوديو إذا ذهبَت أخت كلاوديو الحسناء إيزابيلا إلى أنجيلو وتوسلت إليه أن يعفو عنه.

كانت إيزابيلا تعيش في ذلك الوقت في دير. ولم يكن أحد قد شغل قلبها، وظنت أنها تُفضِّل أن تصبح راهبة.

في تلك الأثناء، كان لدى كلاوديو من يدافع عنه، وهو نبيل عجوز، يدعى إسكالوس، والذي راح يطلب له الرأفة. قال: «لنَجرح جرحًا خفيفًا خير لنا من أن نقتل.» ثم أضاف: «إن هذا الرجل الشريف كان والده رجلًا جد نبيل.»

لم يتأثَّر أنجيلو. وقال: «إذا وجدني اثنا عشر رجلًا مذنبًا، فلن أسأل أي تخفيف غير ذلك المنصوص عليه في القانون.»

ثم أمر أنجيلو آمر السجن بأن يعدم كلاوديو في التاسعة من صباح اليوم التالي.

بعد إصدار هذا القرار، أُخبر أنجيلو بأن أخت الرجل المدان ترغب في رؤيته.

قال أنجيلو: «دعها تدخل.»

عندما دخلت الفتاة الجميلة هي ولوشيو، قالت: «جئت ألوذ برحاب شرفكم.»

قال أنجيلو: «حسنًا، ماذا تريدين؟»

احمرَّ وجهها من كلماته القليلة الحادة وزادت الحمرة التي علت وجهها من جماله. ثم قالت: «لديَّ أخ حُكم عليه بالإعدام. وإني ألتمس منك أن تدين الخطأ وتعفو عن أخي.»

قال أنجيلو: «كل خطأ مدان قبل أن يُرتكب. وهو غير مسموح به. ولن تتحقق العدالة إذا أُطلق سراح مرتكبه.»

كانت ستَترك البلاط وترحل لولا أن لوشيو قال لها هامسًا: «إنك جد باردة؛ لو كنتِ في حاجة إلى دبوس، لما طلبته بلسان أكثر وداعة.»

لذا، أخذت إيزابيلا تلح عليه ثانية ليعفو عنه، وعندما قال: «لن أعفو عنه.» لم تيأس، وعندما قال: «لقد سبقت إدانته، ولم يعدْ هناك وقت.» عادت إلى الإلحاح. لكن كل سعيها كان بالحجج المنطقية، لكنها حتى بهذه الحجج، لم تستطع الانتصار على نائب الدوق.

figure
الدوق في زي الراهب.

قالت له إنه لا شيء أقوى من الرحمة. وأخبرته أن البشر يتلقَّون الرحمة من السماء ويطلبونها منها، وإنه من الجيد أن تكون لديك قوة هائلة ومن السيئ أن تستخدمها وتتجبر. وقالت له إن البرق يفلق شجرة البلوط ويترك الآسة الرقيقة. وطلبت منه أن ينظر في فؤادِه ويرى إن كان به ذنب، فإن وجد واحدًا، فليُحجم عن أن يودي بحياة أخيها.

وجد أنجيلو ذنبًا في فؤاده في تلك اللحظة. لقد أعجب بجمال إيزابيلا وكان ميَّالًا لأن يفعل من أجل جمالها ما كان لن يُقدِم على فعله من أجل حب أي رجل.

بدا أن قلبه بدأ يلين حيث قال لها: «تعالي إليَّ غدًا قبل الظهر.»

لقد نجحت، على أي حال، في تمديد حياة أخيها لبضع ساعات.

وفي غيابها، كان ضمير أنجيلو يلومه على عدم أداء واجبه القانوني.

عندما زارته إيزابيلا للمرة الثانية، قال: «إن أخاكِ يجب أن يموت.»

اندهشت إيزابيلا على نحو مُفجِع، لكن كل ما قالته كان: «ومع ذلك، فلتحفظك السماء.»

لكن بينما التفتَت لتنصرف، شعر أنجيلو أن واجبه وشرفه كانا هيِّنين مقارنة بفقده لها.

قال لها: «أعطيني حبَّكِ وسيُطلَق سراح كلاوديو.»

ردت إيزابيلا: «إنه سيقدم عشرين رأسًا للقطع على منصة الإعدام قبل أن أتزوجك»؛ إذ شعرت حينها أنه ليس الرجل العادل الذي يدَّعيه.

لذا، ذهبت إلى أخيها في السجن لتُخبرَه بأنه يجب أن يموت. في البداية، كان معتزًّا بنفسه، ووعَد بأن يضم ظلمة الموت بين ذراعيه. لكنه عندما أدرك بوضوح أن أخته يمكنها أن تشتريَ له حياته بالزواج من أنجيلو، شعر أن حياته أغلى من سعادتها، وقال راجيًا إياها: «أختي العزيزة، امنحيني الحياة.»

صرخت فيه قائلة: «ويحكَ أيها الرعديد الغادر! ويحك أيها الشقي الفاسق!»

في تلك اللحظة، جاء الدوق، متنكِّرًا في زي راهب، ليلتمس الحديث إلى إيزابيلا. وسمى نفسه الراهب لودويك.

قال لها الدوق إن أنجيلو قد خطب ماريانا للزواج وحكى لها قصة حبها. ثم طلب منها أن تُنفِّذ الخطة التالية. ستذهب ماريانا، في زي إيزابيلا، وهي مُغطاة الرأس، إلى أنجيلو، وتقول، بصوت يُشبه صوت إيزابيلا، إنها ستتزوجه إن لم يعدم كلاوديو. وتأخذ الخاتم الذي يلبسه في إصبعه الصغير، حتى يُمكن فيما بعد إثبات أن من زاره هو ماريانا.

كانت إيزابيلا، بالطبع، تكنُّ احترامًا كبيرًا للرهبان، الذين كانوا يشبهون تمامًا الراهبات في ورعهم؛ لذا وافقت على خطة الدوق، واتفقا على اللقاء مرة ثانية في المنزل الريفي المحاط بالماء، وهو، منزل ماريانا.

figure
إيزابيلا تستجدي أنجيلو.

في الشارع، رأى الدوق لوشيو الذي عندما رأى رجلًا يرتدي زي راهب، ناداه قائلًا: «ما أخبار الدوق، أيها الراهب؟» رد الدوق: «ليس لديَّ أي أخبار.»

ثم ذكر لوشيو للدوق بعض أخبار أنجيلو. ثم ذكر له خبرًا عن الدوق. لكن الدوق نفاه. استفزَّ هذا لوشيو، ووصف الدوق بأنه «أحمق جاهل وسطحي.» رغم أنه تظاهر بأنه يُحبُّه. قال الدوق على نحو متجهِّم: «ستزداد معرفة الدوق بك إذا امتد بي العمر حتى أحكيَ له عنك.» ثم سأل إسكالوس، الذي رآه أيضًا في الشارع، عن رأيه في سيده الدوق. رد إسكالوس، الذي ظنَّ أنه يتحدث إلى راهب، قائلًا: «الدوق رجل عفيف النفس إلى أقصى حد، وكان يسعده أن يرى غيره من الناس سعيدًا، لا أن يشعر بالسعادة تغمره هو.»

ثم استكمل الدوق المسير لبيت ماريانا.

وصلت إيزابيلا على الفور بعد وصوله إلى بيت ماريانا، وقدم الدوق الفتاتين بعضهما لبعض، وكانا كلتاهما تظنَّان أنه راهب. ذهبت الفتاتان إلى غرفة أخرى غير التي كان فيها الراهب لتناقشا أمر إنقاذ كلاوديو، وبينما كانتا تتحدثان بصوت منخفض وجاد، نظر من النافذة ورأى السقائف المهشمة وأحواض الزرع المغطاة بالأشن الأسود، الأمر الذي يشي بإهمال ماريانا لبيتها الريفي. إن الكثير من النساء كن سيَهتمِمْنَ بحدائقهن، أما هي، فلا. فقد كانت عينها على المدينة؛ لذا، تجاهلت مباهج الريف. كان الدوق متأكدًا من أن أنجيلو سيجعلها أكثر سعادة.

قالت إيزابيلا، وهي عائدة مع ماريانا: «لقد اتفقنا، أيها الأب.»

وهكذا، خُدع أنجيلو من قبل الفتاة التي كان قد أبعدها عن حبِّه وألبسها في إصبعها خاتمًا كان له، والذي كان به حجر كريم له لون اللبن يلمع في الضوء معطيًا ألوانًا غامضة.

عندما سمع الدوق بخبر نجاحها في إتمام الخطة، ذهب في اليوم التالي إلى السجن وانتظر أن يصلَ قرار بإطلاق سراح كلاوديو. لكنه لم يصِل، وسُلم خطاب إلى آمر السجن بينما كان ينتظر هناك. لقد كانت دهشتُه عظيمة عندما قرأ آمر السجن هذه الكلمات: «مهما ترامى إليك من أخبار تُناقض ذلك، ليتم إعدام كلاوديو قبل الساعة الرابعة. ولتَعمل على أن يصلني رأسه قبل الخامسة.»

لكن الدوق قال لآمر السجن: «يجب أن تُرسل إلى نائب الدوق رأسًا آخر»، وأراه خطابًا وختمًا. ثم قال له: «هذا توقيع وختم الدوق. دعني أخبرك بأنه سيعود وهذا أمر لا يعرف عنه أنجيلو شيئًا. أعطِ أنجيلو رأسًا آخر.»

قال آمر السجن في نفسه: «هذا الراهب يتكلَّم بثقة. أنا أعرف ختم الدوق وأعرف كذلك خطه.»

ثم قال في النهاية: «لقد مات رجل في السجن هذا الصباح، وهو قرصان في نفس عمر كلاوديو، وله لحية باللون نفسه. سأرسل له رأسه.»

أُرسل رأس القرصان في الوقت المحدد إلى أنجيلو الذي خُدع بسبب تشابهه مع رأس كلاوديو.

قوبل خبر عودة الدوق بترحاب شديد لدرجة أن الرعية ساعدوا في نزع بوابات فيينا حتى يسهلوا دخوله إلى المدينة. ظهر أنجيلو وإسكالوس في الوقت المناسب لاستقباله، وأُثني على توليهما الأمور في غياب الدوق.

لذا، كان أمرًا غير سار بالنسبة إلى أنجيلو عندما جثت إيزابيلا، التي كانت غاضبة بشدة من خيانته، أمام الملك وأخذت تطلب العدل منه.

عندما حُكيَت قصتها، صاح الدوق قائلًا لأحد الضباط: «اذهب بها إلى السجن لأنها تُحاوِل التشهير بذراعي اليمنى! لكن انتظري، مَن الذي أقنعك بالمجيء إلى هنا؟»

قالت: «الراهب لودويك.»

سأل الدوق: «مَن يعرف لودويك هذا؟»

رد لوشيو: «أنا أعرفه، يا سيدي. لقد ضربتُه لأنه قد فاه ببعض ألفاظ تجرح فخامتك.»

قال راهب كان هناك يُسمَّى بيتر: «الراهب لودويك رجل فاضل.»

أخذ أحد الضباط إيزابيلا، ودخلت ماريانا. وخلعت غطاء وجهها وقالت لأنجيلو: «هذا هو الوجه الذي حلفتَ يومًا أنه يستهويك.»

واجهها بشجاعة عندما أظهرت يدها وقالت: «هذه هي اليد التي ترتدي الخاتم الذي ظننت أنكَ أعطيته واحدة أخرى.»

قال أنجيلو: «إنني أعرف هذه المرأة. ومنذ فترة، جرى حديث عن الزواج بيني وبينها، لكني وجدتها طائشة.»

وهنا، قالت في انفعال إنهما قد خُطبا وتعاهَدا على الزواج. رد أنجيلو بأن طلب من الدوق الإصرار على حضور الراهب لودويك.

وعد الدوق قائلًا: «سوف يحضر.» وطلب من إسكالوس أن يستجوب الشاهد الغائب باستفاضة بينما سيذهب هو إلى مكان آخر.

وبعد وقت قصير، ظهر الدوق مرة ثانية في شخصية الراهب لودويك ودخل بصحبة إيزابيلا وآمر السجن. لم يُستجوَب بقدر ما أسيء إليه وهُدد من قبل إسكالوس. سأله لوشيو إذا ما كان سيُنكِر، إذا كان يجرؤ على ذلك، أنه وصف الدوق بأنه أحمق وجبان، وجُذب من أنفه لوقاحته.

صاح إسكالوس: «اذهبوا به إلى السجن.» ولكن بمجرد أن قُبض عليه، خلع الدوق عنه قناع الراهب، وظهر أنه الدوق أمام الجميع.

ثم قال لأنجيلو: «والآن، إذا كانت ما تزال لديك أي جرأة يُمكن أن تفيدك، فاستخدمها إن كانت لها أي قيمة.»

كان الرد: «حكم فوري وإعدام هما كل ما أرجوه.»

سأله الدوق: «ألم تتعهَّد بالزواج من ماريانا؟»

قال أنجيلو: «بلى.»

قال سيده: «إذن، تزوَّجها في الحال.» ثم أضاف موجهًا كلامه إلى الراهب بيتر: «زوجِّهما، وعُد بهما إلى هنا.»

ثم قال الدوق بنبرة رقيقة: «تعالي إلى هنا يا إيزابيلا. لقد أصبح راهبك الآن أميرك، وهو حزين لأنه لم يستطع إنقاذ أخيك!» لكن الدوق اللئيم كان يعرف أنه قد أنقذه.

قالت: «اعفُ عنِّي لأني قد جلبت المتاعب لجلالتك.»

قال بابتهاج: «لكِ مني العفو.»

في تلك اللحظة، دخل أنجيلو وزوجته مرة ثانية. وقال الدوق بجدية: «والآن، يا أنجيلو، قضَينا عليك بذات منصة الإعدام حيث أحنى كلاوديو رأسه للموت!»

صاحت ماريانا قائلةً: «يا مولاي الكريم، إني لألتمس ألا تسخر بي!»

قال الدوق: «ستَحصُلين على زوج أفضل منه.»

figure
«لقد أصبح راهبك الآن أميرك.»

قالت: «أوه، يا سيدي العزيز، إني لا أتمنَّى رجلًا غيره.»

انضمت إيزابيلا بنبل إلى ماريانا في تضرعها للدوق، لكن الدوق تصنَّع عدم المرونة.

وقال: «يا آمر السجن، كيف جرى قطع رأس كلاوديو في ساعة مبكرة على غير العادة؟»

قال آمر السجن وهو خائف من الاعتراف بالكذبة التي كذبها على أنجيلو: «لقد وصلتْني رسالة شخصية.»

قال الدوق: «سأُعفيك من منصبك.» ثم انصرف آمر السجن. وقال أنجيلو: «يؤسفني أن أكون مصدرًا لهذا الأسى. أنا أفضِّل الموت على الرحمة.» وبعد فترة قصيرة، كانت هناك حركة في الجمع. وظهر آمر السجن مرة ثانية ومعه كلاوديو. وكصبي كبير، قال آمر السجن: «لقد أنقذت هذا الرجل؛ إنه يكاد يشبه كلاوديو.» سُر الدوق وقال لإيزابيلا: «سأعفو عنه لأنه يُشبه أخاكِ. وإنه سيكون مثل أخي، أنا أيضًا، إن أنتِ وافقتي، يا عزيزتي إيزابيلا، على أن تكوني لي.»

وافقت إيزابيلا بابتسامة على الزواج منه، وعفا الدوق عن أنجيلو، ورقَّى آمر السجن.

وحكم على لوشيو بالزواج من امرأة بدينة سليطة اللسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤