المشهد التاسع

بشر : مضيت لم يعرفني بَشَر، لم تَبكِني عين بَشَر. الغابة خلفي تدمدم، والصوت ورائي يهمهم: أين الإنسان الإنسان؟ لاحت الأسوار غير بعيد، ثم اقتربت وكادت تجثم على صدري، كالحة سوداء كأنها وحوش رابضة، والأبراج نم فوقها مآذن تطلق صوتًا لا يسمعه غيري: اخرج! اخرج من هذا الباب، اترك أهوال الغاب لسكان الغاب، اخرج، اخرج من هذا الباب … وأندفع لكي أخرج منه فيدعوني الصوت:
الصوت : قف يا شيخ، توقف!
بشر : أتوقف؟ الغابة نحوي تزحف، الذئب الجائع والعقرب، والحية تزحف.
الصوت : أعرف! أعرف!
بشر : وتقول توقف؟
الصوت : أجل يا بشر؟
بشر : أتلفت، أنظر خلفي حولي وأمامي، لا يبدو إلا السور الكالح والأبواب المتجهمة الوجه تلح عليَّ: اخرج، اخرج، وإذا بي ألمح ظل سحابة، ترتفع تحلق، ثم تميل وتهبط، كانت خضراء كنسرٍ أخضر رفرف بجناحيه وحط على الأرض، برزت منها نخلته الخضراء تُجلِّلها هالة نور أخضر، صحت وكبرت.
بشر : مولاي الخضر؟
الخضر : ستر الله عليك، من أين؟
بشر : من هذا البلد الظالم أهلُه، أخرج من هذا الباب، أترك أُسْدًا وأفاعي، وصراع ذئاب وكلاب.
الخضر : وإلى أين؟
بشر :
لا أعرف يا مولاي، الصوت يحث خُطاي:
اخرج من هذا الباب!
اخرج من هذا الباب!
ودعِ الغابَ لسُكان الغاب.
مولاي الخضر،
يا من تحمي فقراء القلب،
وتسقيهم من خمر الحب.
يا من أمك ولدتك ببطن مغارة،
أرشدني خذ بيدي،
وأرسل رمزًا وإشارة.
الخضر :
أوَلم أرسلها يا بشر؟
أو لم أطلعْك على السِّر؟
بشر : أيُّ سر يا مولاي، وأي رمز؟
الخضر : القرية يا بشر، والشيخ الصالح فيها.
بشر : شيخ التجار؟
الخضر : المحتضر الراقد بين الأنقاض.
بشر : من أطعمتُ، ومن فضل الله سقيت؟
الخضر : وتحت الأنقاض دفنت.
بشر : من هذا يا مولاي؟
الخضر :
هذا تفسير الرؤيا،
هذا هو معنى الرمز،
وسر اللغز.
بشر :
الرؤيا … الرمز، وسر اللغز؟
قل لي بالله عليك،
ما هذا السر؟
الخضر : لا أحد سواكَ … عرفتَ السر؟
بشر : أنا يا مولاي؟
الخضر : الشيخ الصالح أنت … والقرية هي بغداد.
بشر : وأموت وأدفن بيدي؟
الخضر : كما مات ألوف وألوف، حين أتاها الزلزال.
بشر :
وجرى المجنون ورائي،
طاردني بالصوت الناعق،
لاحقني كَوَباء.
الخضر :
اخرج! اخرج! غدًا سوف تخرج أثقالها.
غدًا ستزلزل زلزالها.

(يسمع صوت المجنون … يتردد من بعيد.)

بشر : وسمعت دعائي يا خضر؟
الخضر : والرؤيا صدقت يا بشر.
بشر : والغابة … والسجن الكالح والقهر … والجثث الغرقى كل مساء عند النهر.
الخضر : الرؤيا صدقت يا بشر.
بشر :
وأنا العاجز أتقلب فوق الجمر.
يسلمني الشر إلى الشر.
أصرخ بالحاكم والمحكوم:
الطهر الطهر!
في السوق وفي الشارع فُجر.
في الكوخ وفي القصر العُهر.
حتى النهر الظاهر يتلوث،
حتى النهر!
والصوت الضائع في الصمت الفاجع
تحمله الريح إلى البحر،
ويلقيه البحر إلى الصخر.
لا أملك إلا عجزي المر،
ودموعي الحرَّى في الليل.
لا أملك إلا قلب الطفل
في مهد الخشية والذل.
أتذكر قولك: قم يا بشر وأبشر،
قم يا بشر!
ها أنا قمت وسرت،
فتحت العين رأيت فجعت،
العالم كان هو الغابة،
والعالم كان هو الموت،
والإنسان، الإنسان عبر.
ودعوتُ، دعوت:
يا رب! أنا قطرة حب في كأسك،
ظل شعاع من شمسك،
فلماذا تبعد كأسك عني؟
تحجب عني شمسك؟
يا ربي! عينك سترتني عن عين الخسة.
والأرض بغيٌّ دنِسة.
يزجرني الصوت الآمر:
من سيطهرها غيرك أنت وصحبك؟
من يطرق باب الفردوس
وينقذ هذا الكوكب،
ينفض عنه بؤسه
غيرك أنت وصحبك؟!
أهتف: يا ربي!
ينقذه جيل آتٍ،
يولد في زمنٍ آتٍ،
يتذوق من كأسي قطرة،
يتخذ حياتي ومماتي عِبرة،
فيخيف الخوف،
يميت الموت،
وينبت من قلب الرمم
الأشجارَ الشامخة الحرة.
جيل يصرع ليل الغابة والشر،
ولا يغرق غرق الجثة في النهر.
أما أنا فعجزت،
أما أنا فعجزت … (يبكي).
الخضر (يباركه ويمسح على رأسه) :
قل: أنت خرجت،
قل: أنت خرجت.
يخرج الحرُّ من الدنيا عزيزًا
قبل أن يخرج منها.
هيا يا بشر!
هيا يا بشر!

(بشر يتلفَّت حوله فيجد أن الرؤيا قد اختفت، يسمع صوت الخضر يناديه: هيا يا بشر … هيا يا بشر … فيطلق صيحته.)

بشر :
مولاي الخضر … إلى أين؟
مولاي الخضر … إلى أين؟ (تتردد أصوات).
صوت : اخرج من هذا الباب.
صوت : من الصحراء إلى الصحراء.
صوت : من الرمضاء إلى الرمضاء.
صوت : من قلب الغابة والسجن.
صوت (من أعلى) : إلى السجن!
بشر : وجريت جريت.
صوت (بجانبه) :
حتى جئت إلينا
وعرفنا السر.
صوت (من أعلى) :
قلت: إلى السجن!
إلى السجن!

(تُسمع قعقعة سلاح، بشر يرتبك، ويرتبك معه الحاضرون، تناديه أصوات تلح عليه.)

صوت : بل يخرج من هذا الأسر.
صوت :
هيا يا بشر.
أسرع يا بشر.

(تزداد الجلبة والضوضاء، وتختلط بأصوات البكاء والصراخ … يفلت بشر مسرعًا إلى الصحراء.)

صوت :
بأمرٍ من مولانا العادل
آخذك إلى السجن … (يقبض حارس على حارسٍ آخر) ثم على غيره.
صوت :
وأنت.
وأنت.
وأنت.

(ينجاب غبار الضجيج والهرج والمرج عن المرأة وطفلها وبعض الزوار الذين جاءوا في البداية إلى نقطة الحراسة.)

(نسمع بعد الهدوء المفاجئ أصوات بعضهم تناجي شبح بِشر الذي ابتعد في الظلام.)

رجل : باركنا يا شيخ.
المرأة :
ادع لزوجي وعيالي،
لا تحرمنا من بركاتك.
رجل : واذكرنا في صلواتك.
رجل :
واذكر بغداد،
أعنها أن تتعلم
من سر حياتك ومماتك.
(ينطلق صوت غناء بعيد يردد بعض الكلمات التي سمعناها في مشهدٍ سابق.)
بغداد، يا بغداد، يا بغداد،
هل أنت غابة؟
بغداد يا قاسية الفؤاد.
هل أنت سجن؟
بغداد، يا حبيبتي بغداد،
مدينتي وأمي الحزينة،
هل تذكرين أنني خرجت
لأجل أن يسودَكِ السلام والسكينة؟
هل تذكرين أنني خرجت؟
هل تذكرين أنني عبرت؟
صوت :
الإنسان، الإنسان عبر،
حفر الحصباء ونام،
وتغطى بالآلام.
صوت : أين الإنسان … الإنسان؟
صوت :
اصبر … اصبر … سيهل علينا يومًا ركبُه،
سيهل علينا يومًا ركبُه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤