المرائي والمشاهد

قال عيسى بن هشام: وسرنا في قسم المرائي والمشَاهد، ندخل واحدًا منها في إثر واحد، فلا نجد فيه، عندما نوافيه، مصداق ما سمعنا من وصف واصفيه، بل ربما وجدنا ما يخالفه وينافيه، إلى أن وصلنا إلى قصر مشرف منيف، يزهو على القصور بحسن الترصيص والتصنيف، أعدوه هناك لأنواع الرقص والعزف، وفنون القفز والقصف، منذ عهد البداوة الغابرة، إلى عهد الحضارة الحاضرة، ومن عيش الخشونة والشظف إلى عصر النعومة والترف، فما شئت من رقص الحماسة والشجاعة إلى رقص الخلابة والخلاعة، فترى رجال البداوة يرقصون بالسيوف في مواقف الحتوف، وترى العذارى من ورائهم يَضْربنَ بالدفوف ويصفِّقن بالكفوف، تحريضًا لهم على الحرب وإلهابًا، وإثارة لهم على العدو وإغضابًا، فتحلو لهم مضاضة الإقدام كما تحلو لشاربها غضاضة المدام، ويرتشفون كئوس المنايا، كما يرتشف سواهم رُضاب الثنايا.

ثم ترى رقص الآيبين من السفر، والقافلين بالنصر والظفر، بين عذارى الحي وجواريه، وسبايا العدو ومأسوريه، بإشارات تُبين أيما بيان، عن مكنون الهوى والأشجان، في صدور ملؤها الغيرة والشمم، وقلوب حشوها الشهامة والكرم، ونفوس تفزع لصولتها الوحوش الكواسر، وتفرق من هيبتها الأسود الكواشر، لكنها تخضع لربات القدود والنهود، خضوع العابد للمعبود، فتتفرق لديها أوزاعًا، وتطير أمامها شعاعًا،١ إن خشيت منها بادرة صدٍّ وجفاء، أو حركة نفور وإباء، وهن يقابلن حركات التذلل والتزلف بحركات التدلل والتعفف، ويجزين على التولع بالترفع والتمنع، ويبدين لطيف التجني ببديع التثنِّي، ويغضضن من أبصارهنَّ في جلائهن وإسفارهن، ثم يسرعن إلى الالتفاف، ويسترن ما انحسر من الأطراف؛ فيرتدُّ طرف الواله حسيرًا، وقلب الهائم كسيرًا، وما أبدع الحياء في الوجه الجميل، كماء الفرند في السيف الصقيل، إذا عارض حياء الشجاعة في الفارس المغوار، فل غربه عن ربة الحجل والسِّوار، وكأنما الشجاع منهم في يد الغادة لا يفتأ ينشد قول أبي عبادة:
نحن قومٌ تُذيبنا الأعين النُّجـ
ـلُ على أننا نُذيب الحديدا
طوعُ أيدي الغرام تقتادُنَا البيـ
ـضُ ونقتاد بالطعان الأسودا

ثم رأينا أشكالًا متفرعة من الرقص والحَجَلان، وأنواعًا متعددة من الدَّوران والخطران، مما هو شائع عند عبدة الأوثان، وسائغٌ مباح في بعض الأديان، حتى يجد المشاهد لحركة تلك الأبدان، ما يجده راكب السفينة من الهيضة والغَثَيان، وكأن الأصل في ذلك إنهاك القوى الجسمانية لإضعاف الجواذب الشهوانية.

ثم شاهدنا بعد ذلك ما في رقص المدنية والحضارة، من الفضاحة والدعارة فترى أفواج النساء، كأسراب الظباء، لا يستر أجسامهن إلا غلالة كالقشرة، في لون البشرة، تنطبق على أعضائهن انطباق الغِرْقِئ على ترائك الرئال،٢ وتلتصق التصاق القميص بأجساد الصِّلال،٣ فهن عاريات للناظر، كاسيات في الخاطر، فيأتين في رقصهن أشكالًا تشرح في ساطع الضياء مذاهبَ الأعصاب ومفاصل الأعضاء؛ فتارة يَنْثَنين، وطورًا ينحنين، وآونةً يدُرن على أطراف أصابعهن، غير متنقلات من مواضعهن، وفيهن من ترفع ساقها حتى تلطم في الخد سواد الخال بذهب الخلخال، وتلمس الجبين الوضَّاء بطرف الحذاء، والنظَّارة من أنحاء المكان يستعذبون ويستجيدون، ويصفقون ويستعيدون، ثم ما لبثن أن عُدن بنوع آخر من أحدث الأنواع في ضروب التفنن والإبداع، فتوشحت كل واحدة منهن بمُلاءة بيضاء، متسعة الأطراف والأنحاء، إذا استدارت فيها خلتها قطعة غمام أطل منها بدر التمام، أو زفة حمائم بيضاء٤ ترفرف ظمأ حول الماء، وفي قُبالتهن مصباح الكهرباء يرسل أشعته من أعلى المكان بمختلف الأضواء والألوان، فتبدو الراقصة بانعكاسها فيها كأنها طاقة أزاهر، أو قلائد جواهر، وكأنها في سرعة تلوُّنها واهتزازها زَبَد اللُّج هاجتْه السفينة في اجتيازها، فانعكست فيها أشعة الشمس المشرقة، بألوانها السبعة المتفرقة، وفي يد كل راقصة منهن عصا جرداء؛ إذا هزَّتها في الهواء، وقابلت بها شعاع الكهرباء، أزهرت بأزهار من نور، وأينعت بأثمار من البلُّور، يخالها كلُّ من يرى «كعنقود مُلَّاحيَّةٍ حين نوّرا»٥ لو رآها سحرة فرعون وهامان لأقروا بفضل العصا في كل زمان ومكان.

ولما توارت عن أعيننا هذه الأدوار، وانسدل عليها الستار، خرجنا ونحن في دهش وذهول، والتفت الباشا إلى «الحكيم» يخاطبه ويقول:

الباشا : أرى أن للرقص عندكم معشر الغربيين شأنًا فخمًا كأنه من نفائس الفنون وطرائف الآداب، وأنه لا بأس لديكم بهذه المناظر والأشكال التي يأبى الأدب انتشارها، واشتهارها على أعين الناس بهذه الكيفية الفاضحة.
الحكيم : إن شأنه عندكم أعظم وشكله فيكم أفضح، ولا يزال كتابنا وأهل النقد منا يعيرونكم به، ويستفظعون ذلك الشكل الذي يسمونه «رقص البطن»، وهذا المعرض المصري هنا كل من دخل فيه وشاهد النساء المصريات حاسرات النهود عاريات البطون يحركن طياتها خرج يقطر وجهه خجلًا، وتكاد تجيش نفسه غثيانًا من شناعة هذا المنظر في عينه، فيحكم عليكم بخسة الآداب وقلة الاحتشام، ومن شاهد مواضع اللهو في بلادكم لم يجدها حافلة بسواه، فإذا عرضتم علينا آثاركم في ديارنا كانت هذه الراقصات في أوائل ما تعرضونه، لنفاسة قدرها بينكم وجمال موضعها فيكم.
الصديق : إن الأمر على غير ما تتوهمه أيها الحكيم، فإن هذا الرقص ليس بمنتشر في عاداتنا ولا معروف في بيوتنا، وإنما هو من عمل المواخير وبيوت الفاحشة يباشره العواهر فيما يباشرنه من أبواب الإثم والفجور في بيوتهن، ولم يظهرن به على الملأ في الملاهي العامة إلا بفضل أصحاب الحانات من الأجانب الذين يرون وجوه الربح متساوية لا حطة فيها ولا نقيصة، والجمهور عندنا على استقباحه والنفور منه كما تنفرون، ولا يشهده عندنا سوى أهل البطالة والخلاعة، ولا يأتيه من النساء إلا الفواجر العواهر، وكلما حاولت الحكومة، في محافظتها على الآداب، حظْره ومنعه اعترضتها امتيازات الأجانب وحريتهم الطلقة فيما يأتون ويذَرُون، أما الرقص عندكم فهو متأصل في عاداتكم وسنة متبعة بينكم لا يقتصر على الملاهي والأماكن العامة، ولا ينفرد به النساء دون الرجال، ولا يخلو منه بيت من بيوت السُّوقة ولا قصر من قصور الملوك، ولا تقام عندكم وليمة من الولائم ولا يتم لكم احتفال في المواسم إلا والرقص ركن من أكبر أركانه ومظهر من أفخر مظاهره، والرقص عندكم من الفنون النفيسة يدرسه الرجال كما يدرسون العلوم، ويتعلمه النساء كما يتعلمن الغزل والتطريز.
الحكيم : ليس الرقص في أصله من المنكرات ولا مما يعاب شأنه كما تذهب إليه، وهو حركة طبيعية في الإنسان يقتضيها تركيب الجسد لرد الأعصاب إلى ميزانها ونظامها عندما تلحقها خفة الطرب وهزة التأثر، وهو قديم في الفطرة، وربما تجاوز نوع الإنسان إلى بعض الحيوانات والطيور، وقلما خلت أمة من أنواعه منذ البداوة إلى اليوم، وهو ينقسم إلى أربعة أنواع: نوع يستعمل في الحرب، ونوع يستعمل في الصيد، ونوع يستعمل في حكاية الهوى من طريق الإشارة والإيماء، والنوع الرابع في الشعائر الدينية، وقد اعتنى بأمره كثير من أمم الحضارة الغابرة، وبلغ عند قدماء اليونانيين مرتبة عالية، وكان كبراؤهم وأمراؤهم يمتازون بإتقانه ويتباهون بالتبريز فيه، وفيهم من انقطع له واشتهر به، ولقد كان السفير بين أهل «أثينا» وبين الملك «فيلبس» والد الإسكندر المكدوني رجلًا اسمه «تُوستِديموس» من أكبر الأساتذة في هذا الفن، ثم إن هذا الملك نفسه تزوج براقصة معروفة اسمها «لاريسَا» وكان سقراط أبو الحكماء يهوى الرقص ولا يستنكره، وكان «إيبَامينُونداس» وهو أشهر الفلاسفة راقصًا مبرّزًا في الفن، والأمر على ذلك أيضًا من جهة الرقص الديني في الدولة الرومانية عند نشأتها، ثم انتشرت فيها أنواعه انتشارًا عامًّا، إلى أن دخل الدين المسيحي على الوثنية الرومانية، فلم يستنكره في بادئ الأمر بأشكاله التي تفنن فيها الرومانيون على ما هو معهود فيهم من التناهي في الملاذ الفاضحة في أواخر دولتهم، ثم دخل في عادات الأمم الغربية فتمسكت به ولم يصدها عنه بعد ذلك استنكار الرؤساء الدينيين له تارة بعد أخرى؛ إذ كانت النفوس ألفتْهُ واعتادت أن لا ترى فيه عيبًا أو شينًا، وإنما الذي شانه في نظركم اجتماع الرجال والنساء عليه في حفلاتهم، وذلك ناشئ عن ارتفاع الحجاب عندنا ووجوده فيكم.

قال عيسى بن هشام: وقطع الحديث بيننا أن رأينا في طريقنا مكانًا يتزاحم عليه الناس، وعلمنا أنه أحد المرائي الشهيرة الذي قرأنا عنه فصولًا متعددة في الجرائد العالية مثل «الديبا» و«الفيجارو»، ووصفته بأن الداخل يركب فيه سفينة عظيمة تسير به في مياه البحر المتوسط، فتمر به على الثغور فيرى ما فيها من البنيان ويشاهد حركة السكان، فدخلناه بعد أن دفعنا الأجرة وصعدنا السُّلَّم حيث انتهينا إلى هيئة سفينة كبيرة فركبناها، فإذا هي تميل بجانبيها كما تميل كفة الميزان بالصعود والهبوط في حركة مثل حركة السفينة عند اضطراب الأمواج، ويحف بها من الجانبين حائط من قماش نُقشت فيه أمواج البحر وأشكال الثغور الكبيرة مثل «نابولي» و«فينسيا» وغيرهما، فتخيل للراكب عند ذلك أن السفينة تسير به في عرض الأمواج المرسومة والرسم متصل بآلة السفينة تديره بسرعة كبيرة، والسفينة في تمايلها كالأرجوحة لا تتحول عن مكانها، فلم نر في الأمر ما يُستغرب له.

ثم زرنا بعد ذلك العدد الكثير من قسم المرائي، فرأيناها كلها على هذا النسق من التمويه، وما برح «الصديق» يظهر التذمر لشدة الفرق بين ما رآه من هذه المناظر التافهة وبين ما انتشر عنها في أنحاء العالم من المبالغة في الوصف والغلو في البيان، ولم يخالفه «الحكيم» في ذلك، وإنما أشار علينا بأن نزور المنظر الوحيد الذي أعجبه حسنه من قسم المرائي كله، وهو منظر القرية التي أقامها أهل سويسرا في المعرض يمثلون بها جبالهم وأنهارهم ومعيشة الأهالي فيها على حالة الفطرة، ولما دخلناها تملَّكنا الطرب وتولانا الابتهاج من جلاء المنظر وبهاء الهيئة، وشاهدنا الجبال شامخة تسيل من قممها السيول إلى قرار الوادي، فتتشعب منها الجداول والأنهار وتتخلل البيوت والجدران، وشاهدنا هناك الأبقار المشهورة في تلك البلاد واقفة على مذاودها ومن حولها الولائد والجواري تتألق فيهن نضرة الشباب، وتبرق أسرتهن سن البداوة.

حُسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب

وهن يحتلبن ألبانها في قُعُوب من البلور، ويقدمنها برغوتها لمن يرغب في استقائها من الزائرين، ورأينا الرجال في حوانيتهم يملئون العين حسنًا وبهاءً واقفين وقفة التأدب يعرضون ما طاب وحلا من أثمار بلادهم وأزهار جبالهم، ولقد علمنا أنهم أقاموا في تشييدها ثلاث سنوات، وأنفقوا عليها ثلاثين مليونًا من الفرنكات، فأعجبنا المقام وقضينا هناك زمنًا نتناقل ونتفاكه، ونتذاكر في حديثنا فضل المعيشة الطبيعية في سذاجتها، على المعيشة المدنية في تصنعها وكلفتها.

١  طار قلبه شعاعًا: تفرق من الخوف.
٢  الغرقيء: القشرة الملتزقة ببياض البيض. والتريكة: بيضة النعامة. والرئال: النعامة.
٣  الصل: الحية.
٤  زفة: جماعة الحمام.
٥  الملاحية: شجرة العنب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤