الفصل الرابع

عن المرأة في الأدب

لم تختلف الصورة التي رسمها الأدباء العرب المعاصرون١ للمرأة عن صورتها في عيون أدباء الغرب إلا في التفاصيل أو بعض الاختلافات التي يقتضيها اختلاف الظروف والسبق أو التأخر في مجال عن مجال. وكلها اختلافات سطحية لا تمسُّ جوهر الصورة عن المرأة كمملوكة للرجل بحكم النظام الطبقي الأبوي سواء كان زراعيًّا أم صناعيًّا، إقطاعيًّا أم رأسماليًّا، متخلفًا أم متقدمًا، في الشرق أو في الغرب، مسيحيًّا أو إسلاميًّا.

وإذا كان الفن أو الأدب يرتكز في مضمونه على الصراع، وسواء انتهى هذا الصراع بالفشل أو النجاح فهو نوع من الدراما أو المأساة التي تستحق الرواية، وتستحق التسجيل، سواء كانت مبكية أو مضحكة، سواء أكانت تراجيديا أم كوميديا، وكم من صراعات ومفارقات في حياة الإنسان تدعو إلى الضحك والبكاء معًا.

ولعل أهم هذه الصراعات جميعًا هو الصراع بين الرجل والمرأة منذ انتُزع منها حقها الطبيعي، وظل الصراع بين الرجل والمرأة مستمرًّا منذ بدأ النظام الأبوي الطبقي حتى اليوم، وظل الرجل متخوفًا حتى اليوم من أن ينتهيَ الصراع بانتصار المرأة واستردادها لحقها الطبيعي الأول. والدليل على خوف الرجل من المرأة أنه لا يزال يحوطها بالسلاسل والقيود التي قد تكون قوانين صارمة مقدسة أو نظريات علمية نفسية، أو أخلاقيات معينة، أو حتى عواطف ظاهرها الحب والنيل والحماية، وباطنها الغَيرة والاستحواذ والسيطرة والامتلاك.

والدليل على خوف الرجل من المرأة أنه لا يزال يقيدها ويملكها بشتى الوسائل، وهو يقيدها بوعي وبغير وعي، وكأنما هو في اللحظة التي يقف فيها عن تقييدها سوف ينقلب الوضع فورًا وتصبح المرأة هي الأعلى وليس الأدنى، وهي الأقوى وليس الأضعف.

وبرغم أن الرجل بذل كلَّ ما عنده لابتكار قيودٍ للمرأة منذ خمسة أو ستة آلاف سنة، إلا أنه لم يتخلص أبدًا من خوفه من المرأة، ومن حاجته المستمرة لأن يقيدها، مما يؤكد أن خوفه منطقي وله مبرراته القوية، وله دوافعه الطبيعية، وأولها إدراك الرجل أنه يفرض على الطبيعة وضعًا غير طبيعي، فالمرأة منذ أصبحت امرأة، منذ ملايين السنين، وهي تنسب أطفالها إليها بحكم الطبيعة، والرجل وإن عرَف حديثًا الأسرار العملية للحمل والولادة، إلا أنه ظل جاهلًا لها أزمنة طويلة، حملها وولادتها. ولم يكن لبضعة آلاف من السنين أن تقضيَ على خوف الرجل الذي عاش معه ملايين السنين. ولم يكن لهذا الزمن القصير، بالنسبة لعمر البشرية، أن يقتلع من ذاكرة الرجل صورة الأنثى الأم، خالقة الحياة والإلهة القديمة.

ولم تكن قصة آدم وحواء إلا تعبيرًا عن خوف الرجل من المرأة، ولولا هذا الخوف ما نُسب الشر والإثم والشيطنة إلى حواء. فالمرأة الشيطان ليست إلا تجسيدًا لمخاوف الرجل. والمرأة التي تملك من القوة والسحر والفتنة ما يوقع الرجل ويسقطه من الجنة إلى الأرض، ويسبب له الدمار والهلاك والموت، امرأة لا بد أن تكون مخيفة ومرعبة.

ويربط علم النفس بين الخوف والكراهية في نفس الإنسان، فالخوف يولد الكراهية، والكراهة تُغذي الخوف، وكلاهما يستمر باستمرار الآخر.

وقد اعترف «فرويد» بأن الرجل يكره المرأة، وأنه ينظر إليها كمصدر للخطر، وفي كتابه التحريم والعذرية، يقول فرويد: «… إن عادة الرجل أن يُسقِط كراهيته الداخلية العميقة على العالم الخارجي، أي ينسبها إلى أي شيء يكرهه أو أي شيء لم يألفه. وينظر الرجل إلى المرأة أيضًا على أنها مصدر للخطر، وأول عَلاقة جنسية بينه وبين المرأة تظل في ذاكرته محفوفة بالخطر.»

ولا يختلف خوف فرويد من المرأة كثيرًا عن خوف الرجل الأفريقي، الذي لا يزال يؤمن، في بعض قبائل أفريقيا، بأن المرأة إذا خطت فوق ساق رجل فإنه يعجز جنسيًّا، أو أن الرجل الذي يلمس المرأة في فترة الحيض يسقط ميتًا.

بمثل ما احتوى العلم على مخاوف الرجل أو المرأة، كذلك احتوى الأدب على هذه المخاوف، ولا يكاد يختلف خوف «فرويد» من المرأة عن خوف «برنارد شو»، ولا يختلف خوف «برنارد شو» من المرأة عن خوف «توفيق الحكيم» أو «عباس محمود العقاد».

وتتمثل فكرة «فرويد» عن سلبية المرأة في أدب تولستوي. وكما تغزَّل تشيكوف بسلبية المرأة في قصته «حبيبتي»، تغزَّل عباس العقاد بسلبية المرأة في كتاباته، فهو يقول: المرأة تستعصم بالاحتجاز الجنسي؛ لأن الطبيعة قد جعلتها جائزة للسباق المفضل من الذكور، فهي تنتظر حتى يسبقهم إليها من يستحقها، فتُلبِّيه تلبية يتساوى فيها الإكراه والاختيار، كذلك تصنع إناث الدجاج وهي تنتظر ختام المعركة بين الديكة أو تنتظر مشيئتها بغير صراع.٢

والتغزل في سلبية المرأة، باعتبارها طبيعتها وفطرتها، يعني بالضرورة هجاء إيجابيتها وقوتها، واعتبارها خارجة عن طبيعتها، أو شاذة، تستوجب الكره أو الاستقباح، أو على الأقل السخرية والتهكم.

وبلغ من كره الرجل للمرأة الإيجابية القوية أن أسقط عليها كل خوفه القديم، فاقترنت صفات القوة في المرأة بالشر والخطر والغموض والكيد والرياء. والكذب والالتواء والمكر والإغراء والفتنة والسحر والشيطنة.

وإذا كانت المرأة سلبية تنتظر مشيئة الرجل فتُلبِّيه تلبية سلبية أيضًا يتساوى فيها الإكراه والاختيار، كما قال العقاد، فكيف يمكن إذن أن تكون هي نفسها الشيطانة التي تُوقِع بالرجل وتُسقطه من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، كما قال زكي مبارك، أو تسلب عقل الرجل وماله ووقاره وجلاله، كما قال ابن المقفع، وكيف تكون هذه السلبية بالطبيعة والفطرة إيجابية فجأة كامرأة العزيز في قصة يوسف، تلك المرأة الحسناء، التي راودته عن نفسها، فقال معاذ الله ربي، إنه أحسن مثواي، ولولا أنه رأى برهان ربه، ولولا أنه من عباد الله المخلصين لاستجاب لها ووقع في السوء والفحشاء.٣
إن هذا المأزق الذي وقع فيه الرجل باعتباره المرأة سلبيةً ضعيفة لم يكن له من حل سوى أن تكون إيجابيتها نوعًا من الدهاء والمكر والكيد والرياء. وامتلأ الأدب العربي بهؤلاء النساء الماكرات اللائي يتقِنَّ أنواع المكر والكيد المختلفة، بل إن العقاد نفسه يناقض نفسه، وبعد أن يقرر أن المرأة سلبية بالطبيعة، يعود فيقرر أنها ذات كيد معين ورياء، وأن هذا الرياء خاص بها وجزء من طبيعتها، فيقول: «الرياء الأنثوي الذي يصح أن يقال فيه إنه رياء المرأة خاصة، إنما يرجع إلى طبيعة في الأنوثة تلزمها في كل مجتمع، ولا تفرضه عليها الآداب والشرائع، ولا يفارقها باختيارها أو بغير اختيارها.»٤

ويريد العقاد هنا أن يسلب المرأة إيجابيتها في المكر والرياء، كما سلب أسلافُه الفلاسفة إيجابية حواء في الشر، وقالوا: إن الشر لم يقع بإرادتها واختيارها، وإنما بإرادة آدم، أو إرادة الإله.

وبرغم محاولات الرجل المستميتة للإقلال من إيجابية المرأة وقوتها، وبرغم محاولاته المستمرة لاعتبارها أدنى وأقل، ولا تستحق أي اهتمام أو عناء، إلا أن المرأة ظلت تشغل أكبر حيز في ذهن الرجل، وبرغم أنه نجح في طردها من معظم مجالات المجتمع، إلا أنها ظلت كالشبح الجاثم على فكره، لا يستطيع طرده من ذهنه، ولا يستطيع الفرار منه حيثما ذهب.

إن من يستعرض إنتاج الأدباء في الشرق وفي الغرب قديمًا وحديثًا لا بد أن يدهش لهذا الكم الهائل من القصص والشعر والروايات التي تناولت المرأة. ورغم أن معظم هذه الكتابات تصور المرأة تصويرًا خاطئًا أو متناقضًا، إلا أنها تدل على أن الرجل لم يتخلص أبدًا من خوفه، وأن هذا الخوف قد أنتج الكراهية، وأن هذه الكراهية استحالت إلى نوعٍ من الحب المشبوب. فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما تقول الحكمة العربية القديمة، ومن الوسائل التي يحمي بها الإنسان نفسه ضد ما يكرهه هو أن يستسلم له ويحبه.

ولعل هذا يُفسر لنا بعض الأسباب التي جعلت عَلاقة الرجل والمرأة علاقة حب وكراهية في آن واحد، ولذة وألم، وإقبال وفرار، وراحة وعذاب، وقسوة وحنان، وسذاجة ومكر، إلى آخر تلك التناقضات التي تميز تلك العاطفة الشائعة بين الرجال والنساء، والتي سُميت على مر الأزمنة ﺑ «الحب» وهي تسمية خاطئة؛ لأن الحب بين الرجل والمرأة طَوال هذه الأزمنة لم يكن «حبًّا» وإنما رغبة في «الامتلاك».

وبمثل ما كان التناقض جوهر الحب في الأدب العربي، حوَت المرأة أيضًا في جوهرها على التناقض، ذلك أن الحب عند الرجل يرمز إلى المرأة، والمرأة ترمز إلى الحب، وكلاهما في نظره شيء واحد.

ويحتوي تاريخ الأدب العربي على كثير من الكُتَّاب الذين عُرفوا بعدائهم وكراهيتهم للمرأة، ومنهم المعري والعقاد والحكيم، وغيرهم. وقد اشتَهر عباس محمود العقاد في الأدب العربي باسم «عدو المرأة»، وانعكست كراهيته وعداوته للمرأة في كثير من كتاباته، بحيث تفوَّق في هذا المجال على أستاذه «شوبنهور» الذي أشاد برأيه في المرأة في عدة مناسبات، من حيث إنها طفلة كبيرة الجسم في كل أدوار حياتها، وفيها من أخلاق الطفل نزَقُه وقصورُ عقله ومحاكاته لغيره، واعتماده على غيره، وتقلبه، وكذبه ورياؤه. وهي أخلاق، في رأيه، تخلَّقت في نفس المرأة من بقايا الهمجية والفطرة، لم تنجح السنون في تلطيف شرها، وتهذيب طبيعتها.٥
إلا أن العقاد سرعان ما يناقض نفسه، فإذا بهذا المخلوق القاصر كطفل، أو السلبي كدجاجة، ينقلب فجأة ليصبح القوة التي ما بعدها قوة، فيقول عن المرأة، في روايته «سارة» إنها: «مظهر القوة التي بيدها كل شيء في الوجود، وكل شيء في الإنسان»، بل إن هذه القوة تصبح في قوتها وبطشها وظلمها كقوة دولة طاغية، ويترنم بها في شعره ويقول:٦٧
ظالمة أنتِ ويا ويلتي
من دولةٍ تطغَى ولا تُفصِحُ
وأكبرُ الظلم لمن ذاقَه
ظلمٌ به مظلومه يسمحُ
قاسيةٌ أنتِ ولكنني
أُقبِّل الكفَّ التي تجرحُ
وأعظمُ القسوةِ تلك التي
يلهو بها المجروحُ بل يفرحُ

ويتضح لنا الآن كيف تنقلب الكراهية إلى حب مشبوب، إلى حب شبه مريض يستعذب الظلم والجرح والألم، حب ماسوشي، فيه من الذل والهوان إلى حد تقبيل اليد التي تقسو عليه وتضربه وتجرحه.

إلا أن هذه الماسوشية سرعان ما تنقلب إلى سادية شديدة، وعدوان عليها، إلى الحد الذي يرى أن المرأة لا بد أن يحكمها الرجل ويخضعها، وألا يتأثر بفتنتها أو جمالها، فجمال المرأة في نظر العقاد ليس جمالًا أصيلًا، وإنما هو جمال غير مستقل بذاته، وغير حرٍّ في انطلاقاته، لأن إدراك جماله يتوقف على الرجل، فالرجل هو الحر؛ لأنه مستقل بذاته، وعلى هذا فالجمال في رأيه هو جمال الرجل، أما المرأة؛ فجمالها ليس إلا القبح.٨

وتبلغ عداوة العقاد للمرأة أنه لم يُعطِ نفسَه وحده حق إيلامها وخيانتها وهجرها، ولكنه جعل من نفسه داعيةً في هذا المجال، وأخذ يحث الرجال على هجرها وخيانتها ويتغنى بذلك في شعره قائلًا:

أنت المَلومُ إذا أردتَ لها
ما لم يُرِدْه قضاءُ باريها٩
خُنها ولا تُخلِص لها أبدًا
تَخلُص إلى أغلى غواليها

ومعنى هذا في رأيه أن خيانة الرجل للمرأة تؤدي به إلى أن يصل إلى قلبها وحبها. فالمرأة في نظر العقاد لا تُخلِص إلا لمن يخون، ولا تحب إلا من يهجرها ويكرهها، ولا تقول نعم إلا حينما تريد أن تقول لا، وهي مراوغة، ماكرة، كاذبة، مخلوقة من عجينة الخداع والكيد، وإن «كيدهن عظيم» كما جاء في القرآن، وهو يقرر أن الكيد والخداع طبيعة المرأة وسلاحها مع الرجال الذين يكرهونها أو يحبونها، سواء بسواء:

خلِّ الملامَ فليس يثنيها
حبُّ الخداعِ طبيعةٌ فيها١٠
هو سترُها وطِلاءُ زينتها
ورياضةٌ للنفس تُحييها
وسلاحها فيما تكيد به
من يصطفيها أو يعاديها
ومن المعروف أن الوجه الآخر للسادية هو الماسوشية، وفي أدب العقاد وشعره قدر كبير من كليهما، إلا أنه حاول أن يبالغ في السادية والعداوة، وحاول أن يحولها إلى نوع من التسلط والسيطرة، مستعينًا في ذلك بما جاء في القرآن من أن الرجال قوامون على النساء، ولهم على النساء درجة، حيث إن النساء (في رأيه) أقل من الرجال قدرةً على تحكيم العقل وتغليب الرأي وصلابة العزيمة.١١ وإن النساء ليس لهن سعادة أكبر من سعادة الطاعة، ولا أمل أرفع من حب الرجل الذي تطيعه، وليقسُ الرجل عليها أو يرحمها أو يعذبها، فإنها لسيدة بطاعة، إذا وجدت من يُطاع، ويقبل عذابها وراحتها، ويتلقى عزتها وذُلها على السواء.١٢

ويخرج العقاد من ذلك بأن المرأة خُلقت لتُحب الرجل، وأن الرجل خُلق ليُحب نفسه في حبه إياها. وهذا في رأيي على نسق الفكرة الدينية اليهودية والمسيحية، أن المرأة خُلقت في صورة الرجل، وأن الرجل خُلق في صورة الإله (أن الرجل ظلُّ الله على الأرض، وصورته، وأن المرأة ظل الرجل).

وعندنا مثل شعبي في العربية يقول: ظل راجل ولا ظل حيطة، أي إن الرجل هو ظل المرأة، وبغير الرجل لا تستطيع المرأة أن تعيش.

أما نموذج المرأة الذي طغى واحتل أكثر صفحات الأدب العربي بصفةٍ عامة، فهو بغير شك نموذج المرأة «البغيِّ» أو العشيقة، ومقابله أيضًا بالأهمية نفسها، نقيضه، وهو نموذج «الأم» الطاهرة، أو العذراء، أو الزوجة العفيفة الطاهرة.

وهذه الفكرة التي قسمت النساء إلى نوعين: البغي أو الأم، لم يكن ليعرفها العرب إلا من أجدادهم القدامى الذين بدءوا النظام الأبوي، وبدءوا معه تقسيم النساء إلى زوجات وأمهات من ناحية، وإلى مومسات وعشيقات من ناحية أخرى، ثم ارتباط البغيِّ بالإثم والسقوط والفساد، لأنَّ البغيَّ هي التي تجسد الجنس، والجنس من فعل الشيطان أو حواء.

ولست أدعي أنني قرأت كل ما صدر في العالم الغربي أو العربي من أدب، لكني لم أصادف فيما قرأت لأدباء من الغرب أو الشرق أيَّ رجل أديب لم يتحرر من هذه الفكرة القديمة مهما اشتهر في كتاباته بالدفاع عن حقوق الإنسان والحرية والعدالة ومقاومة الظلم. وهذا هو الأديب الروسي تولستوي يكتب ويقول إن «المرأة أداة الشيطان»، إنها غبية في جملة حالاتها ولكن الشيطان يعيرها دماغه حين تعمل في طاعته.١٣
ويحتفل الأدب العربي بنموذج المرأة الشيطانية، ذات الوجوه المتعددة … «تراها مرة فأنت مع طفلة لاهية تفتح عينيها البريئتين في دهشة الطفولة وسذاجة الفطرة بغير كلفة أو رياء، وتراها بعد حين — وقد تراها في يومها — فأنت مع عجوز ماكرة أفنت حياتها في مراس كيد النساء ودهاء الرجال، وتضحك ضحكة فتعرض له وجهها لا يصلح لغير الشهوات، وضحكة أخرى — وقد تكون على أثر الأولى — فذاك عقل يضحك، ولب يسخر، كما تسخر عقول الفلاسفة وألباب الشيوخ المحنكين.١٤
وهذه أيضًا كلمات العقاد نفسه، الذي يناقض هنا فكرته عن أن المرأة ليس لها عقل تفكر به، وعلى الرجل أن يحبسها في البيت بين أربعة جدران ويحكمها، فهي ناقصة العقل والدين والأخلاق «وثنية لم تتدين قط».١٥

وقد لعبت المرأة العربية القديمة دورًا بارزًا في الملاحم والسير الشعبية، ورأينا النساء في تلك الملاحم فارسات مقاتلات من ذوات الذكاء الخارق، وتوصف المرأة المرغوبة بأنها «قتَّالة الشجعان»، تنتصر على أشجع الرجال في المبارزة بالسيف وبالحوار الذكي، ولا تتزوج إلا الرجل الذي تختاره والذي يستطيع أن يصمد أمامها في المباراة من مثيلات «ذات الهمة» و«زنانير» و«القناصة» و«ميمونة» وغيرهن كثيرات.

ولم تكن هذه المرأة الشجاعة الذكية شيطانة كما صوَّرها الأدب فيما بعد، وإنما كانت امرأة حقيقية وطبيعية، بل مرغوبة ومحبوبة.

ولأن الأدب — وعلى الأخص الملاحم والسير الشعبية — انعكاس لحياة الناس أو أغلبية الناس، فإن هذه الصورة القوية للمرأة العربية لم تكن إلا تعبيرًا عن قوة هذه المرأة وإيجابيتها ومشاركتها في الحرب والسياسة وأمور المجتمع الكبرى. وهذه حقيقة لا تخفى على أحد ممن يقرءون تاريخ العرب والمسلمين الأوائل، مما يثبت لنا أن تخلف المرأة العربية لا عَلاقةَ له بالعرب كجنس، ولا عَلاقة له بالإسلام كدين.

إن المرأة في أي مجتمع ترتفع أو تنحدر بارتفاع المجتمع أو بانحداره، وفي العصور التي ازدهر فيها المجتمع العربي ازدهرت المرأة العربية من مثيلات خديجة وعائشة وحفصة وفاطمة وهند ونسيبة وغيرهن كثيرات، وحينما أصاب المجتمع الركود وخضع لحكام فاسدين رضعوا المبادئ الطبقية الأبوية وأهدروا المبادئ الأساسية للإسلام، انحدر حال المرأة العربية. وفي عهد المماليك والأتراك انحدرت المرأة المصرية باشتداد وانحدار المجتمع وفساد الحكام وتسخيرهم للشعب المصري رجالًا ونساءً في العمل المضني بالزراعة، أما نساء الطبقات العليا فقد حُبسن بالبيوت مع أطفالهن وجواريهن وخصيانهن من الرجال العبيد، وفُرض عليهن الحجاب باسم الشرف والأخلاق والمحافظة على الدين.

واختفت صورة المرأة القوية الشجاعة الذكية من الأدب العربي. وظهرت صورة المرأة المحجبة عقلًا أو جسدًا، والتي لا يهمها من أمر الدنيا إلا المحافظة على أعز ما تملك، وهو شرفها، ويا ليته الشرف الحقيقي بمعناه الإنساني الشامل، ولكنه الشرف المحدود والضيق الذي لا يزيد على بضع ملِّيمترات. ولم نَعُد نرى في الأدب العربي الحديث بطلات مشاركات في الحرب والسياسة والمبارزات العقلية الذكية، وإنما نساء بيوت، أو زوجات غريرات سُذَّج، أو عشيقات، أو عاهرات. وأصبحت المرأة المرغوبة المحبوبة، أو البطلة المثالية، في نظر معظم الأدباء المعاصرين، هي المرأة الوديعة السلبية، أما تلك الضعيفة الغبية المطيعة، فهي ذات الأنوثة الكاملة. ولم تَعُد إيجابية المرأة أو قوتها أو ذكاؤها ميزة، بل أصبح عيبًا خطيرًا يعزلها من بين النساء الطبيعيات، بل من بين البشر والبني آدميين، ويضعها في مصافِّ الأبالسة والشياطين.

وأحد هؤلاء الكُتَّاب، وهو زكي مبارك، كتب يقول في وصفه للمرأة: «المرأة تملك أصول الشهوات، وهي باب الدمار والخذلان، والمرأة هي الجحيم، هي البلاء، يصبه الله على رءوس العباد، هي الشقاء المُعجَّل، والكرب الذي يسبق الموت، والمرأة في جميع أحوالها مصدر فساد، ولها مداخل إلى الفتنة يعجز عنها إبليس.»

وعبَّر عن المعنى نفسه «العقاد»، لكنه أرجع قدرتها على الفتك والكيد والإغراء إلى طبيعتها الضعيفة. إن حواء في نظره لم تأكل من الشجرة المحرمة، أو تُغري آدم بالأكل منها إلا لأن المرأة بطبيعتها تتعلق دائمًا بالشيء الممنوع، وتسول لها نفسها الضعيفة الغواية والإغراء، أي إن هذه الشجرة «هي عنوان ما في المرأة من خضوع يؤدي إلى لذة العصيان، ومن دلال يؤدي إلى لذة الممانعة، ومن سوء ظن وعناد وضعف، واستطلاع جهل، ومن عجز عن المغالبة، وعجز عن الغلبة بغير وسيلة التشهية والتعرض والإغراء.»١٦
وقد اشتهر توفيق الحكيم أيضًا بلقب «عدو المرأة»، وله في هذا المجال أفكار تكاد تشبه أفكار العقاد، مع شيء من الاختلاف، وفي قصته «الرباط المقدس» يُصور الحكيم امرأة متمردة، وتمردها في رأيه ليس من أجل طموحها الفكري في الحياة والمجتمع، وإنما هو تمرد من أجل مَلء الفراغ العاطفي في حياتها. وينادي توفيق الحكيم (وهو المفكر في القصة) بأن المرأة لم يَعُد عندها وازع ديني بما يكفي، وأنه على المفكر أن يتولى إيقاظ الضمير الديني عندها. ويصور الحكيم المرأة، كما صوَّرها العقاد، مخلوقًا لا يخلص إلا لغريزته، ونوازع الجسد، وتكاد تتصرف كسارة العقاد بغير قيم دينية أو فكرية أو اجتماعية.١٧

ويُعتبر «طه حسين» من أكثر الأدباء العرب تقدمًا في نظرته للمرأة، إلا أن هذه النظرة لم تنعكس بوضوح في أشهر أعماله.

وفي رواية «دعاء الكروان» مثلًا، ينشغل الكاتب بالمفهوم التقليدي للشرف، وتتعرض البنت الصغيرة «هنادي» للذبح بسكين خالها، وبالتعاون مع أمها، تلك المرأة التي صوَّرها الكاتب عاجزة عن الدفاع عن ابنتها، بل ومشتركة مع الخال في القتل.

ويظل الخال القاتل حرًّا طليقًا ولا يُعتبر مجرمًا، كأنما هو أدى واجبه كرجل غيور على شرف أسرته («العار لا يغسله إلا الدم» مثَل عربي شائع). أما الشاب المهندس الذي اعتدى على شرف «هنادي» فهو أيضًا لا ينال أيَّ عقاب على يد الكاتب، وإنما يحظى في نهاية القصة بحب أختها آمنة. وتدور القصة في البداية حول رغبة آمنة في الانتقام من هذا الشاب الذي بسببه ذُبحت أختها. وتقول آمنة: «أصبح مما لا بد منه أن يكون الصراع بينه وبيني، فليعلمن بعد وقت طويل أو قصير، أذهب دم «هنادي» هدرًا أم لا يزال على هذه الأرض من هو قادر على أن يظفر له بالثأر.»١٨

ولا تفكر آمنة على الإطلاق في عقاب خالها الذي ذبح أختها؛ لأن الكاتب يقول في قصته عن النساء إنهن «عورة يجب أن تُستر، وحرمة يجب أن تُرعى، وعرض يجب أن يُصان»، ويدور الصراع بين آمنة وذلك المهندس، صراع غير متكافئ من كل النواحي، فالمهندس متعلم، ومن طبقة أعلى من آمنة، وآمنة ليست إلا فتاة فقيرة جاهلة، لكنها تستخدم أنوثتها وفتنتها في الصراع. فالصراع هنا ليس صراعًا فكريًّا ولا اجتماعيًّا ولا ثقافيًّا يوضح للقارئ الظلم الواقع على المرأة، ولكنه صراع يؤكد أن سلاح المرأة في الحياة ليس إلا أنوثتها ودلالها وإغراءها وإقبالها وإدبارها، وتلك الألاعيب الأنثوية الشيطانية. ويحاول المهندس أن يخدعها كما ترفض أختها، لكن خداعها له ينتصر على خداعه لها، وتتمنع وتثير شهوته، لكنها ترفض أن يلمسها، فهي تدرك أن الرجل يزهد في المرأة التي ينالها جنسيًّا، ويلفظها كالنواة، كما فعل مع أختها.

وتنجح خُطة آمنة، ويقع المهندس في حبها، وهذا الحب «في رأيي» لم ينبع إلا من الحرمان الجنسي واشتهاء أنثى ليست في متناول اليد، وشتان بين هذا الشعور وبين الحب الحقيقي، لكن الكاتب يصف شعور المهندس لآمنة وكأنه الحب الحقيقي، إنه يؤكد أن المرأة يجب أن تراوغ وتمكر وتحرم الرجل جنسيًّا حتى يقع في حبها. كما أنه يصوِّر شعور آمنة وقد انقلب أيضًا من خداع إلى حب حقيقي. ويُعبر طه حسين عن حب آمنة للمهندس كالآتي: «أصبحت آمنة لا تهم بالخلوة إلى ضميرها حتى تجد صورته ماثلة فيه، ولا تمدُّ عينيها إلا رأت شخصه، ولا تمد أذنها إلا سمعت صوته. قد أخذ عليها الحياة من جميع أقطارها، وقد زاد عنها كل شيء، وكل إنسان. وزاد عنها حتى أختها تلك العزيزة وأشباحها الحمراء.»١٩

ويرى طه حسين في روايته المرأة عاجزة في سقوطها حين تفقد عذريتها، وعاجزة في انتقامها حين تقرر الانتقام، وعاجزة في حبها حين تحب، وهي دائمًا واقعة في فلك الرجل، لا حيلة لها ولا قوة، وهي مقتولة بالرجل دائمًا، مقتولة لأسباب متعددة، مقتولة بالشرف، ومقتولة بالحب، ومقتولة بالكراهية والانتقام، ومقتولة بالعجز والانسحاق تحت الرجل، ماديًّا ونفسيًّا وعاطفيًّا وأخلاقيًّا.

ويتعاطف الكاتب أحيانًا مع المرأة، لكن تعاطفه ليس إلا تعاطفًا تقليديًّا، فيه رحمة الذكر القوي الأعلى على الأنثى الأضعف الأدنى، وكم يلذ له وصف ذلك الصراع الجنسي بين آمنة والمهندس، صراع الرجل بكل أسلحته وقوته ضد الأنثى بضعفها وانكسارها وخضوعها، وهي عَلاقة تكاد تكون سادية ماسوشية من كلا الجانبين.

وعلى خلاف معظم الأدباء العرب، لا يميل الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله إلى عقاب المرأة التي سقطت، أي فقدت شرفها أو عذريتها، والسبب في ذلك ليس لأن له نظرة أخرى في مفهوم الشرف، وإنما لأنه يُجرِّد المرأة من وعيها بهذا الإثم، وبالتالي فلا يجوز معاقبتها، كما لا يجوز معاقبة المجنون أو الغائب العقل، ويكتب هذا المعنى في روايته «شمس الخريف» على لسان بطلته «إن المرأة أثناء السقوط لا تكون في وعيها، بل تكون مُغيَّبة تحت سحر الفتنة وسحر الشيطان، لذا يجب أن يغفر لها المجتمع، لأنه لا يجوز الحكم على نائم، فالمسئولية إذن على الرجل الذي أغراها.»٢٠
ويخالف عبد الحليم عبد الله هنا هؤلاء الذين جعلوا حواء مسئولة عن سقوط آدم، لأنها هي التي أغوته، ويتفق مع هؤلاء الذين جردوها من المسئولية تمامًا. ولعل عبد الحليم عبد الله تصوَّر أنه يعطف على المرأة، كما عطف عليها طه حسين، لكنه كان أشد احتقارًا لها من غيره؛ لأنه لم يكرمها حتى بتحمُّل مسئولية الفعل الذي تقوم به، وصوَّرها مخلوقًا عاجزًا قاصرًا ناقص العقل أو أبله، بل إنه صوَّرها في موقفٍ آخر كالمريض أو كالميت. فيقول على لسان بطلته السيدة «ف» إن المرأة «إذا زلَّت فليس عليها مسئولية لأنها كالنائم أو المريض أو الميت (وضحكت) فالمسئولية واقعة على من يهاجم، لأنه ليس أهلًا للدفاع.»٢١
ولم يرَ عبد الحليم عبد الله شيئًا يُزين المرأة إلا عذريتها أو «درة العفاف» تقدمها لزوجها، وتقول له «لا أرى لشخصي كيانًا مستقلًّا ولا أحسه قائمًا بدونك»، ويعتقد الكاتب أن شرف البنت كعود الكبريت، لا يولع إلا مرة واحدة، وهذا مثل شهير في مجتمعنا، اشتهر بترديده أحد ممثلي المسرح المعروفين «يوسف وهبي»، وعبد الحليم عبد الله يرى أن البنت التي يلمسها رجل تصبح كالإناء القذر الذي شرب منه شخص آخر من قبل. ويقول بطله في الرواية، حين تتمنع عليه معشوقته «إنها خافت على موردها أن يَرنُق فيعافه الشاربون.»٢٢

والمرأة في معظم روايات عبد الحليم عبد الله سلبية ضعيفة، لا وجود لها إلا من خلال رجل، فإذا لم يكن هناك رجل، فإن المرأة تموت، إما بالموت الجسدي الحقيقي، أو بالموت حزنًا على الحبيب، وحزن عبد الحليم عبد الله على المرأة حزن فيه من القسوة والازدراء أكثر مما فيه من الرحمة والاحترام، وهو يشبه إلى حدٍّ كبير حزن المنفلوطي على بطلاته. وقد حكم عبد الحليم عبد الله بالموت على جميع بطلاته تقريبًا، فقد ماتت «ليلى» في لقيطة، و«زينب» في شجرة اللبلاب، والسيدة «ف» في شمس الخريف، و«سميرة» في رواية من أجل ولدي، أما تلك التي لا تموت فإنها تُذوى بعيدًا عن الرجل وتنسحق.

وتظل المرأة في أدب «نجيب محفوظ» هي المرأة سواء في فقرها أو ثرائها أو جهلها أو تعلمها، فلا تزال هي المرأة التي يتركز شرفها على حياتها الجنسية وعذريتها. وهي تسقط وتفقد شرفها في معظم الأحوال بسبب الفقر. وقد كان الأدباء الرجال قبل نجيب محفوظ يرون أن المرأة تسقط بسبب غريزتها أو شهوتها أو ضعفها كأنثى أو ضعف عقلها، أما نجيب محفوظ فيرى للسقوط أسبابًا اقتصادية كالفقر، لكنه لا يغير مفهومه عن الشرف، ويظل شرف المرأة عند متركزًا في تلك المنطقة المحدودة من جسمها.

وبرغم أن نجيب محفوظ يُساير العصر ويرى دورًا جديدًا للمرأة، وهو العمل والإنفاق على الأسرة كالرجل، إلا أنه في حياتها الأخلاقية لا يساويها بالرجل. يقول الأب في إحدى رواياته لابنته التي ضيَّعت من بين يديها شابًّا ثريًّا:
«إنك مسئولة عنَّا جميعًا، وخصوصًا إخوتك السبعة.»٢٣

ويُلقي الرجل – سواء كان أبًا أو زوجًا – مسئولية اقتصادية جديدة على المرأة، لكنه يظل يحكم عليها بالسقوط إذا مارست في حياتها الشخصية ما يمارسه الرجل، وهي التي تسقط وحدها، وعليها يقع عقاب الكاتب في معظم الموقف.

وبرغم توضيح نجيب محفوظ لدور الفقر أو الظروف الاجتماعية في انحراف المرأة أو سقوطها، مثل «وكانت الحرب بآثارها المادية والاجتماعية أول محرك لمأساة الزقاق التي أدت بحميدة إلى الانحراف.»٢٤ إلا أنه يقرر على لسان بطله «إبراهيم فرج» أنها «عاهرة بالسليقة»، وأنها من «نبع أبالسة». ورغم محاولة نجيب محفوظ لأن يرسُم للمرأة صورة محايدة مساوية للرجل، إلا أنها تظل صورة عقلية. ويقع نجيب محفوظ بشعوره حين يرسُم صورة المرأة التقليدية الراسخة في وجدانه كرجل ورث تراثًا أبويًّا طويلًا. ويصوِّر نجيب محفوظ المرأة تصويرًا تقليديًّا، وإن أسبغ عليه بعض الإيجابية الظاهرية، التي سرعان ما تتلاشى، وتسقط المرأة في الرذيلة بالمفهوم التقليدي.
وهو يصف «نفيسة» في رواية «بداية ونهاية»، ويقول إن أباها مات ولم يستطع المجتمع أن يكون لها أبًا، فاشتغلت خياطة لتساعد أسرتها، وهكذا أحاطت بها الهموم من كل جانب، وفقدت كل عطف، وكانت غريزتها الأنثوية هي الشيء الوحيد الذي سلم من النقص والضعف، واستوى ناضجًا حارًّا، كان سليمان جابر أول بعث فيها وطمأنها إلى أنها امرأة كبقية النساء، فسقطت أول مرة تختلي فيها برجل، وسقوطها هنا يبرره سوء الأوضاع العامة التي جعلت «الحياة والحظ والمهن المحترمة في بلادنا وراثية».٢٥

وتظل المرأة هنا لا تملك سوى أنوثتها وفتنتها كسلاح. ويناقض الكاتب نفسه حين يدافع عن غريزة المرأة الأنثوية، ثم يعود فيدين هذه الغريزة ذاتها؛ لأنها سبب سقوط المرأة، والمرأة أيضًا هي التي تسقط وحدها، وقد حكم نجيب محفوظ على بطلته نفيسة الساقطة بالانتحار لأنه لم يجد حلًّا للساقطة سوى الموت.

وفي رواية أخرى، على لسان إحدى شخصياته، يقول نجيب محفوظ: «المرأة في الأصل عجينة طرية، وعليك أن تشكلها كما تشاء، واعلم أنها حيوان ناقص العقل والدين، فكلمها بأمرين، بالسياسة والعصا.»٢٦
وبرغم أن نجيب محفوظ له في كتاباته رؤية متقدمة من حيث العدالة الاجتماعية، إلا أن نظرته للمرأة لم تختلف كثيرًا عن الذين سبقوه، وقد أباح لها حرية التعليم والعمل من أجل مساعدة الأب أو الزوج على مسئوليات الإنفاق، وبشرط ألا تتعدى حدود الدين والأخلاق، والأخلاق هنا بالطبع هي أخلاق الأسرة الأبوية، أو الازدواجية الأخلاقية، من حيث إن المرأة هي وحدها التي تسقط. وقد يتحمس نجيب محفوظ من أجل بناء المجتمع الاشتراكي على لسان أحد أبطاله، ويتخيل مجتمعًا أفضل، وحالًا أحسن «وأسعده الأمل في تحقيق خياله دون الاعتداء على العقائد».٢٧
وكان لا بد أن يقع نجيب محفوظ في التناقضات، فهو يُبيح للمرأة العمل والكسب المادي، لكنه لا يبيح لها الحرية الشخصية. وهو يبيح لها الحب، لكنه يعاقبها بالسقوط إذا أحبت. وهو يشترط عليها الزواج كالوسيلة الوحيدة الشرعية والمسموح بها، لكن المرأة حين تشترط الزواج يتهمها بالتحفظ وعدم الإحساس بالحب. وها هو أحد أبطاله «حسنين» يقول عن فتاته التي اشترطت الزواج «إنها تريد أن تتزوجني لا أن تحبني، هذا سر برودها وتحفظها»٢٨ هو يصفها تارة بأنها حيوان ناقص العقل والدين، وتارة أخرى يقول عنها إنها مظهر القوة التي بيديها كل شيء في الوجود «لا يوجد ثمة حركة بين الرجال إلا وراءها امرأة، والمرأة تلعب في حياتنا الدور الذي تلعبه قوة الجاذبية بين الأجرام والنجوم.»٢٩

ويُعتبر «نجيب محفوظ» أكثر تقدمًا من العقاد أو ممن سبقوه، وقد تعرض في كتاباته لقضايا اجتماعية متعددة، لكنه في موضوع المرأة ظل حريصًا حذرًا، لا يمس العقائد ولا يُغير من القيم الأخلاقية النابعة من قوانين الزواج، رغم وقوع معظم أبطاله وبطلاته في الحب.

ويمثل الصراع بين الحب والزواج مادة خصبة وغزيرة في الأدب العربي، وكم ترنَّم «أحمد شوقي» في شعره بمجنون «ليلى» وكيف فضَّل العرب الحب العُذري عن الزواج الجنسي. و«محمد حسين هيكل» في قصته «زينب» يصف صراع البطلة بين الوفاء للحبيب والإخلاص للزوج. وتموت زينب من الحزن على حبها الضائع، وقبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة تقول لأمها «بدي أموت وكله من إيدكو، فضلت أعيط وأقولك يامه ما بديش أجوز، تقولي لي كل الناس أبوهم بيجوزهم على غير كيفهم ما قلتش حاجة. لكن أديني حاموت وتخلص العيشة التي بيننا وبين بعض، وحيتكوا إخواتي لما تيجو تجوزوا حد منهم ما تجوزهمش غصب عنهم لحسن دا حرام.»٣٠
وقد عاش «محمد حسين هيكل» في مصر، الفترة ما بين ١٨٨٨م، ١٩٥٦م، وقد شهدت هذه الفترة الدعوات الأولى لتحرير المرأة من الجهل والحجاب، ونادى «قاسم أمين» بتعليم المرأة لتصبح زوجة وأمًّا كفؤًا. ومن أهم نواحي هذه الكفاءة إتقانها الخياطة لتخيط ملابس زوجها وأطفالها. وانعكس ذلك على الأدب في ذلك الوقت، وظهرت شخصيات نسائية جديدة، مثل «عزيزة» في قصة «محمد حسين هيكل»، وهي فتاة تعلمت القراءة والكتابة والخياطة والتطريز، لكن الحجاب فُرض عليها وهي في الثانية عشرة، كما كان شائعًا في ذلك الوقت. وأدخلها الحجاب إلى عالم «الحريم» الجسدية والفكرية، ولهذا هي تسميه «الثوب الأسود» ثوب الحزن والأسى، وتتحسر «عزيزة» على نفسها ومثيلاتها حين تقول في القصة «ما لنا جماعة السجينات وللحب، إنما نحن في ظلام نتلذذ منه بخيالات لا وجود لها»، وتقول «عزيزة» إن أهلها وجدوا في نقوش الحيطان ما يكفي البنت عن التمتع بالحياة أو بالشمس، وتصرخ قائلة «يا عدالة السماء: هل من أجل هؤلاء السُّذَّج خلقت غروب الشمس لا لنا؟!»٣١
ويُفرض على «عزيزة» زوج لا تريده ولا تحبه، وتنتقل من «سجن الأبوة» إلى «سجن الزوجية»، وتصبح «بين حيطانه الأربع أشد حيرة من الدمعة في عينَي المحزون، وتبكي بكاءً مُرًّا» «تسكب الدمع على شبابها الذاهب تتخطفه يد الشيطان»، إلا أن حال «عزيزة» كان أرحمَ من حال زوجة حسنين أبو مخيمر «التي كان يضربها زوجها بوحشية دون سبب، وإذا بكت ازداد الضرب والشتم، ولم يكن ينقذها من يديه إلا الناس الذين يتجمعون على صراخها.»٣٢

وقد نشر «محمد حسين هيكل» هذه القصة في طبعتها الأولى سنة ١٩١٤م، وخشي أن يوقِّعها باسمه، خوفًا من أن تؤثر على عمله في المحاماة والسياسة، ووقَّعها باسم «مصري فلاح»، وقد كان محمد حسين هيكل من رواد الأدب العربي المعاصر، ومن أوائل من صوروا الظلم الفادح الواقع على المرأة في المجتمع العربي، إلا أنه لم يستطع أن يقدم حلًّا لمشكلة الفصل بين الحب والزواج سوى موت البطلة.

وقد كان الفصل بين الحب والزواج إحدى نتائج الفكرة القديمة التي تُمجد الحب العذري أو الروحي، أما الزواج الذي يتضمن الجنس فهو نوع من الإثم، وقد أدى كل ذلك إلى أن تصبح النساء نوعين: «الأنثى» أو ذات الجاذبية أو الشهوة الجنسية … و«الأم» الطاهرة العذراء الخالية من أي جنس أو شهوة.

ويزخر الأدب العربي بنماذج متعددة لهذين النوعين من النساء النقيضين. وترمز الأم إلى الحب العظيم السامي، وترمز الأنثى إلى الحب الأدنى المدنس.

ويظهر تقديس الرجل العربي لحب أمه في الثقافة والأغاني والشعر، وفي روايات الأدباء، ومنهم «المازني» الذي قال لأمه: «أنتِ سيدتي … إنني أحبك، وأجلك، وإنني مدين لكِ بكل ما جعلني أنا.»٣٣
ويُسقط المازني حبه الطاهر لأمه على المرأة الحبيبة، فيقول إن الإنسان لا يُمكن أن يسعد في الحياة إلا في ظل امرأة حبيبة «مشرقة كالصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية».٣٤

وقد وقع المازني هنا في تناقضات عدة، أو خلع على الحبيبة أوصافًا متناقضة، بعيدة عن الحقيقة والعقل، فهي مشرقة جذابة، لكنها طاهرة، وهي طاهرة (بكل ما في الطهر من معاني الرقة والعذرية والوداعة والسلبية والضعف)، لكنها مرهبة كجيش، بكل ما في الجيوش من قوة وخطر محدق.

وهذا في رأيي تعبير عن نفسية رجل ربط الطهر بالجمال وبالإرهاب، وهي تشبه نفسية الطفل الذي يخاف أمه ويرهبها ويشتهيها، ولكنها طاهرة محرمة، وهو يحبها، وحبه لها أقوى حب في حياته.

وبسبب ذلك تبدو المرأة الأنثى في نظر المازني غريبة غير مفهومة، والنساء (غير أمه) مُحيِّرات مستعصيات على الفهم: «هؤلاء النساء أمرهن عجيب، والذي يستطيع أن يعرفهن على حقيقتهن لم يُخلق بعد.»٣٥
ويتخبط المازني في وصفه للمرأة، تارة يراها مجرد أداة للولادة وحفظ النوع،٣٦ وجمالها وجاذبيتها نوع من الكفر بالله: «هي أداة لحفظ النوع، وجمالها أن تفنى في الجماعة»،٣٧ لكنه يناقض نفسه، ويعترف أن المرأة هي كل شيء في الحياة، بل «هي الحياة مختزلة». ٣٨
ويتغزَّل المازني في الفتاة الغربية التي تحب الرجل بحريتها واختيارها، ويذم الفتاة المصرية التي لا تستطيع أن تحب بحريتها واختيارها، ولذلك فإن الزواج في مصر في رأيه «ليس فيه ما يخدم الآداب أو الفنون، أو يساعد على التقدم.»٣٩

إلا أن إعجابه بهذا النموذج من المرأة المتحررة يتكشف عن أنه إعجاب غير حقيقي؛ لأنه سرعان ما يزدري «ليلى» المتحررة؛ لأنها دفعت «شرفها» وعفافها ثمنًا لتحررها، ويصرح بأن التحرر دنَّسها. ويُعبر المازني عن أزمة الرجل العربي المتعلم الذي تجسد في بطل روايته، والذي أراد أن يحطم سجن التقاليد ليفوز بالفتاة التي أحبَّها، لكنه في الوقت نفسه يرفض الفتاة المتحررة من هذه التقاليد ذاتها التي أراد تحطيمها.

ويقف أبطال المازني حائرين سلبيين أمام النماذج المختلفة، فالمرأة الأنثى المتحررة مرفوضة وتصدم عقلية الرجل العربي المحافظ على مفهوم شرف الفتاة وعذريتها. والمرأة العاملة المكافحة خشنة فقيرة، لا تُرضيه، لأنه تعوَّد على نساء منعمات عاطلات في البيت. أما الفتاة الطاهرة التي ترضيه فهي فتاة تقليدية بالطبع، وتحول بينها وبينه التقاليد.

وأقصى مما تتمناه البطلات في أدب المازني، على اختلاف أنواعهن، هو أن يحققن وجودهن بالزواج. إن عالم المرأة عنده ليس إلا الرجال وأحلام العثور على الزواج، وبعد الزواج لا تنشغل المرأة إلا بفنون الاحتفاظ بالزوج، وتدربها أمها على هذه الفنون، قائلة: «ينبغي أن تكون له كل يوم امرأة جديدة تتصدى له وتغريه وتفتنه.»٤٠

وتتدرب المرأة على فتنة الرجل على يد أمها أو خالتها، كما تدربت نساء ألف ليلة وليلة على الكيد والفتنة والسحر على أيادي «شواهي» و«تودد» ودواهي، وغيرهن من الساحرات الكائدات.

أما الزوج الذي يتزوج امرأة عاملة قوية الشخصية واثقة من نفسها، فهو يصوَّر على أنه رجل ضعيف الشخصية يرضخ لإرادة زوجته،٤١ ويعارض أمه التي كانت تحرضه ضد خروج زوجته إلى العمل. ويقول نجيب محفوظ عن مثل هذا الزوج إنه زوج فاشل، لأنه نشأ في حياة تعوَّد فيها أن تكون المرأة هي صاحبة الإرادة، ومالكة الزمام، وأنه كان عليه أن يأخذ زمام المبادرة والسيطرة حين أصبح زوجًا، ولكنه لم يفعل ذلك، وبذلك فشل كزوج «ولم يخط في سِفر الزواج الضخم حرفًا واحدًا.»

ويصوِّر نجيب محفوظ المرأة «رباب» على أنها لا تحب مثل هذا الزوج ولكنها تعشق رجلًا آخر، وتخون رباب زوجها مع عشيقها، ولا يغفر لها الكاتب ذلك فيجعلها تموت أثناء عملية الإجهاض.

وتمثل المرأة الأنثى للرجل خطرًا وخوفًا قديمًا مرتبطًا بالجنس، ولذلك هو يريدها طاهرة كأمه، أو غير أنثى، ويريدها كالملاك الضعيف المستكين، لكنه في الوقت نفسه يشتهي الأنثى ويشتهي فتنتها وسحرها، لكنه يفزع من هذه الفتنة التي يقع أمامها صريعًا فاقد القوى.

ويُعبِّر توفيق الحكيم عن ذلك التناقض الذي يعيشه الرجل حين كتب في «عودة الروح» يصف بطلته سنية ويقول: «وكانت المرأة في سحرها الجسمي والمعنوي، وإن هي أحيانًا خفضت أهدابها الطويلة الجميلة وهي تُكلم «محسن»، وضحكت ضحكات نسائية رقيقة غاية في الأنوثة، ومنعت عينها من إطلاق النظر إلا في أدب وخفر وتحفُّظ. فما كان ذلك كله عن طبيعة فيها، بل هو حياء مصطنع، لعله أرق سحر تمتاز به المصرية، والحقيقة أن المصرية أمهر امرأة تدرك بالغريزة ما في النظرة الواحدة من وقع وتأثير؛ لذا هي لا تنظر إلى محدثها كثيرًا، ولا تبخس نظراتها، ولا تلقيها جزافًا، كما تفعل الجريئة النزقة، بل إنها تحتفظ بنظراتها بين أهدابها المرخاة، كما يُحفظ السيف في غِمده إلى أن تحين الساعة المطلوبة، فترفع رأسها وترشق نظرة واحدة تكون هي كل شيء.»٤٢

ويكاد يُشبه هذا الوصف نساء ألف ليلة وليلة، وخبرتهن، وتمرينهن على وسائل السحر والفتنة وكيفية إيقاع الرجل في الشرك. وبرغم اشتهاء الرجل العربي لمثل هذه الأنوثة الساحرة سحر الشياطين، إلا أنه لا يشتهيها إلا للمتعة فحسب، أو العشق. أما المرأة التي يريدها أن تكون زوجةً له وأمًّا لأولاده، فهو يختارها طاهرة كأمه، وهو يريدها شريفة عفيفة، وليست أنثى أو جريئة، كتلك المرأة الغربية المتحررة.

ويُظهِر معظم الكُتَّاب العرب المعاصرين كراهيتهم للمرأة الجريئة المتحررة، ويتقزز بطل «عبد الحميد جودة السَّحار» حين يرى «كوثر» حبيبته ﺑ «المايوه» أو لباس البحر، «فثار دمه في عروقه، وشعر بتقزز وضيق، فبدت لعينيه بغيضة تافهة.»٤٣

وكان من الطبيعي أن يشعر البطل بانجذاب أشد نحو المرأة التي يحبها، خاصة وأنها كانت جميلة الجسم، ولا بد أن هذا التقزُّز الذي اعتراه لم يكن لقبحها، وإنما هو شعور دفاعي يلجأ إليه الرجل المحافظ على التقاليد. وهو بدلًا من أن يعترف أنه غير طبيعي يتهمها بأنها بغيضة وغير طبيعية.

ويظهر مثل هذا الرجل المحافظ في معظم القصص والروايات، ونراه شديد النفور من تلك المرأة المتعلمة التي تخالط الرجال وتراقصهم. وهو أيضًا شديد النفور من المرأة المحجبة، ومن المرأة الفقيرة أيضًا، التي كثيرًا ما تسقط بسبب فقرها. أما الفتاة المتحررة فهي تزداد سقوطًا وانحطاطًا بسبب تحررها، ويصبح الرجل حائرًا منهارًا: «فانهار وراح يضرب في الطريق وهو حيران يحس في أعماقه إحساس مَن يعيش غريبًا في الحياة.»٤٤

وتزداد حَيرة الرجل العربي الحديث إزاء تزايد خروج المرأة العربية للعمل والمشاركة في المجتمع، وخاصة بعد غزو الأفكار الاشتراكية للشرق العربي، وينعكس ذلك في الأدب. وبرغم تأييد الرجل لخروج المرأة للعمل، إلا أن الهدف الوحيد من عملها هو مساعدة الرجل في نفقات الأسرة، ويظل عملها خارج البيت في نظره ثانويًّا، ومهمتها الأساسية والأولى في الحياة هي أعمال البيت وخدمة الزوج ورعاية الأطفال. وعلى هذا فقد ظلت المرأة المثالية في الواقع وفي الروايات هي تلك المرأة الجميلة الوادعة المطيعة غير الجريئة وغير الطموحة، بعبارة أخرى، المرأة الطاهرة القديسة. أما المرأة الجريئة أو الطموحة أو المتفتحة العينين ذات الجسارة والقوة، فهي غالبًا ما ترمز إلى الدمامة أو الفُجر أو عدم الاحتشام، بعبارة أخرى، المرأة العاهرة أو البغي.

ويظهر هذا التقسيم بين هذين النوعين من النساء واضحًا في أعمال «نجيب محفوظ»، ومنها «ثلاثيته»٤٥ المعروفة، حيث كانت هناك المرأة القديسة الطاهرة «أمينة»، وتقابلها العاهرة «هنية أم ياسين»، و«عائشة» الجميلة ذات الحياء والخفر، وتقابلها «خديجة»، ذات الجرأة والوقاحة والدمامة. وهناك الحب العذري الذي تسوده القداسة والطهارة، ويقابله الجنس واللذة المحرمة الآثمة في حياة العاهرات الداعرات البغايا.

وهذا هو التقسيم نفسه الذي أحدثه النظام الطبقي الأبوي بين النساء، فالمرأة إما أن تكون الأم الطاهرة المقدسة، أو الزوجة العفيفة المخلصة الباردة المحترمة، وإما أن تكون المومس أو العشيقة الحارة والجذابة والمحتقرة. والحب إما أن يكون طاهرًا مقدسًا، وإما أن يكون جنسيًّا منحطًّا.

وقد حاول نجيب محفوظ أن يستخدم الاعتداء الجنسي على المرأة كرمز للاعتداء على شعب بأسره، ففي الليلة التي اعتدى فيها «ياسين» على نور جارية زوجته، واعتدى أبوه على أم مريم جارتهم، إذا بالإنجليز يدخلون الحي. وبرغم هذا الرمز إلا أنه على مستوى حياة الأفراد فإن شرف المرأة عند نجيب محفوظ ظل مختلفًا عن شرف الرجل، وظل هذا الشرف في رواياته يتعلق بسلوك المرأة الجنسي أكثر مما يتعلق بأي شيء آخر.

وتلعب الأنثى البغي في الأدب العربي دورًا أكبر مما تلعبه المرأة الطاهرة العفيفة. وكأنما الطهر والعفة من الأمور غير الجذابة، سواء في الواقع أو في الخيال. أو كأنما البغي هي الرمز للمرأة الحقيقية وقد نزعت عن وجهها النقاب: «إن «البغي» هي المرأة الحقيقية وقد جلَّت عن وجهها قناع الرياء، فلم تَعُد تشعر بضرورة ادعاء الحب والوفاء والطهر.»٤٦

وكم من نماذج للبغي أو المومس في أدبنا المعاصر، وبالذات أدب نجيب محفوظ، الذي كثيرًا ما حاول أن يغلف صورة المرأة المومس بإطار إنساني فيه كثير من الرحمة بها والتفهم لظروفها كضحية للمجتمع، لكنه يظل دائمًا تفهمًا ناقصًا يعترف بمأساة المرأة الاجتماعية، لكنه لا يصل إلى أعماق هذه المأساة، ولا يكشف عن أسبابها الحقيقية، أما مأساة المرأة الأخلاقية فهذا هو المجال الذي لم يطرقه معظم الأدباء العرب المعاصرين.

هوامش

(١) نُشرت بعض أجزاء من هذه الدراسة في كتاب «الوجه العاري للمرأة العربية»، نوال السعداوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٧٧م، ويُعاد النشر هنا لعدم توزيع هذا الكتاب في عدد من البلاد العربية لأسباب تتعلق بالرقابة على الكتب.
(٢) عباس محمود العقاد، المرأة في القرآن، دار الهلال، القاهرة، ص٣٥.
(٣) تفسير الطبري، المطبعة الميمنية بمصر، ج٤، الجزء ١٢، ص: ٩٨–١٠٣.
(٤) عباس محمود العقاد، المرأة في القرآن، دار الهلال، القاهرة، ص: ١٧-١٨.
(٥) عباس محمود العقاد، الإنسان الثاني، ص: ٧، ٨.
(٦) عباس محمود العقاد، سارة، سلسلة اقرأ، العدد ١٠٨، ص١٢٩.
(٧) ديوان العقاد، ص٣٠٢.
(٨) عباس محمود العقاد، هذه الشجرة، ص ٤٢–٥٠، مطالعات في الكتب والحياة، ص٦٧.
(٩) عباس محمود العقاد، أعاصير مغرب، ص٥٧.
(١٠) المصدر السابق.
(١١) عباس محمود العقاد، المرأة في القرآن الكريم، ٢٢، ٢٣.
(١٢) عباس محمود العقاد، ساعات، ص٢٠، ٢١.
(١٣) تولستوي في يومياته، بتاريخ ٣ / ٨ / ١٨٩٨م، كما وردت في كتاب عباس محمود العقاد، هذه الشجرة، ص٨٨.
(١٤) عباس محمود العقاد، سارة، ص١١٥.
(١٥) المصدر السابق، ص٨٤.
(١٦) عباس محمود العقاد، هذه الشجرة، ص١٥.
(١٧) توفيق الحكيم، الرباط المقدس، طبعة الآداب، ص١٧٢.
(١٨) طه حسين، دعاء الكروان، طبعة دار المعارف، القاهرة، ص١٣٥.
(١٩) طه حسين، دعاء الكروان، ص ١٥١.
(٢٠) محمد عبد الحليم عبد الله، شمس الخريف، مكتبة مصر، ١٩٥٤م، ص٢٠٦.
(٢١) المصر السابق، ص٢٠٦.
(٢٢) المصدر السابق، ص١٤٢.
(٢٣) نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، مكتبة مصر، ص٣١.
(٢٤) نجيب محفوظ، زقاق المدق، ص١٣٠.
(٢٥) نجيب محفوظ، بداية ونهاية، ص١٩٩.
(٢٦) نجيب محفوظ، خان الخليلي، ص٤٩.
(٢٧) نجيب محفوظ، بداية ونهاية، ص٣٠٢.
(٢٨) المصدر السابق، ص٢٩٨.
(٢٩) نجيب محفوظ، السراب، مكتبة مصر، ص٣١٠.
(٣٠) محمد حسين هيكل، زينب، ص٢٣٩.
(٣١) محمد حسين هيكل، زينب، ص١٧٢.
(٣٢) محمد حسين هيكل، زينب، ص١٧٥.
(٣٣) قصة حياة المازني، كتب ثقافية، العدد ٩٨، ٣٣.
(٣٤) المازني، إبراهيم الكاتب، ص١٥٢.
(٣٥) المازني، إبراهيم الثاني، كتب ثقافية، العدد ٨٠، ص١٦٣.
(٣٦) المازني، إبراهيم الكاتب، طبعة مصر، ٢٤.
(٣٧) المصدر السابق، ص٦٨.
(٣٨) المصدر السابق، ص١٣١.
(٣٩) المصدر السابق، ص٣٠٤.
(٤٠) المازني، إبراهيم الثاني، ص٥٢.
(٤١) نجيب محفوظ، السراب، ص٢٤٩.
(٤٢) توفيق الحكيم، عودة الروح، ج١، ص١٤١.
(٤٣) عبد الحميد جودة السحار، قافلة الزمان، مكتبة مصر، القاهرة، ص٣٢٥.
(٤٤) عبد الحميد جودة السحار، النقاب، مكتبة مصر، ص٢٨٤.
(٤٥) رواية نجيب محفوظ التي صدرت في ثلاثة أجزاء (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية).
(٤٦) نجيب محفوظ، خان الخليلي، مكتبة مصر، ص٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤