لقطة مقربة: طريق التنين

شكل ١-٢٨: فيلم «طريق التنين» (بروس لي، ١٩٧٢).
  • إخراج: بروس لي.
  • كتابة: بروس لي.
  • تصوير: تاداشي نيشيموتو.
  • مونتاج: ياو تشونج تشانج.
  • موسيقى تصويرية: جوزيف كو.
  • إخراج فني: هسين تشيان.
  • إنتاج: رايموند تشو وبروس لي.
  • توزيع: أستديو جولدن هارفست وآشيا ميديا في عام ١٩٧٢.
  • اللغة: الماندارين بدبلجة بالإنجليزية.
  • زمن الفيلم: ٩٩ دقيقة (هونج كونج)، ٨٨ دقيقة (الولايات المتحدة).
الأبطال:
  • بروس لي بدور تانج لونج (أو التنين).

  • نورا مياو بدور تشين تشنج هيوا.

  • تشاك نوريس بدور كولت.

  • بينج أو وي بدور هو.

  • تشونج هسين هوانج بدور «العم» وانج.

  • روبرت وول بدور فريد.

  • إنج سيك وانج بدور المقاتل الياباني.

  • دي تشين بدور أه كوين.

  • توني ليو بدور توني.

  • يونيكوم تشان بدور جيمي.

  • فو تشينج تشين بدور تومي.

  • جون تي بين بدور الزعيم.

بكل المقاييس، بروس لي هو النجم الأوحد بلا جدال لأفلام الكونغ فو التي صُنِعت في هونج كونج؛ فعلى مدار حياة بروس لي القصيرة (١٩٤٠–١٩٧٣) وظهور حفنة فقط من الأفلام الكبرى، قد دفع أفلام الكونغ فو لتحتل مكانةً عالمية، وصنع أسلوبه الخاص في فنون القتال، وترك إرثًا خالدًا. أوحت شخصيته على الشاشة بصنع عدد لا حصر له من الأجزاء المكمِّلة لأفلامه، والأفلام التي تعيد صنع أفلامه والأفلام التي تُقلِّدها تمامًا، وما زالت تخرج للنور كتبٌ عن حياته وفلسفته وأفلامه وطرقه في القتال. كان بروس لي قدوة لأجيال من المعجبين المخلصين له. لكن أثر بروس لي كان أكبر من مجرد أثر شخصي؛ فكما يقول المؤرخ السينمائي ستيفن تيو: «لم يقم أي رمز من رموز السينما في هونج كونج بمجهود للجمع بين الشرق والغرب معًا بثقافة مشتركة مثل المجهود الذي قام به بروس لي.»1

وُلد بروس لي في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية للي هوي تشون وزوجته الأوراسية جريس، وسُمي اسمًا كانتونيًّا وهو جون فان (ويعني «يعود مرة أخرى») بسبب أن والديه، اللذين صحباه معهما إلى موطنهما هونج كونج بعد مولده بفترةٍ قصيرة، كانا يؤمنان بأنه سيعود إلى الولايات المتحدة كشابٍّ ناضج. حصل لاحقًا لي على اسمٍ فنيٍّ صيني هو لي شياولونج (ويعني «التنين الصغير») واسم إنجليزي هو بروس لي.

ورغم أن جريس كانت من عائلةٍ غنية، وهوي تشيون كان ممثلا ناجحًا في السينما والأوبرا الكانتونية، كانت الحياة صعبة في هونج كونج. غزت اليابان المدينة عام ١٩٤١ واحتلتها حتى عام ١٩٤٥؛ مما أدى إلى إغلاق المدارس وترشيد الطعام وترحيل العائلات العاطلة عن العمل إلى بر الصين الرئيسي. وبعد الحرب، امتلأ الحي الذي يعيش فيه لي حتى الاختناق بجموع الصينيين الفارِّين إلى الاتجاه الآخر، الهاربين من الصين الشيوعية إلى هونج كونج. امتلأت شوارع المدينة بعصابات الشوارع المتناحرة، وكان في أغلب الأحوال يضطر إلى الدفاع عن نفسه. واجه لي التحدي بحماس وانخرط في شجاراتٍ كثيرة، لدرجة أن والده، الذي كان يمارس الملاكمة الصينية (التاي تشي تشوان) علَّمه ما كان يعرفه عن الفنون القتالية. حاول هوي تشون كذلك تحويل انتباه ابنه نحو مُتنفَّس أكثر إنتاجية وهو التمثيل؛ فمنذ السادسة وحتى الثامنة عشرة من عمره، ظهر في نحو عشرين فيلمًا في هونج كونج، لكنه ظل يتورط في المشاجرات. وبعد إحدى المشاجرات الكبيرة، تعرَّف على الأستاذ ييب مان وهو أستاذ في أسلوب وينج تشون القتالي في الكونغ فو. كان هذا الأسلوب عبارة عن منهج انسيابي في فن الدفاع عن النفس وهو أكثر عمليةً من الحركات الجمالية للتاي تشي. تشرَّب بروس لي هذا الأسلوب بطاقة ومهارة مدهشتين وكرَّس عامًا للتدريب القاسي، لكن قتاله في الشوارع استمر. وعندما علم والده من الشرطة أن أحد خصوم ابنه كان ابنًا لأحد أعضاء عصابة الثالوث الصيني، كان الوقت قد حان لإبعاد لي عن هونج كونج.

في عام ١٩٥٩، عاد الشاب بروس لي إلى سان فرانسيسكو ثم انتقل إلى مدينة سياتل؛ حيث أنهى المرحلة الثانوية. والتحق بجامعة واشنطن حيث درس الفلسفة، وأعطى دروسًا في فنون القتال ليدفع تكاليف الجامعة. تعلَّم الجمع بين هذين الاهتمامين، دراسة الفلسفة والتدريب على القتال، بتطوير نسخته الخاصة المهجَّنة من فنون القتال والتي سماها «جيت كون دو» وتعني «طريقة القبضة الاعتراضية». أكد هذا المنهج الشخصي على القوة والمرونة والعفوية والعملية. صُمِّم هذا الأسلوب ليلائم ظروف قتال الشوارع الحقيقي.

في عام ١٩٦٤، وبعد بناء سمعة لنفسه في مسابقات القتال، انتقل إلى لوس أنجلوس برفقة زوجته الجديدة ليندا. لم تكن أولى محاولاته لدخول هوليوود ناجحة تمامًا؛ ففي عام ١٩٦٦، استعانت به شبكة إيه بي سي للظهور في مسلسل «الدبور الأخضر» («ذا جرين هورنيت»)، لكن أُسنِد إليه دور كاتو، خادم البطل الخصوصي، بينما قام بالشخصية الرئيسية فان ويليامز. وفي عام ١٩٧١، وبعد الظهور في عدد من الأدوار الثانوية، حاول إثارة اهتمام وارنر براذرز لإنتاج مسلسل تلفزيوني عن فنون القتال. لكن الدور الذي كان يريد القيام به أُسنِد إلى ديفيد كارادين الذي كان يعرف القليل عن الكونغ فو، لكنه كان يتحدث الإنجليزية جيدًا وكان أبيض البشرة. لم يبدُ أن هناك مستقبلًا كبيرًا في ذلك الوقت لأبطال الحركة غير البيض على الشاشات الأمريكية. لكن في هونج كونج، والتي كان مسلسل إيه بي سي مشهورًا فيها باسم «مسلسل كاتو»، كان بروس لي شهيرًا بنحوٍ كبير. وبسبب إحباط لي الشديد من معاملة صناعة الترفيه الأمريكية له وتطلُّعه للحصول على أدوار أفضل في السينما، لجأ إلى المدينة التي نشأ فيها.

في ذلك الوقت، كان أستديو شو يسيطر على صناعة السينما في هونج كونج، لكنهم اعتبروا طلبات بروس لي المتعلقة بالراتب وحرية الإبداع مبالغًا فيها جدًّا. عوضًا عن ذلك، ذهب لي إلى رايموند تشو من الأستديو المنافس، جولدن هارفست، كان أول أفلامه من إنتاج تشو هو «الزعيم» (ذا بيج بوس، ١٩٧١) (والذي صدر في الولايات المتحدة تحت عنوان «قبضات الغضب» (فيستس أوف فيوري)). صُوِّر الفيلم ودارت أحداثه في تايلاند، ويحمل طابع حياة ورؤية بروس لي الشخصية؛ إذ يصل بطل الفيلم، تشينج تشاو أون، وهو شاب ريفي من جنوب الصين، إلى بانكوك للعمل مع أولاد عمومته في مصنع للثلج، وعندما يكتشف أقارب تشينج أن المصنع واجهة لتهريب المخدرات، يبدءون في الاختفاء على نحو غامض، يمتلئ تشينج بالشك ويكره الطريقة التي تُعامَل بها عائلته، لكنه وعد والدته ألَّا يتورط في أي مشكلات، وهو وعد يتجسَّد في تميمة يرتديها أعطتها له. في أول نصف ساعة من الفيلم، يظل تشينج على الحياد يتلهَّف إلى مواجهة القساة والمتنمِّرين المأجورين الذين يسيئون معاملة أقاربه، لكن عندما تُنزَع التميمة من رقبته خلال أحد الشجارات، ينضم تشينج للقتال، ويتخلَّص من أفراد عصابة الزعيم بمهارةٍ مدهشة وسرورٍ ظاهر. لم يكن هذا يمثل طقوس القتال المعروفة لدى أستديو شو؛ فلم يكن تشينج مقاتلًا نبيلًا بالسيف يتصرَّف طبقًا لقواعد موقرة ومبجَّلة، بل كان رجلًا من عامة الناس ذا قلبٍ طيب ولدَيه ولاء لعائلته، يواجه العنف والجريمة والفساد الذي يواجهه عامة الناس كل يوم. ومثل عامة الناس، يمكن أن يشتهي النساء والخمر بشكلٍ مؤقَّت، لكن عندما يتركَّز انتباهه، يمكنه مواجهة كل قاطع طريق ورئيس عصابة حقير الشأن في طريقه نحو الزعيم الكبير.

صدر فيلم لي الثاني لأستديو جولدن هارفست «قبضة الغضب» («فيست أوف فيوري»، ١٩٧٢، الذي صدر في الولايات المتحدة تحت اسم «الاتصال الصيني» («ذا تشاينيز كونيكشن»)). تدور أحداث الفيلم في أوائل القرن العشرين في شنغهاي عندما احتلَّت اليابان جزءًا كبيرًا من المدينة، ويضرب على وترٍ وطنيٍّ قويٍّ جدًّا. يقوم لي بدور تشين جين وهو طالب يدرس الجينج وو (وهو أسلوب كانتوني في الكونغ فو) ويُجَنُّ جنونه عندما يكتشف موت معلمه. يشك تشين في وقوع جريمة، لكنه يحاول الحدَّ من غضبه المحتدِم بعد تحذير خطيبته وزملائه الطلبة له. ولسكب المزيد من الزيت على النار، يصل وفد من خبراء الكاراتيه اليابانيين المحنَّكين من مدرسةٍ منافسة وقد أخذوا يهزءون من تشين وزملائه بشكلٍ مُخزٍ. يقدِّم اليابانيون فصل تشين بلافتة تقول «رجال شرق آسيا المرضى» في إشارة إلى أن الصينيين ضعفاء. لاحقًا، وفي حديقةٍ عامة، يمنعه حارس هندي من الدخول مشيرًا إلى لافتة تقول «ممنوع دخول الكلاب أو الصينيين». لم يكن تشين ممن يدَعون مثل هذا الازدراء يمرُّ مرور الكرام، بل يتحدى الأجانب الذين لا يحتمل وجودهم، مجبرًا إياهم على إعلان الندم والاعتذار، رغم أنه من الواضح أنهم يمتلكون الكلمة النهائية.

حقق «قبضة الغضب» نجاحًا كبيرًا؛ فقد راقت فكرة الفخر العرقي الجمهور المحلي الذي كان الكثير من أفراده يشاركون لي بُغضه للاحتلال الأجنبي، وتوحدوا مع روحه المتمرِّدة. تحوَّل جسد لي المرن وأسلوبه الشرس في القتال إلى أيقونتين، في نفس الوقت، كانت صناعة السينما في هونج كونج تنتقل من السيوف إلى القبضات، كان بروس لي في أفضل حالاته، وكان مستعدًّا لكتابة وإخراج والمشاركة في إنتاج وبطولة فيلم كونغ فو خاصٍّ به.

كان ذلك الفيلم هو «طريق التنين» (١٩٧٢، أعيدت تسميته إلى «عودة التنين» في الولايات المتحدة). كان إنتاج الفيلم مشتركًا بين أستديو جولدن هارفست وشركة بروس لي، كونكورد برودكشن، وصُوِّر في إيطاليا. يعرض الفيلم قصةً معتادة؛ يصل تانج لونج، صبيٌّ قروي من ريف هونج كونج، إلى روما للمساعدة في إدارة مطعم العائلة الذي يديره العم وانج. يُستقبَل تانج لونج (الذي يعني اسمُه التنين الشرس) ببرود بواسطة ابنة عمه الجميلة تشين التي تحتقر عاداته البسيطة، كما يعامله النُّدُل الآخرون بتشكُّك حيث يعتبرونه شخصًا ضعيفًا عديم الخبرة. لكن عندما تُهدِّد عصابة من الأشرار المطعم، يهرع لونج إلى مواجهتهم، مثبتًا أن ممارسة الملاكمة الصينية ببراعة يمكنها التفوق على كل أنواع فنون القتال أو الأسلحة الأجنبية الأخرى. يرسل رجل العصابات الذي يريد الحصول على المطعم لأغراضه الخاصة الشريرة جماعاتٍ من المجرمين والقتلة المأجورين، لكن تانج يكون على قدر التحدي مع كل هجوم. يعلِّم لونج النُّدُل القتال، ويصبح بطلهم، ويحصد إعجاب وحب تشين. المواجهة الكبرى الحاسمة في الفيلم هي مواجهة فردية ضد بطل أمريكا في الكاراتيه، وهو شخصٌ قويٌّ أشقرُ يسمَّى كولت. يتقاتل لونج وكولت (الذي يقوم بدوره تشاك نوريس) حتى النهاية في مدرَّج الكولوسيوم؛ مما يستدعي للأذهان مواجهات المجالدين في روما القديمة، لكن جمهورهما هذه المرة كان قطةً شريدة.

عندما يدخل بروس لي الكولوسيوم، تعرض الكاميرا وجهة نظره بلقطةٍ بانوراميةٍ أفقيةٍ واسعة لداخل المدرج ثم تنتقل إلى لقطةٍ مقربة بسرعة لتشاك نوريس وهو يقف في واحدة من الفتحات الصخرية. يرتدي نوريس الحزام الأسود والكيمونو الأبيض، بينما يرتدي بروس لي ملابس سوداء بالكامل. تنتقل الكاميرا بين الرجلين حيث يفرد نوريس قبضته اليمنى في تحدٍّ صامت، مشيرًا بإبهامه إلى الأسفل صانعًا علامة الهزيمة كما كان يفعل قدماء الرومان، يقبل لي التحدي بتلويح رشيق من يده اليسرى. في التتابع التالي للقطات، نشاهدهما يستعدان للمعركة على مهل؛ يُفَكُّ الحزام وتُحَلُّ أزرار القميص وتُفرقَع براجم الأصابع وتنثني العضلات حتى يقف الرجلان عاريَي الجذعين. في هذه النقطة، تتنقل الكاميرا بينهما عارضة ضربات ولكمات الإحماء بلقطاتٍ متوسطة قُبالة البناء الأزرق الرمادي، الصوت الوحيد الذي نسمعه يصدر من القطة الصغيرة التي تراقبهما. عندما يقترب الخصمان أحدهما من الآخر تصبح الكاميرا أكثر رشاقة؛ إذ ترتفع إلى أعلى لتعرض لقطة من زاوية عُليا تظهرهما بين عمودَين صخريَّين، وتتحرك معهما أثناء دورانهما بعضهما حول بعض ثم تتوقف فجأة عندما يتَّخذ نوريس أولى خطواته المتردِّدة التي يصحبها قرع الطبول. يمثل مواء القطة الحادُّ شارة بدء هجوم بروس لي الغاضب والشرس كهجوم الحيوان. نرى كلًّا منهما يصيح ويندفع، بينما يتسارع إيقاع الكاميرا بقطعٍ سريع بالتركيز على لي ثم على نوريس ثم على كليهما. يسقط لي أولًا لكنه يقوم ليتلقَّى المزيد من الضربات العقابية: سلسلة من اللكمات موجهة إلى رأسه وصدره تُبرز الموسيقى التصويرية قوة كلٍّ منها. يستمر القتال لستِّ دقائق أخرى تقريبًا قبل أن تنقلب الأمور ويترنَّح نوريس ويسقط أرضًا، ويؤكد الفيلم على صدمته بموسيقى آخذة في الخفوت ولقطة ضبابية للمشهد الذي أمامه. وعندما ينتهي القتال أخيرًا، يغطي لي خصمه بالكيمونو الأبيض والحزام الأسود في تبجيل واعتراف بأنه الخصم الوحيد الذي يحترمه بالفعل.

يقود فيلم «طريق التنين» لي، بطريقةٍ ما، إلى منطقةٍ جديدة، تؤكدها اللقطات التي تشبه صور البطاقات البريدية وتصوِّر كنوز روما المعمارية على مسرح الأحداث الأوروبي للفيلم. كما أن أسلوبه أقل جديَّةً من الفيلمين السابقَين للي. لا يقدر تانج، الذي تقرقر معدته بسبب الجوع، على قراءة قائمة الطعام، ويواجه مشكلة مع الطعام، يظل يسأل عن مكان الحمام. لاحقًا، عندما تخبره تشين بأن يتصرف مع الإيطاليين في الشارع بلطف وود، ينتهي به الحال وقد عاد إلى المنزل بصحبة فتاة ليل. تُعرَض هذه المشاهد من أجل إضحاك الجمهور، لكن عندما يخلع تانج قميصه، تختفي التصرفات الخرقاء ويظهر جسد بروس لي المشدود وشراسته في القتال. ربما يبدو لي عاديًّا وحتى نحيفًا في ملابس الشارع، لكن عندما يخلع ملابسه من أجل القتال يتحوَّل إلى آلة قتال عنيفة. تترقرق عضلاته المرنة وتتمدد مع كل نفس، ويتحرك للأمام والخلف برشاقةٍ مذهلة مسدِّدًا ضرباتٍ تفاجئ عدوه بسرعتها وقوتها غير المتوقعتين. هذا هو المشهد الذي ينتظره معجبوه؛ متعة مشاهدة جسد بروس لي أثناء الحركة؛ إنها اللغة العالمية للبراعة الجسدية التي تتجاوز الحدود الثقافية والأسواق العالمية.

تعرَّض بروس لي للانتقاد والتقدير على حد سواء من النقاد الذين يربطون بين جسده وبين النرجسية والقومية والسياسات العرقية. يقول البعض إن كل هذا الاستعراض الواعي أمام المرايا ليس مجرد زهو وخيلاء فقط، لكنه أيضًا علامة على نفسيةٍ متأخِّرة التطور وشخصية عالقة في مرحلة مبكِّرة من التطور العاطفي. وإذا كان تقدير الذات نوعًا من الدفاع عن الذات، فإن تأكيد لي الذاتي على جسده ربما يبدو كتعويض لإحساس بالتجاهل أو عدم التقدير. لكن هناك جانبًا إيجابيًّا لكل هذا العنف والانغماس في الذات. كان لي يجسد نوعًا جديدًا من الذكورة الصينية، صورة من القوة والحيوية تتحدَّى أفكار الثقافة الغربية عن «الجسد الطريِّ» الآسيوي السلبي. في هونج كونج، أصبح جسد لي القوي يمثل روحًا محدَّدة من الفخر الوطني عاكسًا تنافس المدينة الاقتصادي وثقتها بذاتها الإبداعية. في الدول التي توجد بها جالية صينية، كان جسد لي يُذكِّرهم بصلتهم ﺑ «الثقافة الأم» كما يسيمها ستيفن تيو: وهو لا يقصد هنا القومية القائمة على الوطن كما تمثلها الخرائط السياسية، بل فكرةً ثقافيةً واسعة عن العَظَمة توحدهم كعائلةٍ واحدةٍ ممتدة.2 أما الجاذبية والسحر فقد كانا أوسع نطاقًا؛ فبقتال لي بمفرده أو بجانب إخوته بالقبضات والأقدام العارية أو بعصًا التقطها من الشارع، أصبح البطل الأوحد للمهمَّشين وخاصة بين شباب الأجزاء المزدحمة والفقيرة في المدن الأمريكية، ألهبت مشاهد تمزيقه للافتات العنصرية مثل «ممنوع دخول الكلاب أو الصينيين» و«رجال شرق آسيا المرضى» حماس الجماهير في هونج كونج وسنغافورة ولوس أنجلوس، كما تردَّد صدى مواجهاته وهو أعزل ضد الزعماء الكبار وأذنابهم الأجانب — كخبراء الكاراتيه اليابانيين الذين يحتقرون الملاكمة الصينية، ورجال العصابات الإيطاليين الذين يظنون أن المسدسات تتفوَّق على القبضات، والحراس الشخصيين الروس المخيفين — لدى الشباب في زمانه الذين كانوا يناضلون لمواجهة السلطة. يستمر اعتبار هذه المشاهد دعوات لأن تحظى تلك الفئات بالكرامة والاحترام وأن يكون لها صوت.

بدأ لي العمل على فيلمه الرابع مع جولدن هارفست وهو «لعبة الموت» («جيم أوف ديث»، ١٩٧٢) لكن إنتاج الفيلم توقَّف بسبب عرضٍ أفضل؛ فقد أراد أستديو وارنر براذرز أن يقوم ببطولة فيلم «دخول التنين» (١٩٧٣، والذي صدر كذلك بعنوان «القتلة الثلاثة» («ذا ديدلي ثري»)). كان هذا أول وآخر فيلم يصنعه لي مع أحد كبار الأستديوهات في هوليوود، وكان إنتاجًا مشتركًا أخرجه روبرت كلوس. تدور القصة في جزيرة حيث ينظِّم شخص غامض يُدعى هان دورات ملاكمة. تُجنِّد الاستخبارات البريطانية لي، لاعب فنون قتالية يتبع مذهب الشاولن، للتجسس على هان الذي يُعتقَد أنه يدير شبكة اتجار في المخدرات والبغاء. رفيقا لي في هذه المغامرة أمريكيان: مقامر وناشط، الأول أبيض والثاني أسود وكلاهما هارب من القانون، يخترق ثلاثتهم معقل هان ويحاولون إيقاف أعماله، لكن واحدًا منهم فقط يبقى على قيد الحياة. استقبل النقاد بمختلف أشكالهم الفيلم على أنه تجسيدٌ آخر للنرجسية (العديد من المرايا تعكس جسد لي) أو تمجيد العنف (المزيد من الدم وعدد ضحايا أكبر) أو استعارة وطنية (الجزيرة تمثِّل هونج كونج) بإيحاءات عرقية (مقاتلون بيض وسود وصينيون يحاربون من أجل السيادة والتفوق). تدفَّقت الجماهير جماعات على دور العرض؛ مما جعل الفيلم أحد أكثر الأفلام حصدًا للإيرادات في هونج كونج وخارجها. يُعتبر «دخول التنين» اليوم هو أكثر أعمال لي أهمية، لكنه لم يتمتع بنجاحه؛ ففي الصيف الذي صدر فيه الفيلم وقبل ظهوره بأسابيع فقط، أُشيع أنه كان يعاني من صداع وتناول بعض الأدوية ونام، لكنه لم يستيقظ أبدًا؛ وأضافت التقارير الطبية والتكهنات ونظريات المؤامرة التي لا حصر لها جميعها إلى أسطورة لي.

أسئلة

  • (١)

    سواء كنتَ من معجبي بروس لي المخلصين أو تعرفت على أعماله مؤخرًا، سجِّل ردود فعلك الشخصية تجاه فيلم «دخول التنين». ما الذي يجعلك تستمر في مشاهدته أو تتوقف عن ذلك؟ انظر إلى إيقاع الفيلم ومسرح الأحداث والشخصيات والموسيقى التصويرية وجسدِ لي نفسه. اربط بين مستوى اندماجك ولحظاتٍ محددة في الفيلم.

  • (٢)

    حلِّل البناء والأفكار المتطوِّرة تدريجيًّا لأفلام بروس لي. ما السمات الأساسية لحبكاتها؟ وما النزاعات الرئيسية التي تحرِّك الأحداث؟ وما المسائل التي حُلت؟ ومن هم الأشرار؟ وما الذي يجعل لي بطلًا في هذه الأفلام؟

  • (٣)

    في أفلام بروس لي وأوائل أفلام جاكي شان، يُعتبر الجسد البشري ركيزةً أساسية لمشاهد الحركة. يشارك الممثلون الفعليون في الأداء الجسدي مؤدِّين مشاهدهم الخطرة بأنفسهم. قارن بين هذا النوع من الكونغ فو وأفلام فنون القتال الأحدث التي تستخدم أسلاكًا لتحريك الممثلين (على سبيل المثال، أفلام جيت لي) أو الصور المنشأة بالكمبيوتر (مثل فيلم جاكي شان «ذا ميث» («الأسطورة»، ٢٠٠٥)). ما الذي تكسبه أو تخسره السينما عندما تصمم مشاهد الحركة بالكمبيوتر؟

  • (٤)

    قارن بين أسلوب بروس لي في أداء الكونغ فو وأسلوب ممارسين آخرين له على شاشة السينما مثل تشاك نوريس وجاكي شان وجيت لي وتوني جا. ما الذي يجعل أسلوب لي مميزًا بشكلٍ كبير؟ في رأيك، ما الذي يجعل صورته تستمر في جذب ملايين المعجبين حول العالم؟ وما الذي يقدمه الممثلون الآخرون وتفتقر إليه أفلام لي؟

  • (٥)

    قارن بنحوٍ أشمل بين بروس لي والأبطال المحاربين الآخرين في السينما. ما الصفات المشتركة بينه وبين المقاتل الغربي الذي يحمل المسدسات، أو فارس الساموراي، أو مقاتل الووشيا حامل السيف؟ ما الذي يجعله مختلفًا عنهم؟ انظر إلى ما يضيفه ممثلون مثل: توشيرو ميفوني، وجون واين، وكلينت إيستوود، وسلفستر ستالون، وجيت لي، وتوني جا إلى أدوارهم. كيف يمثل هؤلاء الممثلون ثقافاتهم المحلية وفي نفس الوقت يساهمون في تعزيز وتنمية أسطورةٍ عالمية؟

  • (٦)

    أدت ظروف موت بروس لي في ٢٠ يوليو عام ١٩٧٣ إلى ظهور عدد لا حصر له من النظريات. ابحث في الظروف المثيرة للجدل المحيطة بموته واصنع تقريرًا بالنتائج. ما الذي تقوله هذه التكهنات والنقاشات عن حياته وإرثه؟

  • (٧)

    اختر مشهدًا من فيلم «طريق التنين» للدراسة والتأمل عن قرب مثل مشهد المواجهة الشهيرة بين لي ونوريس في مدرَّج الكولوسيوم. حلِّل المشهد لقطة بلقطة مشيرًا إلى كيفية مساهمة كل قرار سينمائي (ملابس الممثلين، ووضع الكاميرا، ومدة اللقطة، والموسيقى التصويرية، والمؤثرات الصوتية) في الأثر العام للفيلم.

قراءات إضافية

  • Bordwell, David. Planet Hong Kong: Popular Cinema and the Art of Entertainment. Harvard University Press, 2000.
  • Bowman, Paul. Theorizing Bruce Lee: Film – Fantasy – Fighting – Philosophy. Rodopi, 2010.
  • Donovan, Barna William. The Asian Influence on Hollywood Action Films. McFarland & Company, 2008.
  • Fu, Poshek and David Desser. The Cinema of Hong Kong: History, Arts, Identity. Cambridge University Press, 2000.
  • Hunt, Leon. Kung Fu Cult Masters: From Bruce Lee to Crouching Tiger. Wallflower Press, 2003.
  • Kaminsky, Stuart. “Kung Fu Film as Ghetto Myth.” Journal of Popular Film 3 (1974): 129–138.
  • Lee, Bruce. The Tao of Jeet Kune Do. Black Belt Communications, 1975.
  • Lee, Linda. The Bruce Lee Story. Ohara Publications, 1989.
  • Rayns, Tony. “Bruce Lee: Narcissism and Nationalism.” In Lan Shing-hon, ed., A Study of Hong Kong Martial Arts Film, 110–112. Hong Kong Urban Council, 1980.
  • Shu, Yuan. “Reading the Kung Fu Film in an American Context: From Bruce Lee to Jackie Chan.” Journal of Popular Film & Television 31(2) (Summer 2003): 50–59.
  • Teo, Stephen. Hong Kong Cinema: The Extra Dimensions. British Film Institute, 1997.

هوامش

(1) Stephen Teo, Hong Kong Cinema: The Extra Dimensions (British Film Institute, 1997), 110.
(2) Teo, 111.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤