العبرة

حدثنا عيسى بن هشام، قال: رأيت في المنام كأني في صحراء «الإمام» أمشي بين القبور والرِّجام،١ في ليلة زهراءَ قمراء يستر بياضُها نجومَ الخضراء،٢ فيكاد في سنا نورها ينظم الدرَّ ثاقبُه ويرقب الذرّ راقبُه، وكنت أحدّث نفسي بين تلك القبور، وفوق هاتيك الصخور، بغرور الإنسان وكبره، وشموخه بمجده وفخره، وإغراقه في دعواه، وإسرافه في هواه، واستعظامه لنفسه، ونسيانه لرَمسِه، فقد شمخ المغرور بأنفِه حتى رام أن يثقب به الفلك، استكبارًا لما جمع واستعلاءً بما ملك، فأرغمه الموت فسدّ بذلك الأنف شقًّا في لحده، بعد أن وارى تحت صفائحه صحائف عزه ومجده،٣ وما زلت أسير وأتفكر، وأجُول وأتدبر، حتى تذكرتُ في خُطاي فوق رمال الصحراء، قول الشاعر الحكيم أبي العلاء:
خفّف الوطءَ ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيحٌ بنا وإن قدُم العهـ
ـد هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعتَ في الهواء رويدًا
لا اختيالًا على رُفات العباد
فقرعت سن الندم، وخففتُ وطء القدم، وإن في دهماء أولئك الأموات، وغُمار تلك الرمم والرفات، لمبَاسم طالما حوَّل العاشق قبلته لقُبلتها، وباع عذوبة الكوثر بعذوبتها، قد امتزجت بغبار الغبراء، واختلطت ثناياها بالحصى والحصباء.٤
وتذكرتُ أن تلك الخدود التي كان يغار منها الورد فيبكي بدموع الندى، ويشتعل الفؤاد منها بنار الجوَى، ويقف الخال منها موقف الخليل من النيران، أو ابن ماء السماء في شقائق النعمان،٥ ويترقرق فيها ماء الحياء وماء الشباب، قد طوَى الدهرُ حسنها طيّ الكتاب، وصارت بحكم القضاء، أديمًا لوجه الفضاء.
وأن تلك العيون التي صادت بأهدابها الملوكَ الصيد،٦ فكانوا رعاة الأمم رعايا الغيد، وسحرت ببابلَ هاروت وماروت، ووقفت موقف الاستكانة ربَّ الجلال والجَبروت، يلتمس — والتاجُ في يمينه، وعرق الحياء فوق جبينه — من خلال لحظاتها قبولًا، كسائل يمدُّ لالتماس الإحسان كشكولًا، قد أمست ترابًا تحت الرمس،٧ كأن لم تَفْتن بالأمس.
وأنّ ذلك الفاحم الأثيث من الشّعَر،٨ الخاطف ببريقه سواد القلب والبصر، قد حصدته من منابته يد الزمن، فنسج الأجل منه ثوب الكفن.
وأنَّ تلك النهود التي كأنها حِقاق من لجين تزينت بحَب من المرجان،٩ أو كُرات من جليد بَثَقَ فيها زهرٌ من الرمان، قد أصبحت كالمخلَاة على الصدر، تحمل الزاد لدود القبر.
كم صائنٍ عن قُبلة خدَّه
سُلطت الأرض على خدِّه
وحاملٍ ثقل الثرى جيدُهُ
وكان يشكو الضعفَ من عقده

وأن تلك الرفات والعظام، من بقايا الملوك العظام، الذين كانوا يستصغرون الأرض دارًا، ويحاولون عند النجوم جوارًا، وتلك الضلوع التي انحنت على البطش والحلم، والشفاه التي طالما لفظت أمر الحرب والسلم، وتلك الأنامل التي كانت تَبري القلم للكتاب، وتبري بالسيوف الرقاب، وتلك الوجوه والرءوس التي استعبدت الأبدان والنفوس، ووصفت تارة بالبدور وتارة بالشموس، قد تساوى الرئيس فيها بالمرؤوس، فلا تفريق اليوم ولا تمييز، بين الذليل منها والعزيز.

هو الموتُ مُثْرٍ عنده مثل مُقْتِرٍ
وقاصدُ نهج مثل آخر ناكب
ودرعُ الفتى في حكمه درعُ غادة
وأبياتُ كسرى من بيوت العناكب
فرُجِّل في غبراء والخطب فارسٌ١٠
وما زال في الأهلين أشرف راكب
وما النعشُ إلا كالسفينة راميًا
بغَرقاه في بحر الردَى المتراكب
وبينا أنا في هذه المواعظ والعبر، وتلك الخواطر والفكر، أتأمل في عجائب الحدثان، وأعجب من تقلب الأزمان، مستغرقًا في بدائع المقدور، مستهديًا للبحث في أسرار البعث والنشور، إذا برجَّة عنيفة من خلفي، كادت تقضي بحتفي، فالتفتُّ التفاتة الخائف المذعور، فرأيت قبرًا انشق من تلك القبور، وقد خرج منه رجلٌ طويل القامة، عظيم الهامة، عليه بهاءُ المهابة والجلالة، ورُواء الشرف والنبالة،١١ فصُعقت من هول الوَهَل والوجل،١٢ صعقةَ موسى يوم دُك الجبل، ولما أفقتُ من غشيتي، وانتبهت من دهشتي، أخذت أسرع في مشيتي، فسمعته يناديني، وأبصرته يدانيني، فوقفت امتثالًا لأمره، واتقاءً لشره، ثم دار الحديث بيننا وجرَى، على نحو ما تسمع وترى، بالتركية تارة والعربية أخرى:
الدفين : ما اسمك أيها الرجل، وما عملك، وما الذي جاء بك؟

(فقلت في نفسي: حقًّا إن الرجل لقريب العهد بسؤال الملَكَين، فهو يسأل على أسلوبهما، فاللهم أنقذني من الضيق، وأوسع لي في الطريق لأخلُص من مناقشة الحساب، وأكتفي شر هذا العذاب، ثم التفتُّ إليه فأجبته):

عيسى بن هشام : اسمي عيسى بن هشام، وعملي صناعة الأقلام، وجئت هنا لأعتبر بزيارة المقابر، فهي عندي أوعظ من خطب المنابر.
الدفين : وأين دواتك يا معلم عيسى ودفترك؟
عيسى بن هشام : أنا لست من كُتّاب الحساب والديوان، ولكني من كتاب الإنشاء والبيان.
الدفين : لا بأس بك، فاذهب أيها الكاتب المنشئ فاطلب لي ثيابي وليأتوني بفرسي «دَحمان».
عيسى بن هشام : وأين يا سيدي بيتكم فإني لا أعرفه؟
الدفين (مشمئزًّا) : قل لي بالله من أي الأقطار أنت، فإنه يظهر لي أنك لست من أهل مصر؛ إذ ليس في القطر كله من أحد يجهل بيت أحمد باشا المنيكلي ناظر الجهادية المصرية.
عيسى بن هشام : اعلم أيها الباشا أنني رجل من صميم أهل مصر، ولم أجهل بيتك إلا لأن البيوت في مصر أصبحت لا تعرف بأسماء أصحابها، بل بأسماء شوارعها وأزقتها وأرقامها، فإذا تفضلت وأوضحت لي شارع بيتكم وزقاقه ورقمه انطلقتُ إليه وأتيتك بما تطلبه.
الباشا (مغضبًا) : ما أراك أيها الكاتب إلا أن بعقلك دخلًا، فمتى كان للبيوت أرقام تُعرف بها! وهل هي «إفادات أحكام» أو «عساكر نظام»؟ والأولى أن تناولني رداءك أستتر به وتصاحبني حتى أصل إلى بيتي.
قال عيسى بن هشام: فنزلت له عن ردائي١٣ وقد كان المعهود أن سلب المارة لا يكون إلا من قطاع الطريق فإذا هو أيضًا من سكان القبور، ثم ارتداه مستنكفًا مترددًا وهو يقول:
الباشا : للضرورة أحكام، وقد لبسنا أدنى من هذا الرداء في مصاحبتنا لأفندينا المرحوم إبراهيم باشا على طريقة التنكر و«التبديل» في الليالي التي كان يقضيها في البلد؛ ليستطلع بنفسه أحوال الرعية، ولكن كيف العمل وكيف يتسنّى الدخول؟
عيسى بن هشام : ماذا تريد؟
الباشا : أنسيتَ أننا في الثلث الأخير من الليل، وليس من يعرفني بهذا الرداء على أبواب مصر، ولم يكن معي كلمة «سر الليل» فكيف تُفتح لنا الأبواب؟
عيسى بن هشام : كما أنك يا سيدي لم تعرف أرقام البيوت، ولم تسمع بها في حياتك فأنا لا أعرف «سر الليل» ولم أسمع به.
الباشا (مستهزئًا ضاحكًا) : ألم أقل لك: إنك غريب الديار، ألم تعلم أن «سر الليل» كلمة تصدر من القلعة في كل ليلة إلى «الضابطة» وإلى جميع «القره قولات» والأبواب فلا يجيزون لأحد مشيَ الليل إلا إذا كان حافظًا لهذه الكلمة يلقيها في أذُن البواب فيفتح لهُ، وهي تُعطى لمن يطلبها من الحكومة سرًّا لقضاء أشغاله بالليل، وتتغير في كل ليلة، فليلة تكون كلمة «عدس» وليلة تكون «خضار» وليلة تكون «حمام» وليلة تكون «فراخ» وهلم جرًّا.
عيسى بن هشام : يظهر لي من كلامك هذا أنك لست أنت من أبناء مصر؛ فما علمنا أن هذه الألفاظ تطلق فيها على غير الأطعمة، ولم نسمع أنها تدل على الإجازة للناس بالسير في ليلهم، على أن الفجر قد دنا، ولم يبق بنا من حاجة لهذه الكلمات ولا لغيرها.
الباشا : الأمر في ذلك موكول إليك.

قال عيسى بن هشام: فسرنا في طريقنا وأخذ الباشا يزيدني تعريفًا بنفسه، ويقص عليَّ من أنباء الحروب وأخبار الوقائع التي شاهدها بعينه وسمعها بأذنه، ويذكر لي ما شاء من مآثر «محمد علي» وشجاعة «إبراهيم».

وما زلنا على تلك الحال حتى وصلنا في ضوء النهار إلى ساحة القلعة، فوقف وقفة المستكن الخاشع يقرأ سورة الفاتحة لضريح محمد علي، ويخاطب القلعة بقوله في بلاغة تركيته:

إيه لكِ يا مصدرَ النِّعم ومصرع الجبابرة من عُتاة المماليك، ويا بيت المُلك وحصن المملكة ومنبع العز ومهبط القوة ومُرتفع المجد وموئل المستغيث وحمَى المحتمي وكنز الرغائب ومنتهى المطالب ومثوى البطل الشهم ومَقبر الملك الهمام، أيها الحصن كم فككت بالكرم عانيًا. وقيدت بالإحسان عافيًا، وكم أرغمتَ أنوفًا، وسللت سيوفًا، وجمعت بين البأس والندى، وداورت بين الحياة والردى.

قال عيسى بن هشام: ثم التفت الباشا إليَّ وقال: أسرع بنا نحو البيت لألبس ثيابي وأتقلد حسامي وأركب جوادي، ثم أعود إلى القلعة فألثم أذيال وليّ النعم الداوري الأعظم.

١  الرجام، جمع رجم وهو القبر.
٢  الخضراء: السماء.
٣  الصفائح: حجارة القبور.
٤  الحصباء: صغار الحجارة واحدتها حصبة.
٥  ابن ماء السماء: هو ابن المنذر وكان أسود، وشقائق النعمان: زهر أحمر.
٦  الصيد: جمع أصيد، وهو الملك المتكبر الزاهي.
٧  الرمس: القبر.
٨  شعر أثيث: كثير عظيم.
٩  اللجين: الفضة.
١٠  فارس: بمعنى مفترس.
١١  الرواء: حسن المنظر.
١٢  الوهل: الفزع.
١٣  الرداء، ما يلبس فوق الثياب كالعباءة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤