المشد السابع

(على شاطئ دجلة — بشر الحافي متكوِّم كالطلل المتهدم … يرتعش بردًا ورعبًا — من بعيدٍ يتردد صوت يتلو هذه الكلمات التي تسري في أجزاء المشهد من حينٍ لحين.)

صوت بعيد :
بغداد، يا حبيبتي بغداد،
هل أنت غابة؟
يلفها الوجوم والكآبة،
وتعصف الهموم والسموم والمحن؟
بغداد يا قاسية الفؤاد،
هل أنت سجن؟
يحوطه السواد والحداد،
ويفجُر الجلاد والقواد والعفن؟
بغداد، يا بغداد، يا بغداد،
مدينتي وأمي الحزينة،
مدينة السعار والجنون والضغينة.
أطلقت الذئاب والكلاب والعقارب اللعينة؛
لتنهش العباد،
وتقتل السلام والسكينة.
بغداد، يا بغداد،
هل أنت بحر؟
يموج بالخطوب والكروب والمحن،
ويغرق الربان والفيران والسفينة،
فتسقط الحقيقة
في الهوة السحيقة،
كجثةٍ غريقة،
ضائعة عديمة الثمن؟
بغداد، يا حبيبتي بغداد،
بغداد يا قاسية الفؤاد،
بغداد، يا بغداد، يا بغداد،
بشر : خرجت يا أولادي … من سجنٍ أم نار جهنم أم من غابة؟ عصبوا عينيَّ فلم أرَ شيئًا، لكن سكبوا في أذني سعار الذئب الفاتك بالحملان، فارتج القلب وزاغ البصر وشل الوجدان، آه يا أولادي! آه يا أولادي! ما زالت آهات القتلى وصراخ القَتَلة يتبعني في كل مكان، ما زال الصوت يرِن فيخنق أنفاسي، اذكر وتذكر … ما أنا ناسٍ، ما أنا ناسٍ.
(يبكي) آه يا ولدي المحزون القلب، يا ولدي المكسور الخاطر … عندما رفعوا الغطاء عن عيني كنت أقف أمام الباب الكالح، اقترب مني حارس صغير تشبث بخرقتي ولثم يدي وقال: باركني يا شيخ! يا أتقى رجل في بغداد! امسح بيديك على رأسي. مسحت على رأسه ودعوت له، صاح كمن أخذته النشوة: زدني من هذا الكاس … ادع لأهلي وعيالي، ادع الله يقيني شر الجِنة والناس، وانصحني يا شيخ. قلت له وأنا أمر بيدي على رأسه وصدره: يسترها الله عليهم وعليك. بكى وقال: زدني يا شيخ، قلت: اجتنب الناس … تلفت حوله ثم ابتعد وهمس: أنت تقول اجتنب الناس؟ لمَ، لمَ تفعل هذا يا شيخ؟ قدر يا ولدي، أن أترك نور المحراب وأدخل من هذا الباب. تلبد وجهه ورفع قبضته قبل أن يرجع إلى مكان حراسته: اخرج منه يا شيخ! … اخرج منه يا شيخ!

لم أكد أسير خطواتٍ وأنا أتعثر في خوف الليل الدامس حتى فاجأتني يد لمست كتفي وشدت ذراعي، ونفذ بأذني صوت كالسهم المارق: اخرج منه! اخرج منه! نظرت ورائي فماذا وجدت؟

(ينهض من الحاضرين شابٌّ قصير مضحك الخلقة كأنه مهرج أو مختل العقل.)

المجنون : وجدت المجنون … أشهر مجنون في بغداد!
بشر : قلت له: من؟ من أنت؟
المجنون : أولم تسمع؟ معذور والله، أعرف أعرف.
بشر : ماذا تعرف؟
المجنون : أعرف ما فعلوا بك، لست بأولهم، ما أنت بآخر واحد.
بشر : كنت هناك؟
المجنون :
كنت هناك؟ ماذا ينتفعون بمجنونٍ مثلي؟
أشهر مجنون في بغداد … ماذا يا شيخ؟
بشر : حقًّا حقًّا … كيف عرفت؟
المجنون : عندي حاسة شم.
بشر : حاسة شم؟
المجنون : هل لي في ذلك حيلة؟ كلب صوَّره القادر في صورة إنسان … ولهذا فهو يشم بأذنيه صوت الزلزال، قبل وقوع الزلزال.
بشر : لا أفهم يا ولدي.
المجنون :
يا أتقى رجل في بغداد! يا شيخي الصالح!
غدًا سوف تُخرج أثقالها،
غدًا ستزلزل زلزالها.
بشر : وقفز قفزةً جعلت رأسه إلى أسفل وساقيه وقدميه إلى أعلى، وانطلق يزحف على يديه وهو يكرر:
ما أنت بأول واحد،
ما أنت بآخر واحد،
يا بشر الزاهد،
يا بشر العابد،
غدًا ستزلزل زلزالها،
غدًا سوف تخرج أثقالها،
اخرج،
اخرج من هذا الباب.
ومضى يحجل ككلبٍ أجرب، ويثب على الأرض كجرادةٍ مبتورة الجناح، لم أكد أفيق قليلًا حتى سمعت الصوت من بعيد: اخرج … أخرج … وكأن سربًا من النحل يطن في أذني مختلطًا بنباح كلب مسعور: اخرج أسرع … أسرع اخرج … لاهث الأنفاس مضيت … صدري يعلو وينحط كحجرٍ مثقوب تصفر فيه الريح، هل كنت أمشي خفيفًا على الهواء، أم أسقط في لجة ماء وأقاوم وأقاوم كي لا أغرق؟ لا أدري يا أولادي، لكني وجدت شعاعًا أرسله الله، مد كفه النورانية فسحبني إلى هذا المكان، نظرت بعيدًا فوجدت مراكب وقوارب وأشرعة ترفرف كأجنحة الحمام، رفعت يدي إلى الأنجم ودعوت: حمدًا يا رب! حمدًا يا رب، هذا شاطئ دجلة، فلْأتوضأ وأصلِّ ولأتطهر من ذنبي. كان البرد شديدًا كرصاصٍ ينفذ في اللحم ويخترق العظم. والجوع الكافر يا أولادي، يا من لا تدركه الأبصار، يا ثاني اثنين بجوف الغار، بارك سفري بارك زادي ومعادي، وارزقني من رزق النحل أو الطير الرائح والغادي، هبني أرضى بتراب الأرض وبالمر، يا من لا تدركه الأبصار … تردد الصوت الساخر: اخرج! أسرع! أسرع! اخرج! فرفعت يدي إليه: بارك خطواتي … أخرجني من هذي الدار … ونزلت إلى الماء فتطهرت، ودعوت لقومي بالستر، ودعوت لولدي أن يحميه من القهر، كانت الأصوات ما تزال تهمس: اخرج، اخرج. وصوت آخر ينساب من النهر.
صوت :
بغداد، يا بغداد، يا بغداد،
بغداد، يا حبيبتي بغداد،
بغداد يا قاسية الفؤاد،
هل أنت غابة؟
هل أنت سجن؟
هل أنت بحر؟
نمت فلم أدرِ بشيء، وصحوت على ضوء الفجر، فوجدت أمامي سمكًا مشويًّا وقليلًا من خبز، ألقمت الوحش الكاسر، وحمدت الله على الستر، ونهضت على قدمي أصلي الفجر، لم أكد أرفع يدي بالتكبير حتى وجدته أمامي.

(يقف رجلٌ على قدميه ويتقدم من الخلف، يبتسم ويقول.)

الصياد : أنا الصياد، رأيت شبحه يصلي فاقتربت منه، انتظرت حتى سلم، وقلت: هل نمت هنا يا شيخ؟
بشر : أجل يا ولدي … وأنت؟
الصياد : دجلة هي داري يا شيخ، أصحو فيها وأنام.
بشر : صيادٌ أنت؟ يرزقك الله.
الصياد : الرزق شحيح يا شيخ.
شبر : حاشا لله … أوَلم تشبعني من زادك؟
الصياد : هو رزقك والله، يبدو أنك رجلٌ صالح … أما رزقي …
بشر : احمَدْه واشكر فضله … وازهد فيما في أيدي الناس.
الصياد : أفعل يا شيخ، أفعل، لكن والله لقد حيرني الأمر …
بشر : لم يا ولدي؟
الصياد : ساء الحال، كَسَدَ الحال، منذ شهورٍ وأنا ألقي الشبكة …
بشر : تخرج سمكًا.
الصياد : بل تخرج … (يتلفت مذعورًا حوله …) دعنا من هذا.
بشر : قل يا ولدي.
الصياد : أخشى من زلة شفتي ولساني، أخشى أن ألقي الشبكة … تلتف الشبكة حولي وأكون السمكة.
بشر : أفصح يا ولدي.
الصياد (يحرك شفتيه، ينطلق الصوت الذي عرفناه في البداية) :
احرص ألا تتكلم،
احرص ألا تسمع،
احرص ألا تنظر،
احرص ألا تلمس،
قف!
وتعلق في حبل الصمت المبرم.
الصمت! الصمت!
بشر : هل تخشاني يا ولدي؟
الصياد : لا أدري، يبدو من وجهك أنك رجلٌ طيب.
بشر : وفقيرٌ مثلك.
الصياد : وولي من أحباب الله؟
بشر : حاشا لله … بل عبد زاهد.
الصياد : ما معنى الزهد؟
بشر : ألا تستعبدَك الدنيا.
الصياد (ضاحكًا) : لا … لن تفعل … وإذا زهدت فيها؟
بشر : أحبك الله.
الصياد : والناس؟
بشر : سيحبونك إن زهدت فيما في أيديهم.
الصياد : فعلت يا شيخ … لكن في دجلة لم أستطع الزهد!
بشر : يرزقك الله برزق عيالك.
الصياد : قل لي من أنت؟ نفسي تخبرني أنك مشهور.
بشر : معاذ الله … سمَّوني بِشرًّا.
الصياد (ينظر إلى قدميه) : بشر الحافي؟
بشر : أسمعت باسمي!
الصياد : ما أطهر اسمك! ما أشهره في بغداد! يلهج باسمك كل الفقراء، ما أسعد حظي الليلة!
بشر : كنت الآن تشكو من حظك.
الصياد : الآن أستطيع أن أخبرك (يتلفت حوله، يطمئن، يجلس بجانبه جلسة الصديق للصديق)، هل تعلم؟ (يتلفت حوله).
بشر : لا يسمعنا إلا الموج ورمل الشط.
الصياد : حتى دجلة يا شيخ.
بشر : دجلة؟ ماذا تقصد؟
الصياد : لم تنجُ من الشر الداهم في البر وفي البحر.
بشر : الماء طَهور يا ولدي.
الصياد : معذرة يا شيخي الزاهد، أنا رجلٌ عقلي ضيق، لكن هل تتصور؟ من يتطهر منه الناس تدنَّس.
بشر : هل فتك السُّم بسمك البحر؟
الصياد : جثث الموتى يا شيخ … ألقى الشبكة منذ ليالي لا تمسك سمكًا.
بشر : حوتًا أو وحشًا؟
الصياد : أفظع أفظع، تتلقف بشرًا!
بشر : تتلقف بشرًا؟ المؤمن لا يقتل نفسه.
الصياد : يقتله المؤمن مثله … انظر (يمسكه من يده ليأخذه معه).
الصياد : أتخاف ونورك يسعى بين يديك؟
بشر : خائف … خائف …
الصياد : أيخاف الموتَ سوى الموتى؟ عِش معي يومين وسوف تتعودين عليه.
بشر : أي شيء يا ولدي؟
الصياد : على رزقي ورزق عيالي، انظر … انظر … وادعُ لصياد اللؤلؤ والجوهر.

(يكون قد وصل إلى كومة عشب غطى بها الصياد جثة غريق، الجثة ما زالت متماسكة، لا يكاد الشيخ ينظر إليها حتى يصيح.)

بشر : ولدي … ولدي!
الصياد : هل تعرفه يا شيخ؟
بشر : فعلوها يا ولدي!
الصياد : إنهم يفعلونها كل ليلة، إن لم يكن في هذا الموضع ففي موضعٍ آخر.
بشر (يتلمس رأس الغريق، ويمر عليه بيديه، ويبكي في صمت) : ولدي … ولدي!
الصياد : ولدك؟ … نسمع أنك ناسك.
بشر : فقد أباه أمس، وها هو يفقد نفسه.
الصياد : فهمت، فهمت، مات بيأسه.
بشر : تقول مات؟! قُتل يا ولدي … قتل … ماذا تفعل أمك؟ كيف سألقاها؟ كيف سأنظر في عينيها؟ … ماذا أفعل؟ (يبكي وينهض وهو مصمم).
الصياد : وله أم؟ … يرعاها الله ويمنحها الصبر.

(بشر يجري مذعورًا … يناديه الصياد.)

الصياد : يا شيخ! يا شيخ! ماذا يفعل؟ ها هو يجري … عجبًا والله … ماذا يفعل؟
(يضع العشب على الغريق ويضرب كفًّا بكف) لست غريقا وحدك … يبدو الكل غريقًا مثلك.

(يسمع من بعيد ولولة امرأة تندب حظها: ولدي … ولدي … ولدي … بينما تتردد أصوات مختلطة نميز منها القليل):

اخرج! اخرج من هذا الباب … اخرج، اخرج من هذا الباب.
بغداد يا قاسية الفؤاد،
بغداد يا قاسية الفؤاد،
بغداد يا حبيبتي بغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤