حليمة الكبش

أُولد من جديد، من جوف السجن إلى سطح الأرض، ويهلُّ عليَّ وجهُ عباس فأحتويه بين ذراعيَّ، أدفن وجهي في صدره مثقلةً بالعار والخجل. همست: شد ما أسأنا إليك؛ ليت الموت أراحك منَّا.

قال برقة: ما يسيئني إلا كلامك.

ونشجَت باكيةً، فقال: الآن يطيب لنا الشكر … دعينا نفكر في المستقبل.

فقلت بصوت مُختنِق: وحيد يا بني … ابتلاك الله باسترداد زوجتك وابنك … ونحن لم نرحمك.

– ما مضى قد مضى.

لم يكد يتبادل مع أبيه كلمةً، جمعتنا صالة البيت القديم، كبعض الأوقات الماضية، وراح يقول: أرجو ألا نعود إلى ذكر الماضي.

وصمت قليلًا، ثم قال: فكرت في أشياء … ولكن هل يود أبي أن يرجع إلى عمله القديم في المسرح؟

فقال كرم: كلا … عليهم اللعنة.

– سأحول المنظرة إلى دكان، ممكن أن نبيع بعض الأثاث، ونجعل من المنظرة مقلًى، تجارة يسيرة ومربحة … ما رأيكما؟

فقلت بامتنان: الرأي ما ترى يا بني … أسأل الله أن أسمع عنك خيرًا قريبًا.

– بإذن الله … أشعر بأنَّني قريب من النجاح.

فدعوت الله له كثيرًا، حتى قال وهو ينقل عينَيه بينَنا: المهم أن يحلَّ بينكما التعاون، وألا أسمع ما يسيئني.

فقلت بلهفة: طالَما حلمت بأن أعيش معك.

– إذا أراد الله لي النجاح، فسوف يتغير كل شيء.

وتساءل كرم بجفاء: ألا تتفضَّل بأخذِها معك؟

فقال عباس بحرارة: أطالبكما بالتعاون … سأبذل ما أستطيع لأوفِّر لكما حياةً كريمةً، ولكنِّي أطالبكما بالتعاون.

أي تعاون؟! إنه لا يدري شيئًا، إنه أبرأ من أن يُحيط بأسرار القلوب إذا نفثت دخانها. من أين له أن يعلم بما فعل أبوه، وهو لم يشهد إلا سطحه الكئيب؟ إنه يَبذل ما يجود به قلبه البار، ولكن هل غاب عنه أنه يجمع بين خصمَين في زنزانة واحدة؟ من السجن إلى سجن، ومن المقْت إلى ما هو أشدُّ مقتًا. لا أمل لي يا بني إلا أن تَنجح، وأن تنتشلَني من زنزانتي البغيضة.

•••

أسترقُ إليه النظر وهو يعمل، يبيع الفول السوداني واللب والفشار والحمص، ويَرمي بالقروش في درج نصف مفتوح، بعد إدمان طويل للرزق الحرام الغزير. لا شك أنه يحلم بالمُخدِّر القاتل الذي شفاه السجن منه على رغمه؛ لولا أن عباس اشترط عليه أن نتقاسم الربح، لبادرنا الخراب من جديد. دائمًا مُكفهرُّ الوجه، لا يزيح قناع الأسى عن وجهه إلا في حضرة الزبائن. تمادى في العمر أكثر من الواقع بعشر سنوات، وهذا يعني أنني تماديتُ أيضًا. أيام السجن الحزينة، وليلة الكبسة التي استبقَت فيها أيدي المخبرين بلطمِ وجهي … آه … الأوغاد … لم يَزُرنا منهم أحد. الهلالي وغد مثل طارق رمضان؛ حُجزوا في القسم ليلةً، ثم أُطلِقَ سراحهم، وحملنا الوزرَ وحدَنا. حتى جيراننا يقولون إن القانون لا يصول ويجول إلا مع المساكين، يُعزُّوننا، ويشمتون بنا، ولكنهم يتعاملون معنا. لا أمل لي يا بُني إلا أن تنجح! يمر الوقت دون أن نتبادل كلمةً، حرارة المقت أقوى من موقد الفرن. وكم أشعر بالتعاسة وأنا أنظِّف البيت القديم الكريه، أو وأنا أعد الطعام؛ كيف قُضيَ عليَّ بهذه الحياة؟ كنتُ جميلةً ومثالًا في التقوى والأدب. الحظ … الحظ … من ذا يدلُّني على معنى الحظ؟ ولكن الله مع الصابرين، وسوف يقول الحظ كلمته الأخيرة على يدك يا عباس، ولن أنسى زيارتك لنا ليلة مولد سيدي الشعراني، وقولك المُفرح للكرب، المفتح لأبواب السماء: أخيرًا قُبلت مسرحيتي!

لقد انطلقت من صدري ضحكة كاللؤلؤة، لم تترنَّم فيه منذ الشباب الأول. حتى أبوه تهلَّل وجهه؛ ما دخله في الأمر … لا أدري! لقد كرهتُه كما كرهني! حسن … ها هو يَستوي مؤلِّفًا لا خرافةً كما توهمت، طالما عددتُ مثاليته سفاهةً، ولكن الخير ينتصر، ويَجرف تياره المتدفِّق زبد السفلة من أمثالك.

•••

لا أحب الخريف، لولا أنه يُقربنا من ليلة الافتتاح. من أين تجيء هذه السُّحب التي تحجب النور؟ ألا تَكفيني السحب التي سبح فيها قلبي؟ وجاءني صوت الرجل قائلًا: انظري …

رأيت طارق رمضان مقبلًا كحادثة سيئة من حوادث الطريق. تساءلت: للتهنئة أم للشماتة؟

وقف قبالتنا يُلقِي بسلامِه في فراغ. قلت: أول زيارة من أهل الوفاء!

ولم أُلقِ بالًا إلى اعتذاراته، حتى سمعته يقول: معي أخبار سيئة!

فقلتُ بتحدٍّ: لا تُهمُّنا الأخبار السيئة.

– حتى لو تكون عن الأستاذ عباس يونس؟

هرب دمي، تماسكت ما وسعني التماسك. قلت بزهو: قد قبلت مسرحيته!

– ما هي إلا نكتة مبكية؛ ماذا تدرين عن المسرحية؟

وراح يسوق العجائب من خلال تلخيصه، ويختم قائلًا: كل شيء … كل شيء …

دار رأسي، تساءلت وأنا أداري رعبي: ماذا تعني يا عدوَّ عباس؟

– شاهِدا المسرحية بنفسكما.

– أعماكَ الحقد.

– بل الجريمة.

– ما مُجرِم إلا أنت!

– يجب القبض على قاتل تحية …

– إنك مجرم وخسيس، وعليك أن تذهب …

فضحك ساخرًا، وتساءل: كيف يقولون إن السجن تأديب وإصلاح؟

كبشتُ كبشة حمص، ورميته بها، فتراجع هازئًا، ثم ذهب. ماذا كتب عباس؟ ماذا فعل؟ ابني لا يَقتُل ولا يخون؛ لا يخون أمه على الأقل، إنه ملاك.

تبادلت مع الرجل نظرةً؛ يجب أن أخرج من وحدتي الأبدية. قلت: إنه يكذب.

– ولمَ يكذب؟

– ما زال يَحقِد على ابني.

– ولكن توجد مسرحية.

– اذهب إلى عباس.

– سأقابله حتمًا.

– ولكنك لا تتحرك!

– لا داعي للعجلة.

فحنقت عليه … إنه مثل طارق لا يحبُّ عباس. هتفت: يجب أن يَعرف ما يُدبر من وراء ظهره.

– وإذا اعترف؟

– ستجد التفسير لكلِّ شيء.

– لا أدري.

– القاتل الحقيقي لا يَفضح نفسه.

– لا أدري.

– تحرك.

– سأذهب طبعًا.

– أو أذهب أنا.

– ليس عندك ملابس لائقة.

– إذن فعليك أن تذهب أنت.

– الوغد يكذب.

– يجب أن تسمع بأذنك.

ولكنه تراجع قائلًا: كره حياتنا … كان مثاليًّا كأنه ابن حرام … ولكنه لا يغدر بنا … ثم لماذا يقتل تحية؟

– إنك تستجوبني أنا!

– إني أفكر.

– لقد صدَّقت ما قال الوغد.

– وأنتِ أيضًا تُصدقينه.

كدتُ أبكي، ولكنني أطبقت على شفتي، وقلت: يجب أن نسمعه.

– الحق أنني لا أصدق.

– إنك تهذي!

– اللعنة!

– اللعنة حلَّت يوم ارتبطت بك.

– ويوم ارتبطت بك.

فقلتُ بتحدٍّ: كنتُ جميلةً … إنه سوء الحظ.

– كان أبوك ساعي بريد، أما أبي فكان موظفًا في دائرة الشمشرجي.

– ذلك يعني أنه كان خادمًا.

– أنا من أسرة …

– وأمك؟

– مثلك تمامًا!

– مخرف … ولكنَّك لا تريد أن تذهب.

– سأذهب عندما يروق لي.

ثم غيَّر نبرته قائلًا: العصر أنسب وقت لوجوده في بيته.

سكت مُناديةً الصبر المر؛ الشك يَقتُلني من جذوري! ماذا يُقال عن أشرف الناس؟ الوردة النابتة في خرابة، في بلد اللصوص والضحايا! ابتاع لي قماشًا لثوب يصلح للخروج، ولكنِّي تقاعدتُ عن تفصيله؛ سأشرع من فوري في تفصيله وحياكته. يُعيِّرني بأصلي ابن العاهرة، أما عباس فلا يمكن أن يخون أمه. احتقر كل شيء إلا حبِّي؛ الحب أقوى من الشر نفسه.

•••

بيت الهنا بالطمبكشية، الشمس لا تغيب حتى في الشتاء والليل. حليمة الجميلة بنت الجميلة. أبي يرجع حاملًا شيئًا طيبًا تُحبه الأنفس، وتقول أمي لأبي: دعها تستمر … التعليم فرصة العمر … ليتَني وجدت فرصتي.

ويقول قريبنا الطيب عم أحمد برجل: أصبحت البنت يتيمةً … الاستمرار في التعليم مشقة.

فتسأله أمي: وما العمل يا عم أحمد؟

– معها شهادة … وهي ذكية … يلزمها عمل … ستخلو عندنا وظيفة قاطعة التذاكر.

وتسألني أمي: هل تحسنين عملًا كهذا؟

فأقول بلهفة: التمرين يكمل ما ينقصني.

ويقول عم أحمد: الشمشرجي صديق الهلالي بك … تشفَّعي به عنده، وسأُكلمه من ناحيتي.

ها هي الدنيا تتفتح عن تجربة جديدة؛ هكذا أدخل المسرح لأول مرة، مكان فخم ذو رائحة خاصة مؤثرة، عم أحمد يتضاءل، ويلعب فيه دورًا صغيرًا. أُدعى إلى مقابلة المدير، أُدلف إليه في معبده الضخم بثَوبي الأبيض البسيط وحذائي القديم. بهيكله العالي، وعينَيه الحادتين، ونظرته المجتاحة، يبدو كائنًا رائعًا شديد التأثير. تفحَّصَني حتى ذبت. يُقدِّم لي فرخ ورق ليمتحن سرعة كتابتي للأرقام.

يقول بصوته الجهير: يلزمُكِ تدريب قبل تسلم العمل يا …

أقول بحياء: حليمة الكبش.

يبتسم معلقًا: الكبش؟! … ما علينا … وجهُكِ مقبولٌ أكثر من وجوه مُمثِّلات فرقتنا … أريد أن أمتحنكِ عند انتهاء التدريب.

أجتهد بحماس وافق، لا غيرةً على مستقبلي، ولكن إرضاءً لذلك الساحر الرائع. وأقول لأمي؛ فتقول هكذا يكونون أولاد الأصول. أتخيَّل رضاه مثل نعمةٍ مُبارَكة، وأمثل بين يديه مضطربة الأنفاس. أنت تعويذة الفرقة يا حليمة. الله جميل يحب الجمال. متى بدأتْ مداعباتُه اللمسية؟ كان شعاع الشمس النافذ من الزجاج يَغمر وجهي، وثمة مزمار بلدي في الطريق يعزف راقصًا، وأدفع يده المُترامية لاهثةً: لا يا سعادة البيك، أنا بنتٌ شريفة! تجلجل ضحكته في أذني، يتلاشى احتجاجي في صمتِ الحُجرة المُغلَقة الواسعة، عاصفة من الأنفاس الحارة والتسلُّل الماكر تشوش إرادتي الصادقة؛ إنه الكابوس الذي يَنقشِع عن دموع لا تستدرُّ عطفًا! خارج الحجرة أحياء يذهبون ويجيئون، وتموت أمي قبل أن تعلم.

•••

تحرك أخيرًا عند العصر، خفَّ توتُّر أعصابي. إني أتعلق بقشة، ولكن ماذا أنتظر؟ عليَّ أن أُعدَّ الثوب لأستطيع الحركة. إنه يَبُوح بسرِّه لي، لا للرجل الكريه. ماذا يُبقى لي الآن سوى عباس.

•••

الخيبة تجيء مع الأفيون؛ لا … إنها أقدم من الأفيون. ما أعذب ما دفنت من آمال! يرشف آخر رشفة في الكأس، يبتسم ابتسامةً مخمورةً، يشير إلى الحجرة الملاصقة للمنظرة، ويقول: في هذه الحجرة، كانت أمي تخلو إلى الباشجاويش!

أُذهَل من هول المكاشفة، عباس نائم في لفافة المهد، أقول غير مصدِّقة أذني: سكرتَ يا كرم!

يهز رأسه قائلًا: كانت تُحذرني من مغادرة حجرتي.

– ما كان يجوز.

ويقاطعني: لا أحب النفاق … أنت منافقة يا حليمة.

– الله يغفر لها … ألا زلت تحقد عليها؟

– ولمَ أحقد عليها؟

– إني لا أفهمك!

– زوجك رجل لا مثيل له بين الرجال … لا يؤمن بأي أكذوبة بشرية.

ماذا يعني؟ إنه زوج لا بأس به، لكنه يسخر من كل شيء؛ من إيماني يسخر … من مقدساتي وتقاليدي … ماذا يحترم ذلك الرجل؟ ها هو يَهتك أمَّه دون مبالاة! أقول له: أنت مرعب يا كرم.

فيقول باستهانة: ذلك من حسن حظِّنا، وإلا لطلقتُكِ ليلة الدخلة.

انغرز دبوس مُحمًى في قلبي، دمعت عيناي، تلقَّيتُ ثاني ضربة قاسية في حياتي. يقول: معذرةً يا حليمة؛ متى تصيرين حرةً؟

– أنتَ قاسٍ وشرِّير.

– لا تهتمي بهذه الكلمات التي لا معنى لها.

ويُحدِّثني عن عشق أمه الجنوني للشرطي، عن إهمالها له، كيف نشأ حرًّا بفضل ذلك الإهمال الداعر!

ويقول بنبرة مخمورة: إني مدين لها بكل شيء.

إنه يطوقني كشيء مُرعب، إني أعاشر قوةً غير منتمية لأي قاعدة؛ على أي أساس أتعامل معه؟ الخيبة أقدم من الأفيون، الأفيون لم يجد روحًا ليقضي عليها.

•••

لمحتُه راجعًا، فوثب قلبي رغم النفور. بدا في الطريق أطعن في السن مما يكون في المقلى. اتخذ مجلسه دون أن ينظر نحوي. سألته: ماذا قال لك؟

فقال ببرود: غادر شقتَه حاملًا حقيبته إلى مكان مجهول.

يا للعذاب والرعب؛ متى يكفُّ الحظُّ عن التنكيل بي؟

– لمَ لمْ يُخبرنا؟

– إنه لا يُفكِّر فينا.

أشرت إلى أنحاء المقلى قائلةً: أحسنَ إلينا بوفاء لا نستحقُّه.

– يُريد بعد ذلك أن يَنسانا.

– كان عليك أن تذهب إلى الهلالي.

رمقني بازدراء وكراهية، فقلت بتحدٍّ: إنك لم تُحسن التصرف.

– أودُّ أن أكسر رأسكِ.

– كأنكَ رجعت إلى الأفيون.

– لا يقدر عليه اليوم إلا الوزراء.

وإذا به يقول مُخفضًا درجة صوته: الهلالي لا يدري شيئًا عن مكانه.

فسألته بلهفة: زرتَه؟

– لا يدري شيئًا عن مكانه.

– رباه … هل أخلى شقته؟

– لا.

– لعل في الأمر امرأةً.

– تفكير سليم من وجهة نظر امرأة مثلك.

– ماذا يمكن أن أقول لمثلك؟ … ثم إن أمره لا يهمك البتَّة.

وغلَبَني البؤس، فبكيت من أعماقي.

•••

ذهبت مرتديةً ثوبي الجديد، مُتلفِّعةً بشالٍ قديم، لم أحمل معي أملًا، وتوكَّد هناك يأسي. قلت للبواب: عندك معلومات ولا شك؟

– أبدًا.

لم أجد شجاعةً للذهاب إلى المسرح، رجعت كارهةً، زرتُ سيدي الشعراني، واستغثتُ بكراماته. مضيت إلى الزنزانة لأجد الرجلَ يُضاحك زبونًا وهو ناعم البال. جلست مُنهزمةً حانقةً، ونفد صبري، فقلت: افعل شيئًا؛ أليس عندك حيلة؟

– أود أن أقتلك، سأقتلك ذات يوم.

– زيارة جديدة للمدير.

فقاطعني: اذهبي إليه أنت، فهو يخصُّ جواريَه بعنايته.

– الحق أنني ضحية أمك، مارست تعذيبي من وراء قبرها؛ هي التي خلقت منك هذا الوحش!

– إنها تُعتبَر بالقياس إليك سيدة عفيفة!

•••

هذا المسرح يَشهد عذابي وحبي، شهد أيضًا اغتصابي ولم يمدَّ لي يدًا، تحت قبته العالية تدوي شعارات الخير في أعذب بيان، وتسفح على مقاعده الوثيرة الدماء. وأنا ضائعة … ضائعة … محتقنة بسرِّي، وهو لا يدري بحبِّي، ولا يهمه شيء؛ لعله نسيَ اسمي أيضًا!

– إنك تتجنَّبني … شقيت حتى قابلتك.

– هل ينقصك شيء؟

– ماذا؟ … أنسيت؟ … لقد فقدت كلَّ شيء.

– لا أحب المغالاة … لم يَحدث شيء ذو بال.

طفرت الدموع من عيني.

– لا … لا … لا يجوز أن يُلاحَظ شيء في المسرح.

– ولكنني … ألا تُدرك حالي؟ … لا تتركني.

– الأمر أبسط مما تتخيَّلين … لم يَحدث شيء ضارٌّ البتَّة … احتفظي بصفاء ذهنك من أجل عملك ومستقبلك، وانسَي ما كان، فلا فائدة تُرجى من تذكُّره.

إنه الصوان، أمقته بقدر ما أحبه. مهجورة وحيدة معذبة. ستُخمِّن خالتي سر عذابي ذات يوم. ماذا أرجو من دنيا لا يُعبَد فيها الله؟!

•••

عند الأصيل، ذهبت إلى مقهى الفن، رأيت فؤاد شلبي يدخن الشيشة فقصدته؛ لم يتوقَّع حضوري بحال، فقال: مرحبًا. وأجلسني وهو يقول: كان يجبُ أن أزوركم، اللعنة على الشواغل!

فقلت دون مبالاة: لم يَزُرنا أحد، لا أهمية لذلك، إنما جئتك مدفوعةً بالقلق لاختفاء عباس.

فابتسم وقال: لا داعيَ للقلق، الأمر واضح، لقد هرب من المتطفلين، وخيرًا فعل، ولا شكَّ أنه يُعدُّ مسرحيته التالية.

– أما كان يجب أن يُخبرني؟

– اغفري له خطأه، لا تقلقي، ما زلتِ جميلةً كما كنتِ يا حليمة، كيف حال كرم؟

– حي، يمارس هوايته في إتعاس البشر.

فضحك، وظلَّت ضحكتُه تُثير أعصابي حتى غادرت المقهى. وجدت الشجاعة والتصميم هذه المرة للذهاب إلى المسرح، طلبت مقابلة المدير، دخلت الحجرة؛ الحجرة نفسها، الكتب الجلدية نفسها، الرجل نفسه؛ لا … إنه رجل آخر، لم يبقَ من الآخر إلا نذالته، إدمان الشهوات كبَّره أكثر مما كبَّرَنا السجن. أيهما المسئول أكثر عن تعاستي؟ وقَفَ مُرحِّبًا … هتف: أهلًا … أهلًا … يُسعدني أن أراك بخير.

فتساءلت بسُخرية وأنا أجلس: بخير؟!

– كما يَجدر بأمِّ مؤلِّفٍ ناجح!

– إنه سرُّ عذابي الراهن!

– يا له من عذاب لا أساس له؛ عندي خبر سار، لقد اتَّصل بي تليفونيًّا.

قاطعته بفرحة مشتعلة: أين هو؟

– لا أدري … إنه سرُّه، فليحتفظ به كيف شاء، المُهم أنه مُكبٌّ على تأليف مسرحية جديدة.

– هل ترك عمله؟

– نعم … إنها مجازفة، ولكنه واثق من نفسه، وأنا واثق.

– لم يُكلف خاطره بالاتصال بي؟

– يتجنب أن يستجوبه أحد عن مسرحيته … هذا ما أتصوَّره.

– لقد قالوا وعادوا … ما رأيك أنت؟

– المسرحية فن، والفن خيال مهما استمدَّ من الحقائق!

– ولكن ظنون الناس …؟

– الجمهور لن يرى شيئًا من ذلك كله … إنه سخف، ولولا حماقة طارق.

فقاطعته: إنه عدوه، عليه اللعنة.

– أطالبك الآن بأن تَقرِّي عينًا.

•••

– بلَغَني أن كرم يونس يَطلب يدك؟

– أجل.

– مُمكن إصلاح الأمر.

– لا … أرفض هذا النوع من الكذب.

– ستصارحينه؟

– أعتقد ذلك.

– يا لك مِن فتاة استثنائية في هذا الزمن المغمور بالسفلة! هل تُكاشفينه بالفاعل؟

– لا أهمية لذلك.

– الأفضل ألا تفعلي.

•••

مضيت إلى البوفيه، صاح أحمد برجل عند رؤيتي: خطوة عزيزة.

جلست أمامه صامتةً، راح يُعدُّ لي السندوتش والشاي. هنَّأنا من أهل الأرض شخصان، أحمد برجل وأم هاني. غمرتني ذكريات المكان، الشاي، والسندوتش، والغزل، والمزمار الراقص في الجحيم، مثل قطرات مطر صافية أصابت مزبلةً. وقال عم أحمد: نجاح عباس حظ طيب، وبشير بالعزاء عما سلف.

فقلت بأسًى: لكنه هجَرنا بلا كلمة طيبة.

– لا تقلقي، لا يقلق أحد ممَّن حولنا لذلك!

– وطارق رمضان؟!

– إنه نصف مجنون.

•••

التجربة عنيفة وجديدة، ثمة تصميم على الاعتراف، وخوف يُخرسني في آخر لحظة؛ إني شريفة وطاهرة، وأكره الخداع، ولكن الخوف يُخرسني. يبدو لي كرم مثالًا للجدية والحب، فهل أفقده؟ وخرست حتى أغلق علينا بابنا، هالني ضعفي فبكَيت، انتصبَتِ الحقيقة عاريةً مُتوتِّرةً مستخذيةً بيني وبينه. همست: إني مجرمة … عجزت أن أخبرك من قبل.

تحيَّرَت، في مقلتَيه نظرة ساهمة، ما أخشاه يَقع! قلت: خفتُ أن أفقدك، وصدقني لقد اغتُصبتُ اغتصابًا.

وأخفيت عيني في الأرض، وانفعالاته تلفحني، وقلت كلامًا، وقال كلامًا، وضاع الكلام في وقدة الألم، لكن صوته حُفر في وعيي وهو يقول: لا يُهمني الماضي.

ازددتُ بكاءً، ولكن بهرني شروق غير متوقَّع. قلت إنه شهمٌ، وأنني سأُكرِّس نفسي لإسعاده، وهمست وأنا أجفف عيني: ما أسهل أن يضيع الأبرياء …!

•••

ما أضيق صدري وأنا راجعة إليك؛ دخلت الزنزانة وجلست. سأقول كلمةً عن لقاء فؤاد شلبي، ولن أزيد، لن أريحه، إنه لا يحب عباس، يتظاهر بعدم الاهتمام، ليته يتعذب كما أتعذب! نحن نبيع التسلية، أما تسليتنا الوحيدة فهي تبادُل السباب.

•••

في الخيبة أمضي درجةً بعد درجة، لكنَّ الشرَّ الجديد يُهدِّد أساس البيت.

– الأفيون مُخيف جدًّا، إنه يَلتهمك!

– شكرًا له على أي حال.

– إنك تنسحب من دنيانا بسرعة مزعجة.

– أكرِّر له الشكر!

– إني أبذل أقصى ما في جهدي، وهناك عباس، وهو حبيبك.

مضى يرشف من قدح الشاي الأسود غائبًا عني.

– مرتَّبي لا يكفي وحده للإنفاق على البيت.

– عندك إيجار حجرة رمضان.

– ولا هذا يكفي، الدنيا نار.

إني الآن أعرفك، ولذلك أخشاك، لست كما تصوَّرتُك في أيامنا الأولى. ها أنت تفقد كل شيء، حتى قدرتك التي تباهيت بها. استقلَّ كلٌّ منَّا بحجرة خاصة، لا حب وأيضًا لا طعام؟! أنت أنت الباقي يا عباس، لا تحفظ كلام بابا … لا تصدقه؛ فإنه مريض. من حُسنِ الحظ أنك غالبًا وحدك، الله معك، فيه الكفاية! كن ملاكًا، ليكن صديقُكَ المدرس والكِتاب والمسرح، كن ابني وابن الآخرين الطيبين؛ إنك النور الوحيد في هذا البيت القديم الغارق في الظلام، كن وحيدًا في كل شيء.

•••

يسترق إليَّ النظر أحيانًا، لعلي أبوح له بما لديَّ؛ هيهات! أتحداك أن تكرهني أكثر. تساءل: عندما يَجيء الشتاء، فكيف نَحتمل البقاء في هذه المقلى المفتوحة؟

فقلت بثقة: عندما ينجح عباس يتغيَّر المصير كله.

فردَّ بمرارة: عندما يَنجح عباس!

فقلت بتحدٍّ: سأذهب معه، ولن يضنَّ عليك بمعطف أو عباءة.

•••

البوفيه الأحمر باقٍ كما كان، يَضحك من تغيُّر روَّاده، سمع الكثير مما يُقال، ولا يصدق أحدًا. يقول لي عم أحمد برجل: هاك السندوتش، وسأعدُّ لك الشاي.

ويَجيء، فيجلس على المقعد إلى جانبي شاب، فيطلب أيضًا الفول والسندوتش؛ إنه من أهل المسرح فيما يبدو، ولكنه ليس من المُمثلين؛ شابٌّ مقبول المنظر، كبير الرأس والأنف.

ويسألني عم أحمد: هل من جديد عن الشقة يا آنسة حليمة؟

فأجيبه بشيء من التكلف أمام الغريب: البحث عن الذهب أسهل.

وإذا بالشاب يسألني: هل تَبحثين عن شقة؟

فأجبتُ بالإيجاب، وعارف عم أحمد بيننا، فراح يسأل بجرأة: من أجل زواج؟

آه … بدأ الغزل، إنه يبدأ بسرعة في هذا المسرح، ولا يتردَّد عن استعمال العنف، وتقتُل الفريسة على أنغام المزمار البلدي!

– عندي بيت قديم مكون من طابقين.

– الطابق شقة؟

– كلا … إنه ليس مُقسمًا إلى شقق.

عم أحمد يسأله إن كان مُمكنًا أن أستقل بطابق، فيُجيب بالإيجاب. سألته: ألا يضايق ذلك الأسرة؟

فأجاب بجرأته المعهودة: إني أقيم فيه وحدي.

أعرضت عنه في استياء، فقال بلباقة: ستجدين الطابق آمنًا، أنت وأسرتك.

شكرته وصمتُّ، لم يترك أثرًا سيئًا في نفسي. ماذا يريد؟ لا علم له بمأساتي، ولا بحبي، ولا بسوء ظنِّي.

•••

قلتُ أذهب إلى أمِّ هاني بشقَّتها الصغيرة بالإمام، حيث يُقيم معها طارق رمضان. استقبلتْني بحرارة، وكان عليَّ أن أنتظر حتى يستيقظ طارق من نومه. خرج من حجرته منفوش الشعر مثل شيطان، وهو يقول بسخرية لا تُناسب المقام: خطوة عزيزة.

فقلت له دون لف أو دوران: أعتقد أنك زرت عباس قبل رحيله!

– حصل.

– لا أستبعد أنك أسمعتَه ما حمله على الرحيل.

فقال بقِحَة: لقد شعر بالحصار فهرب!

فغضبت حتى طفرت الدموع من عيني، فصاحت أمُّ هاني: ألا يعرف قلبك الرحمة؟! ما هذا الذي يقال؟ لقد شهدت وفاة تحية، وشهدت حزن عباس الجنوني!

دهشت وأنا أتلقى هذه الحقيقة، وسألتها: هل يتفق ما شاهدته مع ما يقال؟

– كلام فارغ.

فقال طارق: ما كان له أن يقتلها أمامك يا حمقاء.

– الحماقة أن تتصور عباس قاتلًا.

– اعترافه يتجسد على المسرح ليلةً بعد أخرى.

فقالت أم هاني: بفضله صرتَ مُمثلًا يُصفِّق له الجمهور أكثر من إسماعيل نفسه.

– بفضل جريمته … جريمته التي حملته على الهرب.

فقلت بإصرار: إنه يُقيم في مكان هادئ؛ ليتم مسرحيته الجديدة.

فقهقه ساخرًا، وهو يقول: مسرحيته الجديدة! … لا تحلمي يا أم عباس!

•••

آه … في تلك الأيام كان معقولًا ومقبولًا رغم كل شيء.

– ما رأيك يا حليمة؟ طارق رمضان يرغب في استئجار حجرة عندنا!

فقلت محتجَّةً: لا … لا … فليبقَ في مسكنِه.

– تشاجَرَ مع أمِّ هاني فاضطرَّ إلى مغادرة البيت … إنه يَهيم بلا مأوًى، والغلاء يرتفع يومًا بعد يوم.

– إنه لأمر كريه أن يُقيم غريب بيننا.

– إنه في حاجة إلينا، ونحن أيضًا في حاجة إلى نقود.

– إنه أشبه بالمتشرِّدين.

– إنه طامع في كرمنا، في كرمك أنت خاصة … عندنا من الحجرات الخالية ما يكفي جيشًا.

وأذعنت كارهةً. لم أحترمْه قط، ممثِّل فاشل، ويعيش بعرق النساء، ولكنِّي لم أتصوَّر أن يفعل بنا ما فعل!

•••

ما ندري إلا وأم هاني تزورُنا في المقلى، زارتنا في اليوم التالي لزيارتي لها، واضح أنها تُريد أن تعتذر بالزيارة عن سوء معاملة رجلها لي. إنها في الخمسين مثل طارق، ولكنها بدينة، ولا تخلو من حُسْن، وحالتها المالية طيبة. قالت: إنهم يتحدثون عن نجاح المسرحية … لم تنجح بهذا القدر مسرحية من قبل.

فقلت بأسًى: ولكن المؤلِّف لا يريد أن يظهر.

– سيجيء عندما يفرغ من مسرحيته الجديدة.

وصمتت المرأة قليلًا، ثم استطردت: ما أسخف ما يقال … ولكن طارق مجنون.

فتساءل كرم ساخرًا: ألم يكن من الأفضل أن يقتل أمه؟!

كنتُ أميل إلى أم هاني، ولم يَنتقِص من ميلي لها أنها قريبة زوجي.

•••

بيت الطمبكشية المكتظ بسكانه، مثل الباص تفوح منه رائحة المطاط. خالتي تُخلي ركنًا، لتستقبل فيه عم أحمد برجل. تقول له: لا تنسَ التموين، فاعتمادنا بعد الله عليك.

فيقول الرجل باهتمام غير عادي: جئتُ لما هو أهم!

– افتح الجراب يا حاوي.

– الأمر يتعلق بحليمة.

رددت خالتي عينيها بينه وبيني، فتصاعد الدم إلى خدي.

تساءلت: هه … عريس؟!

– صدق التخمين!

تطلعت إليه متسائلةً، فقال: كرم يونس.

فتساءلت خالتي: ومن كرم يونس؟

– مُلقِّن الفرقة.

– ما معنى هذا؟

– موظَّف مُحترم بالمسرح.

– تراه لائقًا يا عم أحمد؟

– أعتقد ذلك، ولكن المهم هو رأي العروس.

– العروس قمر كما ترى، ولكننا فقراء يا عم أحمد.

وجاء دوري للكلام. كنت كسيرة الفؤاد، أنطوي على سرٍّ دامٍ، لا أحب العريس، ولكنني لا أنفر منه. شاب مقبول، ولعله يهبُني راحة البال، وربما السعادة. قلت مُحاصَرةً بنظرات خالتي: لا أعرف عنه شيئًا ذا بال.

– موظَّف، يملك مسكنًا، ويشهدون له بالطيبة.

قالت خالتي: على خيرة الله.

إنها تحبني، ولكنها تُرحِّب بالتخلُّص منِّي. أنا كذلك أودُّ النجاة من البيت المُكتَظ، وسرحان الهلالي وغدٌ لا أمل فيه.

•••

– الحياة لا تطاق، والجوع يتهددنا.

رمقني بسخرية، وقال: وجدت الحل الذي يُخرسك!

– هل تحرَّرتَ أخيرًا من المخدِّر الجهنَّمي؟

– وافق الهلالي على أن يسهر هو وشلَّتُه في بيتنا القديم!

لم أدرك مراده، فقال: سنُعدُّ لهم حجرةً للعب الورق، وسوف يدرُّ ذلك علينا رزقًا سخيًّا.

فتساءلت في ذهول: نادي قمار؟

– عندك دائمًا أبشع الأوصاف … ما هو إلا مُلتقًى للأصدقاء.

– ولكن.

فقاطعني: ألا تُريدين حياةً طيبةً؟

– ونظيفةً أيضًا!

– ما دامت طيبةً فهي نظيفة … لا قذر إلا النفاق.

فتمتمت بقلق: وهنالك عباس أيضًا؟

فصاح بغضب: أنا صاحب البيت لا عباس … ابنكِ مجنون … ولكن يُهمكِ ولا شك أن يجد الغذاء والكساء.

•••

كثيرًا ما تختفي الشمس في هذا الخريف، وتَغشى قلبي كآبة ثقيلة، ويستقبل الطريق الضيق كل يوم جنازةً أو أكثر، فيَمضي بها إلى سيدي الشعراني. والرجل كلَّما خلا من الزبائن راح يُحدِّث نفسه؛ إني أحلم بأملٍ يعدُني به عباس، ولكنه لا يجد ما يحلم به.

•••

لم لا نُسجِّل اللحظات السعيدة لنُصدِّقها فيما بعد؟ أكان هو الرجل نفسه؟ أكان صادقًا حقًّا؟ أهو الذي قال: إني مدين لعمِّ أحمد برجل بسعادة فوق احتمال البشر.

حرَّكتُ رأسي بدلال، وقلت: لا تبالغ!

فقال بصوت اضمحلت صفاته إلى الأبد: حليمة … ما أسعد من لا يضيع خفقانُ قلبه في العدم!

ورغم أني لا أحبه، فقد أحببت كلماته، ودفئت بحرارته.

•••

جاء اليوم الموعود، قلبي يموج بالفرح والخوف، ذهبت إلى الحمام الهندي، أمدَّتْني أم هاني بفستان ومعطف وحذاء، رجعت من الكوافير بهالة جديدة من شَعر طال إهماله. رمقني الرجل بسخرية، وقال: ما زال لديك بقية من استعداد للدعارة، فلم لا تستثمرينها في هذه الأيام الداعرة المجيدة؟

صممتُ على ألا أكدِّر صفو الليلة بأي ثمن. ذهبنا إلى المسرح، استقبلنا كما ينبغي لنا، رمقني سرحان الهلالي بإعجاب. قلت: ولكني لا أرى المؤلِّف.

فقال باسمًا: لم يَحضر، ولكنِّي أخبرتك بما فيه الكفاية.

تبدَّد الأمل الأول، انطفأ الشعاع الباطني المُجدِّد لشبابي. ذهبنا لزيارة عم أحمد؛ كالعادة القديمة قدم لنا الشاي والسندوتش. تمتم ضاحكًا: مثل الأيام الماضية.

عم تتحدَّث يا عم أحمد، ليتَ ما كان لم يكن، حتى الثمرة الوحيدة المُعزِّية غائبة. بوجودي في المكان توتَّرت أعصابي، وازددتُ حزنًا. وفي الوقت المناسب دخلنا المسرح، انشرح صدري فجأةً بامتلاء المسرح، وقلت: هو النجاح.

لم أسمع تعليقه، سرعان ما رأيت البيت القديم تُرفع عنه الستار، تتابعت الأحداث، تجسدت أمام عيني عذابات حياتي، تجسَّدَت بعد أن لم يبقَ منها إلا رواسب الأنين. وجدتني مرةً أخرى في الجحيم، وأدنتُ نفسي كما لم أُدِنْها من قبل، قلت هنا كان عليَّ أن أهجره، هنا كان يجب أن أرفض، لم أَعُد كما كنت في ظني الضحية. ولكن ما هذا الطوفان من الجرائم التي لم يدرِ بها أحد؟ وما هذه الصورة الغريبة التي يُصوِّرني فيها؟ أهذا حقًّا هو رأيه فيَّ؟ ما هذا يا بُني؟ إنك تجهل أمك أكثر مما يجهلها أبوك، وتظلمُها أكثر منه. وهل اعترضت على زواجك من تحية بدافع الأنانية والغيرة؟ أي غيرة وأي أنانية؟ لا … لا … إنه الجحيم نفسه، إنك تَكاد تجعل من أبيك ضحيةً لي؛ أبوك لم يكن ضحيةً لشيء سوى أمه، هذه صورة جدتك لا أمك؛ تراني عاهرةً مُحترِفةً وقوَّادةً؟ تراني القوادة التي ساقت زوجتَك إلى السائح طمعًا في نقوده؟ أهو خيال أم هو الجحيم؟ إنك تقتلني يا عباس، لقد جعلت مني شيطان مسرحيتك! والناس يُصفِّقون … الناس يصفقون!

كنتُ ميتةً تمامًا وأنا أُدعى لحفل البوفيه. سألني الرجل: نَشترك أم نذهب؟

يتحدَّاني ويسخر منِّي. ولكني قلت له بتحدٍّ: كيف لا نشترك؟

لكنني في الواقع لم أشترك، انغمستُ في غيبوبة محترقة، دوى رأسي بأصوات متلاطمة، تماوجت أمام عيني وجوه غريبة تصرخ وتضحك بلا سبب، سينفجر رأسي وتقوم القيامة. لتَقُمِ القيامة، لتَقُمِ القيامة، لن يُدركني حكم عادل إلا بين يدي الله! قتلتَ وخُنتَ وانتحرتَ، فمتى أراك؟ هل يتأتى لي أن أراك؟

وصلنا البيت القديم عند الفجر، تهالكتُ فوق الكنبة في الصالة، على حين راح يُشعل المدفأة. جاءني صوته مُتسائلًا: أعجبتكِ المسرحية؟

فقلت بفتور: أعجبتِ الجميع!

– والموضوع؟

– موضوع قوي!

– لم نتظاهر بغير ما في نفوسنا؟

– لا تفكر كطارق رمضان الحاقد.

– كل شيء حقيقي أكثر من الحقيقة.

فقلت بغضب: لا علاقة بين دوري في المسرحية وبين الحقيقة.

فضحك ضحكةً كريهةً، فقلت مُتخطيةً عذابي: إنه الوهم!

– الجميع كما عرفناهم في الحياة.

– الجديد المتخيل أكثر من الواقع بكثير.

– لمَ صوَّركِ في تلك الصورة؟

– المؤلِّف شخص آخر غير ابني.

– توهمتُ كثيرًا أنه يحبك ويحترمك!

– لا شك في ذلك.

– وجهك يشهد بنقيض لسانك.

– إني واثقة من نفسي.

– حتى طارق! … يا لك من امرأة فذة!

صرخت: أرحني من أفكارك القذرة.

– ذلك الولد الذي زج بنا في السجن!

– لم يكن يُصوِّر نفسه، كان يُصورك أنت.

– كم ادَّعى المثالية!

فقلت مغالبةً اليأس في قلبي: عندما يعود سأذهب معه.

وغادرته إلى حجرتي، أغلقت الباب، وأفحمت في البكاء؛ كيف لا تعرف أمك يا عباس؟!

•••

يهبط السلم مُترنِّحًا، يكاد يقع من الإعياء. يراني، فيقول: كولونيا … أنا في غاية الإرهاق.

أدخل حجرتي لأجيئه بالكولونيا، فيتبعني. أقول: إليك الكولونيا.

– شكرًا … شربت أكثر مما يجوز.

– وكان حظك سيئًا من أول السهرة.

ينتعش قليلًا، ينظر إليَّ، يقوم إلى الباب فيغلقه. أتحفَّز للرد، يقول: حليمة … إنك رائعة!

– هلم إلى فوق.

اقترب مني، فتراجعَتُ مُقطبةً.

– أتُخلِصين لهذا الحيوان؟

أقول بجدية: إني امرأة شريفة وأم.

وثبتُ إلى الباب ففتحتُه، تردد ثانيةً واحدةً، ثم غادر الحجرة إلى خارج البيت.

•••

ما من أحد منهم إلا راوَدَني عن نفسي فرفضتُه، عاهرة؟! لقد اغتُصبتُ مرةً، عاشرتُ أباك زمنًا قصيرًا، ثم ترهبنتُ، إني راهبة لا عاهرة يا بُني! هل زوَّر أبوك لك تلك الصورة الكاذبة؟ إني امرأة محرومة تعيسة الحظ، ليس لي أمل سواك، فكيف تتصوَّرني في تلك الصورة؟! سأُحدِّثك عن كل شيء، ولكن متى ترجع؟!

•••

المعربدة يتسلَّلون إلى بيتنا العتيق بالليل، بقلوبهم الآثمة المستهترة، يُدنِّسون الطريق المفضي إلى سيدي الشعراني. قلبي يهبط وأنا أطالع نظراتهم الفاجرة، ويطوف في إشفاق حول حجرة عباس. لكنك جوهرة يا بني، ولا يجوز أن تختنق في وحل الفقر. ها أنا أرحِّب بهم في مرح مُصطنع، وأتقدمهم إلى الحجرة في الدور الأعلى، التي أُعدَّت بقرض لاستقبالهم، وسأعمل لهم ساقيةً تقدم الطعام والشراب، ولا أدري أين أقف في المُنحدَر الوعر.

– يا حبيبي، لا تنزعج، إنهم أصدقاء أبيك، كل الرجال يفعلون ذلك.

– وأنتِ يا أمي ما شأنك وذلك؟

– إنهم زملائي في المسرح، ولا يُليق بي إهمالهم.

ويقول سرحان الهلالي وهو يتخذ مجلسه إلى المائدة: مكان طيب وآمِن.

إسماعيل يُفنِّط الورق. فؤاد شلبي يقول ضاحكًا: ممنوع جلوس تحية جنب طارق.

كرم يقف وراء الصندوق في طرف المائدة. طارق يُعلِّق ضاحكًا: صندوق نذور سيدي كرم يونس!

سرحان يقول محذِّرًا: لا صوت يعلو على صوت المعركة!

كرم يذيب الأفيون بالشاي الأسود؛ يا لها من بداية لا تعرف لها نهاية!

•••

رجعت إلى الزنزانة، كما رجعتِ الملابس إلى صاحبتها، ها هو يجلس بوجهه الكئيب الشارد، يبيع الفول واللب، ويشارك مع الزبائن في التشكي من الزمان. قلت وكأنما أحادث نفسي: نجحت المسرحية، وحسبُنا ذلك عزاءً.

فقال: لا يُمكن الحكم قبل مرور أسبوع.

– انفعال الجمهور؛ الانفعال هو كل شيء.

– ترى كم أعطاه الهلالي ثمنًا لها؟

– أول عمل يُباع بأبخس الأثمان، وعباس لا يهتمُّ بالمادة.

قهقه ساخرًا، فلعنتُه في سري.

•••

في الحجرة المُترامية، يرمقنا إله الشر باسمًا، ويتمتم: أهلًا حليمة … أخمِّن أن ابنك يقدم مسرحيةً جديدةً؟

– هو ذلك.

يقول مخاطبًا عباس: المسرحيات السابقة لا قيمة لها.

فيقول عباس: إني أنتفع دائمًا بإرشاداتك.

– بودِّي أن أشجعك، إكرامًا لوالدتك على الأقل.

•••

الأسابيع تتلاحق، والنجاح يستفحل. لم يعرف المسرح نجاحًا كهذا من قبل. الأسابيع تتلاحق والأشهر، متى يظهر المؤلف؟ ليكن رأيك ما يكون، فلأتألم ما شاء لي الألم، ولكن أين أنت؟ وقلت لأسمع الرجل: لا شك أنهم في المسرح يعرفون جديدًا عن الغائب.

– ذهبت إلى هناك آخر مرة منذ عشرة أيام.

لم أطالبه بشيء تحاميًا للسانه، كان يتردَّد على المسرح من آنٍ لآن، أما أنا فلم أجرؤ على الذهاب منذ ليلة الافتتاح، لكنه ذهب في ضحى اليوم التالي. إنه يوم دافئ، مُشرق الشمس، وقد خفَقَ قلبي بأملٍ مُلهِم.

•••

أتصوَّر عجائب وغرائب، ولكني لا أتصوَّر أن يتزوَّج عباس من تحية. سيذهب عباس، ويبقى طارق رمضان، فأين عدالة السماء؟

– عباس، إنها تَكبُرُك بعشرة أعوام على الأقل.

إنه يَبتسِم في استهانة، فأقول: لها سيرة وتاريخ؛ ألا تفهم ما يعنيه ذلك؟

– المسألة أنكِ لم تعرفي الحب.

تقلص باطني بمرارة، وتذكرت أحزاني الدفينة، فعاد يقول: سنبدأ حياةً جديدةً.

– لا يمكن أن يتحرَّر إنسان من تاريخه.

– تحية رغم كل شيء طاهرة.

لم أكن منصفةً، ونسيت نفسي، كنت أتمنى له مصيرًا أفضل، هذا كل ما هنالك. وقد زارتني تحية، بدَت حزينةً ومصممةً.

قالت لي بتوسُّل: لا تقفي في سبيل سعادتي.

فقلت لها بحدة: إنك تَسرِقين البراءة.

– سأكون خير زوجة له.

– أنتِ!

تضايقَتْ من لهجتي، فامتُقع لونُها، وقالت: كل امرأة في المسرح بدأت من سرحان الهلالي!

تقبَّض قلبي؛ أجل، كل واحدٍ هناك يعرف ما يعرفه، ويستنتج ما لا يعرف. كأنها تُهدِّدني، إنني أمقتها، ولكنه سيبقى ابني رغم كل شيء.

•••

ألم يتأخر الرجل عن ميعاد عودته؟

بلى، ها هي الشمس تسحب أطراف ذيلها من جدران الشارع الضيق، فماذا أخره؟ هل عرف أخيرًا مكانه فقصَدَه؟ هل يجيئان معًا؟ إني أتخيَّل وجهه المهذب الباسم وهو يعتذر، وأومن بأن هذا العذاب لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. أجل، أطلعتني المسرحية على كوامن ضعفي، ولكنَّني حافظت دائمًا على نقاء قلبي، ثم ألم أكفِّر عن ضعفي بما فيه الكفاية؟ من كان يتخيل تلك الحياة مصيرًا لحليمة الجميلة الطاهرة؟ لا يخفق قلبي الآن إلا بالسماحة والحب، فاقضِ يا ربِّ بما أنتَ قاضٍ، حتى كرم سأغفر له وحشيته تقديرًا لتعاستِه، سأَغفرُ له كل شيء عندما يعود متأبطًا ذراع حبيبي الغائب. قلبي يخفق بإلهام عجيب، ولكن مرور الوقت يكدره. وقال لي زبون وهو يمضي بلفافته: أنت يا أم عباس في دنيا أخرى.

ترامى إليَّ أذان العصر، والعتمة تزحف فوق نهار الشتاء القصير. ليس تأخُّره بلا سبب؛ إنه لا يُقيم وزنًا لانتظاري الملهوف، ولكن ماذا أخَّره؟ الشمعة تحترق، وريح الشتاء تعصف بذبالتها. وقفت وليس في نيتي أن أجلس ثانيةً؛ لقد تغيَّر قلبي، خانني بلا ترفق، ونفد صبري، لا بدَّ أن أذهب! أول من صادفني عند باب المسرح كان فؤاد شلبي. أقبل بحنان غير معهود، وبسَط لي يدَيه، وهو يقول: أرجو أن يكون خبرًا كاذبًا.

فتساءلت وأنا أفقد البقية الباقية من الأمل: أي خبر؟

فارتبك الرجل، ولم ينبس، فتساءلت: عن عباس؟

فأحنى رأسه بالإيجاب ولم يزد، وغبت عن الوجود.

أفقت فوجدتُني مُستلقيةً على كنبة في البوفيه، وعم أحمد يُعنى بي، وفي المكان فؤاد شلبي وطارق رمضان. حكى لي عم أحمد بصوت جنائزي، ثم ختم بقوله: لا أحد يُصدِّق.

أوصلني فؤاد شلبي بسيارته، تساءل في الطريق: إذا كان انتحر، فأين جثته؟

فسألته: ولمَ كتب الرسالة؟

فأجاب: ذاك سرُّه … وسنَعرفه في حينه.

ولكني أعرف سرَّه، أعرف قلبي، أعرف حظِّي. عباس انتحر، الشرُّ يعرفه المزمار!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤