الفصل الخامس

عن المرأة في كتاب توفيق الحكيم «راهب بين نساء»

أول قصة في هذا الكتاب١ بعنوان «هي في معبد الفن»، قرأت هذه العبارة على لسان الرجل بطل القصة: «إن حريتي أثمن عندي من روحي، وإن المرأة وحدها هي أخطر عدو يهدد هذه الحرية. فالمرأة يا سيدتي هي السجَّان الدائم لنا نحن الرجال؛ نتخبط بين جدران بطنها ونحن أجنة، نطعم ما تريد هي أن تُطعمنا إياه، فإذا خرجنا من تلك الجدران المظلمة إلى الحياة المضيئة الرحبة وقعنا بين سياج حجرها، تُغذي أفهامنا بما تريد هي أن تلقننا إياه، فإذا … اجتزنا بالكبر تلك السياج، تلقتنا أغلال ذراعيها فطوَّقت أعناقنا حتى الممات، فمتى الخلاص ومتى الحرية؟» (ص١١١).

وفي قصة «السابحة وغريقها» يختم توفيق الحكيم قصته بأن تقول المرأة للرجل: «أنا الموت»، وسقط الرجل في أحضانها (ص٢٢).

وفي قصة «من هي حواء» يقول الحكيم إن آدم صورة الله وجزء من روح الله والله هو الذي خلقه، أما حواء فهي التي صنعها إبليس من ضلع آدم (لأنه عضو بغير فائدة)، ونفخ فيها من روح إبليس الشريرة الناقصة. وإن آدم هو الصورة الأصلية الجيدة، وحواء هي الصورة الرديئة. ويختتم الحكيم قصته قائلًا: … فقد ضعف آدم وأطاع حواء وأكل معها من الشجرة وانتشى من عصيرها وأكل، وامتزج بحواء، وطُردا من الجنة إلى الأرض … وأنبتها الجنين الأول. وتكاثرت الذرية، وتعددت «النسخ»، وجاء قابيل فقتل هابيل … وكانت الجريمة الأولى … وعُرف الشر على الأرض، واختلطت الصورة الجيدة بالرديئة، كما اختلطت الفضيلة بالرذيلة … وامتزجت النسخ الأصلية بالدخيلة … ولم يعد في الإمكان فرز وريث آدم من وريث حواء … ولا لمعة الحق من خدعة الشيطان … امتزجت في الآدمي الواحد كل عناصر الخير والشر، والحسن والقُبح، والحقارة والسمو، والتفاهة والعظمة، والعدل والظلم، والعقل والطيش، والضعف والبطش … وكانت الدنيا» (٣٦).

وتسيطر هذه الفكرة على توفيق الحكيم في كل قصصه تقريبًا. وفي قصة «حواء والضلع المكسور»، يحكي الحكيم قصته عن مهندس صدمته فتاة حسناء بسيارتها وكسرت ضلعه ثم أحبها، ويختتم القصة قائلًا: «كان لا بد لحواء أن تأخذ من آدم ضلعًا حتى تُوجد، وكان لا بد لكِ أن تكسري لي ضلعًا حتى أحبك» (ص٦٢).

وفي قصة «وجهها الآخر» يحكي الحكيم قصة فتاة أحبها، وهي جارته، وظن أنها تقرأ وتسمع الموسيقى، وأنها متزوجة لكن زوجها يهجرها الليل ليعيش مع أمه التي رفضت زواجه منها. ولا ينتقد سلوك المرأة لأنها تذهب إلى الرجال وهي غير متزوجة ومن أجل المال. وينبهر الحكيم بالمرأة التي تعرف اللغات الأجنبية، ويُفجع حين يعلم أنها ليست إيطالية وإنما وُلدت في إحدى حارات القاهرة، وليس لها لغة أصلية، «ولا يُعرف لها أصل ولا فصل» (ص٨٧).

لا يتعمق الحكيم في شخصية المرأة وظروفها، وإنما يحكم عليها بمولدها في حارة وبيئة فقيرة، وهو أيضًا لا يعرفها، بل نقل إليه هذه المعلومات عنها صديقه الناشر الذي لا يتعامل مع الكتب إلا كسلع تأتي عليه بالدنانير.

أما في قصة «هي والراهب» فقد كتب توفيق الحكيم يقول: «إنه يعرف المرأة التي تعطي الفكر حياتها … هي ولا شك المرأة التي لم تجد رجلًا تمنحه هذه الحياة …» ثم يقول: «لعل الطبيعة جردتها من السحر أو الجمال، الذي تسيطر به على قلب الرجل، فلم تجد إلا الفكر أو ارتداء مسوح الراهبات، ولعل في تلك المسوح قوة خفية قد تستخدمها المرأة في طرق باب الأمل من جديد» (ص١٦٧).

ويقول الحكيم للفتاة الجميلة: أنتِ لم تُخلقي للأدب.

«إنها جميلة … إن الآدمي قد يعطي الأدب «حياته» لكنه لا يعطي الأدب «جماله» (ص١٧٠).

يعتقد الحكيم دائمًا أن المرأة الجميلة خارج الفكر، ولا تستطيع أن تجتاز «أعتاب تلك المنطقة السامية المقدسة» التي يسميها الفكر، والتي يظن أنها منطقته هو وحده كرجل (١٧٥).

ويُفرِّق الحكيم بين أهداف القراءة عند المرأة والرجل ويقول: «إنها تقرأ لا للقراءة ولا للثقافة، ولكن … للاستكشاف! إنها تريد أن تنقب عن شيء، وترفع النقاب عن شيء … آه للمرأة … ينبغي أن نستثير فضولها، وأن نوقظ حب الاستطلاع فيها، حتى نحملها على فعل العجائب» (ص٣٠٤).

لكن الرجل عنده يقرأ من أجل اللذة الفكرية العليا … «أما القراءة المجردة التي يبتغي منها اللذة الفكرية العليا وحدها، والاستمتاع بالجمال الذهني لذاته فهي التي دونها المصاعب» (ص٢٠٤).

ويتصور الحكيم أن الفضول هو الذي دفع المرأة إلى مطالعة كتبه بهذا التحمس والنشاط، من أجل أن تنفذ إلى حقيقة شخصيته هو، أي أنه هو (كرجل) الذي يثيرها وليس «فكره».

وبهذا يكشف الحكيم عن مشكلته الأساسية وهي فصله بين فكر الرجل وبين شخصيته، هذا الانفصام الذي يظهر واضحًا في معظم كتاباته، ويدل على أنه يكتب أشياء نظرية لا يعيشها في الواقع، وإلا فما الفرق بين الكاتب وشخصيته كرجل أو كأنثى. إنه يعاني ذلك الانفصام الحاد بين عقله وجسده، وبين الأنثى والذكر.

ولا يتصور الحكيم أن يكون للأنثى عقل، ويقول: «وهو يفترض لهذه المرأة من الذكاء ما لا يمكن أن يحوي مثله عقل أنثى …» (ص٢٠٥).

ويتغزل الحكيم في جمال المرأة وأناقتها، ولا يرى فيها إلا جمالها الظاهر لعينه، ومع ذلك يدينها ويتهمها بالتفاهة والطيش، لأنها لا تهتم إلا بالخياطة والحلاق والتواليت … «تلك الفتاة الجاهلة التي لا تعرف أناملها سوى أصبع الروج، ولا تعرف أن لها رأسًا يجب أن يُملأ أيضًا» (ص٢٠٦).

نسي الحكيم بسرعة أنه قال من قبل إن المرأة القبيحة هي التي تملأ رأسها بالفكر لأنها لم تجد الرجل الذي يعشق جمالها.

ويستغرق الحكيم في عشقه لنفسه وزهوه برجولته، لأن الزوجة جاءت إليه سرًّا دون أن تخبر زوجها، ويشغله هذا الأمر التافه عن مشكلة المرأة، وكانت تريد أن يكون عقلها مساويًا لعقل زوجها. وقد جاءت إليه هذه الزوجة بسبب حبها لزوجها، وليس بسبب حبها له هو. جاءت إليه تريد أن تقرأ وتفهم حتى تصبح ندًّا لزوجها، فيحبها أكثر ويحترمها. لكن الحكيم ينسى هذا كله ويتجاهل كل ما تقوله المرأة، ويتصور أنها جاءت لأنها تحبه هو.

وهذا نوع من الغرور الذي يعمي الرجل عن حقيقة المرأة، فلا يكاد يتصور امرأة تزوره لأي سبب آخر سوى أنها وقعت في غرامه.

ويكذب الحكيم على نفسه حين يملأ عقله بفكرة أن هذه المرأة جاءت إليه من أجله هو، وليس من أجل زوجها، أو من أجل نفسها، لكن سرعان ما ينسى كذبته، ويلصقها بالمرأة، فالمرأة في رأيه هي التي تعشق الكذب، أما الرجل فيعش الصدق.

بعد أن كان هدف المرأة من اللقاء به تنمية عقلها والاقتراب فكريًّا من زوجها، حوَّله الحكيم إلى «غرام»، و«سر» تخفيه عن زوجها، ويعرفه هو، ويشعر بنوع من الزهو الخفي لأنه ينتصر على ذلك الزوج، ويعرف سرًّا لا يعرفه هو، وليس له «غير مفتاحين: أحدهما معه، والآخر معها» (ص٢١٢).

يستمر الحكيم في خداع نفسه وخداع المرأة إلى الحد الذي يتصور أنها هي التي تعلمه الكذب: «لقد حاولتِ أن تعلميني الكذب» (ص٢١٤).

ثم يطلب منها الانصراف إلى غير عودة، تأففًا من كذبها وتفاهتها. وتختفي المرأة، لكنها ما إن تختفي، حتى يدرك الحكيم أنه ينتظرها متشوقًا متلهفًا. ولم يكن يتشوق إلى فكرها أو عقلها، وإنما إلى ما وصفه بالتفاهة «إلى ثيابها التي اعتاد أن يراها في مثلها، وفي عطرها المحبوب الذي يملأ قلبه سعادة» (ص٢٢٠). وهو دائمًا ينادي على المرأة بقوله: تلك الجميلة … تلك الجميلة … ويقع دائمًا في حب المرأة من أول نظرة حين يرى جمالها الرائع، لم يقع أبدًا في حب امرأة لها عقل.

وحين وصل خطابها الأول الجاد تصوَّر أنها امرأة مفكرة، لها عقل، ورسم لها على الفور في خياله صورة قبيحة. لكن حين جاءته «ورفع رأسه ونظر … وإذا الدهش يعقد لسانه، ذلك أن بصره لم يكد يقع على الفتاة التي أمامه حتى انقلب كل شيء في رأسه، وفسدت الصور التي نسجتها مخيلته في سرعة البرق، فالفتاة التي أمامه، جميلة رشيقة أنيقة!» (ص١٦٨).

وقد تأثر الحكيم بهذا الجمال، وليس بأي شيء آخر في المرأة. ظلت جميلة في عينيه رغم تفاهة عقلها وكذبها، كما قال، وظل يحبها ويؤرقه غيابها، رغم أنها لا تحب الفكر ولا القراءة ولا الأدب. مجرد جميلة … ثيابها أنيقة، وعطرها فوَّاح!

أضناه الفراق والسهاد، وأفرد لهما فصلين كاملين بعنوان الفراق والسهاد، يتلذذ بعذابه لأنها تركته، وقد تحوَّل في عينيه حديثها التافه عن شيء عظيم «إن حديثه معها الذي كان حينًا تافهًا وأحيانًا باردًا، هو عنده اليوم شيء نفيس، لا يُقدر بمال، إنه غذاؤه الذي تعيش عليه الآن روحه» (ص٢٢٥). يتذكر أحيانًا أنها امرأة متزوجة، لكن لا بأس، فهو يحبها فقط. ولكنه يتشكك في أن يبقى الحب شريفًا أو روحيًّا فقط، فيقول: «ولكن … من ذا يضمن له أن طموحه كان يقف عند هذا الحد» (ص٢٢٥). وكتب لها رسالة حب بعد أن عجز عن النوم ذات ليلة قال فيها: «أنتِ حاضرة أمامي، بوجهك وأهدابك، ونظراتك، وشعرك، وثغرك!» (ص٢٢٧).

ولم يقل لها أبدًا وعقلك وفكرك!

ويُحب توفيق الحكيم التذلل في الحب لتعطف عليه المرأة: «وبك عطف علي» (ص٢٢٧). وفي قصة «هي في معبد الفن»، ركع الحكيم وقبَّل قدمَي الرجل؛ لأنه لعب دورًا في التقريب بينه وبين امرأة جميلة، استهواه جمالها، وقال له الرجل: «اطمئن، لقد استنزلنا عليك عطفها.» وفرح الحكيم بهذا العطف، ودعا له بطول العمر، وحين هيأ له الرجل كل شيء، وقال له: «هذه الجميلة قد أمست طوع بنانك» (ص١١٩)، رد الحكيم: «بناني، اللهم لطفًا بعقلي … اللهم … وانحبس الكلام في حلقي ولم أدرِ ما أفعل فارتميت على حذاء الشيخ، فأسرع وأمسك بذراعي صائحًا: ماذا تصنع؟ قلت: أقبِّل قدميك» (ص١١٩).

ويتكرر تقبيل القدمين كلما شعر الحكيم بامتنان لذلك الرجل الذي يُسهِّل له لقاء الجميلة.

هذا الذل والإذلال في التقرب من المرأة الجميلة، والتلذذ بالذل والهوان والعذاب من أجلها، وانتظار عطفها عليه وشفقتها على سهاده وعذابه.

ويكذب الحكيم أيضًا حين يقول، بتواضع مصطنع، إنه يتألم مما يُنشر عنه في الصحف، وفي أعماقه ندرك الزهو الخفي؛ لأن الصحف تكتب عنه، وتنشغل به. وينقلب هذا الزهو إلى نوع من الضيق الظاهري؛ لأن الصحف ترسم له صورة غير الصورة التي يريدها لنفسه، ويقول للمرأة: «آه، إننا لفي حرب دائمة … لا من أجل فننا وحده، ولا في سبيل مُثلنا العليا وحدها، ولكن على أولئك الذين كرَّسنا حياتنا لنعطيهم شيئًا جميلًا» (ص٢٢٨).

يتظاهر بالتواضع أحيانًا، وأحيانًا أخرى بتكبر، ويترفع عن قرائه، ويقول عنهم إنهم تافهون، ويتصور أنه يُضحِّي من أجلهم ويتعب من أجلهم، وهو يتعب من أجل نفسه، ولا يرى إلا نفسه.

صوت العصفور الكناري المحبوس في قفصه عند الجيران يسمعه ويصادقه ويتآلف معه ويفهمه، لكنه لا يصادق الآدمي، ولا يحاول أن يتآلف معه أو يتحدث معه. مجرد أن يعطيه أوامر وإشارات.

«ولا أرضى أن يغلق خادمي النافذة بينه (عصفور الكناري) وبيني» (ص٢٣٠)، أما خادمه فكم من النوافذ مغلقة بينهما.

تلك هي القيم الطبقية السائدة، أن تتطلع إلى عصفور أو كلب جيرانك الأثرياء، وتخلق معه لغة مشتركة، لكنك تعجز عن الإحساس بوجود خادمك الآدمي، الذي يخدمك؛ لأنه فقير، وأنت تحتقره.

ولا تختلف نظرته إلى الخادم كثيرًا عن نظرته إلى المرأة، وهذه سمة من سمات القيم الأبوية.

رغم تشخيصه السابق للمرأة أنها تافهة العقل، لا تعرف أناملها إلا «الروج» الأحمر والخياطة والتنس (الذي يعتبره مجرد لعب وهراء، وليس رياضة بدنية صحية) يقول عنها: «إني لأراكِ دائمًا في صورة الزوجة المثلى، ذلك الطراز من الزوجة المثلى التي طالما تمنيت الظفر به، ولكن الحياة ضنت به عليَّ … ما من رجل في التاريخ سعد بزوجة عظيمة إلا تخيلتها على صورتك، وأعطيتها ملامحك، وأعرتها سماتك وصفاتك» (ص٢٣٠).

ما هي هذه الصفات؟ لم يقل لنا شيئًا عنها سوى جمال الوجه والشفتين، والثياب الأنيقة، والعطر. أما عقلها فهو تافه حتى الآن، وقد طردها لتفاهتها، وهي كاذبة، خائنة لزوجها، كما رأينا في القصة.

ولأنه ينكر وجود عقل المرأة، فهو يتصور أن إخلاصها لزوجها ليس إلا من قبيل «الواجب الزوجي»، حتى زوجة كارل ماركس (في رأيه) التي تمسكت بزوجها حين طرده قومه، ليس لأنها تؤمن بالاشتراكية أو القضية التي يناضل من أجلها، ولكن بسبب «واجبها الزوجي، وإيمان الزوجة بزوجها» (ص٢٣١). وزوجة دزرائيلي «ماري آن» في رأيه أيضًا قد «قامت بواجب الزوجة» تعرف كيف تجعل زوجها يعيش في فردوس من العبادة … وكان يحس أنها لا تعيش إلا من أجله» (ص٢٣٣).

وحين مرضت هذه الزوجة بمرض قتال، أخفت مرضها عن زوجها «كي لا تسبب له إزعاجًا، وكانت تتحامل على نفسها، لتظهر إلى جانبه كلما اقتضت واجباتها الاجتماعية ظهورها … وقد وضعت على صدرها كما توضع «النياشين» «أيقونة» كبيرة، داخلها صورة زوجها» (ص٢٣٣).

بعد أن ماتت «ماري آن» أدرك زوجها ما كانت «توفره عليه من متاعب يضيق بها رجل، فإنه منذ زواجه وهو ينعم بمنزل وخدم على أتم نظام، دون أن يشغل باله شيء» … وقال عنها زوجها: «لا أعرف امرأة في مثل دأبها على ما فيه راحتي وسهرها على ما فيه خيري» (ص٢٣٤).

هذه هي صورة الزوجة المثالية التي هزت نفس الحكيم، ونقلها في رسالة إلى المرأة التي أحبها: «نقلت إليكِ أكثرها كي تحبي «ماري آن» كما أحببتها … ولعلك ترينها تشبهك، كما رأيتها أنا شبيهتك» (ص٢٣٤).

ويكتب إليها أيضًا عن الإلهة إزيس المصرية القديمة، قائلًا: «لا أريد أن أتعرض للجانب الديني أو الإلهي في أسطورتها … فالذي يعنيني فيها هو الجانب الزوجي، إن وفاءها لزوجها «أوزوريس» لمعجزة في نظري من معجزات القلب الإنساني» (ص٢٣٥). «وكانت الملكة إزيس تحذر زوجها دائمًا من عدوه «سيت»، ولكن الملك الذي يجهل قلبه الشر، لا يستطيع أن يعرفه في قلوب الآخرين» (ص٢٣٦).

ومن السطور هنا نفهم أن قلب المرأة «إزيس» عرف الشر، ولذلك عرفته في قلب «سيت»، رغم أنه يحكي الحياة ليمجد وفاء إزيس لزوجها، إلا أنه يسقط دون وعي في فكرته الأبدية، بأن المرأة تعرف الشر، والرجل لا يعرف الشر.

ويعتقد الحكيم أن السبب وراء تعدد قبور أوزوريس في مصر، أن إزيس جمعت أعضاءه التي مزقها «سيت» ودفنتها في أمكنة مختلفة، وفاءً لزوجها.

أما زوجة النبي محمد، خديجة، فكتب عنها الحكيم يقول: «امرأة مثلها، ذات شرف وثروة … أن تبدأ هي الخطوة الأولى نحو رجل فقير يتيم.»

ومع ذلك يحتقر الحكيم المرأة الفقيرة، التي تبدأ الخطوة الأولى مع رجل ذي شرف وثروة!

أما عائشة، زوجة النبي محمد، فتقول له بدلال: «ألست أنا خير النساء عندك؟» فأجابها على الفور «وخديجة؟» … فقالت له: «ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها.»

ويعجب الحكيم بذلك الدلال الذي تظهره عائشة!

وفي معظم قصصه؛ يفرق الحكيم بين حقيقته الباطنة، وحقيقته الظاهرة لعامة الناس، مما يدل على عدم الصدق والانفصال بين ما يكتبه وما يعيشه.

ويقول للمرأة: «ثقي أن هناك فرقًا كبيرًا بين حقيقتي الباطنة وحقيقتي الظاهرة لعامة الناس … لأن الباطن هو ملكي ومن صنعي، ولكن الظاهر هو ملك الناس، ومن صنع الظروف» (ص٢٤٦).

وهذه هي الازدواجية التي عاش بها الحكيم، ومعظم الرجال والكُتَّاب الذين قادوا الفكر والأدب في مصر خلال نصف القرن الماضي.

ولا يفهم الحكيم المرأة، أو المرأة ذات العقل، ولا يعرف إلا تلك المرأة التي لا تعيش إلا للرجل، والتي تقول: «إني عطشى لأن أصغي إلى رجل … إلى رجال يقولون لي إني جميلة … تواقة إلى أن أرتجف تحت لمسات أيديهم المداعبة، وأستمع إلى رجائهم المنبث من قلوب محترقة» (ص٢٦٧).

وهذه امرأة لها زوج، لكن الحكيم يصفه بأنه رجل لا يمكنها الحديث معه … «ما من موضوع نستطيع طرقه معًا، فكل شيء يجب أن يلاحظ فيه قيود الزوجية، وواجبات الوفاء الزوجي» (٢٦٩) … «زوج جاد أكثر مما ينبغي» (ص٢٧٠). وهذا في رأي الحكيم مبرر كافٍ لأن يكون مملًّا، يجعل زوجته عطشى للرجال، ونسي الحكيم بسرعة عزله السابق لذلك الذي سمَّاه «الوفاء الزوجي»، وذلك التقديس الذي أهاله على الزوجة ذات «الوفاء الزوجي».

لكن الزوجة التي يتمناها الحكيم لنفسه تختلف عن الحبيبة أو العشيقة، والوفاء الزوجي بالنسبة للأولى مطلوب ومقدس، لكن الوفاء الزوجي في الحالة الثانية غير مطلوب وباعث على الملل.

ويفرق الحكيم بين الرجل والمرأة عند الوقوع في الحب، والمرأة في قصته حين تقع في الحب تقول عن نفسها: «إن شيطان الغواية كان قد لبس نفسي وجسمي! أوَلست امرأة مثل الأخريات … ضعيفة … طيعة! قابلة للتأثير … خاضعة للمؤثرات …» (٢٩٣).

أما الرجل حين وقع في الحب فهو لا يقول مثل هذا الكلام، لكن حبه عاطفة سامية، ونور إلهي، وفلسفة عظمى، وأرق مروع بديع، ورسائل أدبية يبثها شوقه وغرامه، لكنه ليس غرام الشياطين، ولا غواية إبليس، ولا يقول عن نفسه إنه رجل مثل الآخرين، أو إنه ضعيف أو طيع … إلخ، إن كلماته عن نفسه رفيعة المستوى، وتصويره لحبه تصوير عالٍ، بل إنه مندهش كيف لا ينسى تلك المرأة، ولماذا يظل يذكرها، كأنما تأثره بالمرأة شيء غير طبيعي، وغير وارد في طبيعة الرجل. وهو يصور نفسه في الحب فيلسوفًا وقلبًا وروحًا وجسدًا قادرًا على التحكم فيه، وعقلًا قادرًا على أن يوجه عقل المرأة ويقوده إلى الأفكار السامية وإلى النماذج العظيمة للنساء والزوجات العظيمات (عظمة المرأة في رأيه ليس لها سبب سوى الوفاء الزوجي).

والمرأة من الطراز الحديث، في قصص الحكيم، هي التي تُسلم نفسها للرجل من أول ليلة. ويكشف بذلك عن أنه لا يفهم المرأة الحديثة أيضًا، فهي في القصة لا تناقش فكرة تسليم المرأة نفسها للرجل، وإنما تدَّعي المساواة بالرجل، ومع ذلك تظل عبدًا للرجل.

ولأن المرأة أحبت وعشقت الرجل، جعلها الحكيم تهوى من العرش الذي وضعها فيه إلى الأرض والطين. وفي فصل «معبود من طين» يُعبر عن صدمته في المرأة التي يرفعها إلى قداسة روح بغير جسد: «وانقلبت تلك العبادة الرفيعة — التي عفَّر بها جبينه في محرابها — شيئًا مخجلًا مهزأً كألعاب المهرجين» (ص٣٥٣).

وحين لا يرى الزوج تصرفات زوجته أو يشك في سلوكها فإن «الزواج هو وادي العميان» (ص٣٢٧). وحين يفتح الزوج عينيه فهو «يشك في نسب ولده الأصغر، وهو يزعم أنه لا يشبهه مطلقًا، كما يشبهه الابن الأكبر» (ص٣٢٨).

والمرأة الجميلة في رأيه لا عمل لها إلا المغامرات العاطفية.

وتقول المرأة: إن المغامرات الغرامية هي حُلم كل امرأة.

– كل امرأة على طرازك.

– بل كل امرأة، إطلاقًا، ما دامت جميلة (ص٣٥٥).

وفي رأيه أن «الزوج عليه الكفاح في سبيل اللقمة، أو في سبيل رفاهية الزوجة!» … والزوجة عليها الكفاح — على الأقل — ضد نزعات نفسها، ثم إنفاق موارد الزوج في معاشهما المشترك، فلماذا تريد الزوجة أن تختلس مال الزوج، كي تتزين به لرجل آخر … لماذا يشقى الزوج من أجل امرأة تخونه، مع رجل لم يشقَ من أجلها» (ص٣٧٣).

وهنا يكشف الحكيم عن مفهومه لسبب الوفاء الزوجي. إن واجب الزوجة هو الإخلاص لزوجها بسبب ماله، وليس لسبب آخر.

وحين تسأله المرأة: «وإذا خان الزوج زوجته، أليس لها الحق أن تخونه؟!»

يقول لها: لا!

تقول له: النغمة القديمة التي نسمعها من الرجال! تبيحون لأنفسكم ما تحرمون علينا، لأنكم أنتم السادة ونحن الإماء!

يقول لها: بل لأن الرجل هو الذي يعرق، والمرأة هي التي تنفق! اكدحي كما يكدح زوجك، واعرقي كما يعرق، فإذا تساويتما في التضحيات تساويتما في الحقوق … لا أقول إن الرجل يجب أن يخون، ولكنه إذا خان خان من ماله … ولكن زوجته تخون من مال زوجها … ثم هناك شيء آخر … هو النسل … فالزوج يخون ولا يُدخِل على زوجته نسلًا مدنسًا … أما الزوجة فإذا خانت أدخلت على زوجها نسلًا ليس من صلبه» (٣٧٤).

ويقول الحكيم للمرأة: «لن تكون هناك مساواة مطلقة بينكن وبين الرجال في هذا الإثم، إلا إذا تطور الزمن تطورًا آخر، فرأينا الزوجة تناضل في الحياة، وتكتسب بالقدر الذي يربحه الزوج … ثم يُستطاع بواسطة العلم أو غيره من الوسائل أن يُفرز للزوج نسله عن نسل غيره، بغير وقوع في شك أو ارتياب … إلى أن يتم ذلك فلا تتحدثن عن المساواة في الخيانة» (ص٣٧٤).

يبدو أن توفيق الحكيم لم يكن يعرف أن ملايين النساء الفقيرات الكادحات في الحقول والمصانع، يعرقن مثل أزواجهن، ويكافحن من أجل لقمة العيش للأسرة والأطفال، مثل الأزواج وربما أكثر، لأنهن يعمل في الحقل والمصنع ويعملن في البيت أيضًا … لكن يبدو أن الحكيم لم يكن يتطلع إلا إلى هؤلاء القلة من الطبقة الثرية، هؤلاء العاطلات بغير عمل داخل البيت أو خارجه، ويعشن على مال أزواجهن.

ويكشف الحكيم أيضًا عن مفهومه المحدود للقيم الأخلاقية في عَلاقة الرجل والمرأة. إن الأخلاق الحقيقية تعني المساواة الإنسانية، والإخلاص الإنساني، ولا عَلاقة لها بمال أحدهما، أو حتى موضوع النسل. والآن، وبعد اكتشاف حبوب منع الحمل، هل يُبيح الحكيم للمرأة ما يُبيحه للرجل؟

أما أن الزوج يخون من ماله، فهذا كلام لا يتسق مع الأخلاق الإنسانية، وكأنما يبيح الحكيم الخيانة للرجال الأثرياء، ويحرمها على الفقراء الذين لا مال لهم، كما أنه يبيحها أيضًا للنساء ذوات المال، ويحرمها على النساء الفقيرات.

ويكشف الحكيم عن جهله أيضًا بشخصية الرجل الإنسان، الذي يحترم حرية زوجته، فيقول عنه إنه رجل باهت الشخصية، قليل الذكاء … «إن السعادة الزوجية لا يمكن أن تتوفر لامرأة في عصرنا الحديث إلا مع زوج باهت الشخصية، قليل الذكاء … لقد خبرت بنفسي ذلك، وأحصيت بين كل معارفي عدد السعيدات الناعمات، في بحبوحة الحرية، المتمتعات بالراحة العائلية، فإذا هن المتزوجات برجال من ذلك الصِّنف المتوسط في مواهبه، المتواضع في مداركه» (ص٣٨٦).

أما الرباط المقدس، فهو — في رأيه — رباط الرجل بطفله الذي جاء من صلبه، وليس من رجلٍ آخر، فيقول: «يا الله … ما أقوى ذلك الرباط المقدس عن الرجل! إنه في الحقيقة رباط الرجل بطفله … وإن منبع القداسة فيه ذلك الدم الذي يجب أن يجري بينهما نقيًّا، فإذا تلوث أو تدنس أو داخله الغش، أو خالطه التدليس، أو مرَّ عليه شبح الشك والارتياب، فإن الرجل قلما يحتمل ذلك … هذا ما لا تفهمه المرأة، لأن كل طفل يخرج من بطنها هو لها، دون حاجة إلى أن تفرز أو تميز بين دم ودم! ولهذا قلَّ أن تدرك معنى القداسة لذلك الرباط … لا قداسة عندها لشيء إذا اصطدم بغريزتها، أو وقف في طريق شهوتها» (ص٤٠٥).

يدافع الحكيم بهذا الحماس عن قداسة علاقة الدم بين الأب وابنه، وينسى أن هذا الأب ذاته كثيرًا ما يهرب من ابنه ويتنكَّر له، لأنه أنجبه من خادمة فقيرة، أو جارية ليس لها حقوق المرأة الحرة، أو مومس، أو عشيقة ليس لها حقوق الزوجية.

وإذا كان هذا الرباط مقدسًا، كما يقول الحكيم، فلماذا تنتشر في بلادنا، وفي العالم أجمع، ظاهرة الأطفال غير الشرعيين؟ إن مأساة الأطفال غير الشرعيين تكمن في الآباء يهربون، ولا يعترفون بشرعية أطفالهم الذين أنجبوهم من صلبهم ومن دمهم.

أين إذن قداسة علاقات الدم بين الأب والابن؟!

وهذا يكشف عن ازدواجية القيم الأخلاقية، وتناقضها، إذ إنها لا تنبع من الأخلاق الإنسانية الحقيقية، ولكن من نظام طبقي أبوي، يسيطر فيه الرجل على المرأة، وينسب فيه الطفل للأب دون الأم، وحسب شروط معينة، ويُسيطر فيه من يملك المال على من لا يملك المال.

ويظهر التناقض والازدواجية في نظرته إلى الجنس والحب، وإلى الرجل والمرأة، بحيث يظل الرجل طاهرًا مهما طغت عليه الشهوة الجنسية، وتظل المرأة مدنسة. ويقول: «الحق أنه في تلك الليلة كان قد شعر نحوها بعاطفة جديدة، عاطفة لا علاقة لها بحبه الأول الرفيع، فهي عاطفة أخرى بعيدة عن كل جو نقي، في إمكانها أن توجد مع وجود الاحتقار، هي نوع من أزهار الحب التي تنبت في المستنقعات، لكن … كيف حدث ذلك … ما من ريب في أنها هي … هذا الحب الأخير، هو من صنعها هي ومن غرسها! كما أن الحب الأول كان من صنعه هو وغرسه» (ص٤٠٦).

لا بد أن يخرج الحكيم — كرجل — بريئًا تمامًا من ذلك الإثم، وحواء هي الآثمة! ويقول الحكيم: «ها هو ذا رجل الفكر قد أخفق، كما أخفق رجل الدين. كلاهما قد أحسن الظن بطبيعة المرأة أكثر مما ينبغي، ونسج حولها أضغاث أحلام» (ص٤١٠).

قال الحكيم هذا الكلام عن نفسه لأنه عجز عن أن «يبث في المرأة النور الداخلي الروحي فتنسى شهوتها وجمالها الجسمي … وما أقصر حياة الجسد إلى حياة الروح!» (ص٤١١).

وينسى الحكيم أنه ظل طَوال الكتاب يتغزل في جمال المرأة الجسدي ويتهمها بالقبح، إذا أهملت لحظة هذا الجسد، بل يكيل عليها اللعنات ويتهمها بالكذب إذا أرادت أن تهتم بالعقل أو الروح، أو ذلك النور الداخلي الذي أصبح يتغزل فيه الآن.

بل إن الحكيم سرعان ما ينسى أيضًا ذلك النور الداخلي الروحي بمجرد أن يموت الزوج، فإذا به يشتهي الزوجة، قبل أن تغادر مقبرة زوجها.

ويقول: «لاحت له فكرة اشتهاء المرأة قبل أن يغادر المقبرة، بعد أن أصبحت مطلقة بغير زوج» (٤١١).

لم يعد يملكها رجل آخر فأعطى نفسه حق اشتهائها.

وأنهى الحكيم القصة بأن جعل هذه المرأة تختفي من حياته، أو هو الذي هرب منها، ثم عرف بعد ذلك أنها «تزوجت شخصية معروفة بالتفاهة وقلة الذكاء، فأدرك أنها قد ظفرت أخيرًا بالزوج المثالي للمرأة العصرية» (ص٤١٥).

وفي آخر قصة بالكتاب، وعنوانها «كن عدوًّا للمرأة»، يقول الحكيم: «المرأة مخلوق تافه … ليست جديرة بك أيها الفنان الخلاق … صُنعت من ضلع تافه من أضلاع آدم، وخرجت من الجنة، وأخرجته بسبب تافه» (ص٤٣٠).

وهنا يكشف عن أنه كان أسيرًا وسجينًا لتلك الأسطورة الدينية التي جاءت في التوراة والإنجيل، وأنه لم يكن خلَّاقًا لفكرة جديدة كما تصور.

ثم ينهي الحكيم كتابه بفكرة قديمة أيضًا سيطرت عليه، وهي فكرة أن الفن وليد الحرمان في الحياة، أي إنه يفصل بين الفن والحياة، ويفصل بين الجسم والعقل، ويقول: «الفنان لا بد أن يعيش في الحرمان الدائم، لأنه غير الآدميين … إن وراء العبقرية والخلق يخلع عن الفنان بعض خصائص الآدميين» (ص٤٣٢).

هوامش

(١) توفيق الحكيم، «راهب بين النساء»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٧٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤