تحوُّل

انتُزع جسدي على الفور
بألمٍ يُثير الأسى،
أجبَرَني على بدء قصتي،
ثم حرَّرني.
ومنذ ذلك الحين، وفي ساعةٍ غير مُحدَّدة
يعود الألم،
وحتى أرويَ قصتي المريعة
يظل هذا القلب يَحترق بداخلي.
من قصيدة «البحَّار العجوز»، كولريدج

سمعتُ أنه حينما تَحدُث لإنسانٍ مغامرةٌ غريبة أو خارقة للعادة أو سِحرية، فإن هذا الشخص، مهما تكن رغبتُه في إخفاء الأمر، يشعر في فترات معيَّنة بأنه محطَّم بفعل زلزالٍ فكري إن جاز التعبير، ويُضطرُّ إلى كشف أعماق رُوحه الدفينة لشخصٍ آخر. وأنا شاهد على صحة ذلك. لقد قطعتُ على نفسي عهدًا غاليًا بألا أقصَّ أبدًا على أُذُن بشرٍ الأهوالَ التي سبَّبتُها لنفسي بسبب فرط كبريائي الشيطانية. وقد مات الرجل المقدَّس الذي استمع إلى اعترافي وأعادني إلى الكنيسة؛ فلا أحد يعرف أنه ذات مرة …

لماذا ينبغي ألا يكون الأمر كذلك؟ لماذا تقصُّ قصة تحدٍّ غير وَرِع للقدر، وذلٍّ قاهر للروح؟ لماذا؟ أَخبِرْني أيها العالِم بأسرار الطبيعة البشرية! أنا أعلم فقط أن الأمر هو هكذا، وعلى الرغم من العزم القوي، ومن الكبرياء التي تتملَّكني، ومن الشعور بالخزي، وحتى من الخوف من أن أضع نفسي موضع احتقار بني جنسي؛ فلا بدَّ لي من أن أتحدَّث.

جنوة! مدينتي التي ولدتُ فيها وأفخر بها! ها أنا أنظر إلى أمواج البحر المتوسِّط الزرقاء. هل تَذكرينني في صباي، حينما كانت مُنحدراتُك وصخورك البارزة من مياه البحر وسماؤك الصافية وكرومك المبهجة هي عالمي؟ كم كان وقتًا سعيدًا! فالقلب كان شابًّا، والعالم الضيِّق الحدود يُقيِّد طاقاتنا البدنية، ويفتح — بسبب هذا القيد نفسه — مجالًا رحبًا للخيال، وتتَّحِد فترات الوحدة في حياتنا والبراءة والمُتعة. لكن، مَن ذا الذي يستطيع أن يتذكَّر الطفولة ولا يتذكر مآسيها ومخاوفَها المريعة؟ لقد وُلدتُ برُوح هي الأكثر استبدادًا وتعاليًا وجموحًا، لم تُمنح لبشر فانٍ قط. لم أرتجف إلا أمام والدي. ولأنه كان رجلًا كريمًا ونبيلًا، وإن كان متقلِّب المزاج ومستبدًّا، فقد عزَّز الرعونة الجامحة في شخصيتي وقمَعَها في الوقت نفسه، جاعلًا الطاعة ضرورية، وإن لم تَجلب أي احترام للدوافع التي كانت توجِّه أوامره. كان أمل قلبي المتمرِّد ودعاؤه هو أن أُصبح رجلًا حرًّا ومستقلًّا، أو بالأحرى أن أُصبح وقحًا ومُسيطرًا.

كان لوالدي صديق ثري من نُبلاء جنوة، حُكِم عليه فجأة بالنفي في اضطرابٍ سياسي، وصودرت أملاكه. ذهب الماركيز توريلَّا إلى المنفى بمفرده. كان أرمل مثل والدي، وكانت له طفلة واحدة، هي جولييت الرضيعة تقريبًا، التي تُركت تحت وصاية أبي. ولولا أني كنت مُجبَرًا على حمايتها، لأصبحتُ بالتأكيد سيدًا قاسيًا لهذه الفتاة اللطيفة. لقد أدَّت مجموعة من الأحداث الطفولية إلى نتيجة واحدة، وهي أن تَراني جولييت ملاذًا آمنًا؛ وأن أراها شخصًا سيهلك حتمًا، بسبب رهافة الشعور الغالِبة على طبعها، لولا رعايتي الحارسة. كبرنا معًا، وكان جمال هذه الفتاة العزيزة يفوق جمال الوردة المتفتِّحة في الربيع. كان وجهها يشع جمالًا. قوامها وخطوتها وصوتها … ما زال قلبي يَنتحِب حتى الآن حين أفكر فيما حواه هذا الكائن الملائكي من اطمئنان ولطف ونقاء. حينما كنتُ في الحادية عشرة من عمري وكانت جولييت في الثامنة، أظهر قريبٌ لي أكبر منا كثيرًا — وكان يبدو لنا كأنه رجل — اهتمامًا كبيرًا برفيقة لعبي، وكان يُطلق عليها عروسَه، وطلب منها الزواج. رفضَتْ، فأصرَّ، وجذبها نحوه على غير رغبتها. ألقَيتُ نفسي عليه وقد ارتسم الجنون على وجهي وسيطر على مشاعري — وحاولتُ جاهدًا أن أستلَّ سيفه — وتعلَّقتُ في رقبته عازمًا بشدة على خنقه، فاضطر إلى طلب المساعدة ليتحرَّر من قبضتي. في تلك الليلة، اصطحبتُ جولييت إلى غرفة العبادة في منزلنا، وجعلتُها تلمس الآثار المقدسة، وخطفتُ قلبَها الطفولي، ودنَّست شفتَيها الطفوليتَين بأن جعلتها تُقسم أن تكون لي، ولي وحدي.

حسنًا، انقضت تلك الأيام. وعاد توريلَّا بعد بضع سنين، وقد أصبح أكثر ثراءً وازدهارًا مما كان. ولما بلغتُ السابعة عشرة تُوفِّيَ والدي، وقد كان معروفًا بشدة الإسراف، وابتهج توريلَّا لأن كوني قاصرًا سيَسمَح له باستعادة ثرواتي. أُعلنت خطبتي أنا وجولييت بجوار فراش أبي المُحتضر. وكان من المفترض أن يصير توريلَّا أبًا ثانيًا لي.

رغبتُ في رؤية العالم، وانغمستُ في رغبتي. سافرت إلى فلورنسا، وإلى روما، وإلى نابولي، ومنها ذهبت إلى تولون، وبعد فترة طويلة وصلتُ إلى ما كان لوقت طويل مُنتهى أمنياتي؛ إلى باريس. في ذلك الوقت، كانت باريس تعجُّ بأحداث صاخبة؛ فقد أصبح الملك المسكين شارل السادس مسخرةً بين البشر؛ إذ كان تارةً عاقلًا، وتارةً مجنونًا، وتارةً ملكًا، وتارةً عبدًا ذليلًا. وكانت الملكة، ووريث العرش، ودوق بورجندي — الذين كانوا يَتناوَبون الصداقة والعداوة، فتارة يَلتقون في احتفالات باذخة، وتارة يسفكون الدماء وهم يَتنافسون — غافلين عن حالة البلاد البائسة، والأخطار المُحدِقة بها، وتفرَّغوا بالكامل للملذات المنحلَّة أو للصراع الوحشي. تبعتني شخصيتي أينما ذهبت؛ فقد كنت مغرورًا وعنيدًا، ومحبًّا للتفاخر، وفوق كل هذا رميتُ كل أنواع السيطرة خلف ظهري. فمَن يُمكنه أن يُسيطِر عليَّ في باريس؟! تحمَّس أصدقائي الشباب لتعزيز كل شغف يَغمُرهم بالمُتَع. كنتُ أُعتبر وسيمًا، وكنتُ سيد كل مُغامرات الفروسية. لم تكن لي علاقة بأي حزب سياسي، وأصبحتُ مفضَّلًا على الرغم من العجرفة والغرور، فقد عُذِرتُ بسبب صِغَر سني، وأصبحتُ طفلًا مدللًا. من ذا الذي كان يستطيع التحكُّم بي؟! ليس خطابات توريلَّا ونصائحه، وإنما الحاجة الماسة التي تَزورني في الصورة المُخيفة لمحفظة خاوية. ورغم ذلك، كانت تُوجد وسيلة لإعادة ملء الوفاض الخالي. بعتُ فدانًا تلو الآخر، وعزبةً تلو الأخرى. وتقريبًا لم يكن يُضاهي ملابسي ومجوهراتي وخيولي وأغطيتها مثيل في باريس البهيَّة، بينما كانت الأراضي التي ورثتُها تَنتقِل إلى حوزة الآخرين.

تربص دوق بورجندي بدوق أورليانز وقتله، واستحوذ الخوف والرُّعب على باريس كلها، والتزم وريث العرش والملكة الصمت، وأُوقفَت كل المباهج. وانتابني القلق من هذه الحالة، وحنَّ قلبي إلى مراتع صباي. كنت شبه مُتسوِّل، لكن كان بإمكاني الذهاب إلى هناك، مع ذلك، والمطالَبة بعروسي، وإعادة تكوين ثروتي. كان يُمكن لبضع مجازفات محظوظة أن تجعلني ثريًّا مرة أخرى. ورغم ذلك، فلم أكن لأعود بمظهر متواضع، وكان آخر ما فعلتُ هو التخلُّص من الضيعة الباقية القريبة من ألبارو مقابل نصف ثمنها كي أحصل على مالٍ نقدي. وبعد ذلك، أرسلتُ كل أنواع العُمال المهرة، والأقمشة المطرَّزة، وأثاثًا تبدو عليه الأبهة الملَكية، من أجل تجهيز قصري في جنوة، وهو آخر أثرٍ من إرثي. إلا أنني مكثتُ هنا قليلًا خجلًا من دور الابن الضال العائد الذي خشيتُ أن أمثِّله. أرسلتُ الخيول؛ وأرسلت حصانًا إسبانيًّا لا مثيل له إلى عروسي الموعودة، وكانت كسوتُه تبرق بالجواهر والقماش المنسوج من خيوط الذهب، وجعلتُ الحرفَين الأولين من اسمَيْنا — «جولييت وجويدو» — يُنقشان متشابكَين على كل أجزاء الكسوة. ولقيَتْ هديتي استحسانًا في عينها وعين أبيها.

لكن تصوُّر أن أعود مسرفًا مذمومًا في نظر الناس، رمز الزهو المُتبجِّح، وربما الازدراء، وأن أواجه ملامات أبناء وطني أو تهكُّماتهم بمفردي لم يكن مغريًا. ولأتَّقي الاستهجان، دعوتُ ثلة من رفاقي الأكثر طيشًا ليَصحبوني، وهكذا ذهبت متسلِّحًا ضد العالَم، أُخفي غصة من الخوف والندم وراء ستار من التبجُّح والإظهار الوَقِح للغرور المُشبَع.

وصلت إلى جنوة. ووطأتْ قدمي رصيف قصر أجدادي. ولم تكن خُطوتي الفخورة تُعبِّر عما يجيش في قلبي؛ لأنني شعرتُ من أعماقي، وإن كنت محاطًا بمظاهر الترف، بأني متسوِّل. ولا بد أن أول خطوة أتخذها في طلب يد جولييت ستَكشِف بجلاء أنني مُتسول. قرأتُ الازدراء أو الشفقة في نظرات الجميع. تخيَّلتُ، وهكذا يتخيل الوعي ما يستحقه، أن الغني والفقير، والشاب والعجوز، يَنظرون إليَّ باستهزاء. لم يقترب مني توريلَّا. ولا عجب في أن يتوقَّع والدي الثاني مني احترام الابن، المُتمثِّل في أن أبادر أنا بزيارته. لكنني، بسبب الغضب والحنق النابعَين من الإحساس بحماقاتي ورذيلتي، اجتهدتُ في إلقاء اللوم على الآخرين. أقمنا الحفلات الصاخبة في بالاتسو كاريجا كل ليلة، وتبع كل ليلة من الليالي الصاخبة الخالية من النوم، صباحٌ مفعم بالإرهاق والكسل. وفي آفي ماريا استعرَضنا أجسادنا الجميلة في الشارع، وضحكنا من المواطنين غير الثَّمِلين، ورمقنا بنظرات وقحة النساءَ اللاتي كنَّ يتحاشَينَنا. ولم تكن جولييت بين هؤلاء النساء، كلا، كلا، فلو كانت هناك لابتعدتُ خجلًا، إن لم يَرمِني الحب أسفل قدمَيها.

سئمتُ ذلك، وقمت بزيارة مفاجئة للماركيز، وكان في إحدى فيلاته الكثيرة المُنتشرة في ضاحية سان بيترو دارينا. كان ذلك في شهر مايو؛ شهر مايو في هذه الجنة الأرضية حيث يتوارى نُوَّار أشجار الفاكهة بين الأوراق الخضراء الكثيفة، وتتسلَّق النباتات المعترشة، وتعج الأرض بزهور الزيتون المتساقطة، وتنتشر الفراشات المضيئة على سياج نبات الآس، وترتدي السماء والأرض عباءة من الجمال الفائق. رحَّب بي توريلَّا بلطف، وإن كان بصرامة، وسرعان ما اختفت لمحة الاستياء التي اكتنفته. رقَّق تشابُه الملامح بيني وبين أبي، ونبرة سذاجة الشباب التي لم تزل تسكنُني رغم أفعالي السيئة، قلب العجوز الطيب. أرسل1 في طلب ابنته، وقدَّمني لها بصفتي خطيبها. بُوركت الغرفة بنور مقدَّس بمجرد دخولها. كانت ملائكية المظهر، ذات عينين واسعتَين وحنونتَين، يَرتسِم على خدَّيها غمازتان، وكان فمها حلوًا مثل الأطفال، فصارت تجسيدًا للاتحاد النادر بين السعادة والحب. وتملَّكني الإعجاب في البداية، أما كونها لي فكان ثاني مشاعر الفخر التي اعترَتْني، وزُمَّت شفتاي في انتصار مُتكبِّر. لم أكن لأستحق أن أكون الفتى المدلَّل (أو الحبيب المدلل في هذا السياق) لدى جميلات فرنسا لو لم أتعلم فن إرضاء قلب المرأة الرقيق. وإذا كنتُ شخصًا لا يُطاق فيما يخص الرجال، فإنني على النقيض، أُظهر قدرًا أكبر من الاحترام للنساء. بدأتُ التودُّد بترديد الكثير من عبارات الغزل على مسمعَي جولييت التي لم تقبَل مطلقًا بالحب الذي أبداه لها الآخرون؛ لأنها تعهَّدت أن تكون لي منذ الطفولة، والتي لم تزل مبتدئة في لغة المحبِّين، وإن اعتادت سماع تعبيرات الإعجاب.

سارت الأمور على ما يرام أيامًا عدة. فلم يُلمِّح توريلَّا إلى إسرافي، وعامَلني كابنه المفضل. لكن جاء الوقت الذي تعكَّر فيه صفو هذه العلاقة حينما ناقشَنا تجهيزات قراني بابنته؛ فقد سبق أن أُبرِم عقدٌ في حياة والدي، وأنا جعلتُ هذا العقد باطلًا حقًّا بتبديد كل الثروة التي كان يجب أن تكون شركةً بيني وبين جولييت. ونتيجة لذلك، اختار توريلَّا اعتبار هذه الاتفاقية لاغية، واقترح أخرى، وعلى الرغم من أن الثروة التي منَحها في هذه الاتفاقية كانت أكبر على نحو هائل، فقد كانت فيها قيودٌ كثيرة متعلقة بأسلوب إنفاقها، لدرجة أنني وبَّختُه على استغلال موقفي، ورفضتُ تمامًا قبول شروطه؛ فأنا أرى الاستقلال فقط في الحياة الحرة المناسبة لإرادتي المستبدة. حاوَلَ العجوز برفق أن يُعيدني إلى رشدي، واستبدَّت كبريائي المثارة بتفكيري، فاستمعتُ ساخطًا، وقاومتُه بازدراء.

«جولييت، أنتِ لي! ألم نتبادلِ العهود في طفولتنا البريئة؟ ألسنا واحدًا أمام الرب؟ وهل سيُفرِّق بيننا والدك القاسي المتجبِّر؟ كوني كريمة يا حبيبتي، كوني عادلة، ولا تَنزعي هديتك وآخر كنز لدى حبيبك جويدو، لا تتراجعي عن عهودك، فلنتحدَّ العالم، ولا نُعِر بالًا لحسابات العمر، ولْنَجِدْ في حبنا المتبادل ملاذًا من كل الشرور.»

لا بد أنني كنت شيطانًا إذ حاولت بزخرف القول أن أُسمِّم تفكيرها العفيف وحبها العطوف. ابتعدتْ جولييت عني خائفة، فلقد كان والدها من أفضل الرجال وأكثرهم طيبة، واجتهدتْ في أن تُبيِّن لي كيف أن طاعته ستؤدي إلى كل خير. سوف يستقبل إذعاني المتأخر بعاطفة ودِّيَّة، وسوف يَتبع توبتي عفوٌ كريمٌ منه. لم يكن استخدام ابنةٍ شابةٍ ورقيقة لهذه الكلمات ليُجدي مع رجل مُعتاد على جعل إرادته قانونًا، وعلى الشعور في صميم قلبه بأنه مُستبِدٌّ غاية في الشدة والعناد، لا يستطيع أن يُذعن إلا لرغباته الطاغية! وزاد سخطي مع المقاوَمة؛ ولم يتردد رفاقي الشَّرِسون في صبِّ الزيت على النار. ووضعنا خطة لخطف جولييت. بدت الخطة مكلَّلة بالنجاح في بدايتها، وفي منتصفها، في طريق العودة، لحقَ بنا الأب المكلوم وخدمُه. ونشبَ بينَنا صراع. وقبل أن يأتي حرس المدينة لحسم الصراع لصالح أعدائنا أُصيب اثنان من خدم توريلَّا بجروح خطرة.

إن هذا الجزء من تاريخي يُثقل صدري كثيرًا. ولأنني تغيَّرتُ الآن فإنني أكره نفسي حين أتذكره. لا يستطيع أي شخص يَسمع هذه القصة أن يشعر بما أشعر به. لقد كنتُ عبدًا لعُنفوان مزاجي المستبد الذي كنتُ منقادًا له أكثر من انقياد حصان مُستشيط غضبًا من راكبه المسلَّح بمهاميز حادة. تملَّك الشيطان رُوحي، وضايَقَها حد الجنون. شعرت بصوت الضمير داخلي، وكنتُ إذا أذعنت له برهة يزيحني عن موقفي إعصار غضبي العارم، ويجرفني في تياره الذي أثارته عاصفة غروري. سُجنت، وأُطلق سراحي بناءً على طلب توريلَّا. وعُدتُ مرة أخرى لأخطفه هو وابنته إلى فرنسا، فذلك البلد البائس الذي كان في ذلك الحين فريسة للقَراصنة وعصابات الجنود المتمرِّدين كان ملاذًا يَمتنُّ له المجرمون أمثالي. افتُضِحَت مؤامرتنا، وحُكم عليَّ بالنفي؛ ولأن ديوني كانت هائلة بالفعل، فقد وُضِعَت أملاكي المتبقية في أيدي المفوَّضين سدادًا لمستحقاتهم. ومرة أخرى عرض توريلَّا وساطته، مُطالبًا فقط بأن أتعهَّد له بألا أُكرِّر محاولات الخطف الفاشلة معه ومع ابنته. رفضتُ عروضه، وخِلتُ أنني انتصرتُ حينما طُردتُ من جنوة، منفيًّا وحيدًا مُعدَمًا. كان أصدقائي قد رحلوا، فقد طُردوا من المدينة قبل بضعة أسابيع، وأصبحوا في فرنسا. كنتُ وحيدًا بلا أصدقاء، بلا سيف بجانبي، ولا مال في محفظتي.

تجوَّلتُ على شاطئ البحر، تتملك رُوحي وتُمزِّقها دوامة من الغضب. كنت أشعر كما لو كان فحمٌ متَّقد يَحترق في صدري. فكرت أولًا فيما يجب فعله. فكرت في الانضمام إلى عصابة قراصنة. وبدا الانتقام في نظري كلمة تُشعرني بالراحة، فاحتضنتُه، ومسَّدتُه، حتى لدغني مثل الثعبان. ثم فكرت مرة أخرى في أن أخلِّف جنوة وراء ظهري وأكرهها؛ فما هي إلا زاوية صغيرة في العالم. ومن المُمكن أن أعود إلى باريس التي تجمَّع فيها كثير من أصدقائي، حيث ستكون خدماتي موضع ترحيب حار، ومن المُمكِن أن أحصد الثروة بسيفي، ومن المُمكن من خلال النجاح أن أجعل محلَّ ميلادي، التافه وتوريلَّا المزيَّف يَندمان على اليوم الذي طرداني فيه خارج جدرانها مُكرِّرَيْن مأساة كوريولانوس. هل سأعود إذًا إلى باريس، متسولًا، سيرًا على القدمين وأُقدِّم نفسي في حالتي الرثة إلى أولئك الذين كنت أُمتِّعُهم ببذخ؟ إن مجرد التفكير في ذلك كان يُثير في نفسي السخط.

بدأ عقلي يُدرك حقيقة الأمور، فتسلل اليأس إلى نفسي. بقيتُ سجينًا بضعة أشهر، وعَذَّبتْ بلايا السجن روحي حتى الجنون، لكنها هزمَت جسدي. أصبحتُ ضعيفًا وذابلًا. استخدم توريلَّا ألف حيلة ليُوفِّر لي الراحة، واكتشفتُها كلها وازدريتُها، وحصدت نتيجة عنادي. ماذا يجب أن أفعل؟ هل أركع أمام عدوِّي وألتمس منه الغفران؟ أُفضل أن أموت عشرة آلاف مَوتة! يجب ألا أُنيله أبدًا هذا النصر! أنا أكرهه؟ أُقسِم أنني أكرهه كراهية أبدية! كراهية ممَّن؟ ولمن؟ من منبوذ مُتجوِّل لنبيل قوي. أنا ومشاعري لسنا شيئًا في نظره، لقد نسيَ بالفعل شخصًا تافهًا مثلي. ولاحت جولييت ووجهها الملائكي وقوامها الرشيق وسط سُحبِ يأسِي بجمالها الفتان؛ لأنني خسرتها — حسناء العالم وزهرته! وسيقول عنها آخر إنها ملَكُه! — تلك الابتسامة الملائكية ستُبارك رجلًا آخر!

ما زال قلبي يَخبو بين جوانحي كلما تذكرتُ هذه الهزيمة بأفكارها البَشِعة. ظللتُ أتجوَّل على الشاطئ الصخري الذي يزداد وحشة وعزلة مع كل خطوة، تارةً تهزمني الدموع، وتارة أهذي من شدة كربي. كانت الصخور المعلَّقة والجروف الرمادية تطلُّ على المحيط الذي لا مدَّ به ولا جزر، والكهوف السوداء تتثاءب فاغرةً أفواهها، والمياه العقيمة لا تكفُّ عن الخرير والارتطام بين التجاويف التي أبلاها البحر. والآن أصبح طريقي شبه مسدود بسبب جرفٍ حادٍّ يكاد يَستحيل تجاوزه بسبب القطع الصخرية المتساقطة من المُنحدَر. قبيل المساء، ظهرتْ صوب البحر، كما لو كانت بيد ساحر لوَّح بعصاه السِّحرية، مجموعة سحب داكنة غطَّت سماء المغرب الزرقاء، وعتَّمت الأعماق الهادئة حتى تلك اللحظة، وأصابتها بالاضطراب. اتخذت السحب أشكالًا رائعة غريبة، وكانت تتغيَّر، وتتمازج، وتبدو كما لو كانت تَسوقها قوة سحرية قوية. ورفعت الأمواج ذُرَاها المُزْبِدة، وهمْهَم الرعد في البداية ثم دوَّى عبر أنحاء المياه الواسعة التي اصطبغت بلونٍ أرجواني قاتم، ورقشت بالزَّبَد. كان المكان الذي وقفتُ فيه يُطلُّ من ناحية على محيط مترامي الأطراف، ويعترضه من الناحية الأخرى جرف حاد. وفجأة جاءت بالقرب من هذا الرأس البحري سفينة دفعَتْها الرياح. وحاول البحارة سُدًى أن يشقُّوا لها طريقًا إلى البحر المفتوح، ودفعَتْها الرياح الهوجاء إلى الصخور. هذه السفينة ستَهلك! وسيهلك كل من على متنها! يا ليتني كنت معهم! لأول مرة امتزجتْ في قلبي الشاب فكرة الموت بهذا الفرح. كان مشهد هذه السفينة وهي تُصارع قدَرها مريعًا. لم أكد أتبيَّن البحارة، لكني سمعتُهم. وسرعان ما انتهى الأمر! صخرة كامنة غطَّتها الأمواج المتلاطمة تمامًا بحيث لا تُرى كانت تنتظر فريستها. أرعد الرعد فوق رأسي لحظة ارتطام السفينة بعدوَّتها الخفية في صدمة مرعبة. وصارت شظايا في وقت وجيز. وقفتُ في أمان، بينما أخذ بنو جنسي يُصارعون الهلاك بلا جدوى. أعتقد أنني رأيتُهم يُعانون، وسمعت حقًّا، وليتَني ما سمعت، صرخاتهم التي غلبت صوت الأمواج من شدَّة الألم. وبدَّدت الأمواج القاتمة حطام السفينة، وسرعان ما اختفت. ظللتُ مذهولًا بالنظر حتى النهاية، أخيرًا جثوتُ على ركبتي وغطَّيتُ وجهي بكلتا يديَّ، ثم نظرت مرة أخرى إلى أعلى، فوجدتُ شيئًا يطفو على الأمواج قادمًا صوب الشاطئ، وأخذ يقترب أكثر فأكثر. هل كان ذلك هيئة بشرية؟ أصبح أوضح، وفي النهاية، جاءت موجة عاتية تَحمل حمولة السفينة كلها وطرحته على صخرة. كان إنسانًا يَعتلي خزانة بحرية! — إنسانًا! — لكن هل كان إنسانًا؟ مؤكَّد أن مثله لم يوجد من قبلُ، فقد كان قزمًا مشوهًا، مطموس العينَين، ممسوخ الملامح، مشوه الجسم لدرجة تجعل النظر إليه مرعبًا. تجمَّد الدم في قلبي الذي تعاطف مؤخرًا مع هذا المخلوق الذي انتُشل على هذا النحو من قبرٍ مائي. نزل القزم من على خزانته، وأبعد شعره المنسدل الأشعث عن طلعته المُخيفة، وقال:

«قسمًا بالشيطان لقد هُزمتُ تمامًا.» ونظر حوله، ورآني، فقال: «آه، قسمًا بالشيطان! ثمة حليف آخر للجبار. لأي قدِّيس وجهت صلواتك أيها الصديق، إن لم تكن قد وجَّهتَها لقديسي؟ لكني أتذكَّر أنك لم تكن معَنا على متن السفينة.»

ابتعدتُ عن هذا الوحش وهرطقته. وسألَني مرة أخرى، وأجبتُ بهمهمة غير مسموعة. فاستطرد قائلًا:

«صوتُك غارق في هذا الهدير الصاخب. ما أعظم الضوضاء التي يُصدِرها هذا المحيط الكبير! إن طلبة المدارس الخارجين من سجنهم ليسوا بأصخبَ من هذه الأمواج التي تعزف بحرية. إنها تزعجني. لا أريد المزيد من شجارها السيئ التوقيت. الصمت أيتها الأمواج البيضاء! غادري أيتها الريح! عودي إلى ديارك! طيري أيتها السحب إلى مساكنك واتركي السماء صافية!»

وبينما كان يتحدَّث، مد ذراعَيه الطويلتَين الهزيلتَين اللتَين تُشبهان مخالب العنكبوت، وبدا كما لو أنه يَحتضن بهما الأفق الممدود أمامه. هل كان هذا معجزة؟ لقد تشقَّقت السحب وانقشعت، وأطلَّت السماء الزرقاء بقدر صغير في البداية، ثم فرشَت فوقنا حقلًا أزرق هادئًا، وصارت الرياح العاصفة رياحًا غربية خفيفة؛ وأصبح البحر هادئًا، وتضاءلت الأمواج وأصبحت تموجات.

وقال القزم: «أُحبُّ الطاعة حتى في هذه العناصر الغبية. فما بالك بطاعةٍ أكبر يُقدِّمها عقل الإنسان الذي لا يُمكن ترويضه! لقد كانت عاصفة جيدة التنظيم — يجب أن تَعترِف بذلك — وكانت كلها من صنعي.»

كان تبادل الحديث مع هذا الساحر لعبًا بالنار. لكن القوة بكل أشكالها تَلقى الاحترام. جذبني إليه الهيبة والفضول، وافتِتان تعلُّقي.

قال الشقي: «تعالَ يا صديقي لا تخَف. أنا لطيف حينما أكون مسرورًا، وثمة ما يسرُّني في جسدك المُتناسِق ووجهك الوسيم، ولو أنك تبدو حزينًا بعض الشيء. لقد عانيتَ على الأرض، أما أنا فعانَيتُ من تحطم السفينة في البحر. ربما يمكنني أن أخفف من عاصفة حظك كما فعلتُ مع عاصفتي. هل نكون صديقَين؟» ومد إليَّ يده، لكن لم أستطِع أن ألمسها. فقال: «حسنٌ إذًا، فلنكن زميلين، هذا سيَفِي بالغرض. والآن، أخبِرني وأنا أستريح بعد العاصفة التي تعرضتُ لها للتوِّ، لماذا يتجوَّل شابٌّ أنيق مثلك وحيدًا وحزينًا هكذا على شاطئ هذا البحر الهائج.»

كان صوت الشقي عاليًا ومخيفًا، وكانت انحناءاته وهو يتحدَّث مخيفة لمن ينظر إليها. ورغم ذلك، فقد أثَّر فيَّ تأثيرًا لم أستطع مغالبته، فأخبرتُه حكايتي. ولما انتهَتِ الحكاية ضحك مطولًا وبصوت عالٍ، ورجَّعَت الصخور صدى الصوت، كما لو كانت صرخات الجحيم تُحيطني.

قال: «آه يا قريب الشيطان! لقد سقطتَ أنت أيضًا بسبب كبريائك، وعلى الرغم من أنك لامع مثل ابن الصبح، فأنت مُستعدٌّ للتخلي عن ملامحك الوسيمة، وعروسك، وسلامتك بدلًا من الاستسلام لاستبداد الخير. أنا أَحترم اختيارك، أُقسم لك بروحي! لذلك هربتَ واستسلمتَ، وتنوي أن تتضوَّر جوعًا على هذه الصخور، وتدع الطيور تنقر عينَيك الميتتَين بينما يبتهج عدوُّك وخطيبتك لهلاكِك. أعتقد أن كبرياءك تُشبِه الذلَّ على نحو غريب.»

وأثناء حديثه كان كثيرٌ من الأفكار المسمومة يلدغ قلبي.

صرخت: «وماذا يَجب أن أفعل، في رأيك؟»

قال: «أنا! آه، لا شيء، ارقد هنا فحسب، واتلُ صلواتك قبل أن تموت. لكن لو كنت مكانك لعرفت الأمر الذي يجب فعله.»

دنوت منه. إن قدراته الخارقة للطبيعة جعلتْه عرافًا في نظري، لكن رعشة مخيفة غريبة سرت في جسدي حينما قلت: «تحدَّث! علِّمني، ما العمل الذي تنصحُني به؟»

قال: «انتقم لنفسك أيها الرجل! أذلَّ أعداءك! ضع قدمك على رقبة الرجل العجوز، وامتلك ابنته!»

صِحتُ: «لجأت للشرق والغرب ولم أجد وسيلة! لو كان معي ذهبٌ لاستطعتُ تحقيق كثير من الأمور، لكنني فقير ووحيد؛ لذلك أنا عاجز.»

كان القزم جالسًا على الخزانة وهو يستمع إلى قصتي. ونهض ولمس زنبركًا، فانفتحَت! وظهر أمام عيني بداخلها منجم ثروة من جواهر متلألئة وذهب برَّاق، وفضة باهتة. ووُلِدت بداخلي رغبة مجنونة في الاستحواذ على هذا الكنز.

قلت: «لا شكَّ أن شخصًا بقوتك يستطيع فعل كل الأمور.»

فقال الوحش في تواضُع: «كلا، أنا أقل قدرةً مما أبدو عليه. أنا أمتلك بعض الأمور التي قد تشتهيها، لكني مُستعدٌّ للتخلي عنها جميعًا مقابل حصة صغيرة، بل قرض صغير مما تمتلك أنت.»

فأجبتُ في مرارة: «ممتلكاتي كلها تحت أمرك — فقري، ومنفاي، وعاري — أُقدِّمها كلها لك هدية مجانية.»

«جيد! أشكرُك. أضف شيئًا آخر إلى هديتك، وسيُصبِح كنزي ملكًا لك.»

«إذا كان العدم هو كل إرثي، فعلامَ ستحصل إلى جانب العدم؟»

«وجهك الجذاب وأطرافك حسنة الخلقة.»

ارتجفتُ. هل سيَقتُلني ذلك الوحش البالغ القوة؟ ليس بحوزتي خنجر. نسيتُ أن أُصلي. وأصبحتُ شاحبًا.

استطرد الكائن المريع: «أنا أطلب قرضًا، لا هدية. أَعِرني جسمك ثلاثة أيام — ستحصل على جسمي لتَحبِس رُوحك فيه في هذه الأثناء، وفي المقابل ستحصل على صندوق الكنز. ما قولك في هذه المقايضة؟ إنها ثلاثة أيام قصيرة.»

قيل لنا إن عقد محادثات غير قانونية أمرٌ خطر، وقد أثبتُّ صحة هذا الأمر جيدًا. لقد كانت هذه المقولة مكتوبة بطريقة مملَّة لدرجة تجعل استماعي إليها يبدو أمرًا لا يُصدَّق، وعلى الرغم من قبح المخلوق غير الطبيعي، فقد كان يوجد شيء مُبهِر في كائن يستطيع صوته أن يتحكَّم في الأرض والهواء والبحر. شعرت برغبة عارمة في الإذعان؛ لأنني يُمكنني أن أحكم العالم بهذا الصندوق. ولم أتردَّد إلا لأني خشيت ألا يكون صادقًا في مقايضته. بعد ذلك فكَّرتُ، ووجدت أنني سأموت هنا قريبًا في هذا الشاطئ المهجور، ولن تعود الأطراف التي يَشتهيها ملكًا لي؛ فالأمر يستحق المجازَفة. بالإضافة إلى ذلك، فقد عرفتُ أنه بموجب كل قواعد السحر، توجد صيغ وأيمان لا يَجرُؤ أي من ممارسيه على خرقها. تردَّدتُ في الجواب، واستمر في إقناعي مستعرضًا ثروته تارة، ومتحدثًا عن الثمن الضئيل الذي يطلبه تارةً أخرى، إلى أن بدا لي أنه من الجنون أن أرفض. كان الأمر على هذا النحو: نضع قاربنا على تيار المجرى، فيُحمل للأسفل عبر الشلال والجندل؛ ونُسلِّم أمرنا لفيض الشغف الجامح، وسنرحل إلى حيث لا نعلم.

أقسم أيمانًا كثيرة، واستحلفتُه بالكثير من الأسماء المقدَّسة حتى رأيت هذه القوة العجيبة؛ فقد ارتعش حاكم العناصر كورقة خريف أمام كلماتي، وسقط في النهاية كما لو كانت الرُّوح داخله تحدثت غصبًا عنها وقهرًا، وكشَف بصوت مُتهدِّج عن التعويذة التي بموجبها سيكون مرغمًا على إبطال هذا الاتفاق المحرَّم إن رغب في خداعي. يجب أن تَمتزج دماؤنا الدافئة لصنع السحر وإبطاله.

كفانا من هذا الموضوع الدَّنِس. لقد اقتنعتُ، وتمَّ الأمر. وطلع الغد عليَّ وأنا راقد على الحصى، ولم أعرف ظلي الممدود أمامي. وجدتُ أنني تغيرت إلى هيئة مريعة، ولعنت سهولة تصديقي وسذاجتي العمياء. كان الصندوق موجودًا؛ كان الذهب والأحجار النفيسة التي بعتُ مقابلها جسمي الذي منَحتْه لي الطبيعة. هدَّأ هذا المنظر من رَوعي قليلًا؛ فالأيام الثلاثة سرعان ما ستنقضي.

انقضت الأيام. وكان القزم قد زوَّدني بمؤنة وفيرة. لم أستطع المشي في البداية، فقد كانت أطرافي غريبة وبلا مفاصل؛ أما صوتي فكان صوتَ شيطان. لكني التزمت الصمت، وحولت وجهي إلى الشمس كي لا أرى ظلي، وأخذتُ أعدُّ الساعات، وتأملت في سلوكي المستقبلي. يمكن لثروتي أن تحقق بسهولة كل ما أريد، من إذلال توريلَّا إلى امتلاك جولييت رغم أنفه. كنت أنام في الليل الحالك حالِمًا بتحقيق رغباتي. غابت الشمس مرتين، وبزغ فجر اليوم الثالث. كنتُ مُتحمِّسًا وخائفًا. أيها الترقُّب، كم أنت شيء مخيف عندما يُشعِلك الخوف أكثر من الرجاء! كيف تلتفُّ من حول القلب وتُعذِّب خفقاته! كيف تُسدِّد إلى أنحاء الجسد الضعيفة آلامًا غير معروفة تُهشِّمنا تارةً مثل الزجاج المكسور، ويمنحنا العدم قوة جديدة تارةً أخرى، لكنها قوة لا تستطيع فعل شيء؛ ومن ثم فهي تُعذِّبنا بالإحساس الذي يشعر به الرجل القوي حين يعجز عن كسر أغلاله رغم أنها تَنثني في قبضته. وارتفعت الشمس شديدة التوهج إلى السماء الشرقية ببطء، ومكثتُ في القمة طويلًا، ثم تحدَّرتُ صوب الغرب بمزيد من البطء، ولمستُ حافة الأفق، واختفَت! واعتلى ضياء الشمس قِمَم المُنحدَر، ثم أصبحَتْ قاتمة ورمادية. وبرق نجم المساء لامعًا. سرعان ما سيظهر هنا.

لم يأتِ! — قسمًا بالسماوات الثابتة في مكانها لم يأتِ! — ومر الليل الطويل المضجر، وقُرب نهايته «بدأ النهار يخطُّ الشيب في شعره الحالك» (اللورد بايرن «ورنر»، المجلد الثالث، الجزء الرابع، ص١٥٢-١٥٣) وأشرقت الشمس مرة أخرى على أتعس مخلوق بائس ذم ضوءها. وقضيتُ ثلاثة أيام على هذا الحال. أما الجواهر والذهب، آه، فكم أصبحتُ أكرههما!

حسنًا، حسنًا، لن أُلوِّث هذه الصفحات بهذيان شيطاني. كانت الخواطر وعاصفة الأفكار التي ملأت رُوحي هي أفظع شيء. وفي نهاية ذلك الوقت نمتُ، ولم أكن قد نمت قبل الغروب الثالث، وحلمت بأني عند قدمَي جولييت، وأنها تَبتسِم، ثم صرختْ لأنها رأت شكلي بعد التحول، ثم ابتسمتْ مرة أخرى لحبيبها الوسيم الجاثي أمامها. لكنه لم يكن أنا، لقد كان هو، الشيطان، مُكتسيًا أطرافي، متحدِّثًا بصوتي، فائزًا بها بملامحي التي تشعُّ حبًّا. حاولتُ أن أُحذِّرها، لكن لساني رفض أن يؤدي وظيفته؛ حاولت أن أنزعه عنها، لكنَّني كنتُ عاجزًا عن الحركة، واستيقظتُ وأنا مُلتاع. لم يكن يوجد إلا المنحدرات الرمادية المنعزلة — كان يوجد البحر المتلاطم، والشاطئ الهادئ، والسماء الزرقاء تُظلُّ الجميع. ما معنى ذلك؟ ألم يكن حلمي سوى مرآة للحقيقة؟ هل كان يُغازِل خطيبتي ويفوز بها؟ كنت أهمُّ بالعودة إلى جنوة، لكنني كنت مطرودًا. ضحكتُ — وخرج صياح القزم من بين شفتيَّ — أنا مطرود! كلا! إنهم لم ينفوا الأطراف الغريبة التي أرتديها، يُمكنني أن أدخل مدينتي وموطني دون خوف من إعدامي.

بدأتُ السير صوب جنوة، وأصبحت معتادًا نسبيًّا على أطرافي المشوهة التي لم تكن تصلح على الإطلاق للسير مستقيمًا؛ وواصلت السير بمشقة بالغة. بالإضافة إلى ذلك، رغبت في تحاشي كل القرى المتناثرة على شاطئ البحر؛ لأنني لم أرغب في إظهار شكلي البشع. لم أكن متأكدًا من أن الصِّبية لن يَرجُموني بالحجارة حتى الموت عند مروري في القرى، ولأني مسخ فقد تلقَّيتُ الكثير من التحيات الفظة من الفلاحين والصيادين القلائل الذين التقَيتُ بهم صدفة. كان أمامي ليلٌ بهيم قبل الاقتراب من جنوة. كان الطقس معتدلًا وجميلًا لدرجة أنْ خطر لي أن الماركيز وابنته قد ترَكا المدينة على الأرجح متوجِّهَين إلى المنتجع الريفي. سبق أن حاولت خطف جولييت من فيلَّا توريلَّا؛ وقضيتُ ساعات في استكشاف المنطقة، وعرفت كل شبر في الأراضي المحيطة بها. كانت الفيلا جميلة الموقع، محفوفة بالأشجار، على حافة جدول. ولما اقتربتُ اتَّضح أن تخميني كان صحيحًا، واتضح أيضًا أن تلك الساعات مخصَّصة للاحتفال والمرح. ولما كان المنزل مضاءً فقد ساق النسيم إلى أذني موسيقى ناعمة ومبهجة، وتسللتْ إلى نفسي خيبة الأمل. لقد كان قلب توريلَّا طيبًا وكريمًا لدرجة أنني كنتُ متأكدًا من أنه ما كان ليَنخرِط في مظاهر الابتهاج العام بعُقوبة النفي التعيسة التي حُكِم عليَّ بها لولا سبب لم أجرؤ على التفكير فيه.

كان الريفيُّون مفعمين بالنشاط، ويتجوَّلون بأعداد كبيرة، وأصبح من الضروري التفكير في الاختباء، لكنني أردتُ التحدُّث إلى أي شخص أو سماع حديث الآخرين، أو معرفة ما الذي يحدث حقًّا في المنزل بأيِّ طريقة. وبعد فترة طويلة، عندما دخلت إلى الممرات القريبة مباشرةً من المنزل، وجدت مكانًا مُظلمًا بدرجة كافية لإخفاء شكلي البشع، وكان هناك أشخاص آخرون غيري يَمكُثون في ظله. وسرعان ما جمعت كل ما أريد معرفته من معلومات جعَلت قلبي يموت من الرعب، ثم يغلي من الغيظ. غدًا ستُزَف جولييت إلى حبيبها جويدو الذي تاب وأصبح صالحًا، غدًا ستتلو عروسي عهودها لشيطان من الجحيم! وأنا الذي فعلت ذلك! غروري اللعين، وعُنفي الشيطاني، وعبادة نفسي الشريرة، كل ذلك تسبب في هذا الأمر؛ فلو أني فعلت كما فعل اللعين الذي سرَق شكلي، لو أنني ذهبت بمظهرٍ مُذعِن ومحترم في الوقت نفسه وقدمتُ نفسي إلى توريلَّا قائلًا لقد اقترفتُ خطأً فسامحني، أنا غير جدير بابنتك الملائكية، لكن اسمح لي أن أطلب يدها للزواج فيما بعدُ، حينما يُثبت لك سلوكي المعدَّل أنني تراجعت عن رذيلتي، وأنني أسعى إلى أن أصبح جديرًا بها حقًّا. سأذهب إلى قتال الكفار، وحين يبدو لكَ أن حماسي الديني وتوبتي الصادقة عما فعلتُه في الماضي يَمحوان جرائمي، اسمح لي أن اعتبر نفسي ابنك مرةً أخرى. هكذا تحدَّث اللعين، ورُحِّب بالتائب مثلما رُحب بالابن الضال العائد الذي ذكره الكتاب المقدس؛ وذُبح له العجل المسمَّن؛ واستمر على النهج نفسه، فأظهر ندمًا صادقًا على حماقاته، وتنازلًا مُتواضعًا عن كل حقوقه، وعزمًا ماضيًا على إعادة اكتسابها من خلال حياة الندم والفضيلة، لدرجة أنه سرعان ما غلب الرجل العجوز الطيب، وسرعان ما تبعَ ذلك عفو كامل، وأَنعمَ عليه بابنته الحبيبة.

آه، لو كان أحد ملائكة الجنة قد همس لي بالتصرف على هذا النحو! أما الآن، فماذا سيكون مصير جولييت البريئة؟ هل سيَسمح الرب بالقران الخبيث، أم أنه، بمعجزةٍ ما تُفسده، سيربط اسم كاريجا المُخزي بأبشع الجرائم؟ غدًا في الفجر سيتزوَّجان، لم تكن سوى طريقة واحدة لمنع الزواج، ألا وهي مقابلة عدوِّي، وإنفاذ اتفاقنا. وشعرتُ أن السبيل الوحيدة لتنفيذ ذلك هي القتال المميت. ولم يكن لديَّ سيف — إن كان ذراعاي المشوَّهان يستطيعان حمل سلاح الجندي — لكن كان معي خنجر، ووضعت كل أملي في هذا الخنجر. لم يكن ثمة وقت للتفكير في المسألة أو تأمُّلها بدقة؛ ربما أموت أثناء المحاولة، لكن بالإضافة إلى نار الغيرة المُشتعلة واليأس في قلبي، كان الشرف والإنسانية المحضة يقتضيان أن أُفضِّل أن أموت على ألا أُدمِّر مكائد هذا الشيطان.

غادر الضيوف، وبدأت الأنوار في الاختفاء، وبدا واضحًا أن سكان الفيلا يَرغبون في الراحة. اختبأتُ بين الأشجار، وأصبحت الحديقة مهجورة، والبوابات موصدة؛ فتجولتُ ووقفت أسفل نافذة، آه! أعرف هذه النافذة جيدًا! وتلألأ في الغرفة ضوءُ شفقٍ خفيف؛ فالستائر كانت نصف مفتوحة. لقد كانت معبد البراءة والجمال، ولم يُقلِّل من جمالها إلا بعض الفوضى البسيطة، إن جاز التعبير، الناجمة من كونها مأهولة، وكانت كل الأشياء المتناثرة تعكس ذوق من كُرِّمت الغرفة بوجودها. رأيتُها تدخل بخطو خفيف سريع، رأيتها تقترب من النافذة، وتسحب الستار لتفتحها بقدرٍ أكثر، ونظرتْ إلى الليل في الخارج. داعب النسيم المنعش خصلات شعرها المموَّج، وطيَّرها بعيدًا عن جبهتها المرمرية. شبكت يدَيها وتطلعتْ بعينيها إلى السماء. وسمعت صوتها يهمس برفق قائلًا: جويدو! حبيبي جويدو! ثم جثَت على ركبتَيها كما لو كانت مشاعر قلبها الجياشة قد غلبتْها، وكانت تقول هذه الكلمات الوديعة وعيناها مرفوعتان إلى السماء، وبأسلوب عفوي لطيف، وبإشراقة امتنان تُنير وجهها. أيا قلبي، دائمًا ما تتخيَّل الجمال الملائكي لهذه الفتاة النورانية والمُحبة، لكنك لا تستطيع وصفه.

سمعتُ وقع خطو سريع ثابت على الممر الظليل، وسرعان ما رأيت فارسًا شابًّا يرتدي ملابس غالية، وكان حسن الطلَّة على ما أظن، يتقدم للأمام، فاختبأتُ على مقربة وتقدَّم الشاب ووقف أسفل النافذة. نهضتْ، ونظرتْ مرة أخرى إلى الخارج فرأتْه، وقالت … لا أستطيع، كلا، لا أستطيع أن أتذكَّر في هذا الزمن البعيد كلماتها الحنونة الرقيقة العذبة التي قالتها لي، وردَّ عليها هو.

قال: «لن أرحل. هنا حيث تَمكُثين، وحيث تحوم ذكراك كشبحٍ يزور السماء، سأُمضي الساعات الطويلة حتى نلتقي، لن نفترق يا جولييت ثانيةً، ليلًا أو نهارًا. لكن، اخلدي إلى النوم يا حبيبتي. إن الصباح البارد والنسيم المتقطع سيجعلان خدَّكِ شاحبًا، وسيملآن عينَيك المضاءتَين بالحب. آه يا حلوتي! لو أنني أستطيع أن أطبع قُبلة عليهما، أعتقد أنني يُمكنني أن أستريح.»

ثم اقترب أكثر، واعتقدتُ أن الكذب كان على وشك التسلُّل إلى غرفتها. تردَّدتُ كي لا أخيفها. الآن لم أعد سيد نفسي. اندفعتُ إلى الأمام، وألقَيتُ نفسي عليه، وأبعدته، وصحت قائلًا: «أيها الذميم الكريه القبيح المنظر!»

لم أكن في حاجة إلى تكرار عبارات ذمٍّ تَميل كما يبدو إلى هجاء جسم يُعجبني بعض الشيء حاليًّا. ونبسَت شفتا جولييت بصرخة. لم أسمع أو أرَ تلك الصرخة، لم أشعر إلا بعدوِّي الذي أُطبِق على حلقه، وبمقبض خنجري. قاوَمني، لكنه لم يستطع الإفلات، وبعد فترة طويلة، قال بصوت مبحوح هذه الكلمات: «اضرب! أَصِب الهدف! دمر هذا الجسد، سوف تعيش رغم ذلك، لتكن حياتك طويلة وسعيدة!»

تجمَّد الخنجر الذي هويتُ به عليه عند هذه الكلمة، ولما أحسَّ بارتخاء قبضتي، حرر نفسه، وسحب سيفه؛ وبينما كان واضحًا من الجلبة الموجودة في المنزل واندفاع سكانه حاملين المشاعل من غرفة إلى أخرى بحثًا عن مصدر الجلبة؛ أننا سنَنفصِل سريعًا — مع أني أفضل الموت كي لا يحيا — فلم أبالِ بشيء. ووسط هذا الهيجان دارت في ذهني حسابات كثيرة؛ ربما أسقُط قتيلًا، ولكيلا ينجو، لم أهتمَّ بضربة الموت التي قد أتعرض لها. ولما ثبتُّ في مكاني، ظن أنني توقفتُ، ولما رأيتُ عزمه الشرير على انتهاز تردُّدي ألقيت بنفسي على سيفه وهو يهم بتسديد طعنة مفاجئة لي، وفي اللحظة نفسها غرست خنجري في جنبه في ضربة مستميتة. سقطنا معًا، وتدحرج كل منا على الآخر، واختلط فيضان الدم الذي سال من الجرح المفتوح في كل منا على الحشائش، ولم أعرف المزيد لأنني فقدتُ الوعي.

عدت إلى الحياة ثانية، ضعيفًا مشرفًا على الموت، ووجدت نفسي ممدَّدًا على سريري، وجولييت جاثية بجواره. غريب! كان أول طلب أطلبُه بصوت منكسر هو مرآة. كنتُ ذابلًا وشاحبًا لدرجة أن فتاتي المسكينة تردَّدت في إجابة طلبي كما أخبرتني لاحقًا، لكنَّني أُقسم أنني حسبت نفسي شابًّا سليمًا وسيمًا حين رأيتُ الانعكاس العزيز لملامحي المعروفة. أعترف أن هذه نقطة ضعفي، لكنني أعلن أنني أحمل حبًّا كبيرًا للوجه والأطراف التي أراها كلما نظرتُ في المرآة؛ ولديَّ في منزلي مرايا أكثر مما لدى حسناوات البندقية، أنظر إليها أكثر مما يَنظُرن إلى مراياهن. قبل أن تبالغوا في إدانتي اسمحوا لي أن أقول إنه لا أحد يعرف قيمة جسمه أكثر مني؛ لأنه ما من أحدٍ سواي، على الأرجح، سُرق منه جسده.

تحدثت في البداية عن القزم وجرائمه بطريقة غير متَّسقة، ولُمْت جولييت على اعترافها بحبها له بسهولة جمة. اعتقدَتْ جولييت أنني أُخرف، ومن حقها أن تعتقد ذلك، ورغم ذلك فقد استغرقتُ وقتًا طويلًا لإقناع نفسي بالاعتراف بأن جويدو الذي كانت توبتُه سببًا في عودة جولييت له كان أنا نفسي؛ وبينما كنتُ أدعو بمرارة على القزم البشع، وأمدح الضربة الصائبة التي وجهتها له وحرمَته من الحياة، تحسَّستُ نفسي فجأة إذ سمعتها تقول: «آمين!» فعرفت أن من كانت تؤمِّن على لعناتي له كانت أنا نفسي. وببعض التأمُّل تعلمتُ الصمت، وتمكنتُ بالممارسة من التحدث عن هذه الليلة المرعبة دون مزيد من الأخطاء. ولم يكن الجرح الذي ألحقتُه بنفسي جرحًا هينًا؛ فقد استغرقتُ وقتًا طويلًا حتى تعافَيت. وبينما جلس بجانبي توريلَّا الطيب المحسن يُحدثني بحكمة تدفع إلى التوبة، وحامت من حولي عزيزتي جولييت تلبي احتياجاتي وتُسرِّي عني بابتساماتها، شُفي جسدي وصلح عقلي في الوقت نفسه. والواقع أنني لم أستعِدْ قوتي الكاملة مطلقًا؛ فما زال خدي شاحبًا منذ ذلك اليوم، وجسدي مُنحنيًا بعض الشيء. تُحاول جولييت أحيانًا التلميح بمرارةٍ إلى هذه الضغينة التي سببت هذا التغيير، لكنني أُقبِّلها فورًا، وأُخبرها أن هذه حقَّقت نتيجة أفضل؛ فأنا زوج محب للغاية ومخلص بقدر أكبر، هذا صحيح، ولولا ذلك الجرح لما استطعتُ مطلقًا أن أجعلها زوجة لي.

لم أعاود زيارة شاطئ البحر، أو البحث عن كنز الشيطان، إلا أنني كلما تأملتُ الماضي، اعتقدتُ في الغالب أنها ربما كانت رُوحًا خيرة، لا روحًا شريرة، أرسلها ملاكي الحارس ليُريَني حماقة الغرور وشقاءه، ولم يتردَّد القسُّ الذي أعترف له في تأييد هذه الفكرة أيضًا. جيِّد أنني تعلمت هذا الدرس مؤخرًا — وإن كنت دفعت ثمن تعلُّمي غاليًا — فلقد أصبحت معروفًا الآن بين الأصدقاء وأبناء البلدة باسم جويدو الدمث.

هوامش

(1) Text from: The Mary Shelley Reader, eds. Betty T. Bennett and Charles E. Robinson (Oxford University Press, 1990), pp. 121–35. Reprinted from Mary Shelley’s Tales and Stories, pp. 286–300, where text is based on The Keepsake for MDCCCXXXl, ed. Frederic Mansel Reynolds (London: Hurst, Chance & Co. [1830]), pp. 18–39.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤