فاتحة

كنوز الأعماق

هل تجولت بين الأوابد القديمة في أحد المتاحف حتى كلَّت قدماك وأنت تتحرك ببطءٍ بين العاديات، تنظر إلى هذا النَّحت وتتأمل ذاك الرسم، ثم خرجت فسُئلت عما رأيت فلم تستحضر في ذهنك سوى عملٍ واحدٍ أو اثنين تحدثت عنهما بحماس، ونسيت ما تبقى؟ هل خطر لك أن تترنم بشيء من الشعر القديم لتكتشف أن ذاكرتك لم تقبض إلا على قصائد قليلة وأهملت ما عداها، وأن لسانك يجري ببعض الأبيات تتغنى بها بين آنٍ وآخر دون غيرها؟ هل تساءلت لماذا اعتُبرت الموناليزا درَّة متاحف أوروبا، وربة الينبوع درَّة متاحف الشرق؟ أعمال عاشت مع الإنسان وستبقى دومًا، وأخرى ماتت آن الولادة. لماذا؟

لكل عمل فنيٍّ دافع يحثُّ على إنتاجه، وشكل يخرج به إلى الناس، وقصد ورسالةٌ ما يود إيصالها. فهو يأتي بالدرجة الأولى تلبيةً لنازع جماليٍّ متأصل في النفس الإنسانية، ثم يُصاغ وفق نواظم جمالية وتحت شروط تاريخية واجتماعية خاصة بالثقافة التي ينتمي إليها، وتتنازعه أخيرًا هموم ومقاصد بعضها قريب وآخر بعيد قد يوغل في البُعد حتى الإطلالة على الكون وعلى المُشكل الإنساني. إن العمل الفني الخالد هو الذي يفلح في الحفاظ على حالة من التوازن والتكامل بين عناصره الثلاثة هذه، حيث يصب النازع الجمالي في قالب ويشف هذا القالب عن جماليات وهموم خاصة بالبيئة التي أنتجته، ولكن لا ليتوقف عندها بل ليتجاوزها، فينتسب إلى الإنسانية متخطيًا حدود التاريخ والجغرافيا.

لقد كتب المعري أشعاره قبل أن تأخذ اللغات الأوروبية شكلها الحديث الذي نعرفه، ومع ذلك فإن ترجمات المعري إلى هذه اللغات لا تقل جمالًا عن أصولها العربية، ولا تقل متعة القارئ الأوروبي بها عن متعة القارئ العربي. وشكسبير قد دبَّج مسرحياته وأخرجها على مسارح إنجلترا في القرن السادس عشر، فأمتع بها نظارة بلده حينها، ولكنه ما زال حيًّا بين ظهرانينا يخاطبنا على جميع مسارح العالم. وطاغور كتب قصائده بإحدى لغات الهند المحلية، ولكن العمر امتد به ليسمع أناشيده تتلى بالعديد من لغات الشعوب حول المعمورة.

وملحمة جلجامش هي أول عمل أدبي تجاوز بيئته لينتشر في معظم أرجاء الشرق القديم في زمنه، ويترجم إلى أكثر من لغة مشرقية قديمة. وها هو اليوم يبعث إلى حياة جديدة في ثقافتنا الراهنة، ليُترجم إلى نحو عشرين لغةً. فأي مثال على خلود العمل الفني الذي يتخطى حواجز الزمان والمكان تقدمه لنا ملحمة جلجامش! بعد أربعة آلاف عام من تدوين نصفها الأكادي، يقرؤها البشر من شتى الثقافات في جهات العالم الأربع اليوم، وكأنها كتبت خاتمة الأمس. نمشي مع بطلها في تجواله كأنه كلٌّ منا، يحدثنا ونحدثه كأن واحدَنا يمشي وظله، أو كأنما يناجي نفسه.

فجلجامش لم يعد ذلك الملك الذي عاش في مدينة أوروك السومرية في زمنٍ ما من تلك الأزمان القديمة السابقة للميلاد، وقصته لم تعد قصة فرد معين عاش دورة حياة خاصة به، بمحدوديتها ومشاغلها الذاتية، بل لقد صار رمزًا من رموز المُشكل الإنساني، وصارت قصته حوارًا مفتوحًا حول الشرط الإنساني.

لقد تحدى بروميثيوس الإغريقي الآلهة ليجلب للبشر سر النار، أما جلجامش فقد ناطح الآلهة ليجلب لنا سر الحياة ومفتاح لغز الموت، ومغزى العيش في هذا العمر الضيق. مضى في سفر طويل فوصل مغرب الشمس، وسار في باطن الأرض مسار الشمس إلى مشرقها، وعبر بحار الموت فارتاد أرض الخالدين، ثم هبط إلى أعماق الغمر العظيم ليأتينا بكنز لا يفنى، كنز إذا أفلح كلٌّ منا في فتح صندوقه المُحكم نال الخلود الذي ناله جلجامش بعد كدح طويل. ألا يزال حيًّا بين ظهرانينا اليوم يلسن بكل اللغات التي تُرجمت إليها ملحمته؟

كنز الأعمال الذي وضعه جلجامش بين أيدينا، لا يعطينا جوابًا سهلًا على أصعب سؤال: سر الحياة ولغز الموت، ومخر عباب الملحمة اليوم ليس أسهل من قطع بحار الموت التي قطعها. لقد ضني جلجامش في سبيل الكنز، وأراد أن نكابد ما كابد لكي ينفتح لنا صندوقه؛ لهذا بقيت الملحمة، منذ اكتشاف كسرات ألواحها الأولى أواسط القرن الماضي، الشغل الشاغل لعلماء اللغات البائدة ودارسي الميثولوجيا والآداب القديمة وعلماء الإنسانيات من شتى الاتجاهات، وجمهرة القراء العريضة في كل أنحاء العالم. اختلف اللغويون في ترجمة وفهم الكثير من أبياتها وسطورها، كما اختلف المفسرون في تأويلها وتحليلها، وكل مدرسة تدلي بدلوها. فإلى الإنجليزية ناف عدد الترجمات الأكاديمية على العشرة، وهناك أكثر من ترجمة واحدة بكل لغة من اللغات الأوروبية، ناهيك عن باقي اللغات الحية وعن أشكال الصياغة الأدبية الحرة للملحمة. عشرات الكتب ومئات المقالات والأبحاث، والعديد من المسرحيات الغنائية أو الإيمائية، وعروض الباليه التعبيري، هي حتى الآن حصاد الاعتماد الكوني بملحمة جلجامش، وما زال المستقبل يخبئ المزيد.

ولقد شغلني جلجامش سنينَ طويلةً. ومع دراستي لترجمات النص قديمها وحديثها كنت أزداد اقتناعًا بأن هذا النوع من الترجمة ليس بحال ترجمة لكلمات وتعابير وجُمل، بل ترجمة لحياة نصٍّ نابض، وأن الكلمة القاموسية إذا كانت ضرورية في البداية، فإنها يجب أن تفسح المجال فيما بعد للكلمة الحية التي تستمد معناها من بنية النص ومن تدفقه من منبعه إلى مصبِّه، أكثر مما تستمد من حيزها المحدد في المعجم الأكادي. درست العديد من الترجمات الأجنبية والعربية للنص، وتوصلت إلى اقتناع بضرورة إنتاج نص عربي جديد يعبِّر عن أهم الاتجاهات السائدة لدى الباحثين الغربيين ويتلافى نواحي القصور التي وجدتها في الترجمات العربية. أنهيت ترجمتي الأولى عن نص ألكسندر هيديل Alexander Heidel، الباحث الأمريكي المرموق في مجال الأكاديميات، والذي بقيَت ترجمته لملحمة جلجامش مسيطرة على الدوائر الأكاديمية الغربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وضعتُ للترجمة مقدمةً صغيرةً ودفعتها للنشر في بيروت عام ١٩٨١م تحت عنوان «ملحمة جلجامش: ترجمة وتقديم».

ولكن جلجامش بقي مصدر إغواءٍ دائمٍ لي. فإلى جانب استمراري في التعرف على إشكاليات النص وخفاياه، من خلال متابعة الترجمات والدراسات الجديدة، كنت أتحسس تدريجيًّا معانيه العميقة والرسالة التي أراد نقلها إلينا، فعكفت على إعادة صياغة نصِّي السابق، وكتبت دراسةً في جماليات الملحمة ومعانيها الخفية، أتبعتها بملحق يحتوي دراسة مقارنة حول أثر الملحمة في آداب الشعوب القديمة، وقدمت ذلك كله في كتاب ثانٍ تحت عنوان «كنوز الأعماق: قراءة في ملحمة جلجامش» وذلك عام ١٩٨٧م.

أما هذا التأليف الذي بين يدي القارئ، فهو تطوير لمؤلفي الأسبق «كنوز الأعماق: قراءة في ملحمة جلجامش». عملت فيه على إغناء المقدمة التاريخية التي تضع النص في إطاره الزمني والثقافي، وتوسعت في الدراسة الفنية والجمالية، وفي مسائل النقد النصِّي التي تُلقي ضوءًا على تطور النص والتغيرات التي طرأت عليه عبر حياته الطويلة. وبعد الانتهاء من ذلك كله، قمت بإعدادٍ دراميٍّ للملحمة، أضعه تحت تصرف المسرحيين العرب وأقدمه لجمهرة القراء، لمن يريد منهم أن يستمتع بقراءة حرة للنص تعفيه من القفز فوق الفراغات والتشوهات الموجودة في الألواح الأصلية والتي يُمكن أن تثقل على أي ترجمة أمينة للملحمة.

كم كانت الفكرة الأساسية في النص بسيطةً، وكم كانت عصيةً أيضًا. هل يكمن السبب في خفائها اختلاف آلية تفكيرنا اليوم عنها قبل أربعة آلاف عام؟ أم أن النص قد أخفى فكرته هذه خلف عدد من الأفكار الظاهرة؟ لست أدري.

لقد درج الباحثون المحدثون على الدوران حول تفسير مباشر مفاده أن الخلود الشخصيَّ هو الفكرة الأساسية في أحداث الملحمة. ومعظمهم يرى في بحث جلجامش عن الخلود وإخفاقه في تحقيقه لنفسه درسًا عن استحالة الحصول على الخلود الشخصي لبني البشر؛ لأن «الآلهة لما خلقت البشر، جعلت الموت لهم نصيبًا وحبست في أيديها الحياة»، على حد قول النص في أحد المواضع. وقوله في موضع آخر: «الآلهة هم الخالدون في مرتع شَمَس. أما البشر فأيامهم معدودات، وقبض الريح كل ما يفعلون.» فإذا كان جلجامش الذي ولدته الإلهة ننسون من أب بشريٍّ، فجمع إليه خصائص الآلهة والناس في تكوين متفوق، قد أخفق في تحقيق الخلود لنفسه، فما بالك بالأشخاص العاديين؟! غير أن النصَّ قد باح برسالة مختلفة تمامًا لخَّصتها بقول لطاغور زينت به مطلع هذا الكتاب: «آه يا روحي لا تطمحي إلى الخلود، بل استنفدي حدود الممكن.»

ومن يا تُرى قادرٌ على استنفاد حدود الممكن في هذا الزمان الضيق الذي يبلغ بنا غايته، وقد مسسنا أطراف الممكنات المتاحة ولم نستفد إلا أقلها؟ لقد ترجم البعض السطر الأول من الملحمة ﺑ «هو الذي رأى الأعماق» أو «هو الذي رأى اللج العظيم». ووصفَت السطور الاستهلالية البطل بأنه الحكيم العارف بالأسرار والخفايا. فهل تساعدنا كنوز الأعماق التي جلبها لنا جلجامش على الصفحات القادمة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤