الفصل الخامس عشر

الفتح العربي لمصر (سنة ٦٤٠–٦٤٢م)

فتح العرب مصر في القرن السابع الميلادي (الأول للهجرة)، وكان هذا الفتح دورًا من أدوار الوحدة العربية.

ولقد قلنا تفسيرًا لهذه الظاهرة التاريخية: «وإذ كانت الرسالات الروحية من أركان الحضارة البشرية، فإن الشرق العربي هو أيضًا موطن هذه الرسالات.

فإبراهيم الخليل (أبو الأنبياء) قد نشأ عربيًّا في جنوب العراق منذ نحو ألفي سنة قبل الميلاد، ودعا إلى التوحيد، ورحل إلى فلسطين فمصر ثم إلى الحجاز، وبنى الكعبة في مكة مع ابنه إسماعيل.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ.١
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.٢

وفي جبل سيناء كلم الله موسى تكليمًا.

وفي فلسطين نشأ السيد المسيح الذي أصابه من اضطهاد الرومان والإسرائيليين ما أصابه، وعلى يده ظهرت المسيحية السمحة، الداعية إلى الإخاء والسلام لا إلى البغي والعدوان.

وفي ظلال البيت الحرام نشأ محمد ، ونزل عليه الوحي سنة ٦٠٩م، ودعا إلى رسالة الإسلام، رسالة التوحيد والإيمان، فتصدى له قومه وحاربوه، وهاجر إلى المدينة في السنة الأولى للهجرة (٦٢٢م)، وبهجرته يبدأ التاريخ الهجري.

وفي السنة الثامنة للهجرة (٦٣٠م)، سار لفتح مكة بعد أن نقض أهلها عهد الحديبية، فتم له فتحها، وكان لهذا الفتح أثره وفضله في توحيد كلمة العرب.

وقد انتشر الإسلام أول ما انتشر بين سكان الجزيرة العربية، ولما تُوفِّي الرسول (محمد ) في السنة الحادية عشرة من الهجرة (٦٣٢م)، خلفه أبو بكر الصدِّيق أول الخلفاء الراشدين، فوحَّد كلمة العرب في شبه الجزيرة واستخلص هذه الوحدة من أيدي المنتقضين عليها من المرتدِّين، واتجه إلى توحيد كلمة العرب عامة، فأنفذ إلى العراق سنة ١٢ﻫ/٦٣٤م جيشًا عَهد بقيادته إلى قائد من خيرة قواده، وهو خالد بن الوليد، فاستخلص العراق من أيدي الفرس في حرب خاطفة جعلت اسمه في مصافِّ عظماء القواد في التاريخ، وأنفذ جيوشًا أخرى إلى بلاد الشام، وكانت تحت حكم الروم البيزنطيين (الرومان)، وأمر خالد بن الوليد أن يسير إلى الشام ليقود هذه الجيوش، فانتقل من العراق إلى الشام وقاد الجيوش العربية، وهزم الروم البيزنطيين في واقعة «أجنادين» بين بيت المقدس وغزة (سنة ٦٣٤م/١٣ﻫ).

وفي أعقاب هذه الواقعة زحف الجيش البيزنطي على مواقع الجيش العربي، فالتحم الجيشان في واقعة «اليرموك» شرقيَّ نهر الأردن، وانتصر الجيش العربي بقيادة خالد بن الوليد انتصارًا مبينًا (أول سبتمبر سنة ٦٤٣م)، وبهذه المعركة الحاسمة قُضي على دولة البيزنطيين في الشام.

ولما تُوفِّي أبو بكر الصديق قُبيل واقعة «اليرموك»، تولى الخلافة من بعده عمر بن الخطاب، وفي عهده تم فتح العراق على يد قائد عربي محنَّك هو سعد بن أبي وقاص، الذي هزم الفرس في معركة «القادسية» بالعراق.

وكانت معركة القادسية فاصلة لصالح العرب في العراق، كما كانت واقعة اليرموك في الشام.

وأنفذ عمرو بن العاص إلى مصر وكانت تحكم البيزنطيين أيضًا، فاستخلصها من أيدي البيزنطيين سنة ٦٤٠–٦٤٢م، وفتح برقة سنة ٦٤٣م، واستقبلت الشعوب دخول العرب هذه البلاد لا كغزاة فاتحين، بل كمنقذين لهم من اضطهاد الفرس والروم البيزنطيين، وخاصةً لأن هذه الشعوب بحكم موقعها أقرب إلى العرب نسبيًّا وأصولًا وروابط اقتصادية وثقافية وروحية، بل كان معظمهم عربًا من قبل، فلا غرو أن انضموا إلى الوحدة العربية راضين مختارين، وصاروا جزءًا من الدولة العربية، وقد زاد في تعلُّقهم بها ما رأوه من عدل الخلفاء الراشدين وولاتهم ومساواتهم بين الناس ورفقهم بالأهلين.»٣

(١) ماذا كانت عليه حال مصر قبل الفتح العربي

لكي نتفهم كُنْه الفتح العربي، يحسُن بنا أن نتعرف حالة مصر قبل هذا الفتح، فإنها ولا شك تطالعنا بحقيقته وغايته، وأنه كان إنقاذًا لها من الاضطهاد الديني وفساد الحكم الروماني.

فالرومان كانوا يعتبرون مصر مستعمرة لهم يستغلون خيراتها ويغتصبون أموالها، وكان نوابهم فيها يعاملون الأهلين معاملة جائرة لا عدل فيها ولا إنصاف، وحكام البلاد من رواد الاستعمار يرهقون الأهليين بالضرائب الفادحة لكي يملئوا خزائن الأباطرة الرومان ويُشبعوا أهواءهم، والاضطهاد الديني الذي يعصف بحرية العقيدة ويزيد النفوس سخطًا ومرارة، فنواب الرومان يعملون على إجبار الأهليين على اعتناق المذهب الرسمي المسيحي للدولة، ولا يقبلون منهم أن يمارسوا عقيدتهم في حرية واختيار، وكان من آثار هذا الاضطهاد أن حورب الأسقف «بنيامين» بطريق الإسكندرية؛ لأنه رفض الإذعان لهذا الاضطهاد، واضطره قيرس (المقوقس نائب هرقل) كما سلف القول، إلى الهجرة من الإسكندرية والاختفاء بأديرة الصعيد عدة سنوات، ولم يظهر إلا بعد الفتح العربي الذي أطلق الحرية الدينية من عقالها.

يقول دييهل Diehl في كتاب «مصر المسيحية والبيزنطية» يصف هذه الحالة:٤
«في أوائل القرن السادس للميلاد كانت الحالة في مصر خطيرة، ففداحة الضرائب التي فرضها الرومان قد أفقرت البلاد، وأوجدت سخطًا شديدًا بين الأهلين، واقترنت الأزمة الاقتصادية بأزمة اجتماعية، وكانت الرشوة وفساد الحكام تزيد من هذا السخط، وقد سعى الإمبراطور جوستينيان Justinien في القسطنطينية لإصلاح هذه الحال، ودمغ الإدارة في مصر بالفساد.»

وقال عن الحالة فيها: «إن الفوضى قد تفاقمت لدرجة أنه لم يكن معروفًا في القسطنطينية ما يجري هناك، وقد انتشر الفقر في مصر وازداد السخط على الحكم البيزنطي، فصارت البلاد في حالة انتقاض على هذا الحكم تشبه الثورة.»

وفي أواخر عهد الحكم البيزنطي كانت الضرائب الباهظة تُرهق الشعب، وكانت الطبقات الفقيرة من الفلاحين تسام الخسف من هذه المعاملة، وموظفو الحكومة يظلمونهم ويتساهلون مع الأغنياء.

وفي هذا الصدد يقول «ألفريد بتْلر» Alfred Butler في كتابه «الفتح العربي لمصر»: «وفي الحق لم يكن في بلاد الدولة الرومانية ما هو أشقى حالًا من مصر؛ فقد سعى «جستنيان» جهده ليُجبر الأقباط الذين ليسوا على مذهب الدولة «الأرثذكسي» فيُدخلهم في ذلك المذهب، ولكن امرأته (تيودورا) عملت من جانبها فأفسدت بعض سعيه؛ إذ كانت تعطف على مذهب هؤلاء الأقباط عطفًا ظاهرًا، على أن ذلك العطف ما عتَّم أن قضى عليه الإمبراطور جستنيان وعفى أثره، ومن ثم عاد الكفاح الشديد الذي ثار قديمًا بين طائفتي «الملكانيين»٥ والمونوفيسيين (اليعاقبة وهم عامة أهل مصر) وصار أشدَّ سعيرًا، ولم يكن عند أقباط مصر هم أكبر منه يملأ قلوبهم ويملك عليهم آمالهم، فلم يكن عجبًا أن يُسمع صليل السلاح بين حين وآخر في مدينة الإسكندرية نفسها (العاصمة)، ولم يكن عجبًا أن تضطرب الأحوال في مصر السُّفلى فتصبح ميدانًا للشَّغَب، تثور بها فتن بين الطوائف توشك أن تكون حربًا أهلية، ولم يكن عجبًا أن يكون هذا في بلاد أصبح الحكام فيها لا همَّ لهم إلا أن يجمعوا المال لخزائن الملك البيزنطي وحاشِيَته، وأن تكون لمذهبهم الديني اليد العليا بين أهل البلاد، فصار الحكم على أيديهم أداة لا تؤدي إلا إلى الظلم ونشر الشقاء، فالحق هو أن بلاد مصر إذ ذاك كانت جميعها تضطرم بنار الثورة ورغبة الخروج، لا يحجبها إلا غطاء شفاف من الرماد.»٦

وقال بتلر في موضع آخر:

«أرسل الإمبراطور هرقل إلى نيقتاس يثبته في حكم الإسكندرية، وإن شئت قلت إنه جعله نائبًا عن الملك في مصر، فكان هم «نيقتاس» أن يعيد للحكم المدني الروماني نظامه، وأن يعيد للجيش الروماني كيانه، وكان هذان أداتي الدولة الرومانية تحتفظ بها بملك مصر، وكان الحكم المدني والجيش كلاهما في يد السادة الحاكمين، ليس فيهما أحد من أقباط مصر أهل البلاد.»٧
وقال أيضًا: «إن حكومة مصر في عهد الرومان لم يكن لها إلا غرض واحد، وهو أن تبتز الأموال من الرعية لتكون غنيمة للحاكمين، ولم يساورها أن تجعل قصد الحكم توفير الرفاهية للرعية وترقية حالة الناس والعلم بهم في الحياة، أو تهذيب نفوسهم، أو إصلاح أرزاقهم، فكان الحكم على ذلك حكم الغرباء لا يعتمد إلا على القوة، ولا يحس بشيء من العطف على الشعب المحكوم.»٨
وكان في يد الحكام عاصمة البلاد الإغريقية «الإسكندرية»، كما كان في يدهم العاصمة المصرية القديمة «منف»، وحصنها العظيم «حصن بابلون» الروماني على الشاطئ الشرقي من النيل، وكذلك كانوا يملكون مدائن عدة حصينة يلي بعضها بعضًا بين أسوان في الجنوب والفرما في الشمال، وكان جند الحكومة وجُباة ضرائبها ينتشرون بين تلك المدائن يُظهرون هيبة السلطان ويجمعون الأموال، على حين كان تجار الروم واليهود يحلون حيث شاءوا تحميهم جنود الربط ينافسون الأقباط في التجارة منافسة شديدة.٩

فالحالة في مصر كانت تمهيدًا للفتح العربي وتفسيرًا له.

(٢) المقوقس

وقد عيَّن هرقل سنة ٦٣١م الأسقف قيرس (المقوقس)، وهو روماني من أصل يوناني نائبًا عنه في مصر، وبطرقًا ملكيًّا للإسكندرية عاصمة البلاد وقتئذٍ.

وجاء المقوقس الإسكندرية في تلك السنة، واضطهد الأقباط لإجبارهم على اتباع مذهب الحكومة الديني، وكان من مظاهر هذا الاضطهاد هجرة البطرق بنيامين من الإسكندرية قبل فتح العرب لمصر بسنين، كما سلف القول.

يقول ألفريد في هذا الصدد:

«لا يُذكر في ذلك العصر كله في أثناء الاضطهاد إلا شيء واحد، وهو أن الرومان كانوا يُخيرون الناس بين قبول مذهب خلقيدونية بنصه وبين الجلد أو الموت، ولم يكن في عقول مؤرخي الأقباط إلا هذا الاعتقاد يدونونه في دواوينهم، فيلوح من ذلك أن قيرس أحس بإخفاقه في سعيه من مبدأ الأمر، وكان يود أن يحمل الأقباط على المذهب الذي تقرر مهما تكلف في سبيل ذلك، فلم يعبأ بعد بما أدخله الإمبراطور على هذا المذهب من التهذيب، بل كان يُعرض على الناس أحد أمرين لا تعقيد فيهما، وهما قبول الدخول في الجماعة أو الاضطهاد.

وكانت البلاد كلها عند ذلك تحت يد قيرس (المقوقس) يصرِّفها كيف شاء، وكان جيش الرومان مرة أخرى يملك مصر، فكانت طرق الإسكندرية البراقة تتجاوب جوانبها بأصداء الكتائب البيزنطية إذ تسير فيها، وعادت جنود الروم إلى الأسوار العظيمة أسوار المدينة وآطامها ووضعت عليها آلات حربها، وبعثت المسالح إلى مدينة الفرما (بيلوز)، وهي ثغر الطريق الآتية من فلسطين إلى مصر، وإلى بلاد مصر السفلى مثل أثريب ونقيوس، وكذلك إلى الحصن العظيم حصن «بابلون» بقرب منف، ومن ثم عاد سلطان الروم فانتشر على بلاد الفيوم ووادي النيل، حتى بلغ الحدود من الجنوب عند أسوان في أسفل الجنادل، وكانت كل تلك الجنود والكتائب عند أمر «قيرس» ماثلة لإنفاذ أمره إذا ما دعاها، ولم يتحرك الأقباط بطبيعة الحال عندما عاد جند الروم إلى البلاد، ولكنهم وجدوا بعد قليل أن حكم الفرس إن لم يكن مما يُحب ويُرغب فيه فإن حكم الروم الجديد لم يكن حدثًا يحمدونه ويفرحون من أجله، فقد وجدوا فيه أنواع العقاب وصنوف العذاب، فكأنهم وقد خرجوا من حكم الفرس إلى حكم الروم، قد رُفع عنهم التعذيب بالسياط ليحل بهم تعذيب آخر من لسع العقارب؛ إذ بينما كان غزاة الفرس بعد أن استقر بهم الأمر في البلاد لا يحُولون على الأقل بين الأقباط وبين التدين بما يشاءون من الدين، جاء قيرس (المقوقس) فعوَّل على أن يحرمهم تلك الميزة الكبرى وينزعها من أيديهم.»

(٣) الاضطهاد الأعظم

وابتدأ الاضطهاد الأعظم عند ذلك، ويتفق المؤرخون جميعًا على أنه بقي مدة عشر سنوات، أي إنه بقي كل مدة ولاية قيرس رياسة الدين، فإن أكبر الظن أن مجمع الإسكندرية كان في شهر أكتوبر من سنة ٦٣١م، وقد بدأ عهد الاضطهاد بعد ذلك بشهر واحد أو بشهرين، ولا يشك أحد في فظاعة ذلك الاضطهاد وشناعته، فقد جاء في كتاب «ساويرس»: «لقد كانت هذه السنين هي المدة التي حكم فيها هرقل والمقوقس بلاد مصر، وقد فُتن في أثنائها كثير من الناس؛ لما نالهم من عسف الاضطهاد والظلم، ومن شدة العذاب الذي كان يوقعه هرقل بهم لكي يحولهم على رغمهم عن مذهبهم إلى مذهب «خلقيدونية»، فكان يعذب بعضهم ويعد البعض أحسن الجزاء، ويمكر بالبعض ويخدعهم، وقد جاء في ترجمة حياة البطريق القبطي «إسحق»، وكانت كتابتها سنة ٦٩٥م، أنه في شبابه لقي قسًّا اسمه يوسف كان ممن شهروا بين يدي «قيرس» وجُلد جلدًا كثيرًا؛ لأنه شهد شهادة الحق، وكذلك كان أخو «بنيامين» ممن عُذبوا ثم قُتل غرقًا، وكان تعذيبه بأن أُوقدت المشاعل وسُلطت نارها على جسمه، فأخذ يحترق «حتى سال دهنه من جانبيه إلى الأرض» ولكنه لم يتزعزع عن إيمانه فخُلعت أسنانه، ثم وُضع في كيس مملوء من الرمل وحُمل في البحر حتى صار على قيد سبع غلوات من الشاطئ، ثم عرضوا عليه الحياة إذا هو آمن بما أقره مجلس «خلقيدونية»، فعلوا ذلك ثلاثًا وهو يرفض في كل مدة، فرموا به في البحر فمات غرقًا.»١٠

(٤) التفكير في فتح مصر

كان التفكير في الفتح العربي لمصر أثناء الفتح العربي في فلسطين.

فحين كانت «بيت المقدس» على وشك التسليم للعرب، طلب أهلها بلسان البطريق «صقرانيوس» أن يصالحهم عمر بن الخطاب على ما صالح عليه دمشق، والمدن الأخرى التي تم للعرب فتحها، وأن يأتي الخليفة بنفسه ليكتب لهم عهد الصلح، فرضي عمر بن الخطاب بهذا الشرط تقديرًا لمكانة بيت المقدس، وكتب إلى قواد جديد أن يوافوه بالجابية.١١

وهناك في السنة ١٧ هجرية (٦٣٩ ميلادية)، جاءه وفد من أهل بيت المقدس فصالحهم وأمَّنهم.

ثم ذهب إلى بيت المقدس فاستقبله أهل المدينة المقدسة بالبِشر والارتياح، وصلى في مكان قريب من الصخرة المقدسة، وهو المكان الذي أقيم فيه المسجد الأقصى فيما بعد.

وفي «الجابية» عرض عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب فكرة فتح مصر، وكان من قبل يعرضها عليه، فتردد عمر في قبول الفكرة؛ إذ خشي عواقب تشتيت قوة العرب في حين كانت جيوشهم تقاتل الرومان والفرس.

فلم يزل عمرو بن العاص يحسِّن إليه فتح مصر حتى اقتنع بالفكرة، على أنه استمهله حتى يعود إلى المدينة ويكتب إليه.

(٥) عمرو بن العاص

كان عمرو بن العاص من خيرة قواد العرب، ومن أكثرهم خبرة وحكمة ومقدرة في الحرب والسياسة. كان راجح العقل، نافذ البصيرة، بعيد الهمة، ومن أشجع العرب وأبعدهم نظرًا، ومن أبلغهم عبارة وأفصحهم لسانًا، وكان أحد قواد الفتح العربي في سورية وفلسطين.

وقد مارس التجارة في صباه، فساعدته هذه المهنة على الاتصال بمختلف الأجناس والشعوب، وكان لها أثرها في اتساع أفقه وازدياد خبرته بالشئون السياسية والاجتماعية.

ومن البلاد التي زارها من قبل التجارة الشام ومصر والحبشة واليمن، وزار الإسكندرية حين مجيئه إلى مصر.

ولعله قد شاهد وهو في مصر مبلغ ظلم الرومان للمصريين، واضطهادهم في عقائدهم الدينية، وإكراههم على اتباع مذهب الحكومة الرسمي (الملكاني)، وعرف سخط المصريين على هذا الظلم، وما يؤدي إليه من ضعف مقاومة الرومان لما يجيء فاتحًا لمصر، منقذًا لها من ظلم الرومان.

عهد عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص قيادة الجيش لفتح مصر، وكان في الخامسة والأربعين من عمره.

ولم يكن هذا الجيش يزيد في بداية الأمر على أربعة آلاف مقاتل من الفرسان.

فسار عمرو بهذا الجيش في جوف الليل من فلسطين قاصدًا مصر، ولم يشعر به أحد.

(٦) تردد عمر بن الخطاب

على أن عمر بن الخطاب قد تردَّد بعد عودته إلى المدينة؛ إذ كان جماعة من ذوي الرأي والمكانة، وفي مقدمتهم عثمان بن عفان، يرون غزو مصر مخاطرة لا تُؤمن عواقبها.

فبعث عمر من المدينة كتابًا إلى عمرو بن العاص يقول فيه: «فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئًا من أرضها فانصرف، وإن كنت دخلت قبل أن يأتيك كتابي فامضِ لوجهك واستعن بالله واستنصره.»١٢

ودفع بالكتاب إلى رسوله يحمله إلى عمرو بن العاص.

أدرك عمرو الكتاب وهو بعد في «رفح» التي لم تكن وقتئذٍ معدودة من أرض مصر، فخشي إن هو أخذ الكتاب وفتحه أن يجد فيه الانصراف، كما عهد إليه عمر.

فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه وسار في طريقه، حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش.

فسأل عنها، فقيل له: إنها من مصر.

فدعا بالكتاب وقرأه، وقال لمن معه: ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى. قال: فإن أمير المؤمنين عهد إليَّ وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله وعونه.

(٧) وقائع الفتح العربي

استولى عمرو بن العاص على رفح في طريقِه إلى مصر.

(٧-١) فتح العريش دون قتال (١٢ ديسمبر سنة ٦٣٩م)

ثم بلغ العريش، ولم يكن بها قوة من الرومان للدفاع عنها، ففتحها دون عَناء، وكان ذلك في ١٢ ديسمبر سنة ٦٣٩م/١٠ ذي الحجة سنة ١٨ﻫ، يوم عيد الأضحى.

(٧-٢) فتح الفرما (بيلوز) (٢ يناير سنة ٦٤٠م)

وبلغ الفرما (بيلوز)١٣ في يناير سنة ٦٤٠م، وكانت بلدة محصنة، وفيها قوة من الرومان دافعت عنها، فهزمها العرب وفتحوا البلدة بعد أن حاصروها نحو شهر، وكان استيلاؤهم عليها في أول المحرم سنة ١٩ﻫ/٢ يناير سنة ٦٤٠م.١٤

(٧-٣) واقعة بلبيس (سنة ٦٤٠م)

واستمر العرب في زحفهم «لا يدافعون إلا بالأمر الخفيف» كتعبير ابن عبد الحكم،١٥ حتى بلغوا بلبيس، وكانت بها حامية كبيرة من الرومان يقودهم أريطيون Ariteon،١٦ فقاوموا العرب مقاومة شديدة، وظلت ممتنعةً نحو شهر، وحدثَتْ فيها واقعة كان النصر فيها حليف العرب وهُزم فيها الرومان، وكان ذلك سنة ٦٤٠م/١٩ﻫ.
fig52
شكل ١٥-١: خريطة الفتح العربي لمصر (سنة ٦٤٠–٦٤٢م).

(٧-٤) معركة أم دنين

ثم هبطوا قرية أم دنين على شاطئ النيل،١٧ وكانت بلدة محصنة وتقع في الشمال من حصن بابلون، وهو الحصن المنيع للرومان، ويجاورها مرفأ على النيل فيه سفن كثيرة.

فقاوم الرومان العرب في أم دنين قدرَ ما استطاعوا، ولكن العرب هزموهم واستولوا على أم دنين بعد مقتلةٍ كبيرة.

وتراجع الرومان إلى حصن بابلون يمتنعون به، وكان موقعه شرقي النيل وتصل إليه السفن.

وأدرك عمرو بن العاص من مقاومة الرومان في أم دنين أن فتح حصن بابلون ليس أمرًا يسيرًا، ولا يكفيه الجيش الذي تحت قيادته، فأرسل إلى عمر بن الخطاب يستعجل المدد،١٨ قبل فتح أم دنين.

(٧-٥) فتح الفيوم

وفي انتظار المدد، أرسل يفتح بعض قرى إقليم الفيوم (مايو سنة ٦٤٠م).

ولما تم لعمرو بن العاص فتح هذه القرى عمد إلى حصار حصن بابلون، فرآه ممتنعًا عليه لكثرة تحصيناته وعلو أسواره ووفرة من فيه من جنود الرومان.

(٧-٦) وصول المدد إلى العرب

وفي شهر يونيو سنة ٦٤٠م، وصل أول مدد أرسله عمر بن الخطاب، وعدته أربعة آلاف مقاتل.

ولما أبطأ فتح حصن بابلون كتب إلى عمر يستمدُّه، فأمده بأربعة آلاف آخرين وكتب إليه عمر بن الخطاب يقول: «إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل مقام الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد.»١٩

فصار عدة جيش العرب اثني عشر ألفًا، وقال له عمر في كتابه: «اعلم أن معك اثني عشر ألفًا، ولن تُغلب اثنا عشر ألفًا من قلَّة.»

وكان الزبير بن العوام هو الأمير على هذا المدد، وهو ابن عمة الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وأحد رجال الشورى الستة.

(٧-٧) واقعة عين شمس (يوليو سنة ٦٤٠م)

بعد أن تلقَّى عمرو بن العاص المدد، اتخذ عين شمس وقتًا ما مركزًا لقيادته، وشرع يستعد لمعركة عين شمس، وكان جيش الرومان بقيادة تيودور القائد العام.

فعول تيودور على أن يسير بعشرين ألفًا من جنوده؛ ليزحزح بهم جند العرب عن عين شمس.

فارتاح عمرو لهذه الحركة؛ إذ رأى فيها فرصة سانحة ليشتبك بالرومان في العراء، بخلاف ما إذا كانوا ممتنعين في حصن بابلون.

فزحف تيودور على عين شمس، فوضع عمرو كمينًا في موضع خفي من الجبل الأحمر (شرقي العباسية الآن)، وآخر على النيل قريبًا من أم دنين، ولاقى تيودور بالفريق الأكبر من الجيش، ونشب القتال (يوليو سنة ٦٤٠م)، في منتصف المسافة بين الجيشين تقريبًا (في حي العباسية الآن)، وأيقن الفريقان أن على النجاح في هذا الميدان يتوقف مصير مصر.

فحمى وطيس القتال، ولما بلغ أشده خرجت قوة من العرب من الجبل، وانقضَّت كالصاعقة على الرومان، فاختل نظامهم وتراجعوا إلى الغرب نحو أم دنين، فقابلتهم قوة أخرى من العرب، وأصبحوا بذلك محصورين بين جيوش العرب الثلاثة التي سحقتهم سحقًا، فلم يبقَ منهم سوى جزء يسير سار بعضهم إلى النيل، وذهب البعض الآخر إلى حصن بابلون.

(٧-٨) حصار حصن بابلون واقتحامه (سنة ٦٤٠-٦٤١م)

كان هذا الحصن قديمًا، بناه الفرس بعد غزو مصر وسمَّوه باسم عاصمة دولتهم (بابلون)، ثم جدَّده «تراجان» إمبراطور الرومان، فأقام أسواره الضخمة وزاد في بنائه.

وموقعه شرقي النيل (بمصر القديمة، قصر الشمع الآن)، وكان من أمنع حصون الرومان، وفيه جيش قوي منهم.

fig53
شكل ١٥-٢: حصن بابلون. الذي حاصره العرب سبعة أشهر، وفتحوه في أبريل سنة ٦٤١م.
بدأ عمرو بن العاص في حصار حصن بابلون منذ سبتمبر سنة ٦٤٠م، في زمن فيضان النيل وأخذ يضيِّق عليه الخناق، وكان قيرس (المقوقس) نائب هرقل بداخل الحصن مع الحامية الرومانية، وقائد الحصن يسميه مؤرخو العرب «الأعيرج»،٢٠ ولعله تحريف عن اسم «جورج»، وعدد الحامية الرومانية من خمسة آلاف إلى ستة آلاف مقاتل، ولديه معدات القتال متوافرة.
وكان تيودور Theodore القائد العام للرومان داخل الحصن أيضًا، يتولى القيادة العليا للدفاع عنه.

(٧-٩) المفاوضات بين عمرو بن العاص والمقوقس

كان قيرس (المقوقس) برغم أنه من الرومان، يميل إلى الصلح مع العرب؛ لشعوره بضعف مركز قومه (الرومان)، وما رآه من توالي هزائمهم أمام العرب في الشام وفلسطين، فخرج ليلة من الحصن وذهب إلى جزيرة الروضة.

وأرسل إلى عمرو وفدًا برئاسة أسقف بابلون؛ لمقابلته واستطلاع رأيه في الصلح.

فقابل الرسل عمرًا وقالوا له: «إنكم قوم قد ولجتم بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عصبة يسيرة، وقد أظلتكم الروم (الرومان) وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا. فابعثوا إلينا رجالًا منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال، قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفًا لطلبتكم ورجائكم.»٢١

فلم يبعث عمرو بجواب ما أتوا به، وحبس الرسل عنده يومين حتى يروا حال العرب؛ إذ أبيح لهم أن يسيروا في المعسكر العربي ويروا ما فيه.

ثم بعث عمرو برده مع الرسل وقال فيه: «ليس بيني وبينكم إلا إحدى خصال ثلاث: إما إن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا، وكان لكم مالنا وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما إن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.»٢٢
ففرح المقوقس (قيرس) لعودة الرسل سالمين، وسألهم عما شاهدوه في العرب فقالوا: «رأينا قومًا الموتُ أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم.»٢٣

وقد رأى قيرس (المقوقس) خطورة الموقف إذا استؤنف القتال، فإن العرب وهذه حالهم من الإيمان والشجاعة لا سبيل إلى ردهم عن قصدهم.

فمالت نفسه إلى الصلح، ورأى العرب تحصرهم حينذاك مياه النيل قبل أن يهبط الفيضان، ثم إذا هبط يتحسن موقفهم ويستطيعون السير أينما شاءوا.

فأرسل إلى عمرو أن يبعث إليه جماعة من ذوي الرأي؛ ليتفاوض معهم على ما عساه أن يكون صلحًا.

فبعث عمرو بعشرة رجال أحدهم «عبادة بن الصامت»، وكان أسود شديد السواد، وأمره أن يكون المتكلم في الوفد، وألَّا يجيب الرومان إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث.

فركب العرب السفن إلى جزيرة الروضة، فلما دخل عبادة بن الصامت على قيرس (المقوقس) هابه لسواده وفرط طوله، وقال: «نحُّوا عني هذا الأسود وقدِّموا غيره يكلمني.»

فقال العرب جميعًا: «إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيِّدنا وخيرنا والمقدَّم علينا، وإنما نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمَّره الأمير وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله.»

فدهش المقوقس من هذا الجواب؛ لأن الرومان قد اعتادوا على التفرقة العنصرية، ودهش من أن العرب لا يفرِّقون بين الأسود والأبيض.

فتكلم عبادة وقال: «إن فيمن خلفت من أصحاب ألفَ رجل أسود كلهم أشدُّ سوادًا مني، وإني بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا طلبٍ للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلةٌ يأكلها يسدُّ بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، وإنما النعيم والرخاء في الآخرة.»

فقال المقوقس لعبادة بن الصامت: «أيها الرجل الصالح، قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولَعَمْرِي ما بلغتم ما بلغتم إلا بما ذكرت، وما ظهرتم على مَن ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة، ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوةَ لكم به.»٢٤
فقال عبادة: «يا هذا لا تغرنَّ نفسك ولا أصحابك؛ أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنَّا لا نقوى عليهم، فلعمري ما هذا بالذي تخوفنا به ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، وإن كان ما قلتم حقًّا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالكم وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا أقدمنا عليه إن قُتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقرَّ لأعيننا ولا أحبَّ لنا من ذلك، وإنا منكم حينئذٍ لعلى إحدى الحسنيين: إما أن تعظم لنا غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.٢٥ وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحًا ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحدنا هَمٌّ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده، وإنما همنا ما أمامنا؛ فانظر الذي تريده فبيِّنه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال، فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل. بذلك أمرني الأمير وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله من قبل إلينا.»

فلما وصل الحوار إلى هذا الحد، أراد قيرس (المقوقس) أن يستنزل عبادة بن الصامت عن شيء، أو يجعله يقبل شيئًا مما عرضه عليه، فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء لما يقول، وقال عبادة يرد عليه بعد أن نفِد صبره، ورفع يديه إلى السماء: «لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.»

(٧-١٠) الهدنة

فاجتمع المقوقس بأصحابه فاختلفوا رأيًا، وكان رأي المقوقس الإذعان وقبول الجزية، وكان الجند يرون المقاومة، وعلى رأسهم جورج (الأعيرج).

ثم طلب الرومان أن يهادنهم العرب شهرًا ليردوا فيه رأيهم، فأجابهم عمرو جوابًا قاطعًا؛ إذ قال لهم إنه لن يمهلهم أكثر من ثلاثة أيام.

(٧-١١) استئناف القتال

فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ الرومان في الحصن يستعدون للحرب، وخرجوا إلى العرب فوق أسوار الحصن، فأخذوا جند العرب على غِرَّة، غير أن العرب قابلوا الحرب بالحرب، ووقع قتال شديد بين الرومان والعرب، ارتدَّ الرومان على أثره إلى الحصن.

فعاود المقوقس الحديث عن الصلح، ورأى أن يعيد الاتصال بعمرو بن العاص في شأنه، فعرض عليه أن يختار الجزية، على أن يبعث المقوقس برأيه إلى الإمبراطور هرقل بالقسطنطينية (استانبول)، وأن يبقى الجنود من الطرفين في مواقعهم حتى يرِد الرد من هرقل.

وكانت هذه هدنة قد يطول أمدها.

فسار المقوقس بطريق النيل إلى الإسكندرية، ومن هناك بعث برأيه إلى هرقل.

فرفض هرقل الصلح وأرسل يستدعي المقوقس، ولعل ذلك كان في منتصف نوفمبر سنة ٦٤٠م.

سار المقوقس إلى القسطنطينية (استانبول)، وأصر على رأيه في وجوب الصلح مع العرب، فغضب عليه هرقل، ونفاه من مصر طريدًا.

وجاء الرد إلى مصر قرب نهاية سنة ٦٤٠م، وانتهت الهدنة، وعاد القتال بين العرب والرومان، وهبطت مياه الفيضان وغاض الماء الذي كان يملأ الخندق المحيط بالحصن، فضعف مركز الرومان واستمرَّ القتال بينهم وبين العرب.

(٧-١٢) وفاة هرقل (فبراير سنة ٦٤١م)

وكان حُماة الحصن ينتظرون أن يصلهم المدد من القسطنطينية، فلم يجدوا أثرًا له.

ورأوا أن القدر قد خيَّبَ آمالهم؛ إذ بلغهم أثناء الحصار نبأ وفاة هرقل إمبراطور الرومان، فخارت لذلك نفوسهم.

وكان وفاة هرقل في فبراير سنة ٦٤١م/٢٠ﻫ؛ أي قبل فتح حصن بابلون بشهرين.

(٧-١٣) فتح الحصن عنوة (أبريل سنة ٦٤١م)

وبقي الحصن بعد ذلك شهرًا لا يسلِّم، فلما أبطأ الفتح، تقدَّم الزبير بن العوام ووهب الله نفسه، واعتزم أن يقتحم الحصن اقتحامًا.

فجاء إلى الحصن تحت جنح الليل ومعه جماعة من خيرة رجاله الفدائيين، وكان الخندق قد جف ماؤه وطُمَّ جزء منه، فاتفق معهم على أنه سيضع سُلَّمًا على السور ويصعد عليه إلى أعلى الحصن، وواعدهم أن يتبعوه إذا سمعوا تكبيره.

ولما وصل البطل العربي إلى أعلى السور، أخذ يكبِّر وسيفُه في يده.

وتحامل الرومان عليه من داخل الحصن، غير أن السهام أمطرتهم من العرب من الخارج.

واستطاع أصحاب الزبير أن يصلوا فوق السُّلَّم إلى الحصن ويطئوا أسواره بأقدامهم، وتحامل الناس على السُّلَّم، فنهاهم عمرو بن العاص خوفًا من أن ينكسر.٢٦

فعندئذٍ أدرك المقوقس أن العرب قد اقتحموا الحصن، ولم يعُد من سبيل إلى ردِّهم عنه، فعرض على عمرو أن يسلِّم الحصن على أن يُؤمِّن مَن كانوا به من الجند على أنفسهم.

فقبِل عمرو هذا العرض على أن يخرج الرومان من الحصن في ثلاثة أيام، ويتركوا ما به من الذخائر وآلات الحرب.

واستولى العرب على الحصن وما فيه، في أبريل سنة ٦٤١م/ربيع الثاني سنة ٢٠ﻫ.

فكأنه استمرَّ يقاوم الحصار سبعة أشهر.

فتح سقوط حصن بابلون أمام العرب طريق الإسكندرية، وطريق الوجه القبلي.

فبدءوا بالزحف على الإسكندرية عاصمة البلاد وقتئذٍ، وسار عمرو بجيشه على الشاطئ الغربي للنيل.

(٧-١٤) في طريق الزحف على الإسكندرية

كانت أول مدينة فتحها العرب في زحفهم على الإسكندرية هي ترنوط٢٧ بالشاطئ الغربي للنيل، وأول ما التقوا بالرومان فيها فهزمهم العرب.
ثم استأنفوا السير إلى نقيوس٢٨ وكانت حصنًا منيعًا، ففتحوها (مايو سنة ٦٤١م).

ثم عاد عمرو إلى الشاطئ الغربي للنيل، وتابع الزحف إلى الإسكندرية.

وقاومهم الرومان في كوم شريك فهزمهم العرب، وقاوموهم أيضًا في «سلطيس» جنوبي دمنهور فهزموهم.

ثم صمد لهم تيودور في الكربون، وكانت آخر سلسلة من الحصون التي بين بابلون والإسكندرية، وجرت بها موقعة كبيرة ارتد عن أثرها الرومان إلى الإسكندرية.

وبعد الاستيلاء على الكربون انفتح الطريق إلى الإسكندرية.

(٧-١٥) حصار الإسكندرية وفتحها (٦٤١-٦٤٢م)

بلغ العرب الإسكندرية وكانت قوة الرومان فيها أكبر من قوتهم في حصن بابلون.

هذا إلى ما كانت عليه الإسكندرية من المنعة، وأسوارها من الضخامة، وحصونها وأبراجها من القوة.

وكان يساعدهم فيها أن عددهم كان وفيرًا، وكانوا على اتصال بالبحر، بخلاف ما كان عليه حماة حصن بابلون.

وكان بها من الجند نحو خمسين ألفًا٢٩ يقودهم الجنرال تيودور القائد العام.

بدأ حصار الإسكندرية في يونيو سنة ٦٤١م، وأخذ عمرو حين قدم الإسكندرية يحمل على أسوارها، فلم ينل منها منالًا.

ورمت مجانيق الرومان من فوق الأسوار على جنده بوابل من الحجارة الضخمة، فارتدُّوا مُبتَعدين عن مدى رميِها وانتظروا حتى يخرج إليهم الرومان من خلف الأسوار، فلم يخرجوا.

ولم يكن الحصار محكمًا على الإسكندرية كما كان الشأن في حصن بابلون، فإن البحر كان يمدها بالحرية والمئونة.

ولم يكن للعرب سفن تهاجم الإسكندرية من جهة البحر.

واستمر حصار الإسكندرية أربعة عشر شهرًا.

وفي سبتمبر سنة ٦٤١م عاد المقوقس إلى الإسكندرية، وكان الأمر بنفيه من مصر صار كأن لم يكن بعد وفاة هرقل.

واستمسك برأيه السابق في أنَّ الخير في مُصالحة العرَب.

(أ) تسليم الإسكندرية (نوفمبر سنة ٦٤١م)

وفي نوفمبر سنة ٦٤١م، عُقد الصلح بين عمرو والمقوقس على تسليم المدينة، ومن شروطه عقد هدنة نحو أحد عشر شهرًا، تنتهي في شهر سبتمبر سنة ٦٤٢م، وأن يبقى العرب في مواقعهم مدة هذه الهدنة ولا يسعوا أي سعي لقتال الإسكندرية، وأن يكفَّ الرومان عن القتال، وأن يجلو الجنود الرومان عن الإسكندرية بأسلحتهم ومتاعهم وأموالهم؛٣٠ وكان جلاء آخر فوج منهم في سبتمبر سنة ٦٤٢م.

وبفتح الإسكندرية وجلاء الرومان عنها دانت البلاد للفتح العربي، وأذعن الصعيد للعرب دون قتال.

(٧-١٦) فتح بعض المدن والقرى

منذ واقعة عين شمس وجَّه عمرو بن العاص كتائب من الجند لفتح البلاد المجاورة، ففتحت أثريب (بنها) ومنوف.

وفي أثناء الزحف على الإسكندرية، وحصارها فُصلت كتائب أخرى، وسارت إلى سخا وفتحتها.

ووجَّه عمرو بن العاص كتائب أخرى إلى إخنا وبلهيب والبرلس ودمياط وتانيس (صان الحجر) وتونه ودميره وشطا ودقهلة وبنا وبوصير، فأخضعوها ولم تحدث مقاومات في معظم هذه البلاد إلا من الحاميات الرومانية.

وكان على دمياط أمير اسمه «الهاموك»، يقال إنه من أخوال المقوقس، استعد لقتال العرب، فلما جاءه المقداد بن الأسود قاتله وقتل ابنه، فانهزم وعاد إلى دمياط، واستشار قومه فنصحه رجل حكيم بمصالحة العرب، فلم يأخذ بنصيحته.

وسُميت بلدة شطا باسم شطا بن الهاموك (وهو ابن آخر للهاموك)، انضم إلى العرب وعاونهم وقُتل شهيدًا في معركة دارت لفتح تانيس.

واستمرت المقاومة في المنزلة إلى ما بعد فتح الإسكندرية.

(٧-١٧) فتح برقة (سنة ٦٤٣م)

بعد أن استقر مركز عمرو بن العاص في الإسكندرية وجلا الرومان عنها، زحف على برقة سنة ٦٤٣م/٢٢ﻫ وكانت من بلاد الدولة الرومانية، وكانت تُسمَّى بنطابوليس Pentapolis ومن مدنها الشهيرة «بني غازي»، وصالح أهلها على الجزية.

وفتح طرابلس في ذات السنة، ثم استأذن الخليفة عمر بن الخطاب أن يستمر في زحفه غربًا.

فنهاه عن ذلك، وأمره بالوقف عند هذا الحد.

(٨) محاولة الرومان استرداد الإسكندرية وفشلهم (سنة ٦٤٥م)

عاودت الرومان المطامع في استرداد الإسكندرية؛ إذ قد نمى إلى قسطانز إمبراطور الرومان أن قوة العرب قد تضعضعت فيها.

فأنفذ عمارة بحرية كبيرة قصدت الإسكندرية، وكانت سيادة البحر لا تزال ملكًا للرومان.

فنزلت الحملة إلى الإسكندرية سنة ٦٤٥م/٢٥ﻫ يقودها الجنرال منويل.

ولكن عمرو بن العاص هزم الرومان، وفتح المدينة مرة أخرى، وهدم أسوارها.

(٩) مسألة حريق مكتبة الإسكندرية، ونفيه عن العرب

لاكت ألسنة بعض المؤلفين الإفرنج مسألة حريق مكتبة الإسكندرية؛ إذْ زعموا أنها أُحرقت في أوائل الفتح العربي، ونسبوا إلى عمر بن الخطاب أنه أمر عمرو بن العاص بإحراقها فأحرقها.

وتلك لعمري تهمة لا تثبت أمام التحقيق العلمي، ولا يلبث أن يبين بطلانها بقليل من البحث المجرد عن الهوى.

أول ما وردت هذه القصة في كتاب لأبي الحسن القفطي عن «تاريخ الحكماء»، ونقلها عنه أبو الفرج بن العبري في كتابه «مختصر تاريخ الدول»، وكلاهما عاش في القرن الثالث عشر للميلاد؛ أي: بعد أن مضى أكثر من خمسة قرون على الفتح العربي لمصر ووقائعه.

فانقضاء هذه القرون الطويلة قبل اختراع هذه القصة يجعلها ولا شك بعيدة عن الثقة، إذ لو كان لها ظل من الحق لورد ذكرها على لسان شاهد عيان من المؤرخين المعاصرين للفتح العربي، أو ممن نقلوا عنهم في أعقاب هذا الفتح مباشرةً.

وخلاصة هذه القصة كما أوردها أبو الفرج بن العبري: أنه كان في وقت الفتح العربي رجل اسمه «حنا النحوي» من أهل الإسكندرية ومن قسوس الأقباط، وأُخرج من عمله لِما نُسب إليه من زيغٍ في عقيدته، وكان عزله على يد مجمع من الأساقفة، وأن هذا الرجل أدرك الفتح العربي للإسكندرية، واتصل بعمرو بن العاص فلقي عنده حظة، فلما آنس الرجل من عمرو هذا الإقبال قال له يومًا: «لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التُّحف، ولست أطلب إليك شيئًا مما تنتفع به، بل شيئًا لا نفع له عندك، وهو عندنا نافع.»

فقال له عمرو: «ماذا تعني بقولك؟» فقال: «أعني بقولي ما في خزائن الروم من كُتُب الحكمة.» فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لي أن أقطعَ فيه برأي دون إذن الخليفة.»

ثم أرسل كتابًا إلى عمر بن الخطاب يسأله رأيه، فأجابه عمر قائلًا: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب، فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجةَ لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه، وأحرقها.»

فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو بن العاص، أمر بالكتب فوزعها على حمامات الإسكندرية فأحرقوها في ستة أشهر.

ثم قال المؤلف بعد أن روى هذه القصة: «فاسمع وتعجَّب!»

ولم يذكر أبو الحسن ولا أبو الفرج المصدر الذي أخذا عنه هذه القصة، مع انقضاء أكثر من خمسة قرون على فتح الإسكندرية.

ويمنع من تصديقها أنها لم ترِد إطلاقًا في أي كتاب وُضع في خلال هذه القرون الخمسة.

ولو أنها وقعت لمَا فات أصحابها أن يدونوها، ووُلد حوالي زمن الفتح العربي مثل «حنا النقيوسي»، المؤرخ المصري الذي عاش في النصف الثاني من القرن السابع للميلاد، ووضع كتابه بعد الفتح العربي بنحو خمسين عامًا، وسعيد بن البطريق (أوتيخوس) الذي عاش في القرن التاسع وتحدَّث عن الفتح العربي، وكلاهما مسيحي.

ولم يشر إليه قدماء المؤرخين، كابن عبد الحكم والبلاذري والطبري والكندي واليعقوبي، على أهمية هذا الأمر وخطره.

على أن المؤرخين السابقين على الفتح العربي بعدة قرون، يذكرون أن حريق مكتبة الإسكندرية حدث في سنة ٤٨ قبل الميلاد حين حضر «يوليوس قيصر» في ذلك العام إلى الإسكندرية.

فقد ذكر المؤرخ اليوناني بلوتارك Plutarque في كتابه عن «قيصر» أن يوليوس قيصر حين بوغت بمهاجمته في الإسكندرية، وأحرق أسطول البطالمة في الميناء الشرقي المجاور للحيِّ الذي كانت فيه المكتبة، فامتدت النيران إلى ذلك الحي، والتهمت المكتبة بما فيها من الكتب.
وأيَّده في ذلك سينيك Senéque وديو كاسيوس Dio Cassius.

أي إن المكتبة أُحرقت قبل الفتح العربي بستة قرون.

وفي ذلك كله يقول المؤرخ الإنجليزي ألفريد بتلر: «ولعلنا لا نكون مخطئين إذا نحن أجملنا فيما يلي أدلة حجتنا، فإن قصدنا أن نبين حقيقة أمر مكتبة الإسكندرية، ومقدار نصيب إحراق العرب لها من الصحة أو الكذب، وقد بيَّنا فيما سلف الأمور الآتية:
  • (١)

    أن قصة إحراق العرب لها لم تظهر إلا بعد نيف وخمسمائة عام من وقت الحادثة التي نذكرها.

  • (٢)

    أننا فحصنا القصة وحلَّلنا ما جاء فيها، فألفيناه سخافات مستبعدة يُنكرها العقل.

  • (٣)

    أن الرجل الذي تَذكُر القصة أنه أكبر عامل فيها (حنا النحوي)، مات قبل غزو العرب بزمن طويل.

  • (٤)

    أن القصة قد تشير إلى واحدة من مكتبتين: الأولى مكتبة المتحف (دار العلم؛ الموزيون)، وهذه ضاعت في الحريق الذي أحدثه يوليوس قيصر، وإن لم تتلف عند ذلك كان ضياعها فيما بعد في وقت لا يقل عن أربعمائة عام قبل الفتح العربي، وأما الثانية وهي مكتبة السرابيوم فإما أن تكون قد نُقلت من المعبد عام ٣٩١م، وإما أن تكون قد هلكت أو تفرقت كُتبها وضاعت، فتكون على أي حال قد اختفت قبل الفتح العربي بقرنين ونصف قرن.

  • (٥)

    أن كُتَّاب القرنين الخامس والسادس للميلاد، لا يذكرون شيئًا عن وجودها، وكذلك كُتَّاب أوائل القرن السابع.

  • (٦)

    أن هذه المكتبة لو كانت لا تزال باقية، عندما عقد قيرس (المقوقس) صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية، لكان من المؤكد أن تُنقل هذه الكتب، وقد أبيح ذلك في شرط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدة الهدنة التي بين عقد الصلح ودخول العرب في المدينة، وقدر ذلك أحد عشر شهرًا.

  • (٧)

    لو صح أن هذه المكتبة قد نُقلت أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقةً لمَا أغفل ذكر ذلك كاتب من أهل العلم كان قريب العهد من الفتح العربي، مثل «حنا النقيوسي»، ولمَا مر على ذلك بغير أن يكتب حرفًا عنه.

ولا يمكن أن يبقى شك في الأمر بعد ذلك، فإن الأدلة قاطعة وهي تبرر ما ذهب إليه «رينوود» من الشك في قصة أبي الفرج، وما ذهب إليه «جبون» من عدم تصديقها، ولا بد لنا أن نقول إن رواية أبي الفرج لا تعدو أن تكون قصة من أقاصيص الخرافة، ليس لها أساس في التاريخ.»٣١
وقال بتلر في هامش ص٣٧٠: «لم نقصد في هذا الأمر سوى إثبات الحقيقة، ولم نقصد الدفاع عن العرب، وليس الدفاع بضروري، ولو كان ضروريًّا لمَا تعذَّر أن نجد شيئًا يليق الاعتذار به عن ذلك، فلا شك أن العرب عُنوا فيما بعد بجمع كثير من الكتب القديمة وغيرها مما وقع في أيديهم، وعُنوا بحفظها وترجموا منها في كثير من الأحوال، وفي الحق إنهم أقاموا مثلًا يجدر بفاتحي هذه الأيام (يريد المستعمرين الأوروبيين) أن يحذوا حذوه، فقد نقل سديِّو Sedillot في كتابه «تاريخ العرب»: أن الفرنسيين عندما فتحوا مدينة «قسطنطينة»، في شمال إفريقية أحرقوا كل الكتب والمخطوطات التي وقعت في أيديهم، كأنهم من صميم الهمج، ووجد الإنجليز عند فتح مدينة «مجدلة» مكتبة كبرى من الكتب الحبشية فحملوها معهم، ولكنهم لم يلبثوا أن تركوا أكثرها في كنيسة على جانب الطريق؛ إذ وجدوا في حملها عناء لم يقْوَوا على احتماله، ولقد كان اختيارهم للكتب التي أبقوا عليها خبطًا وسيرًا مع الصدفة، ولكن قيمة الكتب التي أُنقذت وحُفظت تدلُّنا على فَدَاحة الخسارة التي لحقت العلم بضياع ما تُرك منها؛ فقد كانت النسخة الخطية من كتاب «حنا النقيوسي» التي حُفظت بالمتحف البريطاني إحدى تلك الكنوز التي أُنقذت بهذه الطريقة الاتفاقية.»

هذا، ومن العلماء المحققين الذين نفوا هذه الفرية عن العرب جستاف لبون، وأرنست رنان، وجبون، ورينوود، وسديو، ويقول سديو: إن هذه القصة وضعها كُتَّاب معادون للعرب والإسلام؛ إبان الحروب الصليبية.

(١٠) عمرو بن العاص يتولى شئون مصر

بعد أن تمَّ لعمرو بن العاص فتح الإسكندرية تحوَّل إلى الفسطاط التي أُنشئت بعد الفتح، ومن هناك تولى شئون مصر بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان بدء ولايته سنة ٢٩ﻫ قبل فتح الإسكندرية.

فكان خير والٍ لشئونها، وعُرف بالحكمة والعدل ولين الجانب وإطلاقه الحرية الدينية للمواطنين، والسعي في إقامة أعمال العمران التي عادت على البلاد بالخير، وأحبه أهل مصر لما رأوا فيه احترام حرية العقيدة الدينية وتخفيف وطأة الضرائب، ومن السماحة بعد الغلظة التي كانوا يشهدونها من الولاة الرومان.

وظل يتولى شئون مصر حتى وُلي الخلافة عثمان بن عفان سنة ٢٤ﻫ، فعزله سنة ٢٦ﻫ وولى بدله عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

وكان ولاية عمرو بن العاص على مصر نحو خمس سنوات.

ثم وليها في زمن معاوية.

(١٠-١) إعادة البطريق بنيامين

ومن أعماله التي أكسبته حب المواطنين تأمينه البطريق «بنيامين»؛ فقد كتب أمانًا له وردَّه إلى كرسي البطريركي، وأعاد له سلطته بوصفه بطريقًا للأقباط بعد أن ظل مبعدًا عن منصبه أكثر من عشر سنوات، ودخل بنيامين الإسكندرية دخول الظافر.

ولقي من عمرو الحفاوة والتقدير حتى قال عنه لأصحابه: «إني لم أرَ يومًا في بلد من البلاد التي فتحها الله علينا رجلًا مثل هذا بين رجال الدين.»

وعادت لبنيامين زعامته الدينية بين الأقباط.

قال بتلر في هذا الصدد:

«وقد كان لعودة بنيامين إلى عرش الإسكندرية وأبنائها رنة طرب في قلوب أهل مصر جميعًا، فعاد جُل العامة إلى راعيهم القديم والفرح يملؤهم، ونادى البطريق «بنيامين» المطارنة الذين اتبعوا مذهب الدولة (الملكاني) أن ارجعوا إلى سابق عهدكم وملتكم، فعاد بعضهم يذرفون الدمع السخين ندمًا، ولكن قيل إن واحدًا منهم أبى أن يعود حتى لا يلحقه العار خوف أن تُعرف عنه الردة الأولى، ولعل الكثيرين كانوا مثله في هذا، ومهما يكن من الأمر فقد نما أمر الأقباط وزاد أتباع ملتهم، وكان هم بنيامين في أول الأمر أن يقدح فكره ليلًا ونهارًا في أمر رعيته، وإرجاع من ضل منهم في أيام هرقل.»٣٢

وظل في منصب البطريق، حتى وفاته سنة ٦٦٢م.

(١٠-٢) وصف مصر بقلم عمرو بن العاص

كان عمرو بن العاص من أبلغ كُتَّاب العرب، وقد وصف مصر في كتاب بعث به إلى عمر بن الخطاب إذ طلب الخليفة ذلك منه، قال: «ورد إليَّ كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر. اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تُربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر له أوان، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا عجَّ عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في خفاف القوارب، وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطمى في ذروته، فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه، يبذرون الحب، ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف، وسقاه من فوقه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، وإذا هي زبرجدة خضراء، فتعالى الله الفعَّال لما يشاء، والذي يُصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، أن لا يُقبل قول خسيسها في رئيسها، ولا يُستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يُصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل.»

(١٠-٣) عمرو بن العاص يؤيد تحديد النسل

كان عمرو بن العاص بعيد النظر، واسع الأفق، يعالج المسائل الاجتماعية بحكمة وحصافة؛ فمن خُطبة له يوم الجمعة يحث الناس على القصد والاعتدال، ويرغِّبهم عن كثرة العيال ويؤيد تحديد النسل، قال:

«يا معشر الناس، إياكم وخلالًا أربعًا، فإنها تدعو إلى النَّصب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة، وإلى الذلة بعد العزة، إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير درَك ولا نوال.»٣٣

(١٠-٤) إنشاء الفسطاط عاصمة مصر

أراد عمرو بن العاص أن يسكن الإسكندرية ويتخذها عاصمة البلاد؛ إذ رأى أن بيوتها مشيدة، وأنها الأجدر بأن تظل الصدد: «مساكن قد كفيناها.»

فكتب إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول: «هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟»، قال: «نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل»، فكتب إلى عمرو: «إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلًا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا في صيف.»

ولم يكن للعرب قوة بحرية في ذلك الحين، ولذلك خشي الخليفة عمر بن الخطاب أن يحول البحر بين أجزاء الدولة العربية.

فأنشأ عمرو مدينة الفسطاط٣٤ في السهل الذي يلي حصن بابلون، بينه وبين جبل المقطم، واتخذها عمرو بن العاص عاصمة البلاد ومقر الحكم.

وتقوم في الضفة المقابلة للنيل، على بُعْد أميال جنوبًا، مدينة «منف» العظيمة عاصمة مصر القديمة.

وكان الشروع في تخطيط الفسطاط سنة ٢١ﻫ/٦٤٢م، بعد هزيمة الرومان في الإسكندرية.

(أ) تحديد الفسطاط

حدد الأستاذ يوسف أحمد في كتابه «الفسطاط»، بأنها تقع في المنطقة التي حول جامع عمرو، والتي تمتد شرقًا إلى سفح جبل المقطم، وشمالًا إلى جهة «مسجد أبو السعود»، وغربًا حتى النيل، وجنوبًا حتى ساحل أثر النبي (وتُعرف الآن بمصر القديمة).

(١٠-٥) جامع عمرو بن العاص

شرع عمرو بن العاص في بناء المسجد الذي عُرف باسمه، منذ عودته من فتح الإسكندرية.

وبدأ في بنائه سنة ٢١ﻫ/٦٤٢م بعد تخطيط الفسطاط.

وكان يسمى الجامع العتيق، أو جامع الفتح، أو تاج الجوامع، وهو أقدم جامع أنشئ في مصر ويقع شمالي حصن بابلون (قصر الشمع).

fig54
شكل ١٥-٣: جامع عمرو بن العاص بالفسطاط (مصر القديمة) قبل إصلاحه وتوسيعه، أنشأه عمرو بن العاص سنة ٢١ﻫ/٦٤٢م.

وكان طوله في بداية عهده خمسين ذراعًا وعرضه ثلاثين ذراعًا (٢٩ × ١٧ مترًا)، وله ستة أبواب.

وكانت تقام فيه الصلوات وتُلقى فيه الدروس الدينية، فصار مع الزمن معهدًا علميًّا ودراسيًّا لمختلف طبقات الشعب، هذا إلى أنه كان مقرًّا لمجالس القضاء ومكانًا لبيت المال.

(١٠-٦) خليج أمير المؤمنين

إن أهم أعمال العمران التي قام بها عمرو بن العاص بعد أن استقر له الأمر في مصر، إنشاء مدينة الفسطاط وجامع عمرو بن العاص، وحفر خليج أمير المؤمنين٣٥ الذي يصل النيل بالبحر الأحمر، وييسر المواصلات المائية بين مصر وثغور شبه الجزيرة العربية.

وكان هذا الخليج يبتدئ من شمال حصن بابلون، ويمر بمدينة عين شمس ثم يسير في وادي الطميلات حتى بحيرة التمساح، ومن جنوب هذه البحيرة يتابع جريانه خلال البحيرات المُرة، حتى يبلغ السويس.

وكان إنشاء هذه القناة سنة ٢٣ﻫ/٦٤٣م وبلغ طولها نحو ستين ميلًا، وكانت تُسمى من قبل خليج سنوسرت الثالث، ثم خليج نيخاو ثم خليج تراجان، ثم رُدمت على توالي السنين واحتفرها عمرو بن العاص (انظر الخريطة شكل ١٥-٤).
fig55
شكل ١٥-٤: خليج أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب)، احتفره عمرو بن العاص سنة ٢٣ﻫ/٦٤٣م.
وسبب حفر خليج أمير المؤمنين ما نقله المقريزي عن ابن عبد الحكم، أن أهل «المدينة» أصابهم جهد شديد في خلافة عمر عام الرمادة.٣٦

فكتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يقول: «أما بعد، فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك مِن أهلك، أن أهلك أنا ومَن معي؛ فيا غوثاه ثم يا غوثاه!»

فكتب إليه عمرو بن العاص يقول: «يا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بِعِيرٍ (قافلة) أولها عندك وآخرها عندي.»

وجاء عمرو إلى حيث قابل عمر بن الخطاب، بعد أن وصلت العير إلى الحجاز، وسع بها الخليفة على الناس، فاقترح عليه الخليفة أن يحفر قناة تصل بين النيل والبحر الأحمر؛ لتيسير نقل المئونة والتجارة إلى الحجاز.

صدع عمرو بالأمر، فأنشأ سنة ٦٤٣م/٢٣ﻫ القناة التي سُميت خليج أمير المؤمنين، وتبدأ من الفسطاط وتسير في نفس التخطيط الذي كان لقناة الفراعنة الأقدمين، أي قناة سنوسرت الثالث التي عُرفت بقناة نيخاو ثم رُدمت، وجددها الإمبراطور الروماني تراجان، ثم رُدمت.

فلم يأتِ الحول، حتى أتم عمرو بن العاص حفر هذا الخليج.

(١٠-٧) وفاة عمرو بن العاص

استمر عمرو بن العاص على ولاية مصر، حتى وُلي الخلافة عثمان بن عفان.

فعزله عنها سنة ٢٦ﻫ/٦٤٦م، وولاها عبد الله بن سعد بن أبي السرح (وهو أخو عثمان في الرضاعة)، وكانت ولاية عمرو بن العاص على مصر نحو خمس سنوات.

ثم تولاها ثانيةً في خلافة معاوية سنة ٣٨ﻫ/٦٥٨م، حتى وفاته.

وتُوفِّي في ولايته الثانية في نحو السبعين من عمره.

وكانت وفاته في ديسمبر ٦٦٣م/٤٣ﻫ في خلافة معاوية، ودُفن بسفح المقطم، ولم يُعرف قبره على وجه التحقيق.

وقيل: إنه مدفون مع عُقبة بن عامر بمسجده القائم إلى اليوم.

(١١) بماذا قوبل الفتح العربي

إن أول حقيقة يجب أن نضعها نُصْب أعيننا في هذا البحث أن الحرب في الفتح العربي لم تكن موجهة ضد المصريين، بل ضد الروم (الرومان) المغتصبين لمصر.

والحقيقة الثانية أن العرب لم يسيئوا إلى المصريين قط.

وقد تكون معاملة العرب الحسنة للمصريين راجعة إلى أنهم كانوا في ذاتهم أهل مروءة ونجدة، وخاصةً حين هذَّب الإسلام نفوسهم.

هذا إلى ما اتصف به عمرو بن العاص من حبه للعدل والرفق بالأهليين، وما كان يوصيه به عمر بن الخطاب من حسن معاملتهم، اعتبر ذلك في الكتاب الذي بعث به إليه وقال فيه:

«واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك؛ فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا٣٧ يريد أن يُقتدى به، وإن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله بهم وأوصى بالقبط فقال: «استوصوا بالقبط خيرًا؛ فإن لهم ذمة ورحمًا»،٣٨ ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال : «من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته؛ فأنا خصمه يوم القيامة»، احذر يا عمرو أن يكون رسول الله لك خصمًا؛ فإن من خاصمه خصَمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة، وآنست من نفسي ضعفًا وانتشرت رعيتي ورقَّ عظمي، فأسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرط، والله إني لأخشى لو مات جملٌ بأقصى عملك ضياعًا أن أُسأل عنه يوم القيامة.»
ولقد رأى المصريون من إنسانية العرب وتسامحهم، ما جعلهم يثقون بهم ويطمئنون إليهم، وجاء توكيدًا لقول الرسول : «إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا فإنه لهم ذمة ورحمًا.»٣٩

والأمثلة على إنسانية العرب عديدة، وقد وجد أهل العراق وفلسطين والشام مثل هذه الإنسانية.

فمن ذلك أنه في أوائل الفتح العربي حين فتح عمرو بن العاص «بلبيس» كانت بها ابنة المقوقس (أرمالوسة)، وقد نقل المقريزي عن الواقدي أن المقوقس زوَّجها لقسطنطين بن هرقل، فأكرمها عمرو وأرسلها معزَّزة مكرمة ومعها جميع مالها حتى التقت بأبيها.

فسُرَّ المقوقس من هذه المروءة، وكان لها ولا ريب أثر كبير في نفسه.

ولما أزمع عمرو الزحف على الإسكندرية بعد فتح حصن بابلون أمر الجند أن ينزعوا خيمته (الفسطاط)، فوُجد في أعلاها عش يمامة باضت عليها، فأمر عمرو أن تُترك خيمة القائد مكانها، وقال في هذا الصدد: «لقد تحرَّم هذا اليمام منا بمتحرم، فأقروا هذا الفسطاط في موضعه حتى يفرخ ويطير.»

وعيَّن على الفسطاط (الخيمة) حارسًا يمنع تلك اليمامة أن يمسَّها أحدٌ بأذى.

فإذا كانت الإنسانية قد بلغت هذا الحد، وشملت الطير الذي اتخذ خيمة القائد العام عشًّا له، فإن هذا المثل جدير بأن يُكسب العرب محبة المصريين وتقديرهم.

وبعد أن دانت البلاد للفتح العربي، وجلا الرومان عنها، رأى المصريون عمرو بن العاص يمنع الاضطهاد الديني، ويعلن ألَّا إكراه في الدين، وأن حرية العقيدة مبدأ مقدس.

فأدرك المصريون الفارق الجوهري بين عهد الرومان وعهد العرب.

كما شاهدوا عمرو بن العاص يخفف عنهم وطأة الضرائب، ويساوي بين الناس في أدائها، لا فرق بين كبير وصغير، وقوي وضعيف، ومسلم وكتابي.

وشاهد المصريون من تسامح العرب الديني، ما ذكَّرهم بالشدائد التي لاقوها من أباطرة الرومان، سواء منهم من كانوا على الوثنية أو بعد اعتناقهم المسيحية، فقد اضطهدوا المصريين المسيحيين اضطهادًا دينيًّا.

وحتى بعد أن اعتنقوا المسيحية اضطهدوا المصريين؛ لإكراههم على اتباع مذهبهم الرسمي، بل خرَّب هؤلاء وأولئك كثيرًا من الآثار المصرية القديمة.

فلما جاء العرب رعوا حرية العقيدة واحترموها، كما احترموا آثار الفراعنة ولم يمسوها بسوء، ولم يفعلوا مثلما فعل الرومان أو الفرس أو الآشوريون.

فلا غرو أن أقبل المصريون، وقساوستهم على عَهد العرب مبتهجين.

وكان من نتائج الحرية الدينية التي أقرَّها العربُ أن انتهى كثير من المصريين على توالي السنين إلى قبول الإسلام، فدخلوا فيه أفواجًا.

ولم يكن دخولهم فيه كَرهًا أو عن ضغط واضطهاد، فإن المبدأ الذي اتبعه العرب هو حرية العقيدة.

وفي ذلك يقول مؤرخ أجنبي منصف، وهو ألفريد بتلر في كتابه «فتح العرب لمصر»: «إن بعض الأقباط أخذوا عند ذلك يختارون الإسلام ويفضِّلون الدخول فيه على دفع الجزية، فقد رأى هؤلاء أن الإسلام يجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويساويهم بالفاتحين في شرف محلهم ويجعلهم إخوانهم في كل شيء، يسهم لهم في الْفَيْء، ولا يفرض عليهم الجزية، فكان في ذلك باعث قوي لكثير منهم على الدخول في الإسلام، ولا سيما وقد طحن المقوقس عقيدتهم طحنًا وحطم يقينهم باضطهاده.»٤٠
وقال في موضع آخر: «ليس من العدل أن يقول قائل إن كل من أسلَمَ من الأقباط إنما كان يقصد الدنيا وزينتها، فإنه مما لا شك فيه أن كثيرًا منهم أسلم لما كان يطمع فيه من مساواة بالمسلمين الفاتحين، حتى يكون له ما لهم، وينجو من دفع الجزية، ولكن هذه المطامع ما كانت لتدفع إلا من كانت عقائدهم غير راسية، وأما الحقيقة المرة فهي أن كثيرين من أهل الرأي والحصافة قد كرهوا المسيحية لِما كان فيها من عصيان لصاحبها؛ إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء في الله، ونسيت ذلك في ثوراتها وحروبها التي كانت تنشب بين شيعها وأحزابها، ومنذ بدا ذلك لهؤلاء العقلاء لجئُوا إلى الإسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته.»٤١

وقال لمناسبة الصلح الذي عُقد على تسليم الإسكندرية للعرب:

«ولا نزال نسائل النفس عن السبب الذي حمل أهل الإسكندرية على قبول ذلك الصلح، والمبادرة إلى الرضا عن قيرس (المقوقس) بعد أن كانوا قد وَثَبوا به وأرادوا أن يحصبوه، ولكنهم لم يكونوا صادرين عن نزَقٍ في انصرافهم عن دولتهم (دولة الرومان)، وصدوفهم عنها ورضائهم بالإذعان لحكم الإسلام، وليس ثمة إلا رأي واحد فوق ما سبق لنا ذكره نفسر به ما كان منهم؛ ذلك أنهم كانوا قد سئموا من كثرة ما أصابهم من الحدثان، وكرهوا فساد الحكم الذي أثقل كواهلهم مدة أربعين عامًا، وقالوا في أنفسهم: لعلنا نجد في حكم المسلمين استقرارًا واطمئنانًا نأمن فيه على ديننا فلا نُكره فيه، وعلى أموالنا فلا نتحمل من الخراج والجزية إلا قدرًا نطيقه، ولعل أكثر ما حملهم على الرضا بحكم العرب رفع ما كان يبهظهم من الضرائب، فقد كان الرومان يجبون من مصر أموالًا يتعذَّر علينا أن نعرف مقدارها، ولكنها كانت بلا شك كثيرة الأنواع ثقيلة الوطأة شديدة الأذى، فأحل العرب محلها الجزية وخراج الأرض، ومهما يكن من مقدارها فقد كانت لها فضيلة البساطة، وكانت ثابتة المقدار ومحدودة القصد، وكانت أقل في جملتها مما كان يجبيه الرومان.»٤٢

هذا، وإن ما شاهده المصريون أو استذكروه من مظالم البطالمة، ثم مظالم الرومان، ومن قبلهم ظلم الفرس والآشوريين، قد أنار بصائرهم وزاد من وعيِهم، وجعلهم يعتقدون بحق أن الحكم الأجنبي لا يمكن الاطمئنان إليه؛ فلقد رأوا الإسكندر بادئ الأمر منقذًا لهم من ظلم الفرس ثم ما لبث خلفاؤه البطالمة أن اتخذوا مصر مستعمرة لهم، ثم رأوا من ظلم الرومان شرًّا مما رأوا من البطالمة.

فهذه التجارب التي استمرت عدة قرون جعلتهم يفكرون في أن لا بد لهم من اتجاه جديد في الروابط الدولية، يجعلهم آمنين على حياتهم وعقائدهم ومستقبلهم واستقلالهم.

فاعتزموا، وقد ساءت ظنونهم في المجموعة الأوروبية، أن ينضموا إلى الكتلة العربية الشرقية؛ إذ وجدوا فيها العدل والإنسانية والفضائل القومية، فانضمت مصر إلى المجموعة العربية.

وفي الحق إن المستعمرين من الإغريق والرومان أو الأعاجم من الشرقيين، قد بَرهَنوا على أنهم أقوام قساة القلوب، غلاظ الأكباد، لم تعرف الإنسانية إلى قلوبهم سبيلًا، وهذا ما جعل المصريين ينظرون إلى الفتح العربي كمنقذ لهم من ظلم الرومان واليونانيين، ومن قبلهم ظلم الأعاجم من الشرقيين كالفرس والآشوريين.

قد لا يكون هذا الاتجاه نتيجة تمحيص وتحقيق، بل هو إلهام للشعوب في الساعات الفاصلة في تاريخها، وخاصةً في ظروف الانتقال، وهو بالنسبة لمصر دليل على ما فُطر عليه الشعب المصري من إرهاف للحس، وحسن بَصَر في الأمور، فالشعب المصري بماضيه في الحياة القومية والحضارة المجيدة، قد أحس أنه أقرب للعرب جوارًا وصلات روحية وثقافية، فاتجهت نفسه بفطرته السليمة إلى أن يكون جزءًا من الكتلة العربية، بدلًا من الكتلة الأوروبية أو الشرقية الأعجمية.

أضف إلى ذلك ما كان من تأثير عامل اللغة في هذا التطور، فإن انتشار اللغة العربية في مصر على تعاقب السنين قد مهَّد لجعل المصريين عربًا؛ لأن اللغة هي ولا ريب من أقوى الروابط بين الأمم والجماعات، بل هي من أركان القوميات.

وزاد في تأثير لغة الضاد أن اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) قد تراجعت وتقلصت قبل الفتح العربي بعدة قرون، وحل محلها اللغة الديموتيقية أي اللغة العامية لغة الجمهور، وجاء البطالمة وأحلوا محل اللسانين لغتهم اليونانية، وجعلوها لغة الدولة الرسمية وظلوا كذلك ثلاثة قرون متوالية، وجاء الرومان من بعدهم فأبقوا على اللغة اليونانية، واتخذوها أيضًا لغة الحكومة ولغة التعامل في مصر، فلما جاء الفتح العربي وجدت اللغة العربية أن المجال ممهد لانتشارها بين المصريين.

ولقد تم هذا الانتقال في يسر وسهولة؛ إذ كان وليد الفطرة والحس المرهف.

وهذا ما جعل الشعب المصري يتطور من ناحية اللغة والثقافة والتفكير إلى حيث صارت مصر مع الزمن الدولة العربية الكبرى، قاعدة العروبة وعلَمها الخفَّاق، ومصدر الإشعاع العربي للبلدان القريبة والبعيدة.

١  سورة آل عمران: ٩٦-٩٧.
٢  سورة البقرة، الآية: ١٢٧.
٣  الوحدة العربية في خلال العصور، من كتاب «ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢» ص٣٣٣.
٤  دييهل Diehl: مصر المسيحية والبيزنطية L’Égypt Chrétienne et Byzantine، ص٤٥٤ و٥٢١.
٥  نسبة إلى الملك أو الإمبراطور البيزنطي.
٦  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، تعريب محمد فريد أبو حديد، ص٣.
٧  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، المرجع السابق، ص٣٩.
٨  ألفريد بتلر، المرجع السابق، ص٣٩، ٤٠.
٩  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، المرجع السابق، ص٤.
١٠  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، ص١٦٢.
١١  في معجم البلدان لياقوت الحموي: أن الجابية قرية من أعمال دمشق، وباب الجابية بدمشق منسوب إلى هذا الموضع، ج٣، ص٣٣.
١٢  ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، ص٥١.
١٣  شرقي بورسعيد الحالية، والفرما هو الاسم العربي.
١٤  في التوفيقات الإلهامية للواء محمد مختار باشا: أن أول المحرم سنة ١٩ﻫ يوافق ٢ يناير سنة ٦٤٠م.
١٥  ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، ص٥٤.
١٦  يسميه المؤرخون العرب الأرطبون، وكان قائدًا للرومان في بيت المقدس، وفرَّ منها إلى مصر قبل تسليمها للعرب.
١٧  موقعها الآن في حي الأزبكية بالقاهرة في المكان الذي به جامع المقس المعروف بجامع أولاد عنان، وأم دنين هي التي صارت المقس في عهد الفاطميين (انظر موقعها على الخريطة شكل ١٥-١).
١٨  ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، ص٥٤.
١٩  ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، ص٥٦. وفي رواية أخرى أن الرابع خارجة بن حذافة.
٢٠  ابن عبد الحكم، المرجع السابق، ص٥٣.
٢١  ابن عبد الحكم، المرجع السابق، ص٥٩.
٢٢  ابن عبد الحكم، المرجع السابق، ص٦٠.
٢٣  ابن عبد الحكم، المرجع السابق، ص٦٠.
٢٤  ابن عبد الحكم، المرجع السابق، ص٦١.
٢٥  سورة البقرة، الآية: ٢٤٩.
٢٦  ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، ص٨٥.
٢٧  واسمها أيضًا «الطرانة» مركز كوم حمادة بحيرة (انظر موقعها على الخريطة شكل ١٥-١).
٢٨  في الخطط التوفيقية لعلي مبارك باشا (ج٨، ص١٥) أنها إبشادي الحالية (مركز تلا). وفي القاموس الجغرافي للبلاد المصرية لمحمد بك رمزي (البلاد المندرسة) ص٤٦٤: أنها زالت وحل محلها الكوم الأثري الكائن بالجهة البحرية من «زاوية رزين»، بمركز منوف (انظر موقعها على الخريطة شكل ١٥-١).
٢٩  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، ص٢٥٥.
٣٠  تُوفِّي المقوقس في مارس سنة ٦٤٢م.
٣١  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، تعريب محمد فريد أبو حديد، ص٣٦٨.
٣٢  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، ص٣٨٥.
٣٣  ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، ج١، ص٧٣.
٣٤  في «المصباح المنير»: أن كل مدينة جامعة فسطاط. وفي معجم البلدان (ج٦، ص٣٨): أن الفسطاط أيضًا مجتمع أهل الكورة.
٣٥  الخليج لغةً: هو القناة، أو الترعة.
٣٦  عام الرمادة سنة ١٨ﻫ (٦٣٩-٦٤٠م)، وسُمي الرمادة لأن الريح كانت تسفي ترابًا كالرماد، وأصاب الناس بالحجاز قحط عظيم.
٣٧  سورة الفرقان، الآية: ٧٤.
٣٨  ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها، ص٢.
٣٩  سُئل ابن إسحق: وما الرحم الذي ذكره رسول الله ؟ فقال: كانت هاجر أم إسماعيل منهم.
٤٠  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، المرجع السابق، ص٢٤٣.
٤١  ألفريد بتلر، المرجع السابق، ص٣٨٥.
٤٢  ألفريد بتلر: فتح العرب لمصر، المرجع السابق، ص٢٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤