عباس كرم يونس

البيت القديم والوحدة هما رفيقا عمري الأول، أحفظه عن ظهر قلب. بوَّابته مقوَّسة الهامَة، شباك المنظرة ذو القضبان الحديدية، حجراته في الطابقين ذوات الأسقف العالية، والعروق الخشبية الملوَّنة، وبلاط أرضياتها المعصراني، أثاثه القديم الشاحب من الكنبة والشِّلَت والحُصر والأكلمة، وزجاج شراعات أبوابه بقِطَعِه الملوَّنة بالأحمر والأخضر والبُنِّي، وأحياؤه من الفئران والصراصير والأبراص، وسطحه المغطَّى بحبال الغسيل مثل أسلاك الترام والترولِّي باص، المُطل على أسطحٍ تكتظُّ بالنساء والأطفال في عصاري الصيف. أجول فيه وحدي، وصوتي يتردَّد بين أركانه، مستذكرًا درسًا، أو مُسمِّعًا شِعرًا، أو مُقلدًا مقطوعةً مسرحيةً، أو منشدًا أغنيةً. أطل على الطريق الضيق متابعًا تيار الخلق، توَّاقًا إلى رفيق أُلاعبه. يناديني غلامٌ قائلًا: انزل.

فأجيبه: الباب مُغلق، والمفتاح مع أبي.

اعتدت الوحدة بالنهار والليل فلا أخافها، ولا أخاف الشياطين.

يقول أبي ضاحكًا: لا شيطان إلا ابن آدم.

فتبادرني أمي: كن ملاكًا.

وأتسلى عند الفراغ بمطاردة الفئران والأبراص والصراصير. قالت لي أمي ذات يوم: كنت أحملك معي وأنت وليد في مهدٍ من الجلد، وأضعك على أريكة إلى جانبي في حجرة قطع التذاكر، وطالما أرضعتك في المسرح.

ذلك عهد لا أتذكره، ولكني أتذكر عهدًا أحدث نسبيًّا، وأنا في الرابعة أو حوالي ذلك، فكنتُ أتجول في صالة المسرح، أو وراء الكواليس، وأستمع فيما بين هذا وذاك إلى ممثلين وهم يحفظون أدوارهم، فتمتلئ أذناي بأناشيد الخير والمواعظ ونذر الشر والجحيم، فأتلقى تربيةً لم تُتَح لي على يدَي والديَّ الغائبَين عنِّي دومًا بالنوم والعمل. وعند العرض الأول لكلِّ مسرحية جديدة، كنتُ أشهدها مع والدي، وأمضي الوقت بين الانبهار والنعاس. وأيضًا تلقيت أول كتاب مصوَّر عن ابن السلطان والساحرة، أهدانيه فؤاد شلبي. هكذا عرفت بطل الخير وشيطان الشر في المسرح، ولم يكن لدى أحد من والديَّ وقتٌ لتوجيهي، فضلًا عن أنَّ والدي لا يَكترث بالتربية بتاتًا، على حين قنعت أمي بوصية فريدة تُردِّدها لي: كن ملاكًا!

وتشرح لي معنى الملاك بأنه المحب للخير، المانع للأذى، النظيف الجسد والملبس. فوليُّ أمري الحقيقي هو المسرح، ثم الكتاب عندما يجيء وقته، وآخرون لا يمتُّون بصلة إلى أبويَّ.

لذلك سرعان ما أحببت المدرسة لدى إلحاقي بها؛ انتشلتني من الوحدة، وجادت عليَّ بالرفاق. وكان عليَّ أن أعتمد على نفسي في كل خطوة، أستيقظ مبكرًا، أتناول إفطاري البارد من الجبن والبيض المسلوق في الطبق المغطَّى بالفوطة، أرتدي ملابسي، وأغادر البيت في هدوء؛ حتى لا أوقظ أبويَّ النائمين. أرجع عصرًا، فأجدهما يستعدان لمغادرة البيت إلى المسرح، أبقى وحدي، أؤدِّي واجباتي المدرسية، ثم أتسلى باللعب المنفرد والقراءة — المصوَّرة ثم المكتوبة — ولا أنسى هنا فضل عم عبده، بيَّاع الكتب المُستعمَلة الرابض بمجلسه عند مسجد سيدي الشعراني. وأتناول عشائي المكوَّن من الجبن والحلاوة الطحينية، ثم أنام. لا أحظى برؤية والديَّ إلا فيما بين العصر والأصيل، وحتى تلك الفترة القصيرة يضيع جانب منها في الاستعداد للخروج، ولا يبقى للمؤانسة والرعاية إلا القليل. وتعلَّق بهما قلبي وأشواقي؛ سحرَني جمال أمي وعذوبتها وحنانها، والملائكية التي تدعوني إليها، وبدا لي أبي كائنًا رائعًا بمُداعباته الرقيقة، وضحكاته السخية، ولم يُفسد جو اللقاء المَحدود بتحذير أو إرشاد أو تهديد، وآثَرَ دائمًا أن ينفقه في دعابة ومرح، ولم يَزد عن أن يقول لي أحيانًا: تمتَّع بوحدتك، أنت ملك البيت، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ الولد الوحيد الذي لا يعتمد على أحد؛ كذلك كان أبوك، وستكون أروعَ منه.

فتسارع أمي قائلةً: إنه ملاك، كن ملاكًا يا حبيبي.

وأسأل أبي: هل كان جدِّي وجدَّتي يتركانك وحدك أيضًا؟

فيجيب ضاحكًا: أما جدك فقد تركني إلى الآخرة قبل أن أعرفه، وأما جدتك فكانت موظَّفةً بالداخلية.

وتُقطِّب أمي، فأشعر أن وراء الكلام سرًّا ما، وتقول: ماتَ جدُّك مبكرًا، ولحقَتْ به جدتك، فوجد أبوك نفسه وحيدًا.

– في هذا البيت نفسه؟

– أجل!

ويقول أبي: لو نطقت الجُدران لحدثتك بأعجب الحكايات.

كان بيت الوحدة، ولكنه كان بيت الوئام أيضًا. وقتذاك، كان أبي وأمي زوجين مُتوافقَين أو هكذا بدوَا لعيني فيما بين الأصيل والعتمة، يَتبادلان الحديث والدعابة، ويشتركان في عاطفة صادقة نحوي، وكان أبي يَميل إلى الانطلاق في التعبير، فتُوقفه أمي بنظرة تحذير ألحظها أحيانًا فأتساءل. ولحظة ذهابهما كانت لحظةً أليمةً، لذلك كنت أنتظر يوم الخميس بنفادِ صبر؛ لأذهب معهما وأشاهد المسرحية. وكلما تقدَّمت في التعليم والقراءة، طالبت بمزيد من القروش لشراء الكتب، حتى كوَّنتُ مكتبةً من قصص الأطفال المُستعمَلة … وقال لي أبي: ألا يُشبعك أنك تشاهد المسرح كل أسبوع؟

ولكنِّي لم أكن أشبع، ووثبت بي الأحلام إلى آفاق جديدة، حتى قلت له ذات يوم: أريد أن أكتب مسرحيةً!

فقهقه عاليًا، وقال: احلم بأن تكون مُمثِّلًا، فهو أفضل وأربح.

– وعندي فكرة أيضًا.

– حقًّا؟

ورحت أحكي له فكرة فاوست، وكانت آخر ما شاهدت، بلا جديد أضيفه، إلا أنَّني جعلت بطلها غلامًا في مثل سنِّي. فتساءلت أمي: وكيف يَنتصِر الغلام على الشيطان؟

فأجاب أبي: ينتصر الإنسان على الشيطان بوسائل الشيطان نفسه!

فهتفت أمي: احتفِظ بأفكارك لنفسك، ألا ترى أنك تُحدِّث ملاكًا؟

منذ سنٍّ مُبكِّرة، تشبَّعتُ بحب الفن والخير، ناجيتهما طويلًا في وحدتي، وعُرفت بهما بين أقراني في المدرسة، تميزت بينهم لما غلب على أكثرهم من العفرتة. وكلما ضاق المدرس بهم صاح: يا أبناء حي الغواني!

وملتُ إلى نُخبة قليلة عُرفت بالمثالية البريئة، حتى كوَّنَّا من أنفسنا جمعيةً أخلاقيةً لمقاومة الألفاظ البذيئة، وكنا نُردِّد الأناشيد، ونصدقها، ونؤمن بمصر الثورة الجديدة. وعلى حين نذر البعض أنفسهم لبطولات خارقة عسكرية أو سياسية، فقد نذرتُ نفسي للمسرح، وتصورتُه منبرًا للبطولة أيضًا، ويناسب من ناحية أخرى ضعف بصري الذي جعَلني أستعمل النظارة الطبية قبل إنهاء دراستي الابتدائية. ومهما يكن من اختلافنا، فقد حلمنا بعالم مثالي جعلنا أنفسنا على رأس مواطنيه المثاليين، وحتى الهزيمة لم تزعزع أركاننا، وما دام الأناشيد لم تتغيَّر، ولا تغير الزعيم، فماذا تعني الهزيمة؟ لقد شحب وجه أمي، وغمغمت بكلمات غير مفهومة، أما أبي فهزَّ منكبَيه كأن الأمر لا يعنيه، وراح يُردِّد بصوت أجشَّ ساخر:

بلادي بلادي فداك دمي

وقد توقَّف المسرح عن العمل أيامًا، فنعمتُ ببقاء والدي في البيت طيلة الوقت مرةً، واصطحَبني أبي معه إلى مقهًى بشارع الجيش، فتذوقت تجربةً جديدةً. وإذن فإن الهزيمة لم تخلُ من نتائج طيبة غير متوقَّعة، وإن تكن قصيرة الأجل.

•••

تقول أمي وهي تملأ أقداحنا بالشاي: عباس … سيسكن عندنا غريب!

رنوت إليها غير مصدق، فقالت: إنه صديق أبيك، وأنت أيضًا تعرفه، فهو طارق رمضان.

– الممثل؟

– نعم؛ اضطُرَّ إلى ترك مسكنِه، ولم يَجد في أزمة المساكن حلًّا آخر.

تمتمت في غير ارتياح: إنه مُمثِّل تافه … ومنظره لا يسر.

– الناس للناس، وأنت ملاك يا حبيبي …!

وقال أبي: سيجيء مع الفجر، وينام حتى العصر، ويظل البيت مملكتك الخاصة عدا حجرةً واحدةً.

لم أشعر بمَجيئه قطُّ، ولكنه كان يذهب عادةً مع والدي أو في أعقابهما. كان وقح النظرة، فظَّ التعبير … وجعل يهتمُّ بي اهتمامًا مُتكلفًا مجاملةً لأبوي، ولكنِّي لم أحترمه. وشاهد مكتبتي يومًا من مجلسه في الصالة، فسألني: كتب المدرسة؟

فقالت أمي بزهوٍ: كتب أدب ومسرحيات، إنك تُحدِّث مؤلفًا مسرحيًّا!

– اللعنة على المسرح، ليتني كنت بياع خردة أو لحمة راس.

عند ذاك سألته: لم لا تُمثِّل إلا أدوارًا صغيرةً؟

فسعل سعلةً غليظةً، وقال: قسمتي! … حظٌّ أعرج يُطاردني، ولولا شهامة أبيك، لاضطُررتُ للبيات في المراحيض العمومية.

فقالت له أمي: لا تُرعِب الأستاذ بكلامك يا طارق.

فقال ضاحكًا: على المؤلف أن يعرف كل شيء، والشر خاصةً، فمن الشر ينبع المسرح.

فقلت بحماس بريء: ولكنَّ الخير يَنتصِر دائمًا.

فقال ساخرًا: هو كذلك في المسرح.

•••

ثمة تغيُّر مُبهَم يزحف بهدوء وحذر كالليل؛ ليس الصمت هو الصمت، ولا الكلام هو الكلام، ولا أبي هو أبي، ولا أمي هي أمي. أجل، لم تكن الحياة تخلو من اختلاف أو نقار، ولكنها كانت تمضي في إطار معاشرة طيبة. ما هذا الغامض الخفي الذي تسلل بينهما؟ كانت لها إشراقة دائمة، فتلاشت، وكان يعيش خارج ذاته في قهقهات وسُخريات ومُلاطَفات، فانطوى على ذاته. علاقة أمي بي إلى الحنان القديم — اتسمت بأسًى لم تُفلح في مداراته، أما أبي فأهمَلَني تَمامًا. تسرَّب إلى جنبات نفسي قلق وتوقُّعات مجهولة غير سارة. وفي مجلس الشاي قبيل الذهاب، سمعت طارق يقول لهما مرةً: لا تَستسلِما للشيطان.

فقالت له أمي بمرارة: ما الشيطان إلا أنت!

فقال أبي محتجًا: لستُ قاصرًا!

ولم تسترسل أمي إكرامًا لحضوري فيما توهمت، ولما غادَرُوا البيت انتابني شعور بالحزن والضياع. لقد حدث شيء ما في ذلك من شك. إني أسأل أمي، فتتهرَّب مني متظاهرةً بالاستهانة، وأسمع حوارًا مُحتدمًا بينها وبين أبي وهما مُنفردان في الصالة، فأنكمش وراء الباب المُوارب مُتصنتًا. تقول له بتوسُّل: ما تزال تُوجد فرصة للنجاة.

فيقول لها بغِلظة: لا تتدخَّلي في شئوني الخاصة.

– لكن فعلك ينعكس علينا، ألا تُدرك ذلك؟

– إني أكره المَواعظ!

– الأفيون قتلَ زوج خالتي!

– هذا يُثبت أنه لا يخلو من فائدة.

– لقد تغيَّرَت أخلاقك، ولم تَعُد تحتمل.

اقتحمني الخوف، إني أعرف الأفيون، عرفته في مسرحية «الضحايا»، مناظر الهالكين لم تبرَح ذاكرتي؛ هل يصير أبي واحدًا منهم؟ هل يترك أبي المحبوب للفناء؟! وانفردت بأمي في الصالة، قبل مجيء أبي وطارق رمضان؛ رمقتُها بحزن، فسألتني: ما لك يا عباس؟

فقلت بصوت متهدِّج: إني أعرف، إنه شيء خطير، لم أنس مسرحية الضحايا.

– كيف عرفت؟ … لا، ليس الأمر كما تتصوَّر.

وجاء أبي مُنفعِلًا مما قطَع بأنه سمعَني، وصاح بي: يا ولد، الزم حدودك.

فقلت له: إني أخاف عليك!

فصاح بصوت أفظع من الأول: اخرس، وإلا كسرتُ رأسك.

وأخذت وأنا أراه في صورة جديدة متوحِّشة. تُبدِّد حلمَ سعيد طويل، انسحبت إلى حجرتي، تخيَّلت منظرًا مسرحيًّا مُتكامِلًا، يبدأ بطرد طارق، ويَنتهي بتوبة أبي على يدي، وقلتُ إنَّ الخير يَنتصر إذا وجد من ينصره، ولكن الحال مضى من سيئ إلى أسوأ! أبي يَزداد انطواءً، تلاشى الأب القديم، يغيب عنَّا، وإذا دعاه داعٍ إلى اليقظة فلكَي يصب اللعنات والإهانات. بتُّ أخافُه وأتحاشاه. أمي شقية، ولا تدري ماذا تفعل، وتسأله مرةً: أجري وحده لا يَكفي بيتك.

فيقول لها: انطَحي الجدار!

أجل، لم تعد المعيشة كما كانت؛ تقشُّف في الطعام، وتراجُع في المصروف. أنا لا يُهمُّني الطعام ولا النقود؛ كيف أقتني الكتب؟ حياة الروح لا تستغني عن النقود للأسف الشديد، وأتعس ما رُميتُ به أنني فقدت أبي؛ أين ذلك الرجل القديم؟ يثور على نظرة عيني، ويقول لي: إنك أنموذج سيئ لا يَصلُح للحياة.

وتدهور الحال حتى انفصَلا تمامًا، فاستقلَّ كل واحد منهما بحُجرة. تفتَّت البيت، بتنا سُكانًا غرباء في طابق واحد؛ عزيز عليَّ مصير أمي! ومن ذلك المنطلق، تخيلت موقفًا مسرحيًّا يدور حول معركة بين أبي وطارق، يَقتُل أبي طارق رمضان، ثم يُقبَض عليه، ويمضي وهو يقول لي: ليتني سمعت كلامك. يعود الطُّهر إلى البيت القديم. ولكني أشعر بالندم، الندم على قسوة خيالي. وأسأل أمي: كيف تواجهين تكاليف الحياة وحدك؟

– إني أبيع أشياء صغيرةً. انتبه لعلمِك؛ فأنت الأمل الوحيد الباقي.

– قلبي معك.

– أعرف ذلك، ولكن لم يَحِن الوقت بعد لتَحمِل همومنا؛ يجب أن تعمل من أجل مهنة مفيدة.

– حلمي أن أكون مؤلفًا للمسرح.

– مهنة لا تَضمَن لك ثروةً.

– إني أحتقر المادة، أنت تَعرِفين كل شيء عنِّي.

– احتقر المادة، ولكن لا تتجاهَلْها.

فقلت لها بحماس: سينصر الخير يا أمي.

– إني أُدمن الحلم كما يُدمِن أبي الأفيون. بالحلم أُغيِّر كل شيء وأخلقه، أكنس سوق الزلط وأرشه، أُجفِّف طفح المجاري، أهدم البيوت القديمة وأُقيم مكانها عمارات شاهقةً، أُهذِّب الشرطي، أسمو بسلوك الطلاب والمدرسين، أُوفِّر الطعام من الهواء، أَمحق المخدِّرات والخمر.

ويجلس أبي في الصالة ذات عصر، وهو يُشذِّب شاربه بملقاط، وقبالته طارق يَرفأُ جَوربه. ويقول طارق: لا يخدعك فقر الفقراء، البلد ملأى بأغنياء لا يَدري بهم أحد.

فقال أبي: الهلالي يَربح ذهبًا.

فيَضحَك طارق قائلًا: طُظ في الهلالي وذهبه، حدثني عن النساء، وفائض البترول!

– يُعجبني الجنون، ولكننا عاجزون.

وتدخلت قائلًا: كان أبو العلاء يعيش على العدس وحدَه.

فصاح بي أبي: انقُل هذه الحكمة لأمك!

وألوذ بالصمت، وأنا أقول لنَفسي: يا لهما من حيوانَين!

•••

تحية أمامي وجهًا لوجهٍ، ناضِجة الأنوثة جذابة العينين؛ نظرت إليها في ذهول وأنا لا أصدق عيني! في الأيام السابقة للامتحان، كنت أسهر الليل وأنام في النهار، فُتح الباب وأنا أتمشَّى في الصالة، ودخلتْ تحية، أما أبي وأمي فقد سبقا للنوم. دخلت تحية وفي أثرها طارق رمضان؛ إني أعرفها، وطالما رأيتها فوق خشبة المسرح، تقوم بأدوارها الثانوية مثل طارق. نظرت إليها بذهول، فقالت باسمةً: ماذا يوقظك في هذه الساعة المتأخرة؟

فقال طارق: إنه مُجاهد، يسهر الليل في طلب العلم، وبعد أسبوع سيدخل امتحان الإعدادية.

– برافو!

ومضيَا يَصعدان السلَّم إلى حجرة طارق؛ دار رأسي، فار دمي، أيجيء بها إلى حجرته من وراء أبي وأمي؟ أليس لها بيتٌ يذهبان إليه؟ أي تدهور يهبط ببيتنا إلى الحضيض؟! عجزت عن تركيز ذهني، واحترق رأسي بالفكر. هاجمني الشر وأنا أعاني المراهقة والرغبات الجامحة، وأكافحها بالإرادة والطموح إلى النقاء، واشتعلت بالغضب حتى صرعني النوم. وأقبلت على والديَّ وهما يجلسان في الصالة عصرًا؛ ما إن رآني أبي حتى تساءل في توجُّس: ماذا وراءك؟

فقلت بتدفُّق حارٍّ: حدث غريب لا يتصوَّره عقل؛ جاء طارق بتحية إلى حجرته أمس!

فمدَّ إليَّ بصره الثقيل، وثبَّته عليَّ دون أن ينبس، فتوهمت أنه لا يُصدِّقُني، فقلت: لقد رأيت بعيني.

فسألني ببرود مثير: ماذا تريد؟

– أردتُ أن أخبرك، لتؤدبه وتفهمه أن بيتَنا بيت مُحترم؛ يجب أن تطرده.

فقال بحدة: انتبه لعملك، ودع شئون البيت لصاحبه.

وقالت أمي بصوت منخفض ذليل: إنها خطيبته.

– ولكنه لم يتزوَّجها بعد!

فخاطب أبي أمي قائلًا بسخرية وهو يُومئ ناحيتي: يُريد أن يموت جوعًا.

فقلت مجتاحًا بدفقة غضب: نحن الذين أفقرنا أنفسنا.

فرفع قدح الشاي ليرميني به، ولكن أمي وثبت بيننا، ومضت بي إلى حجرتي. رأيت عينيها منذرتَين بالدمع، وقالت لي: لا فائدة تُرجى منه، فلا تحتكَّ به. بودي لو نهجر البيت معًا، ولكن أين نذهب؟ أين نجد مسكنًا؟ ومن أين لنا بالنقود؟!

لم أجد جوابًا. تبدَّت لي الحقيقة ببشاعتها وبلا رتوش؛ لقد أذعنت أمي مغلوبةً على أمرها، وغلب أبي على أمره مهزومًا بإدمانِه؛ إنه مسئول ما في ذلك من شكٍّ، ولكنه مغلوب على أمره. إنه أكثر من ذلك، فإنه يبدو أحيانًا بلا مبادئ على الإطلاق. إني أحتقره بقدر ما أرفضه؛ لقد جعل من مأوانا العتيق بيت دعارة. أنا أيضًا ضعيف، ما دمت لا أجد ما أفعله إلا أن أذرف الدمع الغزير.

•••

نجحت، غير أني لم أسعد بالنجاح كما يَنبغي، لازمني الشعور بالعار، استقر بأعماقي حزن مقيم، هاجرت في العطلة الطويلة إلى دار الكتب، كتبتُ مسرحيةً، رجوت أبي أن يعرضها على سرحان الهلالي، ولكنه قال لي: إنه ليس مسرحَ أطفال.

تطوَّعَت أمي بتقديمها إليه، رجعت بها بعد أسبوعين، وقالت لي: لا تتوقَّع أن تُقبل أولى مسرحياتك، وما عليك إلا أن تُعيد التجربة.

حزنت، ولكنِّي لم أيئس، وكيف أيئس بعد أن لم يعد لي من أمل إلا المسرح؟ وصادفت ذات يوم الأستاذ فؤاد شلبي في قاعة المُطالعة، فصافحني، وذكرته بنفسي، فرحَّب بي. وتشجعت بلطفه، وسألته: كيف أكتب مسرحيةً مقبولةً؟

فسألَني بدهشة: ما عمرك؟

– ماشي في السادسة عشرة.

– في أي مرحلة تعليمية؟

– الثانوية بدءًا من العام القادم.

– ألا تَنتظر حتى تكمل تعليمك؟

– أشعر بقدرة على الكتابة.

– لكنَّك لم تفهم الحياة بعدُ.

– عندي فكرة عنها لا بأس بها.

فسألني باسمًا: ما هي الحياة في نظرك؟

– هي معركة الرُّوح ضد المادة.

فازدادت ابتسامته اتساعًا وهو يتساءل: والموت ما موقعُه من هذه المعركة؟

فقلت بثقة: هو الانتصار النهائي للروح!

فربت على منكبي، وقال: ليت الأمور بهذه البساطة، تلزمك تجارب كثيرة، ابحث أيضًا عما يهمُّ الناس ويثيرهم؛ إني أطالبك بخوض خضم الحياة، والانتظار عشرة أعوام على الأقل.

دفَعَني حديثه في جوف الوحدة أكثر مما كنت؛ إنه يتصوَّر أني بمنجاة من التجارب، لعلَّه غاب عنه ما يحدث في بيتنا، وغاب عنه أيضًا جهاد النفس في معركة المراهقة، النزاع الذي لا يهدأ بين السمو والشهوات، بين أشعار المجانين والخيام، بين تحية العابثة في الحجرة العليا وطيفها الزائر للخيال، بين الطين وقطرات السحب البيضاء.

•••

إنَّ ما يُفعل بالحُجرة المُجاورة لحجرة طارق عجيب؛ بيع أثاثها القديم، اشتُريَ لها أثاث جميل من مزاد علني، توسطتها مائدة خضراء، غطى بلاطها المعصراني بساط كبير، قام في جدارها الأوسط بوفيه؛ إنه استعداد غامض. وأسأل أمي فتقول: أبوك يُعدُّها للسمر مع أصدقائه، كما يفعل الرجال.

رمقتها بارتياب، فما عاد اسم أبي يوحي إلا بالارتياب، فقالت: سيسهرون سهرتهم عقب إغلاق المسرح.

تعودت أن أقبع في الظلام في حجرتي لأرى الأشياء؛ لا تُرى الحوادث على حقيقتها في بيتنا إلا من الظلام! وقد جاء الصحاب في هزيع موغل من الليل. رأيتهم يتقاطَرون، في المقدمة والدي، الهلالي، إسماعيل، سالم العجرودي، فؤاد شلبي، طارق، تحية. تسللت إلى الدور الأعلى في الظلام، قد تحلقوا المائدة ودار الورق؛ إنه القمار كما رأيته في المسرح. مآسي المسرح تنتقل إلى بيتنا بأبطالها أو ضحاياها، هؤلاء الناس يتصارعون فوق الخشبة، أما هنا فيقفون صفًّا واحدًا في جانب الشر، إنهم ممثلون، حتى الناقد ممثل أيضًا، لا شيء حقيقي إلا الكذب. إذا جاء الطوفان، فلن يستحق السفينة إلا أمي وأنا. إن يكن للنية قيمة إذ لا عمل لنا. حتى أمي تعدُّ الطعام والشراب. وأقول لها: ما كان ينبغي أن تقومي بخدمة السفلة.

فتقول كالمعتذرة: إنهم زملاء، وأنا ربة البيت.

– أي بيت؟ ما هو إلا ماخور ونادٍ للقمار.

فتقول بأسًى: أتمنى لو أهرب، لو نهرب معًا، ولكن ما الحيلة؟!

فأقول بحنق: لذلك أكره النقود!

– لكنها ضرورية؛ هذه هي المأساة. على أي حال، فلا أمل لي سواك.

•••

ما الخير؟ ما الخير بلا عمل؟ لا ينشط إلا الخيال، الخيال ميدانه المسرح. البيت غنيمة في يد السفلة. حداثة سنِّي ليسَت بالعذر المقبول. إنه العجز، لذلك مرَّ النصر كخبر. في الأقران من الطلبة حياة لا أشارك فيها إلا بالحماس والخيال، تتحوَّل الكلمات الجميلة إلى صور لا أفعال، إنهم يَرقُصون رقصة الموت على حين أُصفِّق أنا خارج الحلبة. ويَجيء فؤاد شلبي بدرية ليتناجيا في الحجرة الثالثة، تحت إطار البسملة المُهداة من جدي. وقلتُ لأمِّي: شلبي ودرية أيضًا! علينا أن نذهب!

فقالت محمرة العينين: ليس قبل أن تستطيع ذلك أنت.

– إني أختنق.

– وأنا مثلك وأكثر.

– هل الأفيون هو المسئول عن ذلك كله؟

فلم تَنبِس، فقلت: ربما كان نتيجةً وليس السبب.

– أبوك مجنون.

ثم بصوت مُنخفِض: ولكني مسئولة عن انخداعي به.

– أودُّ أن أقتله!

فمسَّت ذراعي بحَنان، وهمست: انغمس في العمل، فأنت الأمل الباقي.

•••

ليلة النار التي أهلكت آخر نبتة خضراء. من الظلام رأيت سرحان الهلالي يهبط السلَّم مترنحًا، شعره منفوش، عيناه مظلمتان، يسوقه جنون أعمى. لماذا هجر الحُجرة والمعركة محتدمة؟ خرجت أمي من حجرتها مُستطلِعةً، وكنت أظنها فوق، لاقتْه أسفل السلم، تهامسا بما لم تبلغه أذناي، دخلت حجرتها فاندفع وراءها، توثبتُ للاندفاع ولكنَّني لم أتحرك؛ أهمَّني أن أعرف الحقيقة أكثر من أن أمنعها. أمي أيضًا؟! لعلَّه أُغمي عليَّ دقائق. هي النهاية التي ليس وراءها نهاية. تفتَّت الكون، وضجَّ بسخرية الشياطين. اندفعت إلى الصالة، ومنها إلى الحجرة، وقد غرقتُ في الظلام، أضأت النور فوجدتها خاليةً، أطفأت النور، وخرجت إلى الصالة وأضأتُها. لبثت واقفًا بوعي مشتَّت، وإذا بوالدي يهبط السلم، حتى يقف أمامي، ويسألني بخشونة: ماذا أيقظك؟

فقلت وأنا لا أدري ماذا أقول: أرقٌ طارئ.

– هل رأيتَ سرحان الهلالي؟

– إذا لم يكن فوق، فقد غادر البيت.

– متى؟

– لا أدري.

– هل رأته أمك؟

– لا أدري.

رجعت إلى حجرتي، لبثتُ واقفًا في الظلام يشتعل رأسي بأفكار جنونية. لم أشعر بمرور الوقت، حتى انتبهت إلى وقع أقدام الراحلين. لم يبقَ في الصالة إلا أبي وأمي، ألصقت أذني بثقب الباب لأسمع ما يدور. سمعته يسألها: ماذا حدث من وراء ظهورنا؟

لم تُجِب، فعاد يسأل: عباس رأى؟

لم تُجِب أيضًا، فقال: هو الذي ألحقك بالعمل … معروف أنه لم يَعتق امرأةً واحدةً، حتى أم هاني.

لم أسمع لها صوتًا، فعاد يقول: لا شيء بلا ثمن، هذا ما يهمني، أما أنت فلا تستحقين الغيرة.

أخيرًا جاء صوتها قائلًا: إنك أحقر من حشرة!

فقال مُقهقهًا: إلا حشرةً واحدةً.

هذه هي الحقيقة؛ هذا أبي وهذه أمي. النار تتمادى في الاشتعال، أغمد خنجرك فحتى قيصر قد قُتِل. سيرانو دي برجراك صاوَلَ الأشباح! إني أرفض أبويَّ، القواد والداعرة؛ لا أنسى أنني رأيتها وفؤاد شلبي يتهامسان مرةً، فلم يُداخلني سوء ظن، ومرةً أخرى مع طارق رمضان نفسه، فلم يداخلني شك. الجميع … الجميع … بلا استثناء … لمَ لا؟ هي عدوي الأول. أبي مجنون مدمن، أما أمي فهي المدبِّرة لما يجري في الكون من الشر.

•••

جاءني في حُجرتي صوت أمي مناديًا، فلم أستجب. من عجبٍ أن مقتي لأبي مُتجسِّد واضح، أما شعوري نحوها فيتجسد في سخط عارم لا كراهية واضحة. سرعان ما جاءت، فأخذتني من يدي، وهي تقول: أجِّل القراءة، وكرِّس لنا هذا الوقت القصير النادر.

أجلستني إلى جانبها في الصالة، قدمت لي الشاي، قالت: أنت لا تعجبني هذه الأيام.

تجنَّبتُ النظر إلى وَجهِها، فقالت: إني أعلم بما يحزنك، ولكن لا تُضاعف آلامي؛ ساعة الخلاص تَقترب، وسنذهب معًا.

يا لها من مُخادِعة! تمتمتُ: لا يُطهِّر هذا البيت إلا حرقه!

– حسبُكَ قلبي الذي يعبدك!

هل أصبُّ عليها الحمم الذي يمور به قلبي؟ لكن خيالي كان يدمر كل شيء، ثم يقف حائرًا أمام عينَيها.

وسألتني: هل تكتب مسرحيةً جديدةً؟

فقلت: ستُذكرك بمسرحية المرأة السكِّيرة.

إنها مسرحية تقدم عالمًا أسود من النساء الساقطات. فقالت: لا … فلتشرق مسرحياتك بنور قلبك.

عند ذاك خرج أبي من حجرته، ونزل طارق وتحية. وقفتُ لأرجع إلى حجرتي، ولكن تحية اعترضت سبيلي قائلةً بمرح: اجلس معَنا أيها المؤلف.

لعلها أول مرة تُعيرُني اهتمامًا، فجلست، على حين قال طارق ضاحكًا: سيكون هذا المؤلِّف تراجيديًّا.

فتمتم أبي ساخرًا: إنه مريض بداء الفضيلة!

فقالت تحية وهي ترشُف من قدحها رشفةً: جميل أن يوجد في زماننا هذا فاضل.

فقال أبي: بصرُه ضعيف كما ترَين، فهو لا يرى ما حوله.

فقالت تحية: دعوه في جنته، إني أحب الفضيلة أيضًا!

فقال طارق ضاحكًا: فضيلتك من النوع الضاحك المقبول.

فقالت تحية: إنه وسيم مثل أمه … قوي كأبيه … يجب أن يكون دون جوان.

فقال أبي ساخرًا: انظري إلى نظارته؛ عيبه أنه لا يرى.

ولما ذهبوا فاضَ قلبي بالغضب والافتتان، نشط خيالي ليَهدم ويُعيد البناء؛ ما تحية إلا صورة من أمي، بل هي أفضل. عندما اعترضَت سبيلي مسَّتني فحركت حلمًا جديدًا. عندما تذكرت مسَّها لي وأنا وحيد، انبثقت من سعير نفسي فكرة؛ هذه الدار العتيقة التي بناها جدي بعرق جبينه، وكيف تحوَّلت إلى ماخور؛ هذه هي الفكرة، لا دليل لديَّ على نجاحها إلا ارتعاشة الفرح التي خامرتني. هل تصلح أساسًا لمسرحية؟ وهل تقوم مسرحية بلا حب؟

•••

سمعتُ على الباب نقرًا خفيفًا، فتحتُه فرأيت تحية؛ ماذا جاء بها قبل ميعاد مجلس الشاي؟ دخلت وهي تقول: الجميع نيام إلا أنت.

وقفَتْ في وسط الحجرة بملابس الخروج، تُجيل النظر في أنحائها، وتقول: إنها بيت لا حجرة، مكون من غرفة نوم ومكتبة؛ هل أجد عندك حلوى؟

فقلت معتذرًا: آسف!

استوى جسمها الناضج في وسط الحجرة، في هالة من الإثارة والجاذبية، ورأيت لون عينيها لأول مرة كالشهد الرائق. قالت: يجب أن أذهب، ما دام لا يوجد عندك إلا الكتب.

ولكنَّها لم تتحرك، بل راحت تقول: لعلك تتساءل عما دفعني للخروج مبكرةً، إني ذاهبة إلى شقتي في شارع الجيش؛ ألا تعرفها؟ إنها تبعد عن باب الشعرية بمحطة ترام … العمارة ١١٧.

سألتها وقد ثملت تمامًا بحضور الأنوثة الفواح: انتظري حتى أجيئك بحلوى من الخارج.

– سأجد في الطريق ما يلزمني؛ إنك لطيف جدًّا!

فقلت متناسيًا في تلك اللحظة ما يرمز إليه وجودها من معاناة لضميري: أنت اللطيفة حقًّا.

فرنَتْ إليَّ بنظرة مُوحية بالأحلام، وتحركت ببطء ورشاقة نحو الباب، فهمستُ على رغمي: لا تذهبي … أعني … خذي راحتك …

لكنها ابتسمت في ارتياح ظافر، ومضت وهي تقول: إلى اللقاء!

تركت وراءها في الحجرة الهادئة عاصفةً من الانفعالات البهيجة، لم تَجِئ لغير ما سبب، ولم تذكر رقم العمارة اعتباطًا. خفَقَ قلبي المحروم المتشبث بالبراءة، لأول مرة يجد قلبي امرأةً حقيقيةً ليَهيم بها؛ إنه لم يَهِم قبل ذلك إلا بليلي ولبنى ومية وأوفيليا وديدمونة. وفيما تلا ذلك من أيام، أصبح لكلِّ نظرة نَتبادلها خلسةً معنًى جديد يؤكِّد سحر الحياة. في غفلة من الحضور نتبادل حوارًا ساخنًا. وتساءلت وأنا من الحيرة في عناء: ترى أأرتفع أنا أم أهوي إلى الحضيض؟!

•••

ورغم رياح أمشير المزمجرة في الخارج، ترامى إلى أذني من الطابق الأعلى صخب وعنف، رقيتُ في السلَّم مُستكشِفًا، فرأيت في الصالة طارق وهو يَنهال لطمًا على وجه تحية. تسمَّرت ذاهلًا، توارَت هي في الحُجرة، على حين قال لي هو في برود: أزعجناك!

فتمتمتُ وأنا أكتُم انفعالاتي: معذرةً.

– لا تَنزعِج، واستمتع بمشاهدة بعض عاداتنا اليومية.

وجاء صوتها المتهدج من الداخل صائحًا: لن أرجع هذه المرة.

وسرعان ما تبعها طارق، وأغلق الباب.

ورجعت بحزن جديد غاص بي أكثر في قلب الظلام؛ لمَ ترضى امرأة جميلة مثل تحية بحياة مهينة مع رجل ﮐ طارق؟ هل يتكشف الحب أيضًا عن مأساة؟ وقد غابت بالفعل يومين، ولكنها رجعت في الثالث مشرقة الوجه! تقلَّص قلبي، وتضاعف حزني، احتقرتُ سلوكها، ولكن حبِّي لها تجسد لي حقيقةً لا مفر منها، ولعله ولد ونشأ ونما من قبل أن أعيَه بزمن غير قصير. وفي ذلك اليوم، عندما مضوا يغادرون المكان، تأخرَتْ لإصلاح جوربها، ثم أسقطت من يدها لفافة ورق صغيرة قبل اللحاق بهم. بسطت الورقة بقلب مرتعش بالبهجة، فقرأت العنوان والساعة.

•••

الشقة صغيرة مكونة من حجرتين ومدخل، ولكنها جميلة ونظيفة وتَعبق بشذا بخور عذب. على منضدة في المدخل، استقر أصيص برتقالي كروي تنطلق منه باقة ورد وزهور كنافورة. استقبلتني باسمةً في روب كحلي، وهي تقول مشيرةً إلى الورد: احتفالًا بيوم اللقاء.

دفعتْني أشواق متراكمة إليها، فتعانَقنا طويلًا، وتذوقت فرحة القبلة الأولى، ولو ترك الخيار لي؛ لانتهى اللقاء قبل أن نَنفصِل، ولكنها تخلصت بلطف، وقادتني إلى حجرة جلوس زرقاء بسيطة وأنيقة، فجلسنا جنبًا إلى جنب على الكنبة الرئيسية. قالت بصوت منخفض: تصرُّفُنا جريء، ولكنه عين الصواب.

فرددت بتوكيد: عين الصواب.

– ليس مُمكنًا أن نخفي ما بنا أكثر.

فقلتُ مصممًا على إزاحة الطفولة: عين الصواب، أنا أحبك من زمن طويل.

– حقًّا؟ … أنا أيضًا … هل تُصدق أني أحب لأول مرة؟!

لم أنبس، ولم أصدق، فقالت بحرارة: لقد رأيتَ بنفسك، وسمعت ربما ما هو أكثر، ولكنه التخبُّط لا الحب.

فقلتُ بأسف: حياة لا تَليق بواحدة مثلك.

فاستأنسَت بكلامي، وقالت: لا يَسأل مُتسوِّل عما يليق وعما لا يليق.

– يجب أن يتغير كل شيء.

– ماذا تعني؟

– يجب أن نبدأ حياةً لائقةً.

فتمتمت بتأثُّر: لم أُصادف أحدًا مثلك، كانوا كلهم حيوانات.

فتساءلت بامتعاض: كلهم؟!

– لا أريد أن أخفي عنك شيئًا، سرحان الهلالي، سالم العجرودي، وأخيرًا طارق.

صمت … تذكرت أمي، أما هي فقالت: إن كنتَ ممن لا ينسون الماضي، فالفرصة ما زالت متاحةً للتراجُع.

أخذت راحتها بين راحتي، شعرت بقوة ذاتية تدفعني للقوة والتحدي، فقلت: لا أبالي إلا بالقيمة الحقيقية.

– حدثني قلبي دائمًا بأنك أكبر من مَخاوفي الصغيرة.

– لستُ طفلًا.

فقالت باسمةً: لكنَّكَ ما زلت تلميذًا.

– ذلك حق، ما زالت أمامي مرحلة طويلة.

فقالت ببساطة مخلصة: أصبح لديَّ مدَّخر قليل، وبوسعي أن أنتظر.

لكنَّني وقعتُ في أسرِ الحُب، وفاضت بي رغبة كامنة في هجر البيت المُلوَّث الكئيب، فعقدت العزم على اتخاذ قرار يحول بيني وبين التراجُع، ويفتح لي في الوقت ذاته طريقًا جديدًا. قلت: بل يجب أن نعقد زواجنا في الحال.

فتورد وجهها، وازداد حسنًا، وأرتج عليها القول. فقلت: هذا ما يجب علينا.

قالت بانفعال: الحق أني أريد أن أغيِّر هذه الحياة، أريد أن أهجر المسرح أيضًا، لكن هل تضمن أن يُمدَّك أبوك ببعض المال؟

فقلت باسمًا في أسًى: هيهات أن يفعل، وهيهات أن أقبل مالًا مُلوَّثًا.

– وكيف إذن نتزوج؟

– بعد قليل سأفرغ من دراستي الثانوية، لن أجنَّد لضَعف بصري، فمن الأفضل أن أعمل، خاصةً وأن موهبتي تعتمد على الدراسة الخاصَّة أكثر من الدراسة النظامية.

– هل يكفي في هذه الحال مرتبك؟

– لقد طلب أبي إعفاءه من عمله في المسرح، اكتفاءً بما يربحه من القمار وغيره، وهم الآن بصدد البحث عن ملقِّن؛ سأتقدَّم لأحلَّ محلَّ أبي، فأجد عملًا في جو المسرح الذي أعقد به أملي في الحياة … يُضاف إلى ذلك أنك تستأجرين شقةً، فلن تصادفنا عقبة السكن.

– هل أستمرُّ في عملي بالمسرح حتى تتحسَّن الأحوال؟

فقلت بحدة: كلا … يجب الابتعاد عن أولئك الرجال.

– قلت إنه لديَّ مدَّخر قليل، ولكنه لن يبقى حتى تقفَ على قدميك.

فقلت بحماس: علينا أن نتحمَّل حتى نبلغ النجاح المنشود.

عند بلوغ ذلك المرفأ، استسلمنا لعَواطفنا، ونسينا إلى حينٍ كل شيء، وربما لولاها ما واصلنا الحديث، ولكنها تخلَّصَت من ذراعي بحنان وهي تهمس: يجب أن أتخلَّص من طارق … لن أراه مرةً أخرى.

فسألتها بضيق: سيجيء إلى هنا؟

– لن أفتح له الباب.

فقلت بتحدٍّ: سأُخبرُه بكل شيء.

فقالت بقلق: أرجو ألا تتطوَّر الأمور إلى ما يسوء.

فقلت بكبرياء: إني على استعدادٍ لمواجهته.

•••

رجعت إلى باب الشعرية مَخلوقًا جديدًا، لأول مرة أراها من خلال نظرة المودِّع، فتلوح في غلالة أجمل وأجذب للحَنان. عما قليل سأنتقِل من مَقاعد المتفرجين لألعب دورًا في مسرح الحياة، سأستنشق هواءً نقيًّا غير هواء هذا البيت القديم العطن. جلست في الصالة الخالية في الدور الأرضي، حتى رأيت طارق هابطًا. حيَّاني، ثم سألني: ألم تَحضُر تحية؟

فقلت وأنا أتوثَّب للنزول: كلا!

– لم أُقابلها في المسرح.

– لن تَذهب إلى المسرح.

– ماذا تعني؟

– لن تحضر إلى هنا، ولن تذهب إلى المسرح.

– من أدراك بهذه الأسرار كلها؟

– سنتزوَّج.

– هه؟!

– اتفقنا على الزواج.

– يابن … أنت مجنون؟ … ماذا تقول؟!

– قرَّرنا أن نكون شرفاء معك.

ما أدري إلا ويدُه تلطمني، ثار غضبي، فوجهت إليه لكمةً كادَت تُلقيه على الأرض، وإذا بوالديَّ يَندفعان نحونا. صاح طارق: شيء مُضحك … المحروس سيتزوج من تحية!

هتفت أمي: تحية! … إنها أكبر منك بعشرة أعوام!

راح طارق يُهدِّد، حتى قالت له أمي: خذ ملابسك، ومع السلامة.

صاح وهو يمضي إلى الخارج: باقٍ على أنفاسكم حتى النهاية.

وسادنا الصمت قليلًا. تمتم أبي ساخرًا: في العشق يا ما كنت أنوح.

وقالت لي أمي: عباس … ما هي إلا نزوة إغراء.

– لا … إنها حياة جديدة.

– وأحلامك ومستقبلك؟

– ستتحقق على خير مثال.

– ماذا تعرف عنها؟

– لقد صارحتني بكل شيء.

فقهقه أبي قائلًا: بنت مسارح، وتعرف الأصول … وأنت شابٌّ غريب؛ كان يجب أن تُزهِّدَك معرفتك لأمك في جنس النساء.

عند ذاك مضت بي أمي إلى حُجرتي، وقالت لي: لها سيرة وتاريخ؛ ألا تفهم ما يَعنيه ذلك؟

تجنَّبتُ النظر إليها، طحنتني من جديد الآلام الماضية. قلت: من سوء الحظ أنك لم تَعرِفي الحب … سنبدأ حياةً جديدةً.

– لا يُمكن أن يتحرر إنسان من تاريخه.

أواه … إنها لا تدري أنني أدري … وقلت: تحية رغم كل شيء طاهرة.

ليتني أستطيع أن أقول عنك ذلك أيضًا يا أمي.

•••

ما إن أتممتُ المرحلة الثانوية، حتى قابلت سرحان الهلالي راجيًا أن أحلَّ مكان أبي، وفي الحال عقدت زواجي بتحية. ودَّعت البيت القديم وأهله بلا احتفال، وكأنَّما أمضي إلى المدرسة أو دار الكتب. لم يتفوَّه أبي بتهنئة أو دعاء، ولكنَّه قال: لماذا كان اجتهادك في المدرسة ما دام المصير هو عمل ملقِّن في الفرقة؟

أما أمي، فقد عانقتني وهي تنشج بالبكاء، وقالت لي: ربنا يسعدك، ويكفيك شر الناس، اذهب مصحوبًا بالسلامة، ولا تنسَ زيارتنا.

ولكن العودة إلى الجحيم لم تخطر لي ببال، تطلعت إلى حياة جديدة، وإلى هواءٍ نقي، وتمنَّيت أن أنسى البؤرة التي انصهرت فيها مُعانيًا آلام العذاب والغم. ووجدت تحيةَ في انتظاري، كما وجدت الحب ينتظر أيضًا، وعرفت السعادة عندما تُترجم إلى امتزاج بين اثنين متوافقين، فتضفي سحرها على الحديث والصمت، الجد واللهو، الطعام والعمل. وكانت تكمل بمدَّخرها ما يقصر عنه مرتبي، وحظيت باستقرار نفسي عوَّضني عما بدَّده القلق والتشتُّت والحزن والغضب الكظيم. وكنت أرجع إلى البيت حوالي الثانية صباحًا، أستيقظ حوالي العاشرة، ويتَّسع الوقت بعد ذلك للحب والقراءة والكتابة أيضًا. وكان كلانا يَعقد أمله بالنجاح المأمول في تأليفي المسرحي، وفي سبيل ذلك رضينا بالبساطة في العيش، بل بالتقشُّف أيضًا، وضاعف الاجتهاد والصبر والأمل من سعادتنا المشتركة. وأثبتت تحية بجدارة قوة إرادتها، فلم تَذُق قطرةً من خمر على تعلُّقها القديم بها، بل امتنعت أيضًا عن عادة التدخين توفيرًا لثمنه، واعترفت لي بأن قدمها كادَت تنزلق إلى إدمان الأفيون، لولا أن تُعاطيها له صحب بأعراض صحية سيئة، كالقَيء الشديد، فكرهته من أول الأمر. ولاحظت مهارتها كستِّ بيت، حتى قلت لها مرةً: بيتُك نظيف دائمًا ومنظَّم، طعامك ممتاز، معاملتك مهذبة، ما كان يجوز.

وانقطعتُ عن تكملة الجملة، فقالت: مات أبي فتزوجت أمي من محضر، لقيت منها الإهمال، ومنه سوء المعاملة، حتى اضطررتُ إلى الهرب.

لم تزد، ولم أسأل عن مزيد، تخيَّلت على رغمي ما حدث حتى عملت ممثلةً ثانويةً عند سرحان الهلالي.

على رغمي أيضًا، تذكرتُ أمي وعملها في المسرح نفسه، وتحت رحمة سرحان الهلالي. أضمرت حربًا لا هوادة فيها على كافة ألوان العبودية التي يتعرض لها الناس، لكن هل يكفي المسرح ميدانًا لهذه الحرب؟ … وهل تُغني فكرة البيت القديم، الذي تدهور فصار ماخورًا؟!

•••

حافظَت تحية على رقتها وعذوبتها بصورة مباركة، لم تَعرف علاقة أمي وأبي ذلك حتى في أيام طفولتي السعيدة؛ إنها — تحية — ملاك حقًّا، وآيُ ذلك تصميمها الناجح على محق عاداتها السيئة التي شابتْها في عهد الأحزان، وهي تُحبني بصدق، وقد تجلى ذلك في حرصها على الإنجاب، ولم أكن أرحِّب به، وكنت أخافه على مواردنا المحدودة، وعلى حياتي الفنية المفضَّلة عندي على كل شيء في الحياة، حتى الحب نفسه. غير أني كرهت أن أحول بينها وبين أمنيتها الأثيرة، وأبت أخلاقياتي الإذعان للأنانية. وكان الغلاء يتصاعَد غير مكترث بتقشفنا وآمالنا، فحملنا على التفكير في وسيلة جديدة لمجابهته. وفي تلك الأثناء تحقَّقت أمنيتها في الحمل، فركبني همٌّ جديد، وكان عليَّ أن أستعد للمستقبل القريب والبعيد معًا، ثم أقنعني الحال بأنه لا مفرَّ من الاستعانة بعمل إضافي إن أمكن.

وكنت قد تعلمت الكتابة على الآلة الكاتبة، محاكاةً لما سمعته عن استعمال الكُتَّاب الأمريكيين والأوربيين لها بدلًا من القلم. وكنت أمرُّ أمام «مكتب فيصل» للآلة الكاتبة في طريقي إلى المسرح، فعرضت نفسي على صاحبه، وسرعان ما قبلَني بعد اختبارٍ أجراه بنفسه. قبلت العمل من الثامنة صباحًا حتى الثانية بعد الظهر، وقُدِّر أجري بالقطعة، وقد استقبَلَت تحية الخبر بعواطف متضاربة. قالت: تنام في الثانية صباحًا، لتستيقظ في السابعة على الأكثر بدلًا من العاشرة، تعمل من الثامنة إلى الثانية، ترجع في الثالثة، ستَنام ساعتين على الأكثر ما بين الرابعة والسادسة، لا راحة، ولا وقت للقراءة أو للكتابة …!

فقلت: ما الحيلة؟

– أبوك غني!

فقلت باستياء: لا أقبل مليمًا ملوَّثًا.

ورفضت الاستمرار في المناقشة. حقًّا إنها امرأة ممتازة، ولكنَّها عملية فيما يتعلق بالحياة. وكانت في قرارة نفسها تفضل الاستعانة بأبي على الانغماس الكلي في العمل الذي سلَبني الوقت والفن والراحة. وقد اعتذرت من عدم الذهاب إلى مكتب فيصل يومين لأتمَّ مسرحيةً. قدمتها لسرحان الهلالي. نظر إليَّ باسمًا، وتساءل: ما زلتَ مُصرًّا؟

وفي فترة الانتظار، نعمتُ بأحلام جميلة. أجل، أصبح الفن هو الأمل الباقي للرغبة الملتهبة وللحياة الواقعية معًا. وكنت شرعت في كتابة المسرحية قبل أن تنبثق في نفسي فكرة البيت والماخور التي لم تتبلوَر بعد، فأتممتها وأنا فرح بأخلاقيتها المثالية، غير أن سرحان الهلالي ردها إليَّ وهو يقول: أمامك مشوار طويل.

فسألته بلهفة: ماذا ينقصها؟

فقال بعجلة لا تُشجِّع على الاسترسال: إنها حكاية، ولكن لا يوجد مسرح!

يا له من عذاب يهُون إلى جانبه أيُّ عذاب حتى عذاب البيت القديم؛ الفشل في الفن موت للحياة نفسها. هكذا خلقنا، والفن بالنسبة لي ليس فنًّا فحسب، ولكنه البديل عن العمل الذي يطمح إليه المثالي العاجز. ماذا فعلتُ لمقاومة الشر من حولي؟ وما العمل إذا عجزت أيضًا عن الجهاد في الميدان الوحيد المُتاح، وهو المسرح؟! وتمرُّ الأيام، وأنا غارق في العمل كالآلة، أتعامَل مع الحب خطفًا، وقد انقطع ما بيني وبين حياتي الرُّوحية جميعًا، فلا قراءة ولا كتابة، وغاضَت من الحياة بهجتها، فلم يبقَ منها إلا البثور في أديم الأرض، ومياه المجاري الراكدة، والمواصلات البهيمية.

في أُوَيقات الراحة على كثب من تحية، تتمثل لي الحياة جدولًا غائضًا من السخرة والجفاف، نتبادل كلمات رقيقةً في مناخ كئيب تُلطفه أحلام اليقظة. الدبيب النابض في بطنها يعزف على أوتار النجاح المُرتقَب، أحلم أيضًا بالنجاح، ولكن تشتعل أحلامي أحيانًا بغضب متوحِّش، أحلم بنار تَلتهِم البيت القديم ومن يَفسُقون فيه؛ هكذا يتجسَّد غضبي على العار والشر، لكنه لا يمرُّ دون خجل ومحاسبة للنفس. حقًّا لا توجد في قلبي ذرة حبٍّ لأبي، ولكني أقف مع أمي موقف المُشفِق المُتردِّد، وأعرب عن آلامي من تلك الناحية، فتقول لي تحية: نادي قمارٍ سرِّي جريمة في نظر القانون، ولكن الغلاء جريمة أيضًا!

فأسألها: هل تَقبلين أن يقع ذلك في بيتك.

– لا سمح الله، ولكني أودُّ أن أقول إن من الناس من يجدون أنفسهم في محنة، فيتصرَّفون كالغريق الذي لا يتورع عن فعلٍ في سبيل النجاة.

وقلت لنفسي إنني أتصرف كذلك الغريق، وإن لم أرتكب جريمةً في حق القانون؛ لقد ملأت وقتي بالعمل التافه في سبيل اللقمة، حتى جف عود الحياة الأخضر؛ أليس ذلك جريمةً أيضًا؟

وتمر الأيام، ويشتد العذاب، فتتحرَّر الأحلام السرية بقوة شيطانية. وأنا جالس إلى الآلة الكاتبة، أشعر بحنين جارف إلى الحرية … إلى الإنسانية المفقودة … إلى الفن الضائع؛ كيف يُحطِّم الأسير أغلاله؟ أتخيَّل دنيا مباركة، بلا إثم، بلا أسر، بلا التزامات اجتماعية، دنيا تنبض بالخلق والإبداع والفكر وحدها، دنيا تحظى بالوحدة المقدَّسة، فلا أب ولا أم ولا زوجة ولا ذرية، دنيا يمضي فيها الإنسان خفيفًا، غائصًا في الفن وحده. آه … أيُّ أحلام؟ أي شيطان يكمن في القلب الذي نذر نفسه للخير؟ فليتجلَّ الندم في صورة ملاكٍ باكٍ، ولأَنزوِ خَجلًا أمام المرأة النفاثة للحب والصبر. ليحفظ الله زوجتي، وليتب على والدي. وتسألني: فيم تفكر؟ … إنك لا تكاد تسمعني.

فألمس راحتها بلطف، وأجيب: أفكر في القادم الجديد، وما نُعدُّه له.

•••

وأنا أهم بالجلوس أمام طاولة عم أحمد برجل ذات يوم، قرأتُ في وجهه عبوسًا ينذر بالسوء: خير يا عم أحمد؟

– يبدو أنك لم تعلم بعد!

– إني قادم لتوِّي؛ ماذا هناك؟

فقال بحزن بالغ: أمس، عند الفجر، كبست الشرطة البيت …!

– أبي؟

أحنى رأسه.

– وماذا حدث؟

– ما يحدث في هذه الأحوال، أُفرج عن اللاعبين، وأُلقيَ القبض على والديك.

انهرت تمامًا، وغصت في هم خانق. نسيت عواطفي القديمة، نسيت غضبي الثابت، وعزَّ عليَّ جدًّا ذلك المصير المؤسف لأمي وأبي، عزَّ عليَّ لدرجة البكاء. وسرعان ما استدعاني سرحان الهلالي، وقال لي: سأوكل عنهما مُحاميًا ممتازًا … لقد صودرت النقود … عُثر على كمية غير صغيرة من المخدِّرات … يوجد أمل.

قلت بصوت ذليل: أريد أن أقابلهما فورًا.

– سيحصل دون شك، ولكن لا مفر من أداء واجبك الليلة … هذه هي طبيعة المسرح … الموت نفسه … أعني موت أي شخص عزيز لا يَمنع المُمثل من أداء دوره، ولو كان هزليًّا.

غادرتُ حجرته مغلوبًا على أمري، وتذكرت أحلامي المرعبة، فتضاعف ألمي.

•••

قُبيل المحاكمة، وُلدَ طاهر، وُلدَ في جوٍّ كئيبٍ مُكلَّل بالحزن والعار حتى تحية كانت تُداري فرحتها أمامي، ودخل جدَّاه السجن وهو في شهره الأول، وكان عليلًا يُثير القلق، ولكني هربتُ إلى العمل المُتواصِل، أغرق فيه همي وشعوري بالذنب. وقُدِّر لي أن يعترض سبيلي ما ينسيني أحزاني الراهنة دفعةً واحدةً؛ إذ توعكت صحة تحية، وشخصنا المرض باجتهادنا الشخصي باعتباره إنفلونزا، وكان طاهر في شهره السادس، ولما مرَّ أسبوع دون تحسُّن، أحضرت طبيب الحي، وقد قال لي ونحن على انفراد: يلزمُنا تحليل؛ فإني أشك في تيفود.

وعلى سبيل الاحتياط، وصف لنا الدواء، وسألني: أليس الأفضل أن تُنقَل إلى مستشفى الحميات؟

فرفضتُ الفكرة عاقدًا العزم على السهر عليها بنفسي. اضطررت لذلك الانقطاع عن مكتب فيصل، وتعويضًا عما فقدت، ولمُواجَهة المصروفات الجديدة، بعت الفريجدير. جعلتُ من نفسي ممرضًا لتحية، ومرضعًا لطاهر باللبن المحفوظ، تفرَّغتُ للخدمة بكل إخلاص. عزلت طاهر في الحجرة الأخرى. مضت صحتها تتحسَّن بخلاف الطفل، بذلت جهدي مدفوعًا بالحب والامتنان نحو المرأة التي لم ألقَ منها إلا ما هو عذب وخير. وفي نهاية ثلاثة أسابيع، وجدَت تحية القوة، فغادرت الفراش لتجلس على مقعد مريح في مجرى الشمس. وكانت قد فقدت رُواءها وحيويتها، ولكنها دأبت على السؤال عن الطفل. وجدت نسمةً من راحة، رغم تعاسة طاهر؛ لا يَلقى أي عناية طيلة مدة عملي في المسرح، ما بين الثامنة مساءً حتى الثانية صباحًا. أمَّلتُ أن تنهض تحية لحمل العبء عني، ولكن حالتها ساءت فجأةً، حتى استدعيتُ الطبيب؛ وقال الرجل: ما كان يجب أن تُغادِر الفراش … إنها نكسة … تحدث كثيرًا بلا عواقب سيئة.

رجعت إلى التمريض بحزنٍ مُضاعَف، وتصميم مُضاعَف، وعلمَتْ أم هاني بحالي، فتطوعت للبقاء مع تحية مدة غيابي. وتردَّد الطبيب علينا أكثر من مرة، غير أن قلبي انقبض، واستشعر همًّا قادمًا.

تساءلت: هل تخلو دنياي من تحية؟ … هل تُحتمَل دنياي بلا تحية؟ تمزَّقتُ بينها وبين الطفل المتدهور، قلقتُ جدًّا من تسرب النقود من يدي، فماذا هناك لأبيعَه أيضًا؟ وجعلت أُطيل النظر إلى وجهها الشاحب الذابل وكأنما أودعه، وأتذكر عشرتها الجميلة، فتُظلِم الدنيا في عيني.

وتلقيت النذير الأخير وأنا واقف خارج المسكن؛ كنتُ عائدًا من المسرح، ضغطتُ على الجرس، سبق إليَّ صوت أم هاني وهي تُجهش في البكاء. لقد أغمضت عيني متلقيًا القضاء، فاتحًا صدري بأريحية الكرماء للحزن البهيم.

•••

عقب أسبوع من وفاة تحية لحق بها طاهر؛ كان ذلك مُتوقَّعًا، والطبيب تنبأ به ولم يُخفِه عليَّ. لم تَجِد الأبوة فرصةً طيبةً لترسخ في قلبي، وكان بقاؤه المعذَّب مصدر ألم دائم لي. لم أذكر من تلك الأيام إلا بكاء طارق رمضان. لقد تماسكت أمام الناس بعد أن نفدت دموعي في وحدتي، وإذا بصوت طارق ينفجر في ضجة لفتت إليه أنظار زملائنا في المسرح. تساءلت عن معنى ذلك؟ أكان يُحبُّها ذلك الحيوان الذي نقَل تقاليد عشقِه المحفوظة إلى بيت أم هاني؟ … تساءلت عن معنى بكائه لا كأرمل فحسب، ولكن كمؤلِّف دراميٍّ أيضًا؛ إذ إن غيبوبة الحزن لم تُنسِني تطلعاتي الكامنة …!

•••

ها هي الوحدة؛ بيت خال، ولكنه مكتظٌّ بالذكريات والأشباح، قلب مترع بالحزن والإثم. طالعني الواقع بوجه صخري يُناجيني بصوت خفي، أن قد تحقَّق كلُّ ما حلمت به. أريد أن أنسى الحلم ولو بمُضاعفة الحزن، غير أن الحزن عندما يغوص حتى يَرتطِم بالقاع، ترتد منه إشعاعات غريبة ثملة براحة خفيفة. آه … لعلَّ طارق ضحك ضحكةً عميقةً خفيةً واجهت المعزين بإجهاشة الدمع. ها هي الوحدة، ومعها الحزن والصبر والتحدِّي، أمامي تجربة للتقشُّف والكبرياء، والانغماس في الفن حتى الموت. شرعت في التخطيط لمسرحية «البيت القديم – الماخور»، حضرتني فجأةً ذكرى تحية قويةً يانعةً بثقل الكائنات الحية. عند ذاك انبثقت فكرة جديدة؛ ليكن البيت القديم هو المكان، ليكن الماخور هو المصير، ليكن الناس هم الناس، ولكن الجوهر سيكون الحلم لا الواقع؛ أيهما الأقوى؟ هو الحلم بلا شك! الواقع أن الشرطة كبست البيت، والمرض قتَل تحية وابنها، ولكنَّ ثمة قاتلًا آخر هو الحلم؛ الحلم الذي أبلغ الشرطة، هو الذي قتَل تحية، هو الذي قتل الطفل. البطل الحقيقي للمسرحية هو الحلم، هو الذي توفَّرت فيه الشروط الدرامية. بذلك أعترف، وبذلك أكفر، بذلك أكتب مسرحيةً حقيقةً لأول مرة، أتحدَّى سرحان الهلالي أن يرفضها. سيَعتقِد هو وغيره أنني أعترف بالواقع السطحي لا الحلم الجوهري، ولكن كل شيء يهون في سبيل الفن، في سبيل التطهير، في سبيل الصراع الواجب على شخص وُلدَ ونشَأ في الإثم، وصمم بقوة على الثورة!

وانفعلت بحمى الخلق.

•••

ها أنا أذهب إلى سرحان الهلالي في الميعاد المضروب، مضى الشهر الذي حدَّده لقراءة المسرحية. قلبي يخفق بشدة؛ الرفض هذه المرة خطير، وقد يجرف الصبر. لكنني تلقيت من عينيه بسمةً غامضةً هزت فؤادي المُثقَل بالحزن، جلست تلبيةً لإشارته مُستزيدًا من التفاؤل، جاءني صوته الجهوري قائلًا: أخيرًا خلقت مسرحيةً حقيقيةً.

وحدجني بنظرة متسائلة، كأنما يقول: من أين لك هذا؟ فتبخَّرَت في تلك اللحظة — ولو إلى حين — همومي جميعًا، وشعرت بحرارة التورُّد في وجهي. قال: رائعة، مرعبة، ناجحة؛ لماذا سمَّيتها «أفراح القبة»؟

فأجبتُه بحيرة: لا أدري!

فقال ضاحكًا في تعالٍ: مكرُ المؤلِّفين لا يجوز عليَّ، لعلك تُشير إلى الأفراح التي تبارك الصراع الأخلاقي رغم انتشار الحشرات، أو لعله من أسماء الأضواء، كما نسمي الجارية السوداء صباح أو نور!

ابتسمتُ قانعًا بسَكرة الرضا، فقال: سأُعطيك ثلاثمائة جنيه، ربما كان الكرم فضيلتي الوحيدة، وهو أكبر مُكافأة لأول مسرحية.

ليت العمر امتدَّ بكِ حتى تُشاركيني فرحتي! وتفكَّر قليلًا، ثم تساءل: لعلك تتوقَّع أسئلةً محرجةً؟

– إنها مسرحية، ولا يجوز إلقاء نظرة خارج نطاقها.

– جواب حسن؛ أنا لا يهمني إلا المسرحية … ولكنها ستثير عاصفةً من سوء الظن بين معارفنا.

فقلت بهدوء: لا يُهمني ذلك.

– برافو … ماذا عندك أيضًا؟

– أرجو أن أشرع في كتابة مسرحية جديدة.

– برافو … حلَّ موسم الأمطار … وإني في انتظارك، سأُفاجِئ بها الفرقة في الخريف القادم.

•••

في سكَني الصغير، تغشاني الكآبة كثيرًا؛ تمنَّيت أن أجد سكنًا آخر، ولكن أين؟ بدلت الحُجرتين كلًّا مكان الأخرى، بعتُ الفراش، واشتريت آخر جديدًا. تغلغلت تحية في حياتي أكثر مما تصوَّرت. لم يبدأ حزني شديدًا ثم يخف، ولكنه بدأ خفيفًا نسبيًّا ربما بسبب الذهول، ومضى يَشتد، حتى وضعت أملي في النسيان بيد الزمن. سيتصوَّر كثيرون أنني قتلتها، ولكنَّها تعرف الآن الحقيقة كلها. وقبيل الخريف، غادر والدي السجن، واحترامًا للواجب الذي أرفعه فوق العواطف استقبلتُهما بالبر والرحمة. رأيتُهما شبه محطَّمَين، فازددتُ حزنًا. اقترحت على سرحان الهلالي قبول عودتهما إلى عملهما السابق في المسرح، فأُوفِّر لهما العمل وأُعفي نفسي منه؛ لأتفرغ للفن، فوافق الرجل، ولكنهما رفضا ذلك بشدة دلت على نفورهما من المسرح وأهله. باستثناء عم أحمد برجل وأم هاني، لم يكلف أحد نفسه بزيارتهما. ارتحت أنا لذلك؛ لأنه جاء مطابقًا لما سجلته في المسرحية. ظل أبي غريبًا رغم توبته الإجبارية عن الأفيون، لا رابطة في الواقع بيننا، والحق أنني لم أفهمه، ولا أدعي فهمًا له أطمئن إليه، وقد شاءت المسرحية أن أصوره كضحية للفقر والمخدِّر؛ ترى ماذا يقول عن دوره؟ هل أستطيع أن أواجهه بعد العرض؟! أما أمي، فما زالت مُتعلقةً بي، وتودُّ أن تشاركني حياتي، ولكنَّني أود أن أظل خفيفًا، وأحلم بأن أعثر على مسكن جديد ولو حجرةً واحدةً. إن لم أشعر نحوها بحب، فإنني لا أُضمِر لها كرهًا، وسوف تُذهل حين ترى دورها على المسرح، فتَعرف أنني عرفتُ جميع ما حاولَتْ إخفاءه عني؛ هل أستطيع بعد ذلك أن ألاقيَها في نظرة؟ كلا، سأتركهما ولكن في أمان. فكرة المقلى فكرة طيبة، وصاحب الفضل فيها هو أحمد برجل. أملي أن يجدوا حياتهما، وأن تدركهما توبة صادقة.

•••

وجدتني وجهًا لوجه مع طارق رمضان، في المسرح كنا نتبادَل التحيات الضرورية العابرة، ولكنه هذه المرة يَقتحِم عليَّ خلوتي بوقاحته المعهودة؛ إنه من القلة التي لا تعرف الارتباك ولا الحرج. طالما عاتبت أم هاني على معاشرتها له. قال كاذبًا بغير ما شك: جئتُ لأهنِّئك على المسرحية.

بل جئت للاستجواب الحقير، ولكنَّني جاريته فشكرته. وبمكرٍ أطلعني على رأي المخرج قائلًا: إنَّ البطل قذر جدًّا، وبغيض جدًّا، ولن يَتعاطف الجمهور معه.

تجاهلت الحكم تمامًا؛ ليس البطل كذلك لا في الواقع ولا في المسرحية، ولكنه يهاجمني بلا زيادة ولا نقصان. جعلت أنظر إليه باستهانة، حتى تساءل: ألم تُقدِّر أن حوادث المسرحية ستُلاحقك بأسوأ الظنون؟

فأجبتُه ببرود: لا يهمني ذلك.

فإذا به يقول بانفعال واضح: يا لكَ من قاتل مُحترِف!

فقلت باستهانة: ها أنت تعود إلى الماضي، وهو بالنسبة إليَّ تجربة حب، أما بالنسبة لك فما هو إلا محنة حقْد.

– أتستطيع أن تدافع عن نفسك؟

– لست متَّهمًا.

– ستجد نفسك في النيابة قريبًا.

– إنك أحمق وحقير!

فقام وهو يقول ساخرًا: إنها على أي حال تستحق القتل.

ثم مضى قائلًا: ولكنك تستحق الشنق أيضًا.

رمتني الزيارة البغيضة في دوامة، أقنعتني بوجوب الاختفاء عن أعين الأغبياء، ولكن هل أستحق الشنق حقًّا؟ كلَّا … حتى لو حُوسبت على النوايا الخفية! ما كانت أحلامي إلا رمزًا للتخلُّص من متاعب راهنة، لا من الحب أو المحبوب، وهي تُثار بانفعال اللحظة العابرة، لا بالعاطفة المستقرة، وعلى أي حال، لم يعد لي بقاء في مجال الشياطين.

•••

دلَّني سمسار على حجرة في بنسيون الكوت دازور بحلوان. وجدتُني في وحدة جديدة أنا والكتب والخيال، لزمت الحجرة أكثر الوقت، وخصصتُ الليل وقتًا لرياضة المشي. استقلت من عملي، ولم يبقَ لي إلا الفن وحده. قلت لنفسي إن عليَّ أن أركز على فكرة من بين عشرات الفكر السابحة في خيالي. عند الاختبار، تبيَّن لي أنني لا أملك فكرةً واحدةً. ما هذا؟ إني لا أعيش في وحدة، ولكن في فراغ. وعاودتني أحزاني على تحية بصورة قاهرة ونافذة وعميقة، حتى صورة طاهر تجسَّدت لي في هزالها وبراءتها وهي تصارع المجهول. وكنت أهرب من كآبتي إلى الفن فلا ألقى إلا الفراغ، والخمود أيضًا. أجل؛ لقد انطفأت الشعلة تمامًا، وانسحقت الرغبة في الخلق، وحلَّ محلها فتور أبدي وتقزُّز من الوجود.

في تلك الأثناء، قرأت الكثير عن نجاح المسرحية المذهل، واطلعت على عشرات التحيات الموجَّهة لموهبة المؤلِّف، وتنبؤات عما سيجود به للمسرح. سخريات تتتابع معذبةً لي، وأنا أتقلب في جحيم القحط، أتقلب في جحيم القحط والأحزان، ونقودي تتناقَص يومًا بعد يوم. قلت أخاطب الكآبة المحدقة بي: ما توقعتُ ذلك قط.

أين موسم المطر الذي تغنَّى به سرحان الهلالي؟ لا توجد أفكار؛ إذا وجدت فكرةً تمخضَت عن لا شيء، إذا تطلبَت فكرة تأمُّلًا، كتم أنفاسها الجفاف والخمود. إنه الموت، الموت كما يتبدَّى لحيٍّ؛ إني أرى الموت، وألمسه، وأشمه، وأُعاشِره.

وعندما نفدت النقود، ذهبت للقاء سرحان الهلالي في بيته؛ لم يضنَّ عليَّ بمائة جنيه خارج العقد. انخرطت في سباق مميت، ولكن الجفاف استفحل حتى صرتُ جسدًا بلا رُوح، وتسلَّل إليَّ صوت الفناء الساخر، ينذرني بأنني قد انتهيت. لقد عبث بي ما شاء له العبث، ثم غادرني مُكشِّرًا عن أنياب القسوة والإعدام. ونفدت النقود مرةً أخرى، فهرعت إلى سرحان الهلالي، ولكنه لاقاني بحزم مؤدَّب، مُعرِبًا عن استعداده لمنحي هبةً جديدةً، تحت شرط أن أطلعه على أي جزء من المسرحية الجديدة. عدتُ هذه المرة إلى الوحدة والحزن والجفاف، بالإضافة إلى الإفلاس أيضًا. خطر لي أن ألجأ إلى باب الشعرية، ولكنَّ سدًّا اعترض الخاطر، مؤكدًا لي أنني يتيم، وبلا بيت أو حي. عند ذاك قلت لنفسي: لم تبقَ إلا النهاية التي رسمتَها للبطل!

اهتديت أخيرًا إلى مَخرج، رمقت الأعباء والهموم بشماتة وازدراء، حررتُ رسالة المُنتحِر محتفظًا بالسر لنفسي، مضيت إلى الحديقة اليابانية قبيل العصر. لم أنتبه إلى ما حولي، لم أرَ إلا خواطري المتلاطمة في حمرتها القانية. جلست على أريكة. بأي وسيلة، وفي أي وقت؟ ثقل رأسي في مهبِّ الهواء الجاف، ولم أكن نمت الليلة الماضية إلا ساعةً واحدةً، ثقل رأسي، وغلبني الإرهاق، وخفت النور بسرعة مُذهِلة. لما فتحت عيني، تبدت العتمة في هبوطها الوئيد؛ لعلي نمت ساعةً أو أكثر. قمت في خفة غير متوقَّعة، وجدتني في حال جديد من النشاط، تخلص رأسي من الحرارة، وقلبي من الثقل؛ ما أعجب ذلك! انقشعت الكآبة، وتلاشى التشاؤم؛ إني الآن إنسان آخر. متى وُلد؟ كيف ولد؟ لماذا ولد؟ تساءلت أيضًا عما حدث في إغفاءة ساعة؛ لم تكن ساعةً فقط على وجه اليقين، لقد نمتُ عصرًا كاملًا، واستيقظت في عصر جديد! لا شك قد حدثت في أثناء النوم أمور ذات شأن، ولولا فرحة الشفاء المُباغت لاحتفظ الوعي منها بقبس. ألهتني الفرحة عن التشبُّث بالذكريات، فتلاشت أشياء لا تقدر بثمن، لكنني قمت برحلة طويلة وناجحة، وإلا فمن أين وكيف جاء البعث؟ وهو بعث غير معقول ولا مبرَّر، ولكنه حقيقة محسوسة ماثلة، يمكن أن تُرى ويمكن أن تلمس، بالرغم من الفراغ والإفلاس، بالرغم من عناد الأشياء وتحدياتها، بالرغم من الخسران والأحزان! وإذن، فلأستمسك بالنشوة كتعويذة سحر، ولتكن قوتها في سرها الغامض؛ ها هي الحيوية تدب ناشرةً شذاها الظافر. وفي الحال، مضيت نحو المحطة، وهي هدف غير قريب، ومع تتابع الخطوات، تدفَّقتِ الحيوية خلابةً واعدةً، كما تُبشِّر السحابة الثرية بالمطر. ما هو إلا وعدٌ وشعور وطرب، عدا ذلك فإنني مُفلِس ومطارَد وذو حزن. وعندما تراميت بعيدًا تذكرت الرسالة، ولكن أدركت أيضًا أن قد فات أوان استردادِها. قلتُ لنفسي لا يهم، وما يهم في هذه اللحظة إلا الإمعان في السير؟ ليكن من شأنها ما يكون، ولتكن العاقبة ما تكون! ذروة النشوة تتألق على جسدٍ عرَّاه الإفلاس والجفاف، ولكن تنطلق إرادته بالبهجة المتحدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤