الفصل الثاني

نُظم العبريين وطبائعهم وعاداتهم

ظل اليهود حتى آخِر مرحلة من تاريخهم في أدنى درجة من الحضارة قريبين من دور التوحُّش الخالص.

ولم يجاوِز اليهود طبائع أمم الزرَّاع والرعاة إلا قليلًا جدًّا، وخضع اليهود لنظام رعائي ولم يكادوا يدخلون دائرة التطور الاجتماعي.

وتوزيع الأعمال من العلائم التي تتجلَّى بها حال الحضارة لدى أحد الشعوب، والعبريون لم يكادوا يفرِّقون بين الحِرَف في عهد الملوك، فنرى كل أسرة في دور تاريخهم الطويل تتدارك احتياجاتها الخاصة، فتخبز خبزها، وتفتل غزلها وتحوك نُسُجها فتصنع منها ثيابها، وتزرع حقولها، وتربي أنعمها فتذبحها وتُعدُّ جلودها.

والحِداد هي أول صنعة بدت مستقلة، غير أن المعادن لم تكن كثيرة لدى بني إسرائيل، فكانت الأدوات الحجرية والخشبية أكثر الأدوات انتشارًا، وما كانت الأسلحة نفسها مصنوعة دومًا من الحديد ولا من النحاس، ومن الحق أن كانت الصَّوَّانة التي تؤخذ من السيل أمضى من الرمح في يد هؤلاء الرعاة الجنود، فبالمقلاع قتَلَ داودُ جُلْيَات الجبَّار.

وتلك العادات هي عادات الأعراب الذين لا يزالون يعيشون في أطراف البادية، وتلك العادات لم يُغيِّرها بنو إسرائيل حتى بعد أن أبصروا حضارات مصر وآشور الساطعة.

وبنو إسرائيل ظلوا قومًا من الزرَّاع والرعاة فقط، فانحصر علمهم في تربية المواشي وزراعة القمح والتين والزيتون والعنب على الدوام.

وما كان عمل أبطال بني إسرائيل قبل قيادتهم إلى النصر غير جر المحراث وجزِّ الشياه، فكان جدْعُون يَدْرُس البُرَّ ويذروها حينما بدا له المَلَك، فأمره بأن ينقذ قومهم من نير المدينيين، وكان شاوُل يبحث عن أُتُنِ أبيه حينما أخبره صَموئيل بأنه سيكون مَلِكًا، واجترأ داود على الحرب بردِّه الضواري التي أتت لتهاجِم ماشيته حينما كان راعيًا.

وتوزيع الأعمال بحصره مهارة العامل في مادة واحدة يؤدِّي إلى تحسين الصناعة، ويُسهِّل ازدهار المهنة، وما كان العبريون ليسيروا بهذا التوزيع إلى الحد الذي ينالون به مثل هذه النتائج.

ولم تكن في فلسطين أية صناعة مهما كان نوعها، وإذا حدث أن صنع اليهود شيئًا فعلى ألا يستحق الإصدار، وفي عهد سليمان حينما لاح الترف كان هذا الترف يغذى بالمنتجات التي يؤتى بها من الخارج.

وكان يقوم إصدار العبريين على ثمرات الأرض من بُرٍّ وخمرٍ وزيتٍ ودُهنٍ وما إلى ذلك، فتُرسَل هذه المحاصيل، على الخصوص، إلى فنيقية التي لم يكن لديها غير أراضٍ ضيقةٍ لا تكفي لإعاشة مدنها الكبيرة، فتُدخل فنيقية إلى بلاد اليهودية في مقابل ذلك ما تصنعه في مصانعها، أو تأتي به من العالم، الذي كانت ذات علاقة به، من الحلي والرِّياش والسلاح والنُّسُج والخشب والعاج.

وكذلك كان بنو إسرائيل عاطلين، حتى في إبَّان أُبَّهتهم، عطلًا تامًّا من العمَّال المَهَرَة في الحِرَف الغليظة كالنجارة مثلًا.

قال سليمان لملك صُورَ حِيرَام: «والآن فمُرْ بأن يُقطع لي أرز من لُبنان، وعبيدي يكونون مع عبيدك، وأجرة عبيدك أُؤديها إليك بحسب جميع ما تَرْسُم؛ لأنك تعلم أنْ ليس فينا مَن يُعرَف بقطع الخشب مثل الصَّيْدُونِيِّين، والآن أرسل إليَّ رجلًا حاذقًا بعمل الذهب والفضة والنحاس والحديد والأُرجوان والقِرْمِز والسَّمَنْجُونيِّ.»

وكان سليمان يُعطي حيرام في كل عام عشرين ألف كُرٍّ من الحِنطة، وعشرين ألف كُرٍّ من زيت الرَّضِّ، فيدل هذا بما فيه الكفاية على أي شيءٍ كانت تقوم ثروة بني إسرائيل.

ومن فنيقية أيضًا أتى عاملٌ ماهرًا جدًّا، فجاء في التوراة أنه: «صانع نُحاس، وكان ممتلئًا حكمًا وفهمًا ومعرفةً في كل صنعة من النحاس»، ورَقَب هذا العامل صَهْرَ ما زُيِّن به الهيكل من الأعمدة والآنية النحاسية ووَضْعها.

وإذا لم تخرج الصناعة في بلاد اليهودية عن أدنى الأطوار البدائية، أمكننا أن نبصر من ذلك حال الفنون في تلك البلاد، أو عدم وجود هذه الفنون فيها على الأصح؛ لما كان من عدم وجود أي شيء يتجلَّى فيه ذلك هنالك.

ولا تجد شعبًا عَطِلَ من الذوق الفني كما عَطِلَ اليهود.

والشريعة التي حرَّمت على اليهود منحوتَ الصور لم تَحْرِم العالَم آثارًا نفيسةً بذلك، وما وقع من مخالفة اليهود للوصية الثانية غير مرة لم يؤدِّ إلى غير العجول النحاسية أو الذهبية، التي هي أصنام اليهود المفضَّلة المصبوبة صبًّا رديئًا على أوتادٍ غليظةٍ عُدَّت رموزًا للرجولة، والمنصوبة تحت غياض عَشْتَرُوت، تلك الأصنام القومية، أو الترَافِيم، التي هي ضربٌ من اللُّعَب المثيرة للسخرية، والتي أضجعت إحداها على فراش داود مستورة الرأس بعناية زوجته لتُعطى، بطريق العِوَض، جنود شاول المرسلين ليقتلوه.

إذن، لا ينبغي لنا أن نُحدِّث عن وجود شيء من فن النحت أو التصوير لدى بني إسرائيل، وقُلْ مثل هذا عن فن البناء، فانظر إلى هيكلهم المشهور «هيكل سليمان» الذي نُشِر حوله كثيرٌ من الأبحاث المملة، تجده بناءً أُقِيم على الطراز الآشوري المصري من قِبَل بنَّائين من الأجانب كما تدل عليه التوراة.

ولم تكن قصور ذلك الملك غير نسخ دنيئةٍ عن القصور المصرية أو الآشورية، ولا تعتقد أن ذلك الملِك أقام في مدينة تَدْمُر التي أسَّسها تلك الأعمدةَ الفخمة التي قاومت عمل القرون، فلا تزال تثير العجب، فتلك الأعمدة قد وُضِعت بعد ذلك بزمن، وكان نَبُوخَذْ نُصَّر قد دكَّ جميع تَدْمُرَ سليمانَ، فلم يَبْقَ فيها حجرٌ واحد.

ولم يمارس العبريون من الفنون الجميلة سوى الموسيقى التي هي فن جميع الشعوب الابتدائية، وكانوا شديدي الحب لها، فيمزجون بها ملاذَّهم وتمريناتهم العسكرية وأعيادهم الدينية، ومما لا مراء فيه أنها قليلة التعقيد شبيهة بألحان النُّواح لدى العرب المعاصرين، ونَعُدُّ من آلات الطرب المعروفة عندهم: المعزَف والطُّنْبُور والصَّنْجَ والمزمار والبوق والطبل.

وعلى ما كان من ممارسة بني إسرائيل للحرب باستمرار لم تصبح الحرب فنًّا ولا علمًا عندهم، فكانت تعوزهم التعبئة، وما كان ليُكتَب لهم فوزٌ إلا بضربٍ من الصَّولة المشابهة لغارة البدويين المعاصرين، وبنو إسرائيل إذ كانوا جبناء خُوَّفًا بطبيعتهم لم يبدوا مرهوبين إلا بما كان يحاول إلقاءه زعماؤهم وأنبياؤهم فيهم من حماسةٍ مؤقتة.

جاء في سِفْر الملوك: «فسمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطيني «جُلْيَات» هذا، فارتاعوا وخافوا جدًّا.»

ولما سار جِدعون إلى المدينيين خاطَبَ جنوده بقوله: «مَن كان خائفًا مرتعدًا فَلْيرجع وينصرف.» فتركه من هؤلاء اثنان وعشرون ألفًا من اثنين وثلاثين ألفًا ليعودوا إلى منازلهم!

ويعرف جميع قرَّاء التوراة وحشيةَ اليهود التي لا أثر للرحمة فيها، وما على القارئ ليقنع بذلك، إلا أن يتصفَّح نصوص سِفْر الملوك التي تدلنا على أن داود كان يأمر بحرق جميع المغلوبين، وسَلْخ جلودهم ووَشْرِهم بالمنشار، وكان الذبح المنظَّم بالجملة يعقب كل فتح مهما قلَّ، وكان الأهالي الأصليون يُوقَفون فيُحكَم عليهم بالقتل دفعة واحدة، فيُبادون باسم «يَهْوَه» من غير نظرٍ إلى الجنس ولا إلى السن، وكان التحريق والسلب يلازمان سفك الدماء.

جاء في سِفْر يشوع أنهم بعد الاستيلاء على أريحا «أهلَكوا جميع ما في المدينة من رجلٍ وامرأةٍ وطفلٍ وشيخٍ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وأحرَقوا المدينة وجميع ما فيها بالنار إلا الذهب والفضة وآنية النحاس، فإنهم جعلوها في خِزانة بيت الرب.»

وكان اليهود يمارسون الرِّقَّ على مقياس واسع، ولم يكن حال الرقيق عندهم لا يطاق، شأنه لدى جميع الشرقيين؛ فقد كان الرقيق من العِرْق الإسرائيلي يُعامَل كفرد من أبناء الأسرة، وكان يحق له بعد انقضاء سبع سنين أن يخيَّر بين العتق والبقاء رقيقًا، فإذا ما استحوذ عليه غمُّ الغد أو الشعور بالعجز عن كفاية نفسه بنفسه، أو حبُّ سيده الصالح، اختار النَّجْدَ الثاني فظلَّ رقيقًا مدى حياته، وإذا ما اختار النجدَ الأول وجب ألَّا يُسَرح بغير أسبابٍ للمعاش.

جاء في سِفْر التثْنية: «إذا أطلقته حُرًّا من عندك فلا تطلقه فارغًا، بل زَوِّدْه من غنمك وبيدرك ومعصرتك، واذكر أنك كنت عبدًا في أرض مصر.»

وفي سِفْر اللاويين نرى الحُكم القائل بمعاملة بني إسرائيل الذين يباعون من أجل الدَّيْنِ كأُجراء لا كأرقاء.

ويضيف المشترع إلى ذلك قوله: «من الأمم التي حواليكم تقتنون العبيد والإماء.»

وكان أفراد كل سِبْطٍ يؤلِّفون لدى اليهود أُسرةً متحدةً متبادلة العون على الدوام، كما عند جميع الشعوب القائلة بالنظام الرعائي.

جاء في سِفْر التثنية: «إذا كان عندك فقيرٌ من إخوتك في إحدى مدنك في أرضك التي يُعطيكها الرب إلهك، فلا تُقس قلبك ولا تقبض يدك عنه، بل ابسط له يدك وأقرضه مقدار ما يعوزه.»

وكان الربا محرَّمًا بشدة بين بني إسرائيل مع أنه عملهم المفضَّل تجاه الأجانب في كل زمن، وكان مبدأ التضامن القومي الزاجر القوي الوحيد الذي يضع حدًّا لجشع اليهودي.

ولم تنطفئ بعد الفتح روحُ الأسرة، أي ذلك الشعور القديم الذي نشأ تحت الخيمة وغُذِّي في البادية، فقُدِّس سلطان الأب على الدوام، فكان للمباركة واللعانية الأبويتين قدرةٌ تكاد تكون خارقةً للعادة في كل حين.

ومع ذلك خَسِر رب الأسرة حق الحياة وحق الممات على أبنائه، كما خَسِر حق تغيير نظام ولادتهم بأن يعترف بحق البِكْرية لمَن يشاء منهم.

على أن حق البِكْرية لم يكن ليمنح صاحبه في فلسطين سوى زيادةٍ تافهة في الميراث، ما دامت التركة تُقسَّم بين جميع الأولاد، ومنهم البنات.

وكانت كثرة الذرية تلوح أعظم ما يمُنُّ به يَهْوَه على الرجل، وكان عقم المرأة يُعَدُّ عارًا.

وكان الرجل إذا مات عقيمًا تزوَّجَ أخوه الأصغر بأرملته وصلًا لسببه، كما جاء في التوراة.

وإذا كان الميت غير ذي أخٍ تزوَّج بأرملته أقرب آلِه إليه، فكان من الفضائح رفض ذلك في مِثْل تلك الحال.

وكان على المرأة التي يرفُض سِلْفُها أن يتزوَّجها أن تراجع باب المدينة حيث يجلس الشيوخ، والباب كان له عند اليهود — كما في جميع الشرق — شأن الساحة أو المحكمة لدى الرومان، ومثل هذه العادة مما لُوحِظ في أبواب آشور الكبيرة.

فأمام الشيوخ تقول الأرملة المرفوضة: «قد أبى أخو زوجي أن يقيم لأخيه اسمًا في إسرائيل، ولم يرضني زوجة.»

وهنالك يستدعي الشيوخُ المتمردَ ويدعونه إلى القيام بما هو مفروض عليه، فإذا أصرَّ على رفضه خَلَعَتْ كَنَّتُهُ نعلَه من رجله وتَفَلَتْ في وجهه أمام الشيوخ، وقالت: «هكذا يُصنَع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه.»

«فيُدعَى في آل إسرائيل بيتَ المخلوع النعل.» كما جاء في سِفْر التثنية.

ومبدأ تعدُّد الزوجات شائعًا كثيرًا لدى بني إسرائيل على الدوام، وما كان القانون المدني أو الشرعي ليعارِضه، ومما حدث في الدور الرعائي أنه كان لإبراهيم ويعقوب أزواج كثيرات، ويعقوب قد تزوَّج بانتظامٍ الأختين لَيْئَة وراحيلَ، وسليمان كان له عدة مئاتٍ من النساء، وكانت النساء تُنال بالشراء كما هو عند العرب المعاصرين.

وكانت البَكارة أمرًا مقدَّرًا كثيرًا لدى اليهود، فإذا أثبت الزوج أن زوجته الفتاة لم تكن عذراء، مع أن أبويها زوَّجوه بها على أنها بِكْر قُتِلت رَجْمًا، وإذا ثبت كَذِب الزوج أُلزِم بدفع مائةٍ من الفضة إلى أبويها، ومُنِع من تطليقها.

ومَن يغتصب فتاةً يُحمَل على تجهيزها والزواج بها.

ومَن يغتصب فتاةً مخطوبةً يُعَدُّ عمله مساويًا لزنا الزوج فيُقتَل.

ومن الغرابة بمكانٍ أن كانت الفتاة تُعَدُّ مذنبةً، فتُرجَم إذا حدث الجُرْم في مكان مسكون؛ لعدم استغاثتها فيه مع إمكان ذلك، وأن كانت الفتاة تُبرَّأ إذا وقع الجُرْم في البرية؛ لإمكان استغاثتها من غير أن يُسمَع صوتها.

وكان الوفاء الزوجي أمرًا محترَمًا لدى بني إسرائيل، وكان زنا الأزواج يُعَدُّ جُرمًا فظيعًا فيُعاقَب مقترِفه بالقتل، وزنا المرأة، لا زنا الرجل، هو المقصود هنا؛ وذلك لاستطاعة الرجل أن يتزوَّج بالعدد الذي يرغب فيه من الزوجات الشرعيات وغير الشرعيات ما سمحت وسائله له بذلك، وما كان الرجل ليُعَدَّ مجرمًا إلا إذا زنى بفتاة مخطوبة أو بامرأة متزوجة، فهنالك يُقتَل.

وليس زنا الأزواج هو الجُرم الوحيد الذي تحرِّمه الشريعة على مزاج بني إسرائيل الداعر، ففي شريعتهم تعدادٌ لدعارات عنيفة مع شدة عقوبة مَن يقترف إحداها، وتُثْبِت هذه الشدةُ كثرةَ المخالفات.

وسِفاحُ ذوي القربى، أي الزنا بالأخت والزنا بالأم، واللواط والمساحقة ومواقَعة البهائم من أكثر الآثام التي كانت شائعةً بين ذلك الشعب الذي نصَّ تاسيت على شَبَق له لا يُروَى غليله.

وأريد لدى بني إسرائيل — كما عند كل شعب ذي غُلْمَةٍ — خلطُ أفظع الملاذِّ بالطقوس المقدسة، وموافقة الشريعة على هذه الملاذ، فعُدَّت ضروب البغاء تكريمًا لعَشْتَروت، وعُدَّ الانهماك في السكر على بُسط الأزهار وتحت ظلال شجر الزيتون في الليالي الرطيبة نوعًا من العبادة التي لم تفتَأْ تُمارس آنئذٍ في فلسطين، على الرغم من غضب الأنبياء.

وما في الفصل الثامن عشر من سِفْر اللاويين من المحظورات، كسِفاح ذوي القربى واللواط ومواقَعَة الرجال والنساء للبهائم، وما إلى ذلك من الأمور التي يحرِّمها معظم الشرائع لعدم فائدة النص على ذلك، فيدل على درجة غُلْمَةِ الشعب اليهودي.

وفي المجتمع اليهودي، كما في جميع المجتمعات الابتدائية، كانت المرأة كثيرة التَّبَع، فتُعَدُّ مملوكةً تُشترَى من أبيها عند النكاح، فيكون زوجها سيدها المطلق.

ولم يكن لنذرٍ أو قَسَمٍ تُبديه المرأة أية قيمة ما لم يؤيِّده زوجها.

ولم تكن المرأة محصورة كالمرأة الشرقية في أيامنا، فالمرأة إذا ما كانت ذات مواهبَ خاصةٍ، أمكنها أن تمثِّل دورًا كمريم أخت موسى، وكدبُورة التي كانت قاضيةً.

وللنساء حق الميراث عند اليهود، وللأم في الأسرة حق الاحترام كالأب؛ فقد جاء في سِفْر الخروج: «أَكْرِم أباك وأمك.» وكان الموت جزاء مَن يضرب أباه أو أمه.

وقانون العقوبات لدى بني إسرائيل كان كله يقوم على مبدأ القصاص الفطري الجاهلي، ويُلخَّص في الأسطر الآتية التي جاءت في سِفْر اللاويين:

ومَن قتل إنسانًا يُقتَل قتلًا، ومَن قَتل بهيمةً فلْيُعوِّض مثلها رأسًا بدل رأس، وأي إنسان أحدث عيبًا في قريبه فَلْيُصنع به كما صنع، الكَسْر بالكسر والعين بالعين والسِّن بالسن، كالعيب الذي يُحدثه في الإنسان يُحدَث فيه.

حتى إن هذا الحكم كان يُطبَّق على الحيوانات أيضًا.

فإذا ما نطح ثور رجلًا أو امرأة فمات النطيح، رُجِم الثور من فوره.

وكان المجرمون يُحاكَمون ويُجازَوْن باسم المجتمع، ومع ذلك بقي من الطبائع الابتدائية في المجتمع اليهودي ما كان يحق للمظوم أن يقتصَّ به لنفسه، ومن هذا القبيل حق القريب في الانتقام للقتيل، وكان لهذا القريب المعروف بوليِّ الدم أن يقتل القاتل في غير المعبد وفي بعض الملاجئ.

ولم يَرْتَقِ اليهود إلى ما هو أعلى من درجة التطور الدنيا هذه التي لم تكن وحيدةً في عاداتهم، ولم تكن سَنَةُ الإبراء عند اليهود إلا وجهًا مخففًا من الشيوعية الابتدائية.

وفي كل تسع وأربعين سنة، أي ما يَعدل أسبوعَ سنواتٍ في سبع سنواتٍ، كما كان يقول اليهود، كانت تُفتَح سنة الإبراء، وهي السنة الخمسون، فتُترَك الأرض بائرةً فيها، ويُحرَّر العبيد فيها، وفيها تَسترد كل أسرة ميراث آبائها في الحصة التي أُعطِيت لأجدادها عند القسمة.

وإذا عَدَوْت سنة الإبراء وجدت لدى اليهود سنة البطالة، وفي هذه السنة تؤجل الديون، وفيها يَسترد الإسرائيليون الذين غدوا أرِقَّاء بسبب فقرهم حريتهم؛ «لكيلا يكون بينكم فقراء» كما جاء في الشريعة.

ومن خلال ذلك تُبصِر الشيوعية القديمة المانعة من كل تقدم، والتي تود الاشتراكية الحكومية أن تسوقنا إليها، ومن المحتمل أن يجد الباحث في دوام تلك النظم الابتدائية أحد الأسباب التي حالت دون تقدُّم اليهودي في الصناعة والفن والثقافة.

وكان الاعتداء على المال يُعَدُّ ذنبًا عظيمًا، فيجازى مجترحه برد ضعفي قيمة المال المسروق أو ثلاثة أمثال قيمته، وقد يبلغ ذلك خمسة أمثال قيمته أو سبعة أمثال قيمته في بعض الأحيان.

وكان الفصل من المجتمع الإسرائيلي من أقسى العقوبات التي تُفرَض في غير حالٍ؛ لما يتضمنه من الموت المدني، وكان الذي يحتمل هذا الجُرم يخسر المنافع الثمينة التي يمُنُّ بها لقب الإسرائيلي عليه، ويخسر فوائد التضامن الذي كان ينتفع به أدنى شخص من ذرية يعقوب.

وتُذكِّرنا حكومة العبريين على الدوام بالنظام الرعائي الخاص الذي يُشاهَد لدى جميع البدويين.

وحافَظَ الشيوخ، حتى في عهد الملوك، على كبير سلطانٍ في كل مدينة.

وفي غضون القرون كان الشيوخ أو القضاة يتسلَّمون القيادة في زمن الحرب على غرار رؤساء العصابات البدوية.

حتى إن الملوك أنفسهم كانت لهم تلك المزية الأبوية أو العسكرية التي يُشتقُّ منها كل سلطان لدى بني إسرائيل، وما كان الملوك هؤلاء ليشابهوا عاهلي آسيا المتكبرين الذي هم ضربٌ من أشباه الآلهة، فلا يُقترب منهم إلا بارتجاف، إلا بتعريض النفس للموت، وكان شاول وداود وسليمان نفسه، وجميع خلفائهم، يعيشون قريبين من الشعب بلا تكلُّف، لَيِّنِي الجانب تجاه الجميع، مُعنفين من الأنبياء، مهانين بلا عقابٍ في بعض الأحيان، شأن داود الذي رَجَمه شِمْعِي بالحجارة.

وكانت حياة بني إسرائيل الخاصة بسيطةً، وكان ثرواتهم الكبيرة تتألف من المواشي والأثمار والبُرِّ والثياب المُعدَّة ليُبدل منها بغيرها.

وكان لباسهم كلباس العرب المعاصرين، وكانوا يحتذون نعالًا، وكانوا يتذوَّقون الحُليَّ، وغَدَا غُنَاج نسائهم عظيمًا في أواخر عهد الملوك، وأثار حبهم للحلي غضب الأنبياء، وما ذكرته بسبب النفائس في بابِل عدد زخارف بنات الشرق الزاهيات أولئك، كما ورد على لسان إشَعْيَا الحادِّ.

وفي بلاط سليمان تجلَّتْ أكبر أُبهة عُرضت لدى بني إسرائيل، جاء في سِفْر أخبار الأيام الثاني: «رأت ملكة سبأ البيت الذي بناه سليمان، وطعام موائده ومسكن عبيده وقيام خُدامه ولباسهم وسُقاته ولباسهم ومُحرقاته التي كان يُصْعِدها في بيت الرب.»

ويمكننا أن نُبصر، من خلال الاحترام الممزوج بالدهش في وصف المؤرخ لِتُرُوسِ الذهبِ التي زيَّن بها سليمان قصره، ولعرشه العاجي المرصَّع بالذهب وآنيته الذهبية، درجة ما كان يمكن أن يؤثِّر به مثل هذه النفائس في روح العبريين الساذجة.

ومن الطريف أن يُلاحَظ منذ ذلك الدور سرور اليهود في عرض الأموال والنفائس عرضًا غليظًا، وفي اتخاذ المصنوعات الفنية الثمينة بفعل التقليد.

ولم يَجْرِ على فم مؤلِّف سِفْر أخبار الأيام الثاني غير كلمة الذهب في وصف مظاهر الترف لدى سليمان، وقد كُرِّرت هذه الكلمة اثنتي عشرةَ مرةً في بضعة أسطر:

عمل الملك سليمان مائتي مِجْنَب من ذهبٍ مطروق، للمِجْنَب الواحد ستمائة مثقال ذهب مطروق، وثلاثمائة مِجَنٍّ من ذهب مطروق، للمِجَنِّ الواحد ثلاثمائة مثقال ذهب، وعمل الملك عرشًا كبيرًا من عاج وألبسه ذهبًا خالصًا، وكان للعرش ست درجاتٍ مع موطئٍ من الذهب، وكانت جميع آنية شرب الملك سليمان ذهبًا، لم يكن فيها فضة؛ إذ لم تكن الفضة تُحسَب شيئًا في أيام سليمان.

وما كان من عرض ذلك الذهب بجميع الأشكال في القصور والهيكل العاطل من كل جمال فني، فيدل على الروح اليهودية الساذجة الغليظة.

والتجارة كانت مصدر تلك الثروات، ولا سيما في دور التجارة البحرية، تلك التي جرَّبها سليمان تجربةً لم تَدُمْ طويلًا، وما كان بنو إسرائيل ليفكِّروا في أمر البحر؛ فقد كان ما يتخذه الملك من السفن والملَّاحين يُؤخَذ من فنيقية، كما كان يُؤخَذ خشب الأرز والبنَّاءون منها لشيد الهيكل.

«وأرسل له حيرام على أيدي عبيده سُفنًا وعبيدًا عارفين بالبحر، فأتوا أُوفِيرَ مع عبيد سليمان، وأخذوا من هناك أربعمائة وخمسين قنطارًا من الذهب.

وكان للملك في البحر سفن تَرْشِيش مع سفن حِيرَام، فكانت سفن ترشيش تأتي مرةً في كل ثلاث سنين، حاملةً ذهبًا وفضةً وعاجًا وقِردةً وطواويس.»

ولم تختلف بيوت بني إسرائيل قطُّ عمَّا يُشاهَد اليوم في سورية، فكانت بيوت الموسرين من الحجارة وبيوت المعسرين من الآجُرِّ.

وكانت تلك البيوت بسيطةً في داخلها، وكان رياشها يتألَّف من سُرُرٍ وموائدَ ومقاعدَ وقواريرَ عطور عادية مادةً وشكلًا كما يظهر.

والنظافة هي الترف الأول الذي حاوَلَ المشترعون نشره بين بني إسرائيل، فلاقوا كبير أذى في الوصول إلى ذلك، والنظافة كانت أمرًا ضروريًّا لذلك الشعب الوخيم أكثر مما لأي شعبٍ آخَر؛ وذلك لكيلا تقرضه القروح والجَرَب والقُوباء والجُذام، وآية تراث بني إسرائيل المستقلة عن مواعيد يَهْوَه المشكوك فيها، هي الدم الفاسد الذي من شأنه أن يستر بنو إسرائيل بالأمراض الجلدية على الدوام.

ولاحَظَ مشترعو بني إسرائيل أن لحم الخنزير واللحوم الدامية والحيوانات الهُلامية — اللافقرية — والمَحَار مما يؤدي إلى زيادة الأمراض الجلدية، فحرَّموا عليهم هذه الأغذية لهذا السبب لا ريب، وكان أكل الخنزير مما يمقته يَهْوَه، وكان لا يجوز استعمال لحم المواشي إلا بعد استنزاف كل دم منه.

وكان لا بد من الأوامر الشرعية الصارمة لمنع بني إسرائيل من أكل لحم الكلب والميتة وجميع أنواع الأوساخ.

وكان التطهير والغُسل مما أُمِروا به، وغدا الختان تدبيرًا صحيًّا، ووجب على النساء أن يقمن بالعناية الشديدة في كل حال تقضي الطبيعة عليهن به من الدَّنس المحتوم.

ويحمل كل واحد من هذه التدابير مؤيدًا دينيًّا، فتُعَدُّ مخالفته أمرًا مرهوبًا. وفي سِفْر اللاويين فصول تامة خاصة بوصف الأمراض الجلدية وبوقايات العَزْل الضرورية؛ منعًا لسريانها بالعدوى، فإذا أُصيب المرء ببثرة وجب عليه أن يَمْثُلَ أمام الكهنة ليقرِّروا خطر الإصابة أو عدمه، وكان لا مَعْدِل عن حرق ثياب المرضى والأدوات التي يمسونها.

ولولا مثل هذه الوقايات ما وُفِّق بنو إسرائيل للبقاء.

واليهود، على خلاف معظم الشرقيين، كانوا يخشون الموت؛ لما لا يُبصرون وراءه سوى راحةٍ كئيبةٍ في مكانٍ مظلم، فكانوا يحتفلون بعيد الحياة احتفالَ تمجيدٍ، فيبكون مَن يفقدونهم مُبدِين من الألم المفرط ما وجب منعه.

وكانوا يولولون وينتحبون ويضربون صدورهم ويشقون ثيابهم ويغمرون أنفسهم بالرماد إظهارًا لحدادهم، ولا مبالغة في الألم يوم المأتم كما يظهر، وكان الميت يُنقَل إلى قبر الأسرة المنحوت في الصخر، فيستقبله آباؤه كما جاء في التوراة.

وكانت المظاهر الصاخبة تظهر في الفرح ظهورها في التَّرَح، ومن ذلك أن داود أبدى من السرور، حين جلب إلى أورشليم تابوت يهوه، ما خَلَع معه ثيابه وأتى من الوثوب بما أُوتِي من قوة، صاخبًا صخب الفرح، مسيئًا لزوجته ميكال بنت شاول إساءةً عدَّتْه مجنونًا من أجلها!

وإذا أريد تلخيص مزاج اليهود النفسي في بضع كلمات كما يُستنبَط من أسفارهم، وُجِد أنه ظل على الدوام قريبًا جدًّا من حال أشد الشعوب ابتدائية؛ فقد كان اليهود عُنُدًا مندفعين غُفَّلًا سُذَّاجًا جُفاةً كالوحوش والأطفال، وكانوا مع ذلك عاطلين في كل وقت من الفتون الذي يتجلَّى في سِحْر صِبَا الناس والشعوب، واليهود الهمج إذ وُجِدوا من فورهم مغمورين في سواء الحضارة الآسيوية المسنَّة الناعمة المفسدة، أضحوا ذوي معايب مع بقائهم جاهلين، واليهود أضاعوا خلالَ البادية من غير أن ينالوا شيئًا من النمو الذهني الذي هو تراث القرون.

وإذا أُرِيد وصف المجتمع اليهودي من ناحية النُّظُم، أمكن تلخيصه في كلمتين وهما: نظامٌ رعائيٌّ من طبائع المدن الآسيوية الهَرِمة وذوقها وعيوبها وخرافاتها.

ويُعرِب حِزْقيال عن ذلك الرأي في الفصل السادس عشر، حين يذكر ظهور الشعب اليهودي الحقير وأوائله الهزيلة وما عقب استقراره بفسلطين من الحُمَيَّا، فيقول مخاطِبًا تلك الأمة العاقة قائلًا باسم يَهْوَه:

وفي جميع أرجاسك وفواحشك لم تذكري أيام صِبَاك، وإذ كنتِ لم تشبعي زَنَيْتِ مع بني آشور ولم تشبعي، فلذلك أقضي عليك بما يُقضَى على الفاسقات وسافكات الدماء، وأجعلك قَتِيلَ حَنَقٍ وغَيْرةٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤