مفاجأة في الطابق العشرين

تحرَّكت السيارة من المقر السرِّي، يقودها «فهد»، بينما كان «أحمد» يقرأ تقرير رقم «صفر» عن «دان» بصوت مرتفع، كانت أهم النقاط التي ركز عليها «أحمد» عن قراءة التقرير هي أوصاف «دان»، كما يقول التقرير، فإنَّ طوله ١٨٠سم، رشيق القوام، في الخمسين من عمره، يلبس نظارة طبِّية، وسيم، يتحدث عدة لغات، من بينها الإيطالية والإسبانية، شعره كثيف أبيض تمامًا، وليس فيه ما يلفت النظر سوى طوله ووسامته وشعره الأبيض.

قال «فهد» بعد أن استمع لهذه الأوصاف: إنَّه يستطيع أن يصبغ شعره، ويستطيع ألا يكون وسيمًا، ويمكن أن يضع عدسات لاصقة بدلًا من النظارة، كذلك يمكن أن يدَّعيَ أنَّه لا يعرف سوى الإنجليزية مثلًا، أمَّا طوله، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يميزه، ولا يستطيع أن يهرب منه.

ابتسم «أحمد» وهو يقول: هذه حقيقة، ولو أنَّ الأوروبيين يتميزون كثيرًا بطول القامة، ولهذا فهو يمكن أن يكون شخصًا عاديًّا بينهم، كذلك فإن الأمريكيين لهم نفس القامة الطويلة نوعًا.

عاد «أحمد» يقرأ التقرير مرة أخرى: كان «دان» مُجنَّدًا في القوات المسلحة الأمريكية وهو في سن الثلاثين، لكنَّه هرب من الجيش، واختفى، ولا أحد يدري كيف خرج من أمريكا، ثم ظهر فجأة في «روما»، وعمل مترجمًا في بعض الشركات، ثم في النوادي الليلية، ثم اختفى مرة أخرى، وظهر في عمله الأخير كسكرتير للثري العربي.

توقَّف «أحمد» عن القراءة قليلًا، ألقى نظرة على الطريق الممتد أمامه الذي تقطعه السيارة في سرعة كبيرة، لم يكن شيء يظهر على مد البصر، ليس سوى الرمال الممتدة بلا نهاية … ووسطها يبدو الشريط الأسفلتي وكأنَّه حية تتلوى عند كل مسافة وأخرى.

عاد من جديد إلى التقرير، وبدأ يقرأ: «دان» ليس هو الاسم الحقيقي، فاسمه الحقيقي «كلارك فان دك». ضحك «فهد» وهو يقول: إذن، فهو لص محترف، ما دام قد هرب من الخدمة الوطنية … ثم غير اسمه، لقد كان ينتظر اللحظة المناسبة فقط ليضرب ضربته الكبرى ويسرق الملايين الثلاثة والنصف. أعتقد أنَّها خبطة جيدة تستحق أن يقضيَ من أجلها عشر سنوات من عمره في خدمة الثري العربي.

كانت الشمس قد بدأت تميل إلى الغروب، وبدأت ألوان الأشياء تتغير، تبعًا لتغيُّر لون الشمس، أغلق «أحمد» التقرير وشرد، كان يفكر في «دان»، أو «كلارك فان دك»، وهذا اسمه الحقيقي. وكان يقلِّب الموقف في رأسه، ويعيد تفكيره في «بلجيكا»، إنَّه يعرف من خلال قراءته أنَّ أحسن مصانع الماس موجودة فيها، ومن المؤكد أنَّه لن يبقى في «هولندا»، وأنَّه سوف يذهب إلى «بلجيكا»، حيث يستطيع أن يصقل الماسات التي يحملها، بل إنَّه يستطيع أن يبيعها هناك، دون أن يلفت ذلك نظر أحد، خصوصًا وأنَّه يتمتع بمظهر طيب.

قطع «فهد» شروده، وهو يقول: لا تسبق الأحداث، إننا نستطيع أن نقلب الدنيا، وأن نجده في النهاية، إنَّ «كلارك فان دك»، أو «دان» لن يستطيع الإفلات منَّا.

ثم ضحك وأضاف: أظنه قد أصبح الآن «هربرت روكي» أو «جون بلاك»، أو أي اسم آخر، فمن يجرؤ على تغيير اسمه مرَّة يمكن أن يغيره بعد ذلك كثيرًا.

تنَّهد «أحمد» وهو يقول: هذا صحيح.

أكمل «فهد»: ولا تنسَ أنَّ عصابات التزوير منتشرة في أوروبا … وهو يستطيع أن يحصل على أوراق رسميَّة مزورة باسم جديد.

هزَّ «أحمد» رأسه موافقًا، قال: أعرف، أعرف أيضًا أنَّه يمكن أن يغيِّر ملامحه بأي عملية جراحية، وفي هذه الحالة يصبح من الصعب العثور عليه.

ابتسم «فهد»، وقال: ومع ذلك، سوف نجده إن شاء الله.

كان الغروب قد بدأ يغطي الكون، ومن بعيد، لمعت أضواء المطار، نظر «أحمد» في ساعة يده، ثم قال: لقد وصلنا في الوقت المناسب.

عندما توقَّفت السيارة عند باب المطار، غادراها بسرعة، وأخذا طريقهما إلى الداخل، وكعادة «أحمد»، أخذ طريقه إلى بائع الجرائد، حيث اشترى جرائد اليوم، وجرت عيناه بسرعة على مجموعة الكتب، لكنَّه لم يختر واحدًا منها، لكن عينيه وقعتا على مجلة «لوك»، فقرأ على غلافها عنوانًا لموضوع داخلي، وكان العنوان هو السبب في أنَّه اشترى المجلة.

كان الموضوع هو «صناعة الماس»، وبسرعة عاد إلى حيث يقف «فهد»، يلقي بعينيه نظرة فاحصة بين الكثيرين الذين يزحمون قاعة الانتظار الخارجية، ولم تمضِ دقائق حتى كان صوت مذيعة المطار يدعو الركاب للرحلة ٥٨٤ المتجهة إلى «هولندا».

وفي دقائق، كان «أحمد» و«فهد» يمرَّان إلى قلب الطائرة، التي كانت تقف على أرض المطار، وكأنَّها حيوان خرافي، مرت دقائق أخرى، ودارت المحركات ثم أخذت طريقها إلى الفضاء، كانت الطائرة كاملة العدد، وكان «أحمد» يجلس في الثلث الأول منها، بينما «فهد» يجلس في ثلثها الأخير.

كان «أحمد» قد استغرق في القراءة، منذ أن جلس في مقعده، حتى إنه لم يلتفت إلى الجالس بجواره … لم يعرف إن كان شابًّا، أو شيخًا … آنسة، أو رجلًا، أو سيدة … لكنَّه استطاع أن يحدِّد ذلك من خلال عبير «البارفان»، الذي شمَّ رائحته، فعرف أنَّ سيدةً بجواره … لكنه مع ذلك لم يلتفت إليها … كان التحقيق الصحفي عن صناعة الماس قد استغرقه تمامًا … ولقد ذكر التحقيق أنَّ «بلجيكا» تُعتبر من أوائل الدول في صناعة الماس، وتوقَّف عند معلومة سريعة في التحقيق تقول إنَّ أحد الصنَّاع المهرة في تقطيع الماس وصقله يوجد في مدينة «أوستند».

أخرج خريطة صغيرة من حقيبته السحرية، ثم بحث عن «بلجيكا»، وظلَّ يجري بإصبعه بحثًا عن مدينة «أوستند» حتى وصل إلى مضيق «روفر»، حيث وجد مدينة «أوستند» الساحلية، التي تقع على المضيق، شيء ما جعله يشعر بالراحة، وكأنَّ عثوره على مدينة «أوستند» هو نفسه العثور على «دان».

فجأة قطع تفكيره صوت السيدة الجالسة بجواره، تقول: هل أنت مهتم بالماس إلى هذه الدرجة؟

نظر لها، كانت سيدة متقدمة في السن، وجهها يوحي بالراحة، أنيقة، تلمع عدة ماسات على صدرها ويدها، ابتسمت وقالت: هذه ليست ماسات حقيقية، فالماس الحقيقي لا يمكن السفر به …

ثم ضحكت ضحكة صغيرة، وأضافت: هل معقول أن تسافر بثروة مكشوفة وظاهرة؟

ابتسم «أحمد»، وقال: لا أظن، ولو حدث فإنني أحتاج إلى حراسة.

ضحكت السيدة، وقالت: إنني أحتفظ بماستين كبيرتين في بنك «أمستردام»، اشتريتهما من تاجر في مدينة «أوستند» البلجيكية.

اهتم «أحمد» بحديث السيدة التي لاحظت ذلك، فقالت: هل تعرفه؟

قال «أحمد»: ليس بعد، ولكني في طريقي للتعرف عليه.

سألت: هل سوف تشتري ماسًا من عنده؟

ثم أضافت بسرعة: إنَّه لا يتاجر في الماس، إنَّه يقوم بتقطيعه وصقله، ولكن قد يعرض أحد عليه شراء ماسة، فيقوم هو بالوساطة بين صاحبها ومشتريها.

ابتسم «أحمد» وهو يقول: يبدو أنَّ سيدتي تعرفه جيدًا.

ابتسمت وأجابت: نعم … إنني أعرفه منذ زمن بعيد، وقد تقدَّم الآن في السن كثيرًا، إنَّه يعتبر من أمهر صناع الماس في العالم …

قال «أحمد»: هل أطمع في توصية منكِ له؟

ضحكت ضحكة عالية صغيرة آسرة، وهي تقول: في عالم التجارة لا توجد توصيات.

ثم فتحت حقيبة يدها، وأخرجت كارتًا، وقلمًا، ثم كتبت عدَّة كلمات سريعة، وقدمت الكارت ﻟ «أحمد» قائلة: سوف يهتم بك، فنحن أصدقاء.

قال «أحمد» مبتسمًا: إنني حتى الآن، لا أعرف اسمه.

قالت: «جاك جرين»، وأنا أناديه «جاكي»، إنَّه رجل ودود ولطيف، تمامًا كالماس الذي يعمل فيه.

لقد قرأ «أحمد» اسم «جاك جرين» في التحقيق الصحفي، لكنَّه أخفى ذلك، فربما يستطيع أن يحصل من السيدة على أشياءَ أخرى ومعلومات تفيده، وظلَّت السيدة تتحدث وكأنَّها كانت تريد أن تتسلَّى أثناء الطريق، وحتى عندما أعلنت مذيعة الطائرة أنَّهم يقتربون من مطار «أمستردام» لم تتوقف السيدة عن الكلام، لقد توقَّفت فقط عندما توقَّفت الطائرة على أرض المطار، ودَّعها «أحمد»، وشكر لها المعلومات القيِّمة، وتوصيتها ﻟ «جاك جرين»، وعندما غادر المطار هو و«فهد»، كان يشعر بالتعب، فقد ثرثرت السيدة كثيرًا أثناء الطريق.

أسرع «فهد» و«أحمد» إلى سيارة الشياطين التي كانت في انتظارهما، والتي أرسلها عميل رقم «صفر». جلس «فهد» إلى عجلة القيادة، وبدأ «أحمد» يحكي في إيجاز ما عرفه من السيدة. قال «فهد»: إنَّ قاعدة الشياطين تُثبت دائمًا نجاحها، لقد حصلت على معلومات هامة، كان يمكن أن تستغرق منَّا وقتًا.

وصمت «أحمد»، كان يشعر بالرغبة في النوم، فقال: أتمنى أن أصل إلى السرير الآن.

كانت الساعة تقترب من الثانية صباحًا … فقال «فهد»: إننا في الطريق إلى فندق «هيلتون»، حسب رسالة العميل.

أغمض «أحمد» عينيه، واستغرق في النوم، بينما كان «فهد» يقود السيارة بسرعة، ولم يستيقظ «أحمد» إلا عندما توقفت السيارة أمام الفندق، فتح عينيه، ثم قال: لقد نمت.

ابتسم «فهد»، وهو يقول: ولهذا لم أزعجك، يبدو أنَّك متعَبٌ تمامًا!

أخذا طريقهما إلى الداخل، واتجه «فهد» إلى الاستعلامات، حيث حصل على مفتاحين لغرفتين، ثم اتجها إلى حيث المصعد، استند «أحمد» إلى الحائط، فقد كان متعبًا فعلًا، وصل المصعد فدخلاه، ثم صعِدا إلى الطابق العشرين، وعندما توقَّف وفُتح الباب، خرجا، لكنهما فجأة توقَّفا، فقد دخل المصعد رجل له أوصاف «دان».

ثم هبط بالمصعد، قال «فهد» في دهشة: إنَّه «دان»!

ردَّ «أحمد»: هل تظن؟

قال «فهد»: بالتأكيد. الشعر الأبيض، القامة الفارعة، النظارة. إنَّه لم يُغيِّر من نفسه.

انطلق «أحمد» إلى السلالم جريًا؛ فقد كان المصعد الآخر مشغولًا، هتف «فهد»: كيف ننزل عشرين طابَقًا؟! ثم إنَّه سيكون قد انصرف عندما نصل!

توقَّف «أحمد» وهو يقول: إنَّها فرصتنا.

قال «فهد»: ليس إلى هذه الدرجة، فنحن لم نتأكد منه جيدًا، وإن كانت صورته تكاد تكون حقيقية.

ثم أضاف بسرعة: أظن أنَّه سوف يجلس في المطعم مثلًا، فأين يذهب في هذه الساعة؟! كانا في تلك اللحظة يقفان في الطابق الثامن عشر، أمام باب المصعد في انتظار أن يصل، وما إن فُتح الباب حتى نزل رجلان، واستمرَّ المصعد في الصعود، كانا يراقبان أرقام الطوابق حتى الطابق الثلاثين، ثم أخذ المصعد يهبط حتى توقَّف عندهما مرة أخرى، وعندما فُتح الباب دخلا بسرعة، فضغط «فهد» زر الطابق الأرضي، وفي خلال دقائق كان المصعد يقف ويُفتح الباب، خرجا بسرعة، لكن إلى أين يمكن أن يذهبا؟ أسرعا إلى صالة الفندق، وأخذت أعينهما تدور بين الموجودين، لكن الرجل لم يكن بينهم. فجأة، قال «فهد»: انظر إلى الباب.

أسرع «أحمد» بالنظر إلى الباب، كان الرجل يخرج منه، أسرعا خلفه، حتى تجاوزا الباب، لكنَّهما لم يجدا شيئًا، لكنهما شاهدا سيارة أجرة تغادر المكان.

قال «أحمد»: يمكن أن نسأل في استعلامات الفندق.

عادا إلى الاستعلامات، وسألا عن «كلارك فان دك»، أخذ الموظف يقلِّب في الدفتر أمامه، ثم قال: لا يوجد أحد بهذا الاسم.

فكَّر «أحمد» لحظة، ثم قال: هل يمكن أن نعرف أسماء نزلاء الطابق العشرين؟

أخذ الموظف يبحث معهما عن اسم «كلارك فان دك»، لكنهم لم يجدوه، شكرا الموظف ثم اتجها إلى المصعد مرة أخرى.

قال «فهد»: المؤكد أنَّه يتحرك باسم مختلف.

ولم يكن أمامها إلا الانتظار للصباح؛ لقد ضاعت منهما فرصة سوف تكلِّفهما جهدًا كبيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤