الـوَصْـف

(١) وصف كساء له (نشرت في سنة ١٩٠٠م)

قالها ارتجالاً في مجلس من إخوانه

لي كِساءٌ أنْعِمْ به مِنْ كِساءٍ
أنا فيه أتيهُ مِثلَ الكِسائي
حاكَهُ العِزُّ من خُيوطِ المَعالي
وسقاهُ النَّعيمُ ماءَ الصَّفاءِ
وتَبَدَّى في صِبْغَةٍ من أديم الْـ
ـلَيل مَصقولَةٍ بحُسْنِ الطِّلاءِ
خاطَهُ ربُّه بإبرةِ يُمْنٍ
أوْجَرُوا سَمَّها خُيوطَ الهَناءِ
فكأنِّي — وقد أحاطَ بجِسْمي —
في لِباسٍ من العُلا والبَهاءِ
تُكْبرُ العَيْنُ رُؤيَتي وتَراني
في صُفوفِ الوُلاةِ والأمراءِ
ألِفَ الناسُ — حيث كنتُ — مكاني
أُلْفَةَ المُعْدِمينَ شَمْسَ الشِّتاءِ
يا رِدائي وأنتَ خَيْرُ رِداءٍ
أرْتَجيهِ لزينةٍ وازدِهاءِ
لا أحالَتْ لَكَ الحوادِثُ لَوْنًا
وتَعَدَّتْكَ ناسِجاتُ الجِواءِ
غَفَلَتْ عنكَ للبِلى نَظَراتٌ
وتَخَطَّتْكَ إبْرَةُ الرَّفّاءِ
صَحِبَتْني قبلَ اصطِحابكَ دَهْرًا
بدْلَةٌ في تَلَوُّنِ الحِرْباءِ
نَسَبوها لطَيْلَسانِ (ابنِ حَرْبٍ)
نِسْبَةً لم تَكُنْ بذاتِ افتراءِ
كنتُ فيها إذا طَرَقْتُ أُناسًا
أنْكَروني كطارِقٍ من وَباء
كَسَفَ الدهرُ لوْنَها واستعارَتْ
لَوْنَ وَجْهِ الكَذوبِ عند اللِّقاءِ
يا رِدائي جَعَلْتَني عند قَوْمي
فوقَ ما أشْتَهي وفوقَ الرَّجاءِ
إنّ قومي تَروقُهُمْ جِدَّةُ الثَّوْ
بِ ولا يَعْشَقُون غيرَ الرُّواءِ
قيمةُ المَرءِ عندهُمْ بينَ ثَوْبٍ
باهِرٍ لَوْنُه وبيْنَ حِذاءِ
قَعَدَ الفَضْلُ بي وقُمْتَ بعِزِّي
بين صَحْبي، جُزيتَ خيرَ الجَزاءِ

(٢) الحاكي (نشرت في سنة ١٩٠٠م)

وَجَدوا السَّبيلَ إلى التَّقاطُعِ بَيْنَنا
والسَّمْعُ يَمْلِكُهُ الكَذوبُ الحاذِقُ
لا تَجعَلي الواشينَ رُسْلَكِ في الهَوى
فَلأَصْدَقُ الرُّسُلِ الجَمادُ النّاطِقُ

(٣) الشمس (نشرت في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٠٠م)

لاحَ منها حاجِبٌ للنّاظِرِينْ
فَنَسُوا باللَّيل وَضّاحَ الجَبينْ
ومَحَتْ آيَتُها آيَتَه
وتَبَدَّتْ فِتْنَةً للعالَمِينْ
نَظَر إبراهامُ فيها نَظْرةً
فأرَى الشَّكَّ وما ضلَّ اليَقينْ
قال: ذا ربِّي، فلمّا أفَلَتْ
(قالَ: إنِّي لا أحِبُّ الآفِلينْ)
ودَعا القوْمَ إلى خالِقِها
وأتى القوْمَ بسُلْطانٍ مُبينْ
رَبِّ إنّ الناسَ ضَلُّوا وغَوَوْا
ورأَوْا في الشّمس رأيَ الخاسِرينْ
خَشَعَتْ أبصارُهُمْ لمّا بَدَتْ
وإلى الأذْقانِ خَرُّوا ساجِدينْ
نَظَروا آياتِها مُبْصِرَةً
فَعَصَوْا فيها كَلامَ المُرْسَلينْ
نَظَروا بَدْر الدُّجى مِرآتها
تَتَجلَّى فيه حينًا بعْدَ حينْ
ثمّ قالوا: كيفَ لا نَعْبُدُها
هلْ لها فيما تَرَى العَيْنُ قَرينْ؟
هيَ أمُّ الأرْضِ في نِسْبَتِها
هي أمُّ الكَوْنِ والكَوْنُ جَنينْ
هي أمُّ النّارِ والنُّورِ معًا
هِيَ أمُّ الرِّيح والماءِ المَعينْ
هيَ طَلْعُ الرَّوْضِ نَوْرًا وجَنًى
هيَ نَشْرُ الوَرْدِ، طيبُ الياسَمينْ
هيَ مَوْتٌ وحَياةٌ للوَرَى
وضَلالٌ وهُدًى للغابِرينْ
صَدَقوا لكنّهم ما عَلِموا
أنّها خَلْقٌ سَيبْلَى بالسِّنينْ
أإلهٌ لمْ يُنَزِّهْ ذاتَه
عن كُسوفٍ، بئسَ زَعْمُ الجاهِلينُ
إنَّما الشّمسُ وما في آيها
مِنْ مَعانٍ لَمَعَتْ للعارِفينْ
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ قد مَثَّلَتْ
قُدْرَةَ اللهِ لقَوْمٍ عاقِلينْ

(٤) دولة السيف ودولة المدفع (نشرت في ٢٣ نوفمبر في ١٩٠٠م)

يا دَوْلَةَ القواضِبِ الصِّقالِ
وصَولَةَ الذَّوابِلِ الطِّوالِ
كَمْ شِدْتِ بين الأعْصُرِ الخَوالي
مَمالِكًا عَزيزةَ المَنالِ
قامَتْ بحَدِّ الأبيَضِ القَصّالِ
وسِنِّ ذاكَ الأسمَرِ العَسّالِ
راحتْ بها الأيّامُ واللَّيالي
وخَلَّفَتْها دَوْلَةُ الجَلالِ
مَمْلَكَةُ المِدْفَعِ ذاتُ الخالِ
قامَتْ بحَوْلِ النارِ والزِّلْزالِ
فأرْهَبَتْ أفئدَةَ الأبطالِ
أرْهَبَها مُزَعْزِعُ الجِبالِ
ومُفْزعُ اللُّيوثِ في الدِّحالِ
وقاطِعُ الآجالِ والآمالِ
وخاطِفُ الأرواحِ من أمْيالِ
يَثُورُ كالبركانِ في النِّزالِ
فيُتْبِعُ الأهْوالَ بالأهْوالِ
ويُرْسِلُ النّارَ على التَّوالي
فيَحْطِمُ الهامِ ولا يُبالي
ما كَوْكَبُ الرَّجْمِ هَوى مِنْ عالي
فمَرَّ كالفِكْرِ سَرى بالبالِ
على عنيدٍ مارِدٍ مُحْتالِ
مُسْتَرِقٍ للسَّمْعِ في ضَلالِ
مِنْ عالَمِ التَّسْبيحِ والإهْلالِ
أمْضى وأنْكى منه في القِتالِ
إذا سَرَتْ قُنْبُلةُ الوَبالِ
من فَمِه المَحْشُوِّ بالنَّكالِ
يُنْذِرُهُمْ في ساحَة المَجالِ
بالبَرْقِ والرَّعْدِ وبالآجالِ
ولم يَكنْ كذلكَ الخَتَّالِ
يَحُزُّ في الهامِ وفي الأوْصالِ
صامِتَ قَوْلٍ ناطِقَ الفِعالِ
رأيتُه كالقومِ في المِثالِ
مالُوا عن القَوْلِ إلى الأعْمالِ
فامتَلَكوا ناصِيَةَ المَعالي

(٥) ليلة عيد جلوس الخديوي

يصف فيها الزينة الكبرى التي أقيمت بحديقة الأزبكيّة في مساء ٨يناير سنة ١٩٠١م

يا لَيْلَةً ألْهَمتْني ما أتِيهُ به
على حُماةِ القوافي أيْنَما تاهُوا
إنِّي أرى عَجَبا يَدْعو إلى عَجَبٍ
الدّهرُ أَضْمَرَه والعيدُ أفْشاهُ
هل ذاكَ ما وَعَدَ الرحْمنُ صَفْوَتَهُ
رَوْضٌ وحُورٌ ووِلْدانٌ وأمْواهُ
أم الحديقةُ ذاتُ الوَشْيِ قد حَلِيَتْ
في مَنْظَرٍ يَستعيدُ الطَّرْفُ مَرْآهُ
أرى المصابيحَ فيها وهي مُشْرِقةٌ
كأنّها النَّوْرُ والوَسْمِيُّ حَيّاهُ
أو إنّما هي ألفاظٌ مُدَبَّجةٌ
وكلُّ لفْظٍ تَجَلَّى فيه مَعْناهُ
أرى عليها قلوبَ القومِ حائمةً
كالطَّيْرِ لاحَ له وِرْدٌ فوافاهُ
أرى بَني مِصْرَ تحت اللَّيْلِ قد نَسَلوا
إلى سُعودٍ به ضاحٍ مُحَيَّاهُ
أرى على الأرْضِ حَلْيًا قد نَسيتُ به
حَلْيَ السَّماءِ وحُسْنًا لسْتُ أنْساهُ
أرى أريكَةَ (عبَّاسٍ) تَحُفُّ بها
وِقايَةُ اللهِ والإقْبالُ والجاهُ
أرى سُمُوَّ خِدِيوينا وقد بُسِطَتْ
بالعَدْلِ والبَذْلِ يُمْناهُ ويُسْراهُ
قُلْ للألي جَعلوا للشِّعرِ جائزَةً
فيمَ الخلافُ! ألَمْ يُرْشِدْكُمُ اللهُ!
إنِّي فَتَحْتُ لها صَدْرًا تَليقُ به
إنْ لم تُحَلُّوهُ فالرَّحمنُ حَلاّهُ
لم أخْشَ من أحدٍ في الشِّعْرِ يَسْبِقُني
إلاّ فتًى ما له في السَّبْقِ إلاّهُ
ذاكَ الّذي حَكَمَتْ فينا يَراعَتُه
وأكْرَمَ اللهُ (والعَبّاسُ) مَثْواهُ

(٦) البورصة (نشرت في ٢٤ ديسمبر سنة ١٩٠٤)

ببابِكِ النَّحْسُ والسُّعودُ
ومَوْقِفُ اليأْسِ والرَّجاءِ
وفيكِ قد حارَتِ اليهودُ
يا مَطْلَعَ السَّعْدِ والشَّقاءِ
ووَجْهُكِ الضّاحِكُ العَبُوسُ
قد ضاقَ عن وَصْفِه البَيانْ
كم سُطِّرَتْ عندَه طُروسٌ
بقِسْمَةِ العِزِّ والهَوانْ
وطُؤْطِئَتْ دونَه رُءوسٌ
يَهتَزُّ مِنْ خَوْفها الزَّمانْ
وكَمْ أطافَتْ به وُفودٌ
وأكثَروا حوْلَه الدُّعاءْ
فرابِحٌ نَجْمُهُ سعيدٌ
وطامِعٌ بالخَسارِ بَاءْ
لمّا عَلَتْ صَيْحَةُ المُنادي
وأصْبَحَ القَوْمُ في عَناءْ
وشَمَّرَتْ ثَرْوَةُ البلادِ
وضجَّتِ الأرْضُ والسَّماءْ
قَنِعْتُ بالقُطْنِ في الوِسادِ
وفي الحَشيّاتِ والغِطاءْ
وإنّما العاقِلُ الرَّشيدُ
مَنْ سارَ في مَنْهَجِ النَّجاءْ
باللهِ يا قومُ لا تَزيدوا
فإنّ آمالَكُمْ هَبَاءْ
مُضارَباتٌ هي المَنايا
ورُسْلُها أحْرُفُ البُرُوقْ
صَبوحُ أصْحابِها الرّزايا
وما لَهُمْ دونَها غَبوقْ
قد أتْلَفَتْ أنْفُسَ البَرايا
بأَسْهُمِ الغَدْرِ والعُقوقْ
هُبوطُها المَوْتُ، والصُّعودُ
ضَرْبٌ من البُؤْسِ والبَلاءْ
وما لها عِندَهُمْ عُهودُ
إلاّ كما تَعْهَد النِّساءْ
كم «بالَةٍ» سَبَّبَتْ وَبالاَ
وأشْبَهَتْ لامِعَ السَّرابِ
وبَذْرَةٍ أنْبتَتْ خَبالاَ
وأثْمَرَتْ عاجِلَ الخَرابِ
وكم غَنيٍّ أضاعَ مالاَ
وشابَ في مَوْقِفِ الحِسابِ
فليَتّعِظْ منكمُ البَعيدُ
ولْيَتَّقِ اللهُ ذو الثَّراءْ
فذلك التّاجِرُ الشَّهيدُ
قد عافَ من أجْلها البَقاءْ

(٧) زلزال مِسِّينا سنة ١٩٠٨م

نَبِّئاني إنْ كُنتُما تَعْلَمانِ
ما دَهى الكَوْنَ أيُّها الفَرْقَدانِ
غَضِبَ اللهُ أمْ تَمَرَّدَتْ الأر
ضُ فأنْحَتْ على بني الإنسان؟
ليسَ هذا — سُبحانَ ربِّي — ولا ذا
كَ ولكنْ طبيعةُ الأكْوانِ
غَلَيانٌ في الأرضِ نَفَّسَ عنه
ثَوَرانٌ في البَحْرِ والبُركانِ
ربِّ، أينَ المَفَرُّ والبَحْرُ والبرْ
رُ على الكَيْدِ للوَرى عامِلانِ؟
كنتُ أخْشَى البِحارَ والموتُ فيها
راصِدٌ غَفْلةً من الرُّبّانِ
سابحٌ تحتَنا، مُطِلٌّ عليْنا
حائِمٌ حَوْلَنا، مُناءٍ مُداني
فإذا الأرضُ والبحارُ سَواءٌ
في خَلاقٍ كلاهُما غادِرانِ
ما (لمسِّينَ) عُوجِلَت في صِباها
ودَعاها من الرَّدى داعِيانِ
ومَحَتْ تِلْكُمُ المَحاسِنَ منها
حينَ تَمَّتْ آياتُها — آيتَانِ
خُسِفَتْ، ثم أغْرِقَتْ، ثمّ بادتْ
قُضيَ الأمرُ كلُّه في ثَواني
وأتى أمْرُها فأضْحَتْ كأنْ لم
تَكُ بالأمْسِ زينةَ البُلْدانِ
ليْتَها أُمْهِلَتْ فَتَقْضي حُقوقًا
من وَداعِ اللِّداتِ والجيرانِ
لمْحَةً يَسعَد الصَّديقانِ فيها
باجتماعٍ ويَلتَقي العاشِقانِ
بَغَتِ الأرضُ والجبالُ عليها
وطَغَى البحرُ أيَّما طُغْيانِ
تلكَ تَغْلي حِقدًا عليها فتَنْشَقْـ
ـقُ انْشقاقًا من كَثْرَةِ الغَلَيانِ
فتُجيبُ الجِبالُ رَجْمًا وقَذْفًا
بشُواظٍ من مارجٍ ودُخانِ
وتَسوقُ البحارُ رَدَّا عليها
جَيْشَ مَوْجٍ نائِي الجَناحَيْنِ داني
فهُنا الموتُ أسوَدُ اللَّوْنِ جَوْنٌ
وهنا المَوْتُ أحمرُ اللَّونِ قاني
جَنَّدَ الماءَ والثَّرى لَهلاكِ الـ
ـخلْقِ ثمّ استعانَ بالنِّيرانِ
ودعا السُّحْبَ عاتِيًا فأمَدَّتْـ
ـهُ بجَيْشٍ من الصَّواعِق ثاني
فاستحالَ النَّجاءُ واستَحْكَمَ اليأ
سُ وخارَتْ عزائمُ الشُّجْعانِ
وشَفَى الموتُ غِلَّهُ من نُفوسٍ
لا تُباليه في مجالِ الطِّعانِ
أينَ (رِدْجو) وأينَ ما كانَ فيها
من مَغانٍ مأْهولَةٍ وغَواني
عُوجِلَتْ مِثْلَ أخْتِها ودَهاها
ما دَهاها من ذلك الثَّوَرانِ
رُبَّ طِفْلٍ قد ساخَ في باطنِ الأر
ضِ يُنادي: أمِّي، أبي، أدْرِكاني
وفتاةٍ هَيْفاءَ تُشْوَى على الجَمْـ
ـرِ تُعاني من حَرِّه ما تُعاني
وأبٍ ذاهِلٍ، إلى النَّارِ يَمشي
مُسْتَميتًا تَمْتَدُّ منه اليَدانِ
باحِثًا عن بَناته وبَنيهِ
مُسْرعَ الخَطْوِ مُسْتَطيرَ الجَنانِ
تأكلُ النارُ منه لا هُوَ ناجٍ
من لَظاهَا ولا اللَّظى عنه وانِي
غَصَّتِ الأرضُ.. أُتْخِمَ البحْرُ مّما
طَوَياهُ من هذه الأبْدانِ
وشكا الحُوتُ للنُّسورِ شَكاةً
رَدَّدَتْها النُّسورُ للحيتانِ
أسْرَفا في الجُسومِ نَقْرًا ونَهْشًا
ثمّ باتا من كِظَّةٍ يَشْكُوانِ
لا رَعى اللهُ ساكِنَ القِمَمِ الشُّمْـ
ـمِ ولا حاطَ ساكِنَ القيعانِ
قد أغارَا على أكُفٍّ بَراها
بارِئُ الكائناتِ للإتْقانِ
كيف لم يَرْحَما أنامِلَها الغُرْ
رَ ولم يَرْفُقا بتِلْكَ البَنانِ
لَهْفَ نَفْسي وألْفَ لَهْفٍ عليها
من أكُفٍّ كانت صَناعَ الزَّمانِ
مُولَعاتٍ بصَيْدِ كلِّ جَميل
ناصِباتٍ حَبائِلَ الألْوانِ
حافِراتٍ في الصَّخْرِ أو ناقِشاتٍ
شائداتٍ رَوائعَ البُنْيانِ
مُنْطِقاتٍ لسانَ كلِّ جَمادٍ
مُفْحِماتٍ سَواجِعَ الأفْنانِ
مُلْهَماتٍ من دِقَّةِ الصُّنْعِ ما لا
يُلْهَمُ الشِّعْرُ من دَقيقِ المَعاني
من تَماثيلَ كالنُّجومِ الدَّراري
يَهْرَمُ الدَّهْرُ وهْي في عُنْفُوانِ
عَجَبٌ صُنْعُها وأعْجَبُ منه
صُنْعُه، تلكَ قُدْرَةُ الرَّحْمنِ
إيهِ «مِسِّينَ» آنِسي اليَوْمَ «بُمْبِيـ
ـيَ» فقد أوْحَشَتْ بذاكَ المَكانِ
آنِسي الدُّرَّةَ الّتي كانت الحِلـ
ـيَةَ في تاجِ دَوْلَةِ (الرُّومانِ)
غالَها قَبْلَكِ الزمانُ اغْتِيالاً
وهيَ تَلْهُو في غِبْطَةٍ وأمانِ
جاءَها الأمرُ والسَّراةُ عُكُوفٌ
في المَلاهيِ على غِناء القِيانِ
بَيْنَ صَبٍّ مُدَلَّهٍ وطَرُوبٍ
وخَليعٍ في اللَّهْوِ مُرْخَى العِنانِ
فانطَوَوْا كانْطِواءِ أهْلِكِ بالأمْـ
ـسِ وزالَتْ بَشاشَةُ العُمْرانِ
أنتِ (مِسِّينَ) لن تَزولي كما زا
لتْ ولكِنْ أمْسَيْتِ رَهْنَ الأوانِ
إنّ إيطاليا بَنُوها بُناةٌ
فاطمَئِنِّي ما دامَ في الحيِّ باني
فسَلامٌ عليكِ يومَ تَوَلَّيْـ
ـتِ بما فيكِ من مَغانٍ حِسانِ
وسَلامٌ عليكِ يومَ تَعوديـ
ـنَ كما كنتِ جنَّةَ الطُّلْيانِ
وسَلامٌ من كلِّ حَيٍّ على الأر
ضِ على كلِّ هالِكٍ فيكِ فاني
وسَلامٌ على الألَى أكَلَ الذِّئْـ
ـبُ وناشَتْ جَوارِحُ العِقْبانِ
وسَلامٌ على امرِئٍ جادَ بالدَّمْـ
ـعِ وثَنَّى بالأصْفَرِ الرَّنَّانِ
ذاكَ حَقُّ الإنْسانِ عند بَني الإنْـ
ـسانِ لمْ أدْعُكُمْ إلى إحْسانِ
فاكتُبُوا في سَماءِ (رِدْجُو) و(مِسِّيـ
ـنَا) و(كالَبْرِيا) بكلِّ لسان
ها هُنا مَصْرَعُ الصِّناعَةِ والتَّصْـ
ـويرِ والحِذْقِ والحِجَا والأغاني

(٨) براعةُ غناء (نشرت في ١٥ نوفمبر سنة ١٩٠٨م)

قالها في جاك رومانو المغنّي الإسرائيلي المعروف

ارْحَمونا — بَني اليَهودِ — كَفاكُمْ
ما جَمَعْتُمْ بحِذْقِكُمْ من نُقُودِ
واصفَحوا عن عُقولنا ودَعُوا الخَلْـ
ـقَ بسِرِّ التوْراةِ والتَّلْمُودِ
لا تَزيدوا على الصُّكوكِ فِخاخًا
من غِناءٍ ما بَيْنَ دُفٍّ وعُودِ
وَيْحَكُمْ إنَّ (جاكَ) أسْرَفَ حتّى
زادَ في قَوْمِه على (داوُدِ)
أسْكِتُوهُ لا أسْكَتَ اللهُ ذاكَ الصْـ
ـوْتَ صَوْتَ المُتَيَّمِ الغِرِّيدِ
أوْ دَعوه، فِداؤُه إنْ تَغنَّى
كلُّ نَفْسٍ وكلُّ ما في الوُجُودِ

وقال فيه أيضًا:

يا (جاكُ) إنَّكَ في زَمانِكَ واحِدٌ
ولكلِّ عَصْرٍ واحِدٌ لا يُلْحَقُ
إنّ الألى قد عاصَروكَ وفاتَهُمْ
أنْ يَسْمَعُوكَ كأنّهم لم يُخْلَقُوا
قد جاء (موسى) بالعصا وأتَيْتَنا
بالعُودِ يَشدو في يَدَيْكَ ويَنْطِقُ
فإذا ارْتَجَلْتَ لنا الغِناءَ فكُلُّنا
مُهَجٌ تَسيلُ وأنْفُسٌ تَتَحَرَّقُ
فمُطالِبٌ بإعادَةٍ ومُطالِبٌ
بزيادَةٍ ومُهَلِّلٌ ومُصَفِّقُ
تَتسابَقُ الأسْماعُ صَوْبَكَ كلّما
غَنَّيْتَها شوْقًا إليكَ وتُعْنِقُ
وتَوَدُّ أفْئِدةٌ هَتَكْتَ شَغافَها
لو أنّها بذُيولِها تَتَعَلَّقُ
خُلُقٌ كما شاءَ الجليسُ وشيمَةٌ
يَذكو بها صَدْرُ النَّديِّ ويَعبَقُ
ومُروءَةٌ لو أنّها قد قُسِّمَتْ
بيْنَ اليهودِ لأحْسَنوا وتَصدَّقوا

(٩) نادي الألعاب الرياضيّة (ليلة السبت ٨ أبريل ١٩١٦م)

أنشدها في ليلة أحياها نادي الألعاب الرياضيّة بالأوبرا السلطانيّة

بنادي الجزيرةِ قِفْ ساعةً
وشاهِدْ بربِّكَ ما قد حَوَى
تَرَى جَنّةً من جِنانِ الرَّبيعِ
تَبَدَّتْ مع الخُلْدِ في مُسْتَوَى
جَمالُ الطَّبيعَةِ في أُفْقِها
تَجلَّى على عَرْشِه واستَوَى
فقُلْ للحَزين وقُلْ للعَليل
وقُلْ للمَلولِ: هُناكَ الدَّوَا
وقُلْ للأديب: ابتَدِرْ ساحَها
إذا ما البَيانُ عَلَيْكَ الْتَوى
وقُلْ للمُكِبِّ على دَرْسِه
إذا نَهَكَ الدَّرْسُ منه القُوَى:
تَنَسَّمْ صَباها تُجَدِّد قُواك
فأرْضُ الجَزيرَةِ لا تُجْتَوَى
ففيها شِفاءٌ لمَرْضَى الهُموم
ومَلْهًى كريمٌ لمَرْضى الهَوَى
وفيها وفي نِيلها سُلوَةٌ
لكلِّ غريبٍ رَمَتْه النَّوَى
وفيها غِذاءُ لأهْلِ العُقولْ
إذا الرأسُ إثْرَ كَلالٍ خَوَى
ويا رُبَّ يومٍ شديدِ اللَّظى
رَوَى عن جَهَنَّمَ ما قد رَوَى
به الرِّيحُ لفَّاحَةٌ للوُجوه
به الشَّمْسُ نَزَّاعَةٌ للشَّوَى
قَصَدْتُ الجزيرةَ أبْغِي النَّجاة
وجِسْمي شَواهُ اللّظى فاشْتَوَى
فألْفَيْتُ نادِيَها زاهرًا
وألْفَيْتُ ثَمَّ نَعيمًا ثَوَى
فأنْزَلَني مُنْزَلاً طَيِّبًا
ورَوَّى فؤادي حتّى ارتَوَى
وأطْفَأَ وارِفُ تِلْكَ الظِّلال
سَعيرَ الهَجيرِ وحَرَّ الجَوَى
وحَلَّ الأصيلُ عِقالَ الشَّمال
فهبَّتْ بنَشْرٍ إليها انضوَى
فأحْيَتْ بنفسيَ ذِكْرى الشَّباب
وما كان منها ومنه انطَوَى
وعاوَدَ قَلْبي ذاكَ الخُفوق
وقد كانَ بعْدَ المَشيبِ ارْعَوَى
فما بالُ قَوْميَ لا يأخُذون
لِتلْكَ الجِنانِ طريقًا سَوَا
وما بالُ قَوْمي لا يَنزِلون
بغَيْرِ (جُرُبِّي) و(بارِ اللِّوَا)
تَراهُمْ على نَرْدِهِمْ عُكَّفًا
يُبادِرُ كلٌّ إلى ما غَوَى
ولو أنْصَفوا الجِسْمَ لاستَظْهَروا
له بالمِران وطيبِ الهَوَا
فيا نادِيًا ضَمَّ أنْسَ النَّديم
ولَهْو الكَريم وُقيتَ البِلَى
ليالِيكَ أنْسٌ جَلاها الصَّفا
فأسْرَتْ إليكَ وُفودُ المَلاَ
فكَمْ ليلةٍ طاب فيكَ الحَديث
فكان الكُئوسَ وكان الطِّلا
فمِنْ مُشْجياتٍ إلى مُطْرِبات
إلى مُضحِكاتٍ تُسَلِّي، إلى …
وقد زانَ لَهْوَكَ ثوْبُ الوَقار
فلَهْوُكَ في كلِّ ذَوْقٍ حَلاَ
تَخِفُّ إليه رِزانُ الحِجَا
وتَمشي إليه السَّراةُ الأُلَى
فقُلْ للّذي باتَ تَحْتَ العُقود
بحَرْبٍ على نَفْسِه مُبْتَلى:
أتِلْكَ الأماكِنُ لا تُسْتَراد
أتِلْكَ المَناظرُ لا تُجْتَلَى؟
أتَحْتَ السَّماء وبدْرِ السَّماء
وبَيْنَ الرِّياضِ وبَيْنَ الخَلاَ
يُمَلُّ الجُلوسُ ويَفْنَى الحَديث
فهذا النَّعيمُ وإلاّ فلا؟
سَألْتُ الألَى يَقْدِرُون الحياة
ألَمْ تَفْتَتِنْكُمْ؟ فقالوا: بلى
مكانٌ لعَمْرُكَ ما حلَّ في
نواحيه ذو الحُزْنِ إلاّ سَلاَ
فما أنتَ في مِصْرَ إنْ لم تَطِرْ
إليه فتَشْهَدَ تلك الحُلَى
له مَلْعَبٌ فيه ما يَشْتَهي
مُحِبُّ الرِّياضَةِ مَهْما غَلاَ
لكلِّ فريقٍ به لُعْبةٌ
تُلائِمُ مِنْ سِنِّه ما خَلاَ
ولِعْبٌ هو الجِدُّ لو أنّنا
نَظَرنا إليه بعَيْنِ النُّهَى
لدى غير (مِصرَ) له حُظْوَةٌ
فكم راحَ يَلْهو به مَنْ لَها
وفي أرْضِ (يونانَ) شاهَدْتُه
فأيُّ جمالٍ إليه انتَهَى
وشاهَدْتُ مَوْسِمَهُ قد حَوَتْ
نواحِيهِ غايَةَ ما يُشْتَهَى
وماجَ بزُوّارِهِ المُولَعين
وأضْحى بعَرْش المُلوكِ ازْدَهى
وقد زادَ ألْعابَه بهْجَةً
مكانٌ فسيحٌ مُعَدٌّ لها
صِراعٌ وعَدْوٌ بعيدُ المَدى
ووَثْبٌ يَكادُ يَنالُ السُّها
وشاهَدْتُ عَدّاءَهُم قد عَدا
ثلاثينَ ميلاً وما إنْ وَهَى
وقامَتْ مُلاكَمَةُ اللاَّعِبين
فأنْسَتْ تَناطُحَ وَحْشِ المَهَا
بأوْحَى منَ اللَّمْحِ كانَ النِّزال
فيا وَيْلَ مَنْ مِنْهُما قد سَهَا
ولو رُحْتُ أنْعَتُ تِلْكَ الضُّروب
لضاقَ القريضُ وأعْيَا بها
على أنّ في أفْقِنا نَهْضَةً
سَتَبْلُغُ رَغْمَ القُعودِ المدى
وإنْ لم تَكُنْ بلَغَتْ أوْجَها
كذا كلُّ شيءٍ إذا ما ابْتَدَا
ونادي الرِّياضةِ أوْلى بأنْ
يكونَ عليها مَنارَ الهُدَى
أظَلَّتْ جَلائِلَ أعْمالِه
ظِلالُ (حُسَيْنٍ) حَليفِ النَّدى
مَليكٌ رَعاه بإقباله
وحُسْنِ عِنايَته والجَدا
ففي عَهْده فلْيُجِدَّ المُجِدّ
فإنَّ السُّعودَ به قد بَدا

(١٠) رحلته إلى إيطاليا (نشرت في نوفمبر سنة ١٩٢٣م)

عاصِفٌ يَرْتَمي وبَحْرٌ يُغيرُ
أنا باللهِ منهما مُسْتَجيرُ
وكأنَّ الأمواجَ، وهي تَوالَى
مُحْنَقاتٍ، أشْجانُ نَفْسٍ تَثُورُ
أزْبَدَتْ، ثمّ جَرْجَرَتْ، ثمّ ثارَتْ
ثمّ فارَتْ كما تَفورُ القُدورُ
ثمّ أوْفَتْ مِثْلَ الجبالِ على الفُلْـ
ـكِ وللفُلْكِ عَزْمَةٌ لا تخُورُ
تَترامَى بجُؤْجُؤٍ لا يُبالي
أمِياهٌ تَحَوطُه أم صُخورُ؟
أزْعَجَ البَحْرُ جَانِبَيْها مِنَ الشِّدْ
دِ فجَنْبٌ يَعْلو وجَنْبٌ يَغُورُ
وهْوَ آنًا يَنحَطُّ من عَلٍ كالسَّيْـ
ـلِ وآنًا يَحُوطُها منه سُورُ
وهي تَزْوَرُّ كالجَوادِ إذا ما
ساقَهُ للطِّعانِ نَدْبٌ جَسورُ
وعليها نُفوسُنا خائِراتٌ
جازِعاتٌ كادَتْ شعاعًا تَطيرُ
في ثَنايا الأمواجِ والزَّبَدِ المَنْـ
ـدُوفِ لاحَتْ أكفائُنا والقُبورُ
مَرَّ يَوْمٌ وبَعْضُ يوْمٍ علينا
والمَنايا إلى النُّفوسِ تُشيرُ
ثمّ طافَتْ عِنايَةُ اللهِ بالفُلْـ
ـكِ فزالَتْ عمّن تُقِلُّ الشُّرورُ
مَلَكَتْ دَفّةَ النَّجاةِ يَدُ اللـ
ـهِ فسُبْحانَ مَنْ إليه المَصيرُ
أمَرَ البَحْرَ فاستكانَ وأمْسَى
منه ذاكَ العُبابُ وهو حَصيرُ
أيّها البحرُ لا يَغُرَّنْكَ حَوْلُ
واتِّساعٌ وأنتَ خَلْقٌ كبيرُ
إنّما أنتَ ذَرّةٌ قد حَوَتْها
ذَرّةٌ في فضاءِ ربِّي تَدورُ
إنّما أنتَ قطرةٌ في إناءٍ
ليس يَدري مَداهُ إلاّ القديرُ
إيهِ (إسْبيرِيَا) فَدَتْكِ الجَواري
مَنْشَآتٍ كأنّهنّ القُصورُ
يا عَروسَ البحارِ إنّكِ أهْلٌ
أنْ تُحَلِّيكِ بالجُمانِ البُحورُ
فالبَسي اليومَ مِنْ ثَنائِيَ عِقْدًا
تَشْتَهيه من الحِسانِ النُّحُورُ
إيهِ إيطاليا عَدَتْكِ العَوادي
وتَنحَّى عن ساكِنيكِ الثُّبورُ
فيكِ يا مَهْبِطَ الجَمالِ فُنونٌ
ليسَ فيها عنِ الكَمالِ قُصورُ
ودُمًى جَمَّعَ المحاسِنَ فيها
صَنَعُ الكَفِّ عَبْقَرِيُّ شَهيرُ
قد أُقيمَتْ من الجَمادِ ولكنْ
من معاني الحياةِ فيها سُطورُ
فهْيَ تَبدو منَ المَلائِكِ يَكْسو
ها جمالٌ على حِفافَيْهِ نورُ
أُمِرَتْ بالسُّكوتِ من جانِبِ الحَـ
ـقِ بدُنيا فيها الأحاديثُ زُورُ
أرْضُهُمْ جَنّةٌ وحُورٌ ووِلْدَا
نٌ كما تَشتَهي ومُلْكٌ كبيرُ
تَحْتَها — والعياذُ باللهِ — نارٌ
وعَذابٌ ومُنْكَرٌ ونَكيرُ
إنَّ يومًا كيَومِ (رِدْجُو) و(مِسِّيـ
ـنَا) و(كالَبْرِيَا) ليَوْمٌ عسيرُ
ساعَةٌ منه تُهْلِكُ الحَرْثَ والنَّسـ
ـلَ وتَمْحُو ما سَطَّرَتْه الدُّهورُ
ذاكَ (فيزُوف) قائما يَتَلظَّى
قد تَعالَى شَهيقُهُ والزَّفيرُ
يُنْذِرُ القَوْمَ بالرَّحيلِ ولكنْ
ليس يُغْني مع القضاءِ النَّذيرُ
وكذاكَ الأوْطانُ مهْما تَجَنَّتْ
ليس للحُرِّ عن حِماها مَسيرُ
شَمْسُهُمْ غادَةٌ عليها حِجابٌ
فهي شَرْقِيّةٌ حَوَتْها الخُدورُ
شَمْسُنا غادَةٌ أبَتْ أنْ تَوارَى
فهي غَرْبيّةٌ جَلاها السُّفورُ
جَوُّهُمْ في تَقَلُّبٍ واختِلافٍ
غيرَ أنّ الثَّباتَ فيهمْ وَفيرُ
جَوُّنا أثْبَتُ الجِواءِ ولكنْ
ليسَ فينا على الثَّباتِ صَبورُ
ولَدَيْهِمْ مِنَ الفُنونِ لُبابٌ
ولَدَيْنا مِنَ الفُنونِ قُشورُ
أنْكَرَ الوقفَ شَرْعُهُمْ فلهذا
كلُّ رَبْعٍ بأرْضِهِمْ مَعْمُورُ
ليسَ فيها مُسْتَنقَعٌ أو جِدارٌ
قد تَداعى أو مَسْكَنٌ مَهْجُورُ
كلُّ شِبْرٍ فيها عَلَيْه بِناءٌ
مُشْمَخِرٌّ أو رَوْضَةٌ أو غَديرُ
قَسَّموا الوَقْتَ بين لَهْوٍ وجِدٍّ
في مَدى اليوْمِ قِسْمَةً لا تَجورُ
كلُّهُمْ كادِحٌ بَكورٌ إلى الرِّزْ
قِ وَلاهٍ إذا دَعاهُ السُّرورُ
لا تَرَى في الصَّباحِ لاعِبَ نَرْدٍ
حَوْلَهُ للرِّهانِ جَمٌّ غَفيرُ
لا ولا باهِلاً سليمَ النَّواحي
للقَهاوي رَواحُه والبُكورُ
لم يَحُلْ بَيْنَهُمْ وبينَ المَلاهي
أو شُئونِ الحياةِ جَوٌ مَطيرُ
لا يُبالُون بالطَّبيعةِ حَنَّتْ
أمْ تَجنَّتْ أم احْتَواها النَّعُورُ
عَصَفَتْ فوقَهُمْ رياحٌ عَواتٍ
أمْ أجازَت بهمْ صَبًا أمْ دَبورُ
قد أعَدُّوا الحادِثاتِ اللَّيالي
عُدَّةً لا يَحوزُها التَّقْديرُ
نَضَّروا الصَّخْرَ في رُءوس الرَّواسي
ولَدَيْنا في مَوْطِنِ الخِصْبِ بُورُ
قد وقَفْنا عند القديم وساروا
حيثُ تَسْري إلى الكَمالِ البُدورُ
والجَواري في النِّيل من عَهْدِ (نوحٍ)
لم يُقَدّرْ لصُنْعِها تَغْييرُ
وَلِعَ القَوْمُ بالنَّظافةِ حتَّى
جُنَّ فيها غَنِيُّهُمْ والفقيرُ
فإذا سِرْتُ في الطَّريقِ نهارًا
خِلْتُ أنِّي على المَرايا أسيرُ
أفْرَطَ القَوْمُ في النِّظامِ وعِنْدي
أنّ فَرْطَ النِّظامِ أسْرٌ وَنِيرُ
ولَذيذُ الحياةِ ما كان فَوْضَى
ليسَ فيها مُسَيْطِرٌ أو أميرُ
فإذا ما سألْتَني قلتُ عنهم:
أمّةٌ حُرّةٌ وفَرْدٌ أسيرُ
ذاكَ رأيي وهل أشارَكُ فيه
إنّه قَوْلُ شاعِرٍ لا يَضيرْ
في جِبالِ التِّيرولِ إنْ أقْبَلَ الصَّيْـ
ـفُ نَعيمٌ وإنْ مضى زَمْهَريرُ
أذْكَرَتْني ما قاله عربيٌّ
طارِقيٌّ أمْسَى احتَواهُ (شُُلَيْرُ):
حَلَّ تَرْكُ الصَّلاةِ في هذه الأرْ
ضِ وحَلَّتْ عليها الخُمُورُ
إنّ صدْرَ السَّعيرِ أحْنَى علينا
مِنْ (شُلَيْرٍ) وأيْنَ مِنّا السَّعيرُ
قد بَلَوْتُ الحياةَ في الشَّرْقِ والغَرْ
بِ فما في الحياةِ أمْرٌ يَسيرُ
مِنْ ثَواء فيه المَلالُ لِزامٌ
أوْ رَحيلٍ فيه العَناءُ كثيرُ

(١١) حـريـق

قال هذه الأبيات في حريق رآه بمنزل عبد الله أباظه بك

عَجِبَ النّاسُ مِنْكَ يابنَ سُليْما
ن وقد أبْصَروا لَدَيْكَ عجيبا
أبْصَروا في حِماكَ غَيْثًا ونارًا
ذاكَ يَهْمي وتِلْكَ تَذْكو لَهيبا
ونَسوا أنّ جُودَ كَفِّكَ غَيْثٌ
ظلَّ للمُرْتَجي الوُرودَ قريبا
وهي ضَيْفٌ أصابَه عَنَتُ الدَّهْـ
ـرِ وألْقى هذا الفناءَ رَحيبا
فأتى يُبْرِدُ الغَليلَ بقَطْرٍ
مِنْ نَدى سَيِّدٍ يُواسي الغَريبا

(١٢) خنجر مَكْبِثْ

قصيدة مترجمة عن الشاعر الإنجليزيّ شكسبير، قالها على لسان مكبث يخاطب خنجرًا تخيّله حينما همّ باغتيال ابن عمّه (دانكان) الملك ليخلفه في ملكه؛ ويصف تردّده أوّلاً ثمّ تصميمه بعد ذلك على تنفيذ ما أراد:

كأنِّي أرَى في اللَّيْلِ نَصْلاً مجرَّدا
يَطيرُ بكِلْتا صَفْحَتَيْهِ شَرارُ
تُقَلِّبُه للعَيْن كَفٌّ خَفِيّةٌ
ففيه خُفوقٌ تارةً وقَرارُ
يُماثِلُ نَصلي في صَفاءِ فِرِنْدِه
ويَحْكيه منه رَوْنَقٌ وغِرارُ
أراهُ فتُدْنيني إليه شراسَتي
فيَنْأى وفي نَفسي إليه أُوارُ
وأهْوي بزَنْدي طامِعًا في التِقاطه
فيُدْرِكُه عند الدُّنوِّ نِفارُ
تَخَبَّطَني مَسٌّ من الجِنِّ أمْ سَرَتْ
بأجزاءِ نفسي نَشْوَةٌ وخُمارُ
أراني في لَيْلٍ من الشَّكِّ مُظْلِمٍ
فيا لَيْتَ شِعْري هَلْ يَليه نهارُ؟
سأقْتُلُ ضَيفي وابنَ عمِّي ومالِكي
ولو أنّ عُقْبى القاتِلين خَسارُ
وأُرْضي هَوَى نَفْسي وإنْ صَحَّ قولُهُمْ
هَوَى النَّفسِ ذُلٌّ، والخيانةُ عارُ
فيأيُّها النَّصْلُ الّذي لاحَ في الدُّجى
وفي طَيِّ نَفْسي للشُّرورِ مَثارُ
تُرى خَدَعَتْني العَيْنُ أم كنتُ مُبْصِرًا
وهذا دَمٌ، أم في شَباتِكَ نارُ؟
وهل أنتَ تِمْثالٌ لكَيْدٍ نَوَيْتُه
وذاكَ الدَّمُ الجاري عليكَ شِعارُ؟
فإنْ لم تَكُنْ وَهْمًا فكُنْ خيرَ مُسْعِدٍ
فإنِّي وَحيدٌ والخُطوبُ كُثارُ
وكُنْ لي دليلاً في الظَّلامِ وهادِيًا
فلَيْلي بَهيمٌ والطَّريقُ عِثارُ
على الفَتْكِ يا (دُنْكانُ) صَحَّتْ عَزيمتي
وإنْ لم يَكُنْ بَيْني وبَيْنَكَ ثارُ
فإنْ يَكُ حُبُّ التاجِ أعْمى بَصيرَتي
فما لي على هذا القَضاءِ خِيارُ
أعِرْني فؤادًا منك يا دَهْرُ قاسيًا
لو انّ القُلوبَ القاسياتِ تُعارُ
ويا حِلْمُ قاطِعْني ويا رُشْدُ لا تَثُبْ
ويا شَرُّ مالي مِنْ يَدَيْكَ فِرارُ
ويا ليْلُ أنْزِلْني بجَوْفِكَ مَنْزِلاً
يَضِلُّ به سِرْبُ القَطا ويَحارُ
وإنْ كنتَ لَيلَ (المانَوِيَّةِ) فلْيَكُنْ
على سرِّ أهْلِ الشَّرِّ منكَ سِتارُ
ويا قَدَمي سيري حِذارًا وخافتي
من المَشْيِ لو يُنْجي الأثيمَ حِذارُ
وقَفْتُ بجَوْفِ اللَّيْل وَقْفَةَ ساحِرٍ
له الجِنُّ أهْلٌ والمَكايِدُ دارُ
إذا اشتَمَل اللَّيلُ البهيمُ على الوَرَى
تَجرَّدَ للإيذاءِ حيثُ يُثارُ
فمالي كأنِّي فاتِكٌ ذو عَشيرةٍ
خِيارُهُمُ تحتَ الظَّلامِ شِرارُ
إذا ما عوى ذِئْبُ الفلا هَبَّ جَمْعُهُمْ
إلى الشَّرِّ واستُلَّتْ ظُبًا وشِفارُ

(١٣) طول اللَّيل

يا ساهِدَ النَّجْمِ هَلْ للصُّبْحِ منْ خَبَرِ
إنِّي أرَاكَ على شيْءٍ من الضَّجَرِ
أظُنُّ لَيْلَكَ مُذْ طال المُقامُ به
كالقَوْمِ في مِصْرَ، لا يَنوي على سَفَرِ

وقال في هذا المعنى أيضًا:

أقَضِّيهِ في الأشواقِ إلاّ أقَلَّهُ
بَطيء سُرًى أبْدى إلى اللُّبْثِ مَيْلَهُ
وليسَ اشتياقي عَنْ غَرامٍ بشادِنٍ
ولكنّه شَوْقُ امرئٍ فاتَ أهْلَهُ
فيا لَكَ من لَيْلٍ أعَرْتُ نُجومَه
تَوَقُّدَ أنفاسي وعانَيْتُ مِثْلَه
ومَلَّ كِلانا مِنْ أخيه وهكذا
إذا طال عَهْدُ المَرءِ بالشَّيء مَلَّهُ

(١٤) الشِّعر

ضِعْتَ بينَ النُّهَى وبينَ الخَيالِ
يا حَكيمَ النُّفوسِ يابنَ المَعالي
ضِعْتَ في الشَّرْقِ بيْنَ قَومٍ هُجُودٍ
لم يُفيقوا وأمَّةٍ مِكْسالِ
قد أذالُوكَ بيْنَ أنْسٍ وكأْسٍ
وغَرامٍ بظَبْيَةٍ أو غَزالِ
ونَسيبٍ ومِدْحَةٍ وهِجاءٍ
ورِثاءٍ وفِتْنَةٍ وضَلالِ
وحَماسٍ أراهُ في غَيْرِ شيءٍ
وصَغارٍ يَجُرُّ ذيْلَ اخْتِيالِ
عِشْتَ ما بينهم مُذالاً مُضاعًا
وكذا كنتَ في العُصورِ الخَوالي
حَمَّلوكَ العَناءَ من حُبِّ (لَيْلَى)
و(سُلَيْمى) ووَقْفَةِ الأطْلالِ
وبُكاءٍ على عزيزٍ تَوَلَّى
ورُسومٍ رَاحَتْ بهنّ اللَّيالي
وإذا ما سَمَوْا بقَدْرِكَ يوْمًا
أسْكَنُوكَ الرِّحالَ فوْقَ الجِمالِ
آنَ يا شِعْرُ أنْ نَفُكَّ قُيودًا
قيَّدَتْنا بها دُعاةُ المُحالِ
فارفَعوا هذه الكَمائم عَنّا
ودَعونا نَشُمُّ ريحَ الشَّمالِ

(١٥) خزّان أسوان

قال هذين البيتين في العام الذي أسّس فيه خزّان أسوان ونقص فيه الفيضان:

أنْكَرَ النِّيلُ مَوْقِفَ الخَزّانِ
فانثَنى قافَِلاً إلى السُّودانِ
راعَه أنْ يَرى على جانِبَيْه
رَصَدًا من مَكايِدِ الإنسانِ

(١٦) مَعونة الدمع

يا مَنْ خَلَقْتَ الدَّمعَ لُطْـ
ـفًا منكَ بالباكي الحَزينْ
بارِكْ لعَبْدِكَ في الدُّمو
عِ فإنَّها نِعْمَ المُعينْ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤