المشهد السادس

(حجرةٌ عارية الجدران، إلا من أدوات التعذيب المختلفة والأسلحة المتنوعة: بلطة وساطور تخثر عليهما الدم، وكلابات وقيود وسلاسل حديدية صدئة، بشر يدخل مستعيذًا بالله، يتلفت حوله وينظر إلى الجدران، يهز رأسه ويستعيذ بالله ثم ينظر أمامه فيفاجأ بقاعدةٍ خشبية غليظة، كأنها جذع شجرة ضخمة، أو كأنها سندان، يلاحظ سيفًا معلقًا بجوارها وحبلًا مُغبرًّا وأدوات تعذيب مختلفة — من مساميرٍ ومشدات وكلابات … إلخ — يدرك أنها لقطع الرءوس، يتجول في المكان لحظات، ثم ينتحي ركنًا ويجلس على حجر.)

بشر :
ربي!
وجهت الوجه إليك.
لا تحرمني نورك،
لا تبعدني عنك.
ربي إني خائف!
قربني منك! أعطني كأس محبتك، وقربني منك!
(يخفي وجهه بين كفيه ويهتز صدره وكتفاه).
أي مكان هذا أو أي زمان؟
قفص هذا أم سجن؟
وإذا كان هو القفص فأين الحارس؟
إن كان السجن فأين السجان؟
ربي أين شموسك ونجومك؟
أين مصابيح حنانك؟
نوِّر عيني بحق جلالك،
يا منان ويا حنان.
(الحجرة تضاء شيئًا فشيئًا).
شكرًا يا رب العرش ورب النور ورب النار!
شكرًا يا صاحب هذه الدار!
(يغيب في التسبيح والحمد والثناء).
يا نفسي الحزينة،
حمامتي الرزينة،
عصفورتي المسكينة،
حبسوك أخيرًا في هذا القفص الشائك؟
أين الصياد؟
أنا لا أبصر غير شباك وشباك،
لا أبصر غير سلاسل وقيود،
وسيوف وسهام وحراب ودماء، وبقايا أسلاك.
أتؤدِّب عبدك يا مولاي؟
هذا حقك وعليَّ الطاعة.
غفرانك أكبر من ذنبي،
والدنيا كانت خداعة.
لكن يا ربي علمني،
واسكب في عقلي أنوارك،
لا تترك ظلًّا من شك
ينهشني، والطُف وتدارك.
نورًا يا ربي وأعني،
واكشف يا ربي أسرارك!

(تُسمع أصواتٌ مختلطة، خافتة في البداية كالبكاء والأنين، ثم مرتفعة بالتدريج كأنها عاصفة مدوية بالعويل والصراخ والاستغاثة، تعلن عن عمق الألم وتصدر من عمق الجراح، وهي أصوات متداخلة، لا يمكن أن تأتي من مخلوقٍ واحد، وإنما تتصادم فيها أصوات فرقعات سياط، وضربات على اللحم والعظام، مع عواءٍ بشري فظيع، يتجاوب معه عواء كلاب ودمدمة حيوانات كاسرة غاضبة، ينزوي بشر في ركن وهو ينتفض.)

بشر :
ربي!
إني خائف!
إني خائف!
ربي!
هل هذا ولدي المسكين الثائر،
ولدي العارف؟
يا رب العرش سألتك شد الأزر،
ومد له في حبل الصبر،
وقوِّ القلب الراجف.
ربي لا تحجب عنه ضياءك،
لا تمنع عنه عزاءك،
أسبِل يا رب عليه غطاءك.

(يستمر صوت البكاء والعويل والصراخ والاستغاثة من كل الجهات، يواصل بشر دعوته وتمتماته، ويزداد ارتعاشه، يشرع في الصلاة فيفاجئه صوتٌ أجشُّ يتنزل من أعلى، الصوت يصدر عن مكبر … «ميكروفون» يضخمه ويضفي عليه رهبة تزيد من رهبة المكان.)

الصوت : بشر! بشر!
بشر : من؟ … من يدعوني؟ من؟
الصوت : قاطعتنا يا بشر.
بشر : وهل وصلتُك يا هذا من قبل؟ أنا لا أتصل بغير الله ولا يشغَلُني عنه سواه.
الصوت : جل علاه … جل علاه … لكنك استوحشت منا.
بشر : من عامل الناس بالصدق استوحش من الناس.
الصوت : أيا أتقى رجل في بغداد.
بشر : يغفر لي الله ثناءك، يعفو عن سخريتك!
الصوت : الناس لا تراك إلا وحدك، فإذا أقبلوا نحوك وليت فرارًا منهم.
بشر : غنية المؤمن غفلة الناس عنه.

(يتلو بيتًا من الشعر وينغمه.)

آنسني الله به وحده،
برمت بالناس وأخلاقهم،
فصرت أستأنس بالوحدة.
الصوت : بعض الناس يحتاج إلى نصحك.
بشر : كيف أداويهم وبي داء؟ كيف أبصر موضع الداء والدواء إن لم يُعنِّي بمعونته؟
الصوت : يا أطهر رجل في بغداد.
بشر : معذرة … إني أتطهر.
الصوت : يا أصلح الصالحين من أهل زماني، أسألك فهل تشفيني بجوابك.
بشر : منه شفاء القلب ومنه دواء الجرح، قل يا سيد.
الصوت : من أنت؟
بشر : أنا؟ غفرانك ربي! أيكون وجودي إلا بوجودك؟ اسمع يا هذا، إن فنائي أن أتلاشى في الحق، وبقائي أن أحضر وأكون مع الحق.
الصوت : ليتك تروي ظمئي، من أنت؟
بشر : ما تقول في مَن القبر مسكنه، والصراط جوازه، والقيامة موقفه، والله مُسائله، فلا يعلم إلى جنةٍ يصير فيهنى، أم إلى نارٍ فيعزى (يبكي).
الصوت : أردنا أن نعرف من أنت، فعرفنا أنا قصرنا في حقك … يا شيخ.
بشر : ومن أنت؟
الصوت : لم أفرغ من أسئلتي.
بشر : اسأل يرحمك الله.
الصوت : أين تنام؟
بشر : أنام تحت رواق الهم والقلق.
الصوت : ماذا تلبَس؟
بشر :
قطع الليالي مع الأيام في خلق،
أحرى وأجدر بي أن يقال غدا.
إني التمست الغنى من كفٍّ مختلق.
الصوت : رضيت بالقناعة.
بشر :
إن القنوع غني،
ليس الغنى كثرة الأموال والورق.
الصوت : ومن أين تأكل؟
بشر :
من حيث تأكلون، ليس من يأكل وهو يبكي
مثل من يأكل وهو يضحك.
الصوت : وخبزك؟ من أين تحصل عليه؟
بشر : إني لا آكل من غلة بغداد، ولا من طعام السواد، يرزقني من يرزق أسراب النمل ويطعم أفراخ الطير … وما زلت أهتف بكل من يريد أن يتكلم معي:
يا ولدي! لا تعرض لحمك للنار! يا أخي! انظر خبزك من أين هو! ثم تكلم! وأقِلَّ من معرفة الناس.
الصوت : ليتك قللت من معرفتهم، أصحيحٌ أنك اعتزلتهم يا بشر؟
بشر :
لم يبق لي مؤنس فيؤنسني،
إلا أنيس أخاف من أنسه؛
فاعتزل الناس يا أخي ولا
تركن إلى من تخاف من دنسه.
الصوت : ألا ترى في الأحياء أحدًا لم يدنس؟
بشر :
إنني أتبع آثار القوم الذين سبقوني للإيمان،
أجعلهم نصب عيني، آنس بهم في الخلاء،
أجالسهم فأزهد في مجالسة الموتى.
الصوت (غاضبًا) : وهل أنا ميت أحكُم في موتى؟
بشر (يفاجأ ويرتجف لحظة، لكنه لا يتردد) : مولاي! ما إلى هذا قصدت، إنما أنت في محل موتى، ومقابر أحياء ماتوا عن الآخرة … حسبك أقوامٌ موتى يحيا القلب بذكرهم،
كم من أحياءٍ يقسو القلب برؤيتهم.
الصوت : وهؤلاء الأحياء … ألا تستثني منهم أحدًا؟
بشر :
هؤلاء هم أهل زماني، لا أبالي من تركني منهم ولا آسى على فقدهم.
أعلم أن حظي في بعدهم أوفر من حظي في قربهم.
الصوت : حقًّا … لم يخطئ من أبلغني …
بشر (مستمرًّا) : إني أحذر أهل زماني؛ إن جالستهم لم أنجُ من الفتنة، وإن جانبتهم لم آمن بلاءهم. ولَلموتُ في العزلة خير من الحياة معهم.
الصوت : إن كنت زهدتَ في الدنيا، فهل زهدت فينا؟
بشر : إني لأستحي أن أطلب الدنيا ممن يطلبها.
الصوت : ألا تخافنا يا بشر؟
بشر : لا أطلب الدنيا إلا ممن بيده الدنيا.
الصوت : الناس تخافنا وترجونا.
بشر : وأنا لا أخاف من كلمة الحق عند من يُخاف ويُرجى.
الصوت : ألا تخشى أن نؤذيَك؟
بشر (يتلفت حوله خائفًا. ينهض قليلًا ويتحسس بعض أدوات التعذيب المعلقة على الحائط، يتماسك ويعود إلى جلسته ثم يقول) : إذا أحب الله أن يتحف العبد سلط عليه من يؤذيه!
الصوت : ألا تتوقع منا خيرًا؟
بشر (يتلفت حوله ثم يضحك ويقول) : لا خير فيمن يؤذي، ولا خير فيمن لا يؤذي (ترتفع أصوات التعذيب التي كانت قد خفتت قليلًا أثناء الحوار السابق، تعلو دمدمة العاصفة المختلطة الأصوات).
الصوت : وإذا كان الجميع يخافونه؟
بشر : عليهم ألا يخافوا سواه.
الصوت (محتدًّا) : ولكنه لا يخاف! قلت لك لا يخاف!
بشر (غاضبًا) : ألا تخاف مَن بيدِه حياتك وموتك ومعادك؟ وهب أنك لا تخاف، ويحك! ألا تشتاق؟!
الصوت : الآن صدق ظني، نعم يا بشر، نعم أشتاق أن أعرفك على حقيقتك!
بشر (بهدوء) : إني لا أشرب من أنهارٍ حفرها الأمراء!
الصوت : ستشرب من الحفرة التي حفرتها بنفسك.
بشر : حفرة حفرتها؟ سبحان الله؟ ماذا تقول؟ ماذا تقول؟

(ينقطع الصوت، ترتفع أصوات التعذيب.)

ويحك! أين ذهبت؟ ماذا قلت؟ وماذا كنت تريد بأسئلتك؟ وأنت يا ولدي (يسمع صوت استغاثة لا يستطيع أن يتحقق منها) ويلي! ويلي! وا حزناه! اشتد البلاء فلا عزاء! واشتد الخوف فلا أمن! اصبر يا ولدي اصبر، ماذا يفعلون بك، ماذا يفعلون بكم يا أولادي؟ الله يتحفكم بالأذى، فأتحفوه بطاعته. الحمد لله أن أمك ليست معك، الحمد لله أنهم أوقفوها على الأبواب، وا حزناه يا ولدي! وا حزناه (يبكي، تتردد أصوات خشنة من المكبر فيجفف دموعه ويتماسك).
أصوات : هيا … هيا … يا شيخَينا.
بشر (لنفسه) : شيخان!
أصوات : قولا الحق، ما شهِدَت أعينكم، ما لقف السمع، قولا الحق.
بشر (لنفسه) : الحفرة؟ أوَلم يتكلم عن حفرة؟!
الصوت الأول (يبدو من وقعه أنه لشيخٍ مُسن) : نعم يا مولانا! هذا ما شاهدناه بأعيننا وسمعناه.
صوت : قولا الحق … قولا الصدق!
بشر : الحق؟ الصدق؟
الصوت الأول : عندما كان يعظ الناس في جامع بغداد … كان يقول كلامًا مُلتويًا.
صوت : ويحض الناس على الثورة؟
الصوت الثاني : كان يحدث عن أحياءٍ موتى، ويهجو الموتى الأحياء.
صوت : وأنا أولهم بالطبع، أوَلا أحكم فيهم؟ أوَلست أمام الموتى في مقبرة، لا خليفة المسلمين، وخليفة رسول العالمين؟
الصوت الأول : ولما استنكف من الحديث والوعظ ذهبنا إليه، وقفنا على أعتاب بيته ورجوناه.
صوت : ووبخكم … طردكم من بيته.
الصوت الثاني : واحتج بزهده، بفساد الدنيا والأحوال.
صوت : أسمعتم؟ فساد الدنيا والأحوال، وفساد الحكم والحكام!
بشر (لنفسه) : لا أنكر هذا، لكني خفت من الشهرة.
صوت : هذا في الظاهر … أما ما يبطن؟
بشر : لا أبطن إلا الزهد، إلا إنكار الدنيا، ولهذا خالفت النفس، خفت عليها أن تغتر، خفت عليها من حب الشهرة، والشهرة إثم، ولو أجبتها إلى ما تشتهي من المطعم والملبس والرياسة لأصبحت مكاسًا أو شُرطيًّا.
الصوت الأول : حقًّا يا مولانا … هذا ما قد كان من الظاهر … أما الباطن فالله عليم به.
صوت : وأنا أيضًا أعلم به … والشرطة كانت تتبعه … وعيوني لم تغفل عنه.
الصوت الثاني : طبعًا يا مولاي … الشيخ أهان العلماء، وحقر شأن الفقهاء، ورفض الطاعة للرؤساء.
الصوت الأول : من يرفض أن يعظ الناس فقد رفض الحاكم والمحكوم.
صوت : ليت الأمر اقتصر على الرفض.
الصوت الأول : نحن وقعنا في هذا الظن … قلنا رجلٌ صالح، رجلٌ زاهد.
صوت : بل شيطان ماكرٌ، كان يحض شباب البلد على الثورة، وشباب العلماء على إشعال الفتنة … (يسمع صوت استغاثة. الصوت الآن مميز، يتعرف بشر على قسوة ألمه وفظاعته).
الصوت الأول : وهم الآن أمام قضاة العدل.
بشر : العدل!
الصوت : اذهب أنت، هل صدقت؟
الصوت الأول : حاشا لله! أيجوز الكذب على ركن الدين وراعي الأمة والملة؟
صوت : قلت اذهب أنت … وأنت.
الصوت الأول : أمرك … طاعتك … رضاك.
صوت : هل صدقت؟
بشر : صدقت؟! آه يا شيخَي السوء! الواعظ يصبح شاهد زور، سبحانك ربي غفرانك!
الواعظ شاهد زور … الواعظ شاهد زور!
صوت : الآن عرفت وصدقت.
بشر : الآن عرفت.
صوت : لا يدهشني أن تمتنع عن التصديق، اسمع يا شيخ.
بشر :
أسمع، هل أملك إلا السمع!
(يتردد صوت التعذيب)،
إن كنت ملكتَ القدرة لا تنسَ الرحمة!
(يتردد صوت التعذيب).
الصوت : ما شأنك أنت بهذا؟ نحن نؤدبه وعليه الطاعة.
بشر : حقًّا … وأطيعوا الله.
الصوت : وأولي الأمر … لا تنسَ أولي الأمر.
بشر : لا … لم أنس.
الصوت : نحن دعوناك إلينا لنذكرك …فهل تتذكر؟
بشر : أتذكر … أذكر.
الصوت : إنك رجلٌ صالح، أتقى من عرَفَته بغداد؛ ولأنك رجلٌ صالح، من نسلف السلف الصالح، أمرنا أن يُعفى عنك … اذهب وتذكر … اذهب وتذكر.

(يُسمع صوتُ التعذيب في وضوح، بشر يخفي وجهه بين يديه ثم يرفع ذراعيه بالتسبيح … وبينما يفتح باب الحجرة ويظهر سَجَّان كالمارد يهتِف بشر.)

بشر : أذكر … أتذكر؟ آه يا بشر سقطت في كمين! سقطت في كمين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤