الفصل الأول

١

(تُفتح الستارة على اللحن الأساسي. يدخل كورس الرجال وكورس النساء.)

كورس الرجال :
هو الذي رأى كلَّ شيءٍ إلى تخوم الدنيا،
هو الذي عرف كلَّ شيءٍ وتضلع بكل شيء.
سيد الحكمة الذي سبر أعماق الوجود.
كورس النساء :
مضى في سفرٍ طويل، وبرَّحه الترحال،
عَبَر بحار الموت إلى حيث تُشرق الشمس،
وجال أصقاع الأرض بحثًا عن الحياة.
كورس الرجال :
رأى أسرارًا خافية وعرف أمورًا ماضية،
وجاءنا بنبأ عن أزمان ما قبل الطوفان.
هل من مثله ملك في أي وقت، في أي مكان؟
كورس النساء :
ملك أوروك، ابن الإلهة ننسون.
كامل القوة متين البنيان.
راعينا الوسيم، الحكيم الجنان.
كورس مشترك :
ثلثاه إله وثلثه إنسان.
ما لهيئة جسمه من نظير.
وبالاسم جلجامش قد دُعي قبل مولده.

(عودة اللحن الأساسي … يتلاشى تدريجيًّا ليعلو قرع طبول بإيقاع خاص. يدخل قارعو الطبول ووراءهم المنادون، يختلط الكورسان مُشكِّلين عامة أوروك في الأسواق.)

المنادي الأول :
كفاكم نومًا يا أهل المدينة.
لينهض شباب السُّخرة إلى أعمالهم،
فيجعلوا من أسوار أوروك أمنع الحِمى،
ومن أبراج معابدها ذُرًى تناطح الغيوم،
ومن قصور الملك جلجامش أعجوبة الدنيا.
المنادي الثاني :
لتمضِ نساء السُّخرة إلى الكروم،
فتعصر الأعناب خمرًا للشاربين.
وعذارى الخدمة إلى القصور،
فتجعل من جنباتها متعةً لسيدنا،
ومن بساتينها فتنةً للناظرين.
المنادي الثالث :
لتتهيأ مَن وقعَ عليها الاختيار،
يحفُّ بها أترابها الأبكار،
فتتزيَّن ولا تبخل بالماء والعطور؛
لتغدو كاملة الحُسن والبهاء؛
فجلجامش في انتظارها عند المساء.
المنادي الرابع :
ليَهُب أبطال أوروك إلى ملاعب الصراع،
جلجامش في انتظاركم للمبارزة والقِراع،
فمن خسر منكم مثواه الجحيم،
ومن كسب روحه فدى أهله.

(أصوات اختلاط الحابل بالنابل، سياطٌ تفرقع، نساءٌ تصرخ، إيقاع الطبول مستمر. تتلاشى الأصوات والمؤثرات مع العودة التدريجية إلى اللحن الأساسي.)

٢

(المكان: مجلس شيوخ مدينة أوروك. صوت جلبةٍ تصدر عن اجتماع مغلقٍ لعدد من الأفراد. تتلاشى الجلبة والحوارات الجانبية، بينما يرتفع صوت كبيرهم.)

كبير الشيوخ :
شيوخ أوروك، يا أحكم الرجال في سومر.
كلكم يعرف لماذا تنادينا لهذا الاجتماع،
بعد خلافٍ وفُرقة وطول انقطاع.
دعونا نناقش الأمر الذي له التقينا،
ولنعرف عن سفائف الرعاع.
الشيخ الأول :
صدقت يا كبير الشيوخ، فلنبحث فيما يُقال،
بأمر سيدنا المليك الحكيم،
الذي لم يقطع بأمرٍ دون مشورةٍ أو سؤال.
لقد تغيَّر من زمن وتبدَّلت منه الأحوال.
الشيخ الثاني :
ابن أوروك الذي يمضي في المقدمة يحمي الديار،
يصدُّ عن رجاله، وكموج الطوفان الصاخب يهدم الأسوار.
جلجامش حامينا المؤتَمَن الأمين،
قد تغيَّر من زمن وتبدَّلت منه الأحوال.
الشيخ الثالث :
لا يترك جلجامش ابنًا لأبيه،
سادرًا في مظالمه ليل نهار.
الشيخ الرابع :
لا يترك جلجامش بِكرًا لأمها،
ولا ابنةً لمحارب أو زوجة لنبيل.
الشيخ الخامس :
شبابنا تُرفع له القصور،
حتى تناديهم القبور.
ونساؤنا تكِدُّ في الخدمة،
بلا كللٍ أو فتور.
الشيخ السادس :
أبطالنا خصوم له في ساح النزال،
وأبكارنا متعة لسيد الرجال.
الشيخ السابع :
ما الذي حلَّ بجلجامش القديم؟
أي شيطان تَلبَّسهُ، فلا يهدأ منه الخاطر
ولا يركن له جنان.
الشيخ الثامن :
دائب الحركة ليل نهار،
مُسهَّد الأجفان لمطلع الأسحار.

(جلبة بين الحضور، حوارات جانبية، غمغمة وأصوات متفرقةٌ هنا وهناك.)

كبير الشيوخ :
دعونا لا نتسرَّع في اتخاذ القرار،
ولنمضِ إلى المعبد نستجلي المشيئة الغائبة؛
فعند الآلهة حقيقة الأخبار.
الشيخ الأول :
صواب، صواب؛
ففي السرعة الندامة،
وعند السماء خير الجواب.

(همهمة بين الحضور، أصوات موافقة وتأييد.)

كبير الشيوخ :
لقاؤنا في المعبد إذن هذا المساء،
نُصلي ونطلب العون من السماء،
عسى أن تسمع لنا الآلهة،
وتمدَّ يد العون للرعية الضارعة.
الشيخ الثاني :
وبعدها لكل حادثٍ حديث،
ولن تعجز أوروك عن ردِّ مليكها
إلى جادة الحق والصواب.

(الجلبة مرةً أخرى، تتلاشى تدريجيًّا ممَّا يوحي بفضِّ المجلس.)

٣

(موسيقى طقسية توحي بجو المعبد. الكاهن الأكبر يُشعل الشموع أمام المذبح ويحرق البخور، يُدير ظهره للشيوخ الذين يدخلون قُدس الأقداس بخشوع. بعد فترة صمتٍ يستدير الكاهن نحو الشيوخ وعيناه تُحدِّقان في الفراغ.)

الكاهن الأكبر :
أتيتم لاستخارة المشيئة الخافية،
بشأن جلجامش الحكيم،
نسل البشر والآلهة.
كبير الشيوخ :
ولدته الإلهة ننسون، سيدة الحكمة،
لأبيه «لوجال بندا» أعظم الملوك.
بيده قطع حبل سرته،
فمن يقدر اليوم على صدِّه؟
الكاهن الأكبر :
يصده نِد له قدير.
لم يولد من رحم امرأة،
لم ينم في مهدٍ ولم يرفل في الحرير.
الشيخ الثالث :
لنُصَل إذن إلى آرورو،
ننتو الأم الوالدة،
لتجعل في وجه جلجامش ندًّا قديرًا.
الجميع بصوتٍ واحد :
أي آرورو العظيمة،
أنتِ يا من خلقتِ جلجامش،
اخلقي الآن ندًّا لملك البلاد،
يعادله صخبًا في الفؤاد،
فيدخلان في تنافسٍ دائم،
وتهدأ خواطر العباد.

(فاصل موسيقي. اللحن الرئيسي.)

٤

(فاصل موسيقي. اللحن الرئيسي يتلاشى تدريجيًّا مُتحوِّلًا إلى لحنٍ هادئ يوحي بهدأة الليل. المكان: قصر جلجامش بعد انفضاض الحفل الصاخب. كبير الحُجَّاب إنمركار يُخاطب الخدم.)

إنمركار :
هيَّا أيها الخدم.
أزيلوا أثر الحفل الساهر،
وانسحبوا إلى مخادعكم.
سيبدأ بعد قليلٍ تجوال جلجامش الحائر.
خادم ١ :
في جنبات القصر وعلى الشرفات،
يُناجي نفسه كمن به مَس،
أو كمن يحاور الأموات.
خادم ٢ :
بعد نهاره الصاخب المُتعب،
ومسائه اللاهي المجنون،
يغرق في الأحزان وتتنازعه الظنون.
إنمركار :
هيَّا، هيَّا، أسمع خطو سيدكم.
لو بصر بواحدكم أمامه،
فلن يتركه ليعدَّ أيامه.

(يعود اللحن الهادئ إلى الارتفاع بعد أن كان خلفيةً خافتة للحوار، ثم يتلاشى ليحلَّ محله نغمٌ حزين تعزفه الناي، ينسحب الخدم ويبقى كبير الحُجاب إنمركار واقفًا شابكًا يديه على صدره في الوقفة التعبُّدية المعروفة في التماثيل السومرية. تقترب خطوات الملك.)

إنمركار (يتحدَّث وهو في وقفته ذاتها دون أن يُدير وجهًا إلى جلجامش) :
سيدي، مولاي،
أليلةً أخرى تُمضي تأملًا وتفكيرًا؟
هل لنا بشيءٍ يُعزيكم أو أن نُشيرا؟
وأنتم عفوك، أغنى البرية حكمةً وتدبيرًا.
جلجامش :
إنمركار أيها الحاجب الأمين.
سأكشف لك مكنون صدري والذي أُخفي،
عسى أن تهدأ نفسي بك أو تستكين.

(يرتفع لحن الناي السابق، ويبقى مُصاحبًا ما يلي من خطاب جلجامش.)

إني أرى الحياة شجرةً تتعرَّى،
تنضو أوراقها عنها لتكتسي أُخرى،
ونحن قبضُ الريح، أشباحٌ
لا نملك من أمرنا شيئًا.
أنظرُ من شرفتي إلى النهر الدافق أبدًا
فأرى الجثث طافيةً فحينُها ولَّى،
وأراني سأصير لمثلها حقًّا وصدقًا.
لأي غايةٍ نأتي ولأي مرامٍ نسعى؟
وهل في الحياة من معنًى وهل لها مغزًى؟

(فاصل الناي بتنويعاتٍ جديدة.)

إنمركار :
أقوى الرجال سيدي، أحكم البشر
بيده الحياة والموت وأحكام القدر.
إذا تهشُّ لهم تعطي الأمل،
وإن عبستَ فأين المفر؟
جلجامش :
إلهٌ أنا إذن، إلهٌ أنا!
(بسخريةٍ ومرارة): أصنع الخير وأصنع الشر!
إلهٌ أنا؟ كيف؟ ومصيري مثلهم
أقضي في التنهُّد والنحيب،
ولا أستطيع دفع مصيري القريب.
إنمركار : سيدي ومولاي …
جلجامش :
اصمت إنمركار، اصمت.
أبي أعظم الملوك، وأمِّي الربَّة ننسون،
ولكنِّي إنسان تتربص به المنون.
أُمرت بالموت لأعرف معنى الحياة،
وأُمرت بالحياة لأُدركَ كُنه الموت.
ولكن باطل الأباطيل، الكل باطل،
وكل أعمالنا حائلٌ زائل.
صنعت لنفسي قصورًا وجنات،
وزرعت فراديس من نخيلٍ وأعناب،
فإذا الكل باطلٌ وقبض الريح،
أتركه لبعدي سامق البنيان،
وأمضي وحيدًا إلى عالم النسيان.

(يرتفع لحن الناي ثم يتلاشى تدريجيًّا. يخرج جلجامش بخطواتٍ متثاقلة بطيئة بينما يدخل الكورس. يُظلم المسرح. ضوء على الكورس. اللحن الرئيسي.)

٥

كورس الرجال :
آرورو الأم الكُبرى الحنون،
صنعَت البشر من حمأ مسنون.
بعون إنكي إله الماء،
وأعطتهم الروح بإذن السماء.
كورس النساء :
نزلت عن عرشها الوضَّاء،
جالت في الفلاة وقلَّبت الأرجاء،
ثم اغترفت قبضةً من طينٍ وماء،
تلت عليها كلماتها ورمتها في العراء.
الكورس المشترك :
وهكذا خُلق إنكيدو …
يكسو الشعرُ جسمَه وجدائل رأسه
كشأن النساء.
سامق الهامة فارع القامة.
لا يعرف الناس ولا البلدان.
يرعى الكلأ مع الغزلان.
يَرِد النبع مع الحيوان.
ومع البهيمة يفرح قلبه عند الماء.

(فاصل موسيقيٌّ خاصٌّ للمشهد التالي. تدخل آرورو. الخلفية معتمةٌ وبقعة الضوء مُسلَّطة عليها. تقوم برقصةٍ طقوسية هادئة.)

آرورو :
أنا آرورو، أنا أُم الأحياء،
أنا الأرض، أنا الخصب،
أنا أصل البقاء.
من رحمي يخرج كل ذي نفس،
وإليه يئوب أهل الفناء.

(فاصل موسيقي.)

(تُوجِّه صولجانها نحو نقطةٍ قريبة، يُسلَّط ضوءٌ آخر على المكان الذي أشارت إليه. إنكيدو متكوِّر على نفسه في كتلةٍ غير متمايزة.)

انهض يا إنكيدو …
انهض من حمأة الطين إلى مجد العلاء.
أنت الآن ندٌّ لجلجامش،
فقد استجبتُ للشيوخ والنبلاء.

(فاصل موسيقي.)

(ينهض إنكيدو، يُحرك أعضاءه ببطء، يجثو على ركبتيه ويتمطَّى، يتلفَّت حوله بدهشةٍ واستغراب، يُجيل بصره في أرجاء السماء. تتحوَّل بؤرة الضوء عن آرورو التي تغيب في الظلام.)

آرورو :
انهض يا إنكيدو.
انهض، انهض.

(يتلفَّت إنكيدو ليعرف مصدر الصوت، ولكنه لا يحدِّده فهو ينبعث من كل الجهات.)

انهض يا إنكيدو.
انهض، انهض …

(يقف إنكيدو على قدميه، يرفع ذراعيه، ويدور على نفسه في نشوة لحظات الحياة الأولى. يُحرِّك لسانه ببطء، يُجرب الكلام.)

إنكيدو :
إﻧ… إﻧ…ﻛﻴ… دو … إنكيدو.
(ثم يصرخ بقوة) أنا إنكيدو … (صوت صدى).
أنا إنكيدو … (صوت صدًى) كيدو … و… و… و…

(يرقص بقوةٍ على موسيقى ذات إيقاعٍ خاص، ويعود إلى الكلام.)

أنا إنكيدو،
سيد الفلاة جبَّارٌ قدير.
لم أولد من رحم امرأة،
لم أنم في مهدٍ ولم أرفل في الحرير.
(يعود إلى الرقص)، أنا إنكيدو، فأين مثيلي؟
من يقدر على صدِّي، وأين شبيهي؟
صنعتني آرورو بإذن السماء،
فتبارك الصانع الخلَّاق،
وتبارك هذا الكون البديع.

(فاصل موسيقي. اللحن الرئيسي … يتلاشى.)

٦

(موسيقى تُوحي بجو البراري. مؤثراتٌ صوتية لوقع أقدام حيواناتٍ ذات أظلافٍ وحوافر. إنكيدو يعدو في قطيع الغزلان نحو مورد الماء، وخلف دغلٍ قريب يكمن صيَّادٌ شاب يرقب بوجلٍ ما يرى.)

إنكيدو :
أبعدوا أظلافكم عن الماء،
أنا من يشرب أولًا أيها الجمع،
ولا أُبالي بعدها إن تعكَّر النبع.

(صوت غبِّ الماء، ثم أقدام تضرب في البركة بفوضى.)

الصياد :
رُحماك أيتها الآلهة
(يُناجي نفسه) إني أرى، وحقك، أمرًا عجبًا.
أإنسانٌ أنت أم بهيمةٌ سادرة؟
أم تراني في منامٍ وعيني ساهرة؟

(ينهض إنكيدو والغزلان تدور من حوله.)

إنكيدو :
شكرًا لك أيتها الآلهة،
على كل مِنَّة ونعمةٍ غامرة.
أنطقتني ولم أكُ إلا قبضةً من طين،
فعساني أكون من الشاكرين.
الصياد :
يجب أن أهرع في التوِّ والآن،
لأبلغ أبي خبر هذا الإنسان أو الحيوان،
عساه يُشير بما يفيد قبل فوات الأوان.
إنكيدو :
ولكن فيمَ خُلقت، لأية غاية؟!
وإلامَ أعدو مع القطيع بلا نهاية.
أسمع همسكِ في قلبي هداية،
وقصدكِ غائبٌ عن فهمي، لماذا؟

(الموسيقى السابقة … وقع أقدام الحيوانات يبتعد. يغيب إنكيدو.)

(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤