المشهد الثامن

صوت :
ونزلنا نحو السوق أنا والشيخ.
كان الإنسان الأفعى يجهد
أن يلتف على الإنسان الثعلب.
نزل السوق الكلب؛
كي يفقأ عين الإنسان الثعلب،
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى.
واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد،
قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب،
ويمص نخاع الإنسان الثعلب.
قل لي يا شيخ:
أين الإنسان … الإنسان؟
(يصحو بشر كأنما أدركته غفوة، يتلفت حوله في خوف، يمسح وجهه وعينيه ويتمتم، يفتح فمه فنسمع صوتًا لا ندري هل هو منه أم من هاتفٍ بعيد.)
بغداد، يا بغداد، يا مدينتي الحزينة،
هل أنت غابة؟
أطلقت الذئاب والكلاب والعقارب اللعينة.
بشر : ظللت أجري وأجري حتى غابت أنفاسي، استندت إلى باب الشام قليلًا قبل أن أمر في طريقي على السوق. هل قلت: طريقي؟ لكني لم أكن أعرف أي طريق، وكأن صوت المجنون ما زال يتردد في سمعي: اخرج! اخرج من هذا الباب … وقبل أن أواصل السير …
صوت رجل : أو الجري؟! (تسمع ضحكته وحده).
بشر : نعم يا ولدي، لا أنكر هذا. كانت المدينة كالمسخ العاري تنزع عنها غطاء الليل وتفتح عينيها للفجر، بدت في عيني وحشًا أسود يتمطى في الصبح، ويدعو إليه خدمه وحشمه وأعوانه، ومضيت إلى السوق الذي بدأ كذلك يتمطى ويحتشد ليومه الجديد، أجساد ممددة على الأرض، عارية أو شبه عارية في خلق وأطمار، لأطفالٍ وصبية عراة وشحاذين ومجذومين وأصحاب عاهات، بدءوا كذلك يستجيبون لسعار الشهوة وجنون اللحم وعضة الجوع، وها هم يتناثرون في أرجاء السوق كالهوام، أو يلتصقون بأبواب الدكاكين كالحشرات، أندسُّ بينهم وأغرق في زحامهم، يا ربي! هل هذا هو ابن آدم الذي كرمته وعلمته الأسماء؟ وتتجاوب الأصوات والأصداء والنداءات والضحكات والصيحات، وتفتح أبواب الدكاكين والخانات والمطاعم والمخابز والحانات والمحلات، ويتعالى الصياح وتزداد الضوضاء ويثور الغبار وتتوافد القطط والكلاب والحمير والبغال. كم مشيت في هذا السوق وأنا أغمض عيني وأتعثر في ظلي وأهتدي ببصيص النور الذي قذفه الله في قلبي، ثم أعود إلى داري كأني ما وطِئَت قدماي أرضه، ولا شمَّت عينِي رائحة غباره، أعود وأدفن نفسي في محرابي وأتلذذ بطعام ربي وشرابه، حتى يأتي الليل فأتهجد وأواصل بكائي، لكني فتحت العين على العالم، فتحت العين رأيت وخفت. يا ربي حمدًا لك، هل أعطيتني عينين أم بلورتين تنفذان وراء اللحم والعظم؟ ها هو ذا إنسان يتمشى في السوق، لا لا، ليس بإنسان؛ إني ألمح فيه الأفعى، تزحف تتلوى، تجهد أن تلتف على الإنسان الكركي، والإنسان الثعلب يمشي بينهما، عجبًا! زورُ الإنسان الكركي في فك الإنسان الثعلب، ونباح يعلو وعواء، نزل السوق الإنسان الكلب؛ كي يفقأ عين الإنسان الثعلب، ويدوس دماغ الإنسان الأفعى، ثم تدور الأرض وتهتز السوق على خطوات الإنسان الفهد، قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب، ويمص نخاع الإنسان الثعلب، ربي! هل أنا في غابة؟ ذهب الأسد الفاتك، جاءت أُسْد أخرى أفتَك، لمَ لمْ تتركني أغمض عيني لأرى نورك وهداياك، وحدائق لطفك وعطاياك؟ لمَ لمْ تتركني في جنة ذاتي، آوي للظل وأشرب من خمر الطاعة والذل؟ ربي! إني خائف! أخرجت الجنة من صدري ودخلت الغابة، الأفعى تلتف عليَّ، الثعلب يفتح فكه، والكلب يزمجر ويعض اللحم، والفهد المزهو توثب ليدوس عليَّ، والذئب هنالك قابع، يتربص بالحمل الوادع، الأفعى تزحف والثعلب يزحف، والذئب تلصَّص والكلب تربص، والإنسان تنكر خلف قناع، أبحث عنه فلا أبصر إلا الأفعى والذئب. أبحث عنه فلا أبصر غير الثعلب والكلب. أبحث عنه فلا أبصر غير الحية والعقرب. ماذا تنظر يا بشر وماذا ترجو؟ تعدو قدماي وأتعثر، أنهض أجري أتعثر، أتلفت خلفي: الأفعى تزحف، والثعلب يزحف، والذئب مع الكلب تحالف كي يثب عليَّ، أجري أجري لا أتوقف، أجري أجري لا أتوقف، حتى أصل إلى باب الشام وأتعثر. تمتد يدٌ بيضاء وأرفع رأسي، فأراه على بغلته الشهباء يسألني.
شيخ التجار :
جاري الطيب؟
أتأمله، أذكر سِحنتَه، هذا الوجه رأيته.
بشر : شيخ التجار؟
شيخ التجار : يا أتقى رجل في بغداد، هل جئت تزور السوق؟
بشر : بل أهرب من فك الغابة.
شيخ التجار : الغابة؟ يا لك من إنسانٍ طيب!
بشر : هل بقي بهذا السوق الكافر إنسان؟
شيخ التجار : السوق بخير، بغداد بخير، والعالم ما زال بخير.
بشر : وأنت؟ هل أنت أمير الغابة؟
شيخ التجار : أمير الغابة؟ يا لدعاباتك يا شيخ! هل هي ريح الفجر؟ أم خمر السُّكر؟ شرفنا يا شيخ؛ كنت مشوقًا للقاك.
بشر : ألم نلتقِ من قبل؟
شيخ التجار : جيران … لكن لا نتزاور … لا يعرف أحدنا الآخر.
بشر : بل تعرفني.
شيخ التجار : أسمع عنك كثيرًا … أهتف: هذا جاري. أتمنى أن ألقاك وأحظى برضاك.
بشر : لكنك كنت تراقبني، تتلصَّص من شرفتك عليَّ
شيخ التجار : معاذ الله … بل أخطب ودك، أطلب بركتك وحبك.
بشر : قلت لك كنت تتلصص عليَّ، تبِعتني وأنا في طريقي إلى تلك القرية.
شيخ التجار : أية قرية؟
بشر : القرية التي دمرها الزلزال.
شيخ التجار : زلزال وقرية؟ ماذا تقصد يا شيخ؟
بشر : والرجل الذي مات بين أيدينا؟ هل نسيته؟
شيخ التجار : ورجلٌ مات أيضًا؟
بشر : وساعدتني على دفنه وأهلتَ عليه التراب.
شيخ التجار : وجريمة تتهمني بها أيضًا؟ ما بالك يا شيخ؟
بشر : ألم تعِد أن تنفق عليها مالك؟ أين وعدك؟ ألم يكن هذا هو مهر دخولك في طريقتنا؟
شيخ التجار : مهر وطريقة … (يضحك).
بشر : لا تنكر، لقد زرناها معًا.
شيخ التجار : رجعنا للقرية؟
بشر : ووعدت ولم تبَرَّ بوعدك.
شيخ التجار : يظهر أنك لم تشرب من خمر الوجد؛ بل من خمر الحانة أو قاع الجُب.
بشر : اخرس يا ذئب!
شيخ التجار : بل تخرس أنت! (يلسعه بالسوط على وجهه).
بشر : أموالك سُحت وحرام، وعهود خائنة أيضًا؟
شيخ التجار : قلت: اخرس! اخرس يا كلب … (يلسعه أخرى بالسوط ويمضي لحاله وهو يردد: كلب … كلب … كلب).
بشر (يمسح وجهه وعينيه) : يا ربي! هذا عبدك ذئب في صورة إنسان، ذئب خوَّان، ذئب وأمير ذئاب، والمال حرام، والمال حرام، يا ربي! أين الإنسان؟ أين الإنسان؟

(يسرع خارجًا من الباب الكبير، يتلفت وراءه قبل أن يطلق ساقيه للريح. يتردد صوت.)

صوت :
أين الإنسان؟
الإنسان، الإنسان عبر
من أعوام.
ومضى لم يعرفه بشر.
صوت :
حفر الحصباء ونام،
وتغطى بالآلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤