الفصل السابع

معنى الملحمة ورسالتها الفلسفية والأخلاقية

إذا اعتبرنا النتاج الفكري والأدبي مرآة لحركة المجتمع، فإن جلجامش هو أول فرد في التاريخ، ومطلع الألف الثاني قبل الميلاد هو الوقت الذي حدد تمايز الفرد عن الجماعة، وظهور الشخصيات التي تفعل في الجماعة وتؤثر في منحى تطورها بدل أن تكون انعكاسًا لحركتها. فقبل ملحمة جلجامش، لا نعثر في أدبيات الشرق الأدنى القديم (وهي أول أدبيات مدونة في التاريخ) على ملامح واضحة للفرد. فالنصوص، جلها، تتعامل مع الشخصيات الإلهية الطاغية التي صنعت الكون وخلقت الإنسان وبنت له مدنه وعلمته وأسست له تقاليده الحضارية، وهو في كل ذلك، الجانب السلبي المنفعل المتلقي. فإذا عثرنا على الفرد لم نستطع رسم ملامحه الواضحة أو نحدد سماته المستقلة، سواء عن حركة الجماعة أم عن إرادة الآلهة التي تمسك بخيوط مقاديره ومصائره. فجأة ينتصب جلجامش، كأول شخصية تعلن عن حضورها في استقلال عن الجماعة وعن آلهتها، معلنًا ابتداء عصر الإنسان الذي يرث الأرض، ويشق عباب الزمن الآتي كابن بار للإله، يطمح إلى الجلوس عن يمينه، لا كعبد مسلوب واقع في دارة الميلاد والموت المفرغة، شأن بقية الأحياء. إن اكتشاف حدود الكون السحيقة، اليوم، واكتناه أسرار الذرة وخفايا البيولوجيا الحية. والهبوط على سطح الكواكب، وما إلى ذلك من فتوح معرفية، هي تتمة للأوديسة الجلجامشية.

وجلجامش الفرد لم يؤسس لفردية فوضوية خارجة عن الكل، ساعية وراء أهدافها وغاياتها المستقلة والمتضاربة مع غايات الجماعة والبحث الإنساني المشترك، بل لقد جعل من نفسه النموذج الذي يمكن لأية شخصية في الجماعة أن تتشكل وفقه وتنسج على منواله، ليغدو المجتمع فريقًا من الأحرار لا حيوانًا بآلاف العيون.

وهو بتطوره الشخصي من الفردية الفوضوية إلى الفردية الجماعية المنظمة، ومن الاهتمام بالمصير الخاص إلى العناية بالمصير الإنساني، إنما يحدد المسار الذي يحرر الأفراد ويربطهم في آن معًا، في مسيرة الإنسانية الكبرى نحو معرفة الذات ومعرفة الكون وخلافة الله: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. قرآن كريم.

ولسوف نتابع في هذه الدراسة مراحل تطور شخصية جلجامش، كما رأيناها، ونرفع الأستار تدريجيًّا عن المعنى الخبيء لملحمة جلجامش كما فهمناه. وأقول المعنى الخبيء؛ لأن التفسيرات التي طُرحت منذ مطلع هذا القرن، لم تلتقِ حول الرسالة الحقيقية التي أرادت الملحمة توصيلها، ولأننا بحثنا عن هذا المعنى المستتر خلف ظاهر النص.

(١) الطور الأول

(١-١) الفردية، والحرية المطلقة

كان جلجامش، الفرد الحر الوحيد في مجتمع من العبيد، كان ملكًا مطلق السلطان، أقوى الرجال جسدًا وأكثرهم ملاحة وذكاء، مفعمًا بالحيوية والنشاط الدائب لا تهدأ حركته ليل نهار. ولعل هذا التفوق الجسدي هو ما دعا إلى الاعتقاد بالجانب الإلهي في شخصيته، والعودة بنسبه إلى الإلهة ننسون.

لم يكن الملك الشاب يعرف ماذا يفعل بحريته المطلقة وتكوينه الخارق الذي كان سببًا في وحدته وعزلته عن بقية الناس. بحث عن جلائل الأعمال يرضي بها طاقته المتوثبة وجنانه القلق، فبنى سور أوروك أعجوبة عصره، وعمَّر وأشاد فلم يقنع ولم يرضَ. طغى وبغى، لا طغيان الأحمق ولا بغي الجاهل الفرِح بالسلطان، بل طغيان قدرة متفوقة لم تعرِف بعدُ سُبل التفريغ، وبغيُ ذكاء يلهج بالسؤال عن المعنى في كل ما حوله. كان فوق أخلاق الجماعة وشرعتها وقيمها، فلم يعرف ماذا يفعل بموقعه المتميز هذا. ضاجع نساء أوروك، وتسلط على شباب المدينة يسيرهم في الخدمة العسكرية القاسية وشتى أنواع الأعمال، يوقظهم كل صباح على قرع الطبول، فلم يهدأ له خاطر ولم يركن جنان.

هذا، ورغم أن الملحمة بأسلوبها المختزل لا تومئ مباشرةً إلى الأسباب المحركة لسلوك جلجامش، ولا تضع على لسانه تساؤلات واضحة، فإن تساؤلاته تنطق من وراء السطور. لقد وصف سكان أوروك مليكهم بالحكمة وهم يعددون مظالمه أمام الآلهة:
لا يترك جلجامش ابنًا لأبيه.
ماضٍ في مظالمه ليل نهار.
وهو الراعي لأوروك المنيعة.
هو راعينا القوي الوسيم الحكيم.

وسلوك الرجل الحكيم، إن شذ، ما شذ عن طيش أو هوى، بل عن بحث وتساؤل ومحاولة فهم وكشف. ولعلنا واجدون في هذه المرحلة الأولى من تطور جلجامش، البذور الأولى لأهم التساؤلات التي توضحت في المراحل التالية: هل أنا حر وإلى أي مدى؟ ماذا أفعل بالحرية، وما هو موضوعها؟ ما معنى الحياة في هذا الزمان الضيق الذي يجري بنا نحو خاتمة سريعة؟

رفع أهل أوروك عقيرتهم بالشكوى إلى الآلهة مع قمع جلجامش. فاستجاب الآلهة بأن مضوا إلى الإلهة الأم آرورو، التي ظهرت في نصوص أسطورية أخرى كخالقة للجنس البشري، وطلبوا إليها أن تخلق لجلجامش ندًّا يعادله قوةً وجبروتًا وقلبًا صاخبًا لا يهدأ، فيدخلان في منافسة دائمة ويرخي جلجامش قبضته عن أهل المدينة. استحضرت آرورو في خاطرها صور كبير الأرباب آنو، ليحمل خلقها الجديد بعض سماته، ثم أخذت بكفها قبضة من طين رمتها في الفلاة، فكان منها إنكيدو، الرجل الوحش، المشعر الجسد، الغزيز شعر الرأس:
لا يعرف الناس ولا البلدان.
يرعى الكلأ مع الغزلان.
يرد الماء مع الحيوان.
ومع البهيمة يفرح قلبه عند الماء.
هذه الصورة التي أعطاها النص عن إنكيدو في أولى مراحل حياته، يستحضر إلى الذهن صورة الإنسان البدائي قبل دخوله عصر التحضر. ونلاحظ هنا أن النص قد استخدم في وصف إنكيدو الكلمة الأكادية «لا للو» التي ترجمناها أحيانًا ﺑ «الرجل الوحش» أو «رجل البداءة»، بينما يشير معناها الأصلي إلى الإنسان الأول، أو الجيل الأول من البشر في حالتهم البدائية الشبيهة بحالة الحيوان. نقرأ في أحد النصوص الأكادية، على سبيل المثال، وهو النص المعروف باسم «لهار وأشنان»:
بشر (لا للو) تلك الأيام
لم يعرفوا أكل الخبز،
ولم يعرفوا لبس الثياب،
هاموا على وجوههم بأردية من جلد،
أكلوا الكلأ بأفواههم كالأنعام.
وشربوا الماء من الجداول.١
والإلهة الأم تخلق إنكيدو من قبضة من طين، كما خلقت من قبل الإنسان الأول «لا للو» في أحد نصوص التكوين البابلية:
«أنت الرحم الأم،
يا خالقة الجنس البشري،
اخلقي الإنسان ليحمل العبء،
ويأخذ عن الإلهة عناء العمل.»
فتحت ننتو فمها وقالت:
«لن يكون لي أن أنجز ذلك وحدي
ولكن بمعونة إنكي سوف يخلق الإنسان،
فليعطني إنكي طينًا أعجنه.»٢
وبعد ذلك يسير إنكيدو على خطى الإنسان الأول في انتقاله من حياة البراري إلى حياة الرعي ثم إلى الحضارة المستقرة. فعندما سمع جلجامش بخبر إنكيدو بعث إليه بكاهنة حب من معبد عشتار لتقوده إلى أوروك. ورغم أن هدفه من إحضار إنكيدو لا يتضح منذ البداية، إلا أن تفسير ننسون لأحلام ابنها، فيما بعد، يدل على رغبة جلجامش في الحصول على ندٍّ وصديق:
«معنى ذلك، رفيق عتيٌّ، يعين الصديق عند الضيق
أقوى من الفلاة، ذو بأس عظيم،
متين العزم كشهاب آنو الثاقب.»
فتح جلجامش فمه، وقال لأمه:
«فليبتسم لي حظ عظيم
وأحظى برفيق.»
عند مورد الماء، كشفت المرأة عن مفاتنها لإنكيدو. حركت فيه الرغبة الهاجعة، فاعتزل أقرانه من الحيوان وانضم إليها يروي نفسه من جسدها ستة أيام وسبع ليال متواصلة. ثم قام عنها يبغي اللحاق بأترابه، فثقلت قدماه ونفر منه رفاق الأمس الذين تشمموا منه رائحة الإنسان. لقد غير الاتصال بعالم البشر، عن طريق الكاهنة، إنكيدو تغييرًا عميقًا فودع حياة البرية واكتسب الحكمة والمعرفة من الكاهنة التي تابعت بعد ذلك تعليمه والأخذ بيده نحو عالم الحضارة تدريجيًّا. فكما كانت المرأة بالنسبة للإنسان الأول سببًا في استقراره في الأرض وتوديع حياة التنقل والصيد وإنشاء المستقرات الزراعية الثابتة، وهي الخطوة العملاقة الأولى نحو الحضارة، كذلك كانت الكاهنة بالنسبة لإنكيدو.٣ فالعلاقة بين الاثنين، هنا، ليست علاقة رجل معين بامرأة معينة، بل هي تكرار وتذكر لدور المرأة القديم في مجتمعات اﻟ «لا للو» الأولى.
قادت الكاهنة إنكيدو إلى مناطق الرعاة، وعلمته أكل الخبز ولبس الثياب وتعطير الجسم وشرب الجعة. وأخذت تحدثه عن جلجامش العظيم الظاهر فوق جميع الرجال كثور وحشي، وعن حياته اللاهية في أوروك، المدينة التي تضج بالحياة وتعيش في عيد بهيج دائم. تاق إنكيدو إلى الاجتماع بجلجامش، فقد كان مثله تواقًا إلى صديق:
وقعت كلماتها في نفسه، لما تكلمت، حسنًا،
كلنا يبغي صاحبًا يفهم سريرته.
في مناطق الرعاة، وجد إنكيدو مضمونًا لحريته ومعنى. فإنكيدو في براريه كان مُطلق الحرية كجلجامش، ولكن حريته لم تكن مستمدة من سلطته المطلقة على بقية الناس، بل من حياة الطبيعة التي لا تعرف أخلاق الحضارة وشرائع التجمعات البشرية. وعندما واجه الآخرين لأول مرة، لم يرَ في قوته الخارقة وسيلة للتسلط عليهم، بل لقد سخرها لصالح الجماعة؛ إذ راح يحرس قطعان الماشية ويطارد الأسود ليكفي الرعاة شرها. ثم عرف من شخصٍ غريبٍ عن سلوك جلجامش المشين، وكيف يأتي العروس قبل زوجها في الليلة الأولى:
لدى سماع كلمات الرجل،
غدا وجه إنكيدو شاحبًا.

وازداد عزمًا على لقاء جلجامش، فتقوده المرأة إلى المدينة، فقد غدا الآن جاهزًا لدخول حاضرة الكون: أوروك. وفي تلك الأثناء، كان جلجامش يرى أحلامًا عصية المعنى عن شهاب ثاقب ينقض عليه من السماء، وفأس عجيبة مطروحة في أسواق أوروك، فسَّرَتها أمه ننسون بأنها بُشرى بحصوله على صديق، ند له، يأتي من أعماق البراري الوحشية.

أحدث وصول إنكيدو إلى أوروك ضجة كبيرة. كان الجميع في الشوارع والساحات يتقاطرون إلى معبد عشتار لحضور احتفال طقس الزواج المقدس، وعندما ظهر إنكيدو احتشد الناس حوله لا يصدقون ما تراه أعينهم. كان ندًّا لجلجامش في كل شيء يسير شاقًّا نحو طريقه نحو المعبد كما الآلهة تسير، وأطلق الجميع صيحات الفرح:
لقد ظهر رجل جبار،
للبطل الكامل الوسامة،
لجلجامش شبيه الآلهة،
قد ظهر الآن ندٌّ.

لم يكن استبشار أهل أوروك بظهور إنكيدو ناجمًا عن توقعهم لصراع دائم بين الجبارين يصرف جلجامش عن مظالمه (كما تقول معظم التفسيرات)، بل عن توقعهم لتنافس عادل بين بطلين متفوقين في كل شيء، من شأنه تحييد طاقة جلجامش بطاقة معادلة لها.

بلغ احتفال الزواج المقدس ذروته بوصول جلجامش إلى بوابة المعبد. وهنا تقدم إليه إنكيدو وسد في وجهه الطريق، فالتحم الجباران في مصارعة عنيفة كانت الغلبة فيها لجلجامش الذي ما إن أوقع إنكيدو أرضًا وتمكن منه، حتى هدأت سورة غضبه وتركه ماضيًا في طريقه، غير أن إنكيدو ناداه بكلمات وقعت في نفسه حسنًا، وكانت فاتحة صداقة ومحبة دائمة بين الطرفين.

(٢) الطور الثاني

(٢-١) الالتزام

صحَّت توقعات أهل أوروك وتحققت أمانيهم. لقد غيَّرت صداقة إنكيدو جلجامش تغييرًا جذريًّا، ونمت بين الطرفين محبة عميقة غيَّرت مجرى حياتهما معًا وصارت مضرب المثل على مر العصور.

وهنا أود التوقف قليلًا عند شكل ومضمون هذه العلاقة. فلقد اتجه بعض الدارسين المحدثين إلى القول بوجود علاقة جنسية بين جلجامش وإنكيدو، وأن تلك العلاقة هي التي حولت أنظار جلجامش عن أهل أوروك؛ إذ وجدت طاقته الجنسية الفياضة طاقة أخرى معادلة لها، فحيدت كلٌّ منهما الأخرى، واستراحوا من اعتداءات جلجامش المستمرة على نسائهم.٤ وقد استند هؤلاء، في جملة ما استندوا، إلى الحلمين اللذين رآهما جلجامش عن مقدم إنكيدو:

(٢-٢) الحلم الأول

كانت السموات حاشدة بالنجوم،
وكشهاب آنو الثاقب، واحد منها انقض عليَّ.
رُمتُ رفعه فثقل عليَّ،
حاولت إبعاده فصعب عليَّ،
وبينما رفاقي يقبلون قدميه
ملتُ عليه كما أميل على امرأة،
وضعته عند قدميك،
فجعلتِه بنفسك لي ندًّا.

(٢-٣) الحلم الثاني

في أوروك المنيعة فأس مطروحة، تجمعوا عليها،
تحلق أهل أوروك حولها،
أحاط أهل أوروك بها،
تدافع الناس إليها،
وضعتها عند قدميك،
ملت عليها كما أميل على امرأة،
فجعلتها بنفسك لي ندًّا.
في الحلمين، ينجذب جلجامش إلى إنكيدو كما ينجذب إلى امرأة، ويميل عليه كما يميل على امرأة. وإنكيدو يقع عليه من السماء كشهاب ثاقب، ويلتصق به فلا يستطيع إبعاده. ومن ناحية أخرى، فإن إشارات النص التي يمكن توظيفها لصالح هذا التفسير لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه إلى التلاعب بالكلمات ذات الظلال التي تستحضر إلى الذهن معاني غير معناها المباشر. ففي تشبيه إنكيدو بالفأس، يتلاعب كاتب النص بكلمتين: الأولى «خاصينو» وهي الفأس باللغة الأكادية، والثانية «أسينو» وهي البغي المذكر. وفي تشبيهه بالشهاب الثاقب، يتلاعب بكلمتين أخريين هما «كيصرو» أي الحجر النيزكي و«كيزرو» أي الشاب ذو الشعر المجعد، وهو الشعر الاصطناعي الذي كان يلبسه العاهرون الذكور. وهذه الكلمة الأخيرة أيضًا تستدعي إلى الذهن، كلمة «كيزيرتو»، أي البغِي المؤنثة.٥

وفي الواقع، فإنه رغم استبعادنا للعلاقة الجنسية بين الطرفين، فإن تفسيرنا سوف يعتمد على التشبيهات الجنسية الواضحة في الحلمين، فيؤكد عليها وينطلق منها.

تشف هذه التشبيهات عن تقاليد أدبية بقيت راسخة في الحضارات الشرقية إلى العصر العربي، حيث نجد المتصوفة المسلمين لا يجدون في التعبير عن أرقى حب يعاينه الإنسان في داخله، أفضل من ألفاظ العشق والهوى. وهم إذ يشبهون الله بمحبوبة يُرام وصالها إنما يؤكدون على الانتقال من الشكل الأدنى للحب، وهو حب الجمال المادي، إلى الشكل الأعلى له وهو حب الحقائق الكبرى. يقول ابن عربي في كتابه فصوص الحكم: «فإذا شاهد الرجل الحق في المرأة، كان شهودًا في منفعل، وإذا شاهده في نفسه — من حيث ظهور المرأة عنه — شاهده في فاعل، وإذا شاهده في نفسه من غير استحضار صورة منه تكون عنه، كان شهوده في منفعل عن الحق بلا واسطة. فشهوده للحق في المرأة أتم وأكمل، لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل منفعل … فلهذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء لكمال شهود الحق فيهن؛ إذ لا يشاهد الحق مجردًا عن المواد أبدًا، فإن الله بالذات غني عن العالمين. وإذا كان الأمر من هذا الوجه ممتنعًا، ولم تكن الشهادة إلا في مادة، فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله.»٦
إن توكيد الحلمين على انجذاب جلجامش إلى إنكيدو كانجذابه إلى النساء، وتفسير ننسون الذي يتنبأ بصداقة مقبلة لا تنفصم بين الطرفين، إن هو إلا توكيد على الارتقاء من الحب الأدنى إلى الحب الأعلى، ولجم طاقة الليبيدو العارمة التي كان يفيض بها الجباران، وحرَّفها عن مسارها الأعمى لتوجيهها نحو أهداف نبيلة.٧

لقد وصف الفيلسوف اليوناني أفلاطون هذين النوعين من الحب وفرَّق بينهما، عندما قال في محاورة المأدبة، بأن النوع الأول متعلق بأفروديت-بابنديموس، وهو لا يترك أي أثر إيجابي، سواء على المحب أم على المحبوب؛ لأنه متجه نحو الجمال الظاهري دون تعلق بموضوع له محدد. فلا عجب، إن اتجه الواقع تحت تأثيره إلى أكثر النساء أو الغلمان حماقة لما يملكونه من جمال خادع، والتنقل بينهم لا يبغي سوى الجماع العابر. أما النوع الثاني، فمتعلق بأفردويت-أورانيوس، وهو يدفع كلًّا من المحب والمحبوب إلى تطوير نفسه والارتقاء بفضائله من جهة، وإلى الاهتمام بفضائل الآخر وتطويره في أمور العقل والحكمة.

إن الأمثلة على هذا النوع من الحب الأفلاطوني بين رجلين عظيمين، ليست نادرة في تاريخ الحضارة البشرية، ولعل أروع مثال عليه، تلك الصداقة الشهيرة التي ربطت بين المتصوف الإسلامي المعروف جلال الدين الرومي، وهو واحد من الشخصيات الروحية العظمى في ثقافة الشرق، ومتصوف آخر اسمه شمس التبريزي. عندما التقى شمسًا، كان جلال الدين قد بلغ مكانة رفيعة في العالم الإسلامي، وطبقت شهرته الآفاق كقطب ديني وصوفي. أما شمس الدين فكان درويشًا جوالًا يتمتع بشخصية طاغية مهيمنة ذات كبرياء روحي عظيم، جعلته يبدو دومًا كالأسد الجسور والشمس المحرقة (على حد تعبير بعض من وصفه). ترك موطنه في تبريز وراح يتجول في بقاع العالم الإسلامي بحثًا عن شيخ مرشد، مسلطًا لسانه بالنقد اللاذع على كل من عاصره من أهل التصوف، إلى أن التقى بجلال الدين في موطنه الجديد قونية. كان اللقاء الأول الذي تم في أحد طرقات المدينة فاتحة صداقة خالدة بين الرجلين، حين استوقف شمس جواد جلال الدين وطرح عليه سؤالًا جريئًا يسبر به غوره، فأجابه عليه جلال الدين بجرأة ووضوح ومباشرة، فعرف شمس أنه قد وجد ضالته التي يبحث عنها. ثم سار الاثنان معًا إلى مكان اجتماعهما الأول الذي استمر ستة شهور كاملة، انقطع خلالها جلال الدين عن حلقة تلاميذه ومريديه وعن دروسه الدينية، وتفرغ للحوار مع شمس التبريزي.

ويحكي من قام على خدمتهما في تلك الأثناء أن الصديقين كانا في حديث دائم لم يلههما عنه طعام أو شراب أو حاجة من حاجات الدنيا، عاكفان على الحوار أطراف الليل وآناء النهار. وعندما انتهت عزلتهما، راح المتطرفون من تلاميذ جلال الدين يدسون الدسائس على شمس الدين ملقين عليه اللوم في إهمال شيخهم لالتزاماته الاجتماعية، الأمر الذي حدا بشمس الدين إلى ترك قونية بعد مدة والعودة إلى تجواله في الأقطار. ولكن جلال الدين أرسل خلفه الرسل تبحث عنه في كل مكان إلى أن عثروا عليه أخيرًا في دمشق التي حل فيها حديثًا وعادوا به إلى قونية.

غير أن المقام لم يطل به هناك؛ إذ لقي حتفه قتلًا على يد بعض أتباع الشيخ، فراح جلال الدين ينظم شعر العشق الصوفي في شمس التبريزي إلى آخر أيامه. ولم يكن مؤلَفه الكبير المعروف ﺑ «المثنوي»، والذي يضم ثلاثين ألف بيت من الشعر، لينجز إلا بدافع ذلك الحب الكبير. وها هو بعد موت صديقه ينشد وحلقة الصوفية تدور على إيقاع الدفوف:
لست وحيدًا أغني: شمس الدين وشمس الدين،
بل ها هو الحجل في التلال يغني،
والبلابل تصدح في البساتين،
وسموات تدور وتدور.
شمس الدين منجم جواهر،
شمس الدين نهار وليل،
شمس الدين بحر لا متناهٍ،
شمس الدين نفس عيسى،
وجنَّات يوسف، شمس الدين.
ونقرأ له أيضًا:
من قال بأن خالد الحياة قد مات؟
من قال إن شمس الأمل قد أفَلت؟
إنه لعدو الشمس، صعد إلى الأسطح،
وعصب عينيه ثم راح يقول،
ها هي الشمس قد أفَلت.
لقد كان جلال الدين مهيأً لتجربة وجدانية عظمى، كان مصباح زيت نقي امتلأ بالزيت وأُحكمت فيه الفتيلة، ولم يكن ليعوزه سوى شرارة حتى يشتعل. وما كان شمس الدين سوى تلك الشرارة. غير أن النور الذي انبعث من المصباح ما برح يزداد قوة على قوة، وشمس الدين فراشة تدور حوله وتدور، إلى أن تهاوت على ذلك النور مضحية بحياتها.٨

كذلك كان شأن إنكيدو بالنسبة إلى جلجامش ودوره في حياته.

لقد كان تأثير صداقة إنكيدو على جلجامش حاسمًا، والحب الذي نشأ بينهما قد أخذ بتوجيه طاقته المتخبطة نحو أهداف نبيلة. لم يعد جلجامش الفرد الحر الوحيد بين جماعة من المسلوبين؛ إذ ظهر أمامه الآن رجل حر آخر، تعلم من تعامله معه كيف يحترم حريات الآخرين جميعًا، وأدرك أن الحرية الفردية لا معنى لها إن لم تتعاون مع حريات أولئك الآخرين وتتحدد من خلالها. ومع تلاشي أحلام الحرية المطلقة، أتى وعي مسألة الموت والتفكر فيه. نقرأ في النص السومري:
في مدينتي يموت الرجل كسير القلب،
يفنى الرجل حزين الفؤاد.
أنظر من فوق السور
فأرى الأجسام الميتة طافية في النهر،
وأراني سأغدو مثلها حقًّا؛
فالإنسان مهما علا، فلن يبلغ السماء طولًا،
ومهما اتسع، فلن يغطي الأرض عرضًا.
وفي النص البابلي:
من ترى يا صديقي يرقى إلى السماء،
الآلهة هم الخالدون في مرتفع شمَش،
أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض،
وقبض الريح كل ما يفعلون.
وهنا، تبدو نظرة جلجامش إلى الموت نظرة متأمل يبحث عن معنى الحياة القصيرة التي يعيشها الإنسان في هذه الدنيا الفانية. إنه مدرك للشرط الإنساني قابل به، باحث من خلاله عن جدوى للفعل وعن مضمون للحرية، فيجده في الأعمال الجليلة التي تخلِّد اسم صاحبها وتترك له اسمًا باقيًا على مر الأزمان. نقرأ في النص السومري:
سأدخل أرض الأحياء وأخلد لنفسي اسمًا هناك،
ففي الأماكن التي رفعت فيها الأسماء سأرفع اسمي،
وفي الأماكن التي لم ترفع فيها الأسماء سأرفع اسم الآلهة.
وفي النص البابلي:
سأمضي أمامك،
ولينادني صوتك: أنْ تقدَّم ولا تخف،
فإذا سقطت أصنع لنفسي شهرة:
لقد سقط جلجامش،
صرعه حواوا الرهيب.
(وإذا نجحت)
سأقطع أشجار الأرز،
وأنقش لنفسي اسمًا خالدًا.
والأفعال المجيدة التي ينوي جلجامش إتيانها لتخليد اسمه هي في نفس الوقت التزام أخلاقي. والصراع المرتقب مع وحش الغابة هو أيضًا صراع مع قوى الشر:
في الغابة، هناك يعيش حواوا الرهيب،
هيا، أنا وأنت، نقتله،
هيا نمسح الشر كله عن وجه الأرض.
وأيضًا:
فإلى اليوم الذي به أعود،
إلى أن أصل غابة الأرز،
إلى أن أقتل خمبابا الرهيب،
فأمحو عن الأرض كل شر يكرهه شمش،
صلِّ من أجلي عند شمش.

وهنا تبدأ مسيرة الرجلين الكبرى لتحقيق الإنجازات الباهرة برعاية إله الشمس شمش، رب العقل والصحو والقيم الذكَرية المتعلقة بالفتح والإنجاز والسيطرة والتسامي على الطبيعة، في مقابل القيم الأمومية التي تمثلها عشتار ربة الطبيعة، التي تدعو إلى كل ما هو غريزي منسجم مع حركة الطبيعة، لا سامٍ عليها ولا متنكر لها. لقد دُعيت سيدة الطبيعة، في كل ثقافات العالم القديم بالأم الكبرى للكون. وفي الثقافات التي لم تحفل بها على مستوى الفكر الشرعي السائد، كالثقافة العربية، فقد أدرك المتصوفون الإسقاطات الرمزية التي كانت الأم الكبرى محلًّا له. وهذا هو محيي الدين بن عربي يلخص في مقطع مبدع من فتوحاته المكية (ج٤/ ١٥٠ ) نظرة الإنسان إلى الطبيعة الأم المنفعلة في مقابل الأب الخالق الفاعل فيقول: «وليست إلا الطبيعة في هذه الدار فإنها محل الانفعال … لأنها للحق بمنزلة الأنثى للذكر، ففيها يظهر التكوين، أعني تكوين ما سوى الله. فللطبيعة القبول … فهي الأم العالية الكبرى للعالم.»

في مغامرتهما الأولى، يتقدم البطلان بأنظار الإله شمش نحو غابة الأرز البعيدة لقطع أشجارها وقتل حارسها (الكائن المخيف الذي يعينه لحمايتها الإله إنليل رب الغضب والعاصفة المدمرة) واقتحام مقام عشتار المقدس ومقر عرشها. وهذه أول سابقة في تاريخ البشر يضع فيها الإنسان إرادته في مقابل إرادة الآلهة، ويمتحن قوته تجاهها. لقد كان عبد خوفه من المجهول، يرى في كل ما حوله ظاهرة مقدسة تخفي وراءها قوى إلهية أو شيطانية طاغية، أما الآن ومع ابتداء الأوديسة الجلجامشية، فقد تم تحييد الطبيعة وإعطاؤها ماهية مادية منفعلة قابلة لاقتحام عقل الإنسان وفهمه وتحليله. لقد اكتشف العقل، وإلى الأبد، تميزه عن المادة وفاعليته فيها، وهو لن يرى بعد الآن فيما حوله سرًّا مستغلقًا، بل سرًّا مؤجلًا. فمنذ البدء، عصى آدم ربه في سبيل المعرفة المحرمة على بقية الأحياء، فوضع بذلك للبشرية هدفها الذي ستبقى ساعية إليه. وهو إذ تلقى غفران ربه بعد ذلك: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. قرآن كريم، إنما تلقى بركته للسير فيما اختطه لنفسه، وفيما خلقه الله له. وعندما هبط الابن من السماء فصار بشرًا، ثم صعد لاتخاذ مكانه عن يمين الأب، فقد أعلن عن الماهية الإلهية للإنسان، وكشف له عن مكانه المهيأ، بعد خلافته للأرض.

يغادر جلجامش أوروك بصحبة إنكيدو، بعد حصوله على بركة شيوخ المدينة ممن خرجوا لتوديعه. فجلجامش الآن لم يعد ذلك الحاكم الباطش الذي يرهبه الناس ويخشون بأسه، بل الحاكم العادل المحبوب الذي يحزن الشعب لغيابه ويدعو له بعودة سريعة سالمة. ويستغرق وصف رحلتهما اللوح الرابع من النص ومعظم اللوح الخامس، حيث تظهر كل عواطف البطلين الإنسانية، من إقدام وتردد، وشجاعة وخوف، ويقين وشك. وعندما يقتحمان البوابة المسحورة ويصلان أعماق الغابة يصطدمان بحارسها الذي استيقظ على صوت فأس جلجامش يقطع شجر الأرز، وتنشب بين الطرفين معركة سريعة يقوم في نهايتها البطلان بقطع رأس خمبابا وتقديمه قربانًا للآلهة.

عاد جلجامش إلى أوروك بعد أن طبقت شهرته وإنكيدو الآفاق، فغسل أسلحته واستحم وأسدل شعر رأسه على كتفيه، ولبس ثيابه الملكية، ووضع التاج على رأسه، فرأته الإلهة عشتار وقد جللته هيبة النصر فوقعت في حبه، وعرضت عليه الزواج منها معددة الخيرات التي ستغدقها عليه إن قبل. وهنا تظهر ثقة جلجامش الإنسانية بنفسه في أقوى أشكالها؛ إذ لا يكتفي برفض عرض إلهة العشق الجنسي، بل شرع أيضًا في تعداد مثالبها وخياناتها لعشاقها. وهو في ذلك إنما يؤكد مرة أخرى على تركه للشكل الأدنى من الحب وانتقاله إلى شكله الأعلى. فتثور ثائرة الإلهة وتعرج إلى السماء تطلب من أبيها الانتقام ممن أهانها، فتسأله أن يعطيها ثور السماء لتقتل به جلجامش. وعندما يُسلم آنو إلى يديها قياد الثور بعد تردد، تدفع به إلى أوروك يعيث في المدينة فسادًا ويقتل في طريقه مئات الناس. ولكن جلجامش وإنكيدو ما لبثا أن تصديا له، وبعد مواجهة قصيرة استطاع إنكيدو تقييد حركة الثور بينما طعنه جلجامش طعنة قاتلة، ثم انتزعا قلبه وقدماه قربانًا للإله شمش. عند هذا الحد يبلغ الحنق بعشتار أقصى درجاته، فتصعد أسوار أوروك صارخة مولولة تصب لعناتها على جلجامش:
صعدت إلى الذروة وصبت لعناتها:
ويل لجلجامش، قد مرغني بالتراب من قتل ثور السماء.
وهنا تنال عشتار الإهانة الثانية. فمنذ قليل وجه إليه جلجامش إهانة أدبية صبها في كلمات منمقة، أما إنكيدو رجل البراري الذي لا يعرف صياغة الكلمات فقد انتزع، لسماعه صراخ عشتار ووعيدها، فخذ الثور القتيل ورماه في وجهها ورد على تهديدها بتهديد أعنف:
لو استطعت بك إمساكًا؛
لنالك مثل ما ناله،
ولربطت أحشاءه إلى خصرك.

ونحن في تاريخ البشرية كلها لا نعثر على موقف شبيه بهذا الموقف الذي يبلغ فيه الإنسان حدًّا من الثقة بنفسه، يتجاوز معه كل حدود فاصلة بين عالم البشر وعالم الآلهة. لقد جُرحت الإلهة أفروديت، بعد ذلك بألف عام عند أسوار طروادة، عندما لبست عدة الحرب ونزلت متنكرة لمساعدة جيش هيلين المخطوفة، ولكنها لم تنل من الإهانة والتمريغ بالتراب ما نالته عشتار على يد بشر فانٍ. فملحمة جلجامش تؤرخ لظهور الفرد في مسيرة الحضارة البشرية، وتكون الشخصية الإنسانية التي تؤمن بنفسها قدر إيمانها بالآلهة.

ومن ناحية أخرى، فإن موقف جلجامش وإنكيدو من الإلهة عشتار، قد سُجل في زمن بلغ فيه الصراع الديني بين الديانة الأمومية القديمة والديانة الذكرية الجديدة أوجَه. فملحمة جلجامش من أولها إلى آخرها، هي ملحمة الذكر الفاتح الذي يبني ويشيد واضعًا بصمته على الطبيعة، خارجًا من أحضانها إلى الأبد، بعد أن استسلم لها عشرات الألوف من السنين. وتشكل الملحمة، مع أسطورة التكوين البابلية (التي وضعت في نفس الوقت تقريبًا، عند منقلب الألف الثاني ق.م.) نقطة علام بارزة في ترسيخ القيم الذكرية للمجتمع البطريركي المتقدم على أنقاض المجتمع الأمومي. لقد دعا النص البابلي القديم معبد إيانا بمعبد آنو، رغم أن هذا المعبد كان مكرسًا للإلهة عشتار منذ ظهور مدينة أوروك، أما نص الملحمة الأخير فيدعوه بمعبد آنو وعشتار. وهذا التحول في التسمية يشير إلى حصول استقرارٍ في الصراع بعد أن تم إنزال الإلهة الأم إلى المرتبة الثانية، ولم تعد تشكل مصدر خوف وقلق للآلهة الذكور الذين استقروا على عروشهم دون منازع.

وفي هذا المجال، أود أن أقف وقفة قصيرة أمام مصرع ثور السماء على يد جلجامش، للنفاذ إلى البُعد الرمزي لهذا الحدث. فمن هو ثور السماء؟ ولماذا لا نجد لهذا الكائن الأسطوري ذكرًا خارج ملحمة جلجامش؟ لماذا أعلنت عشتار بأن قاتل الثور قد مرغها بالتراب؟ في اعتقادي، يستلهم كاتب الملحمة أسطورة قديمة جدًّا ترجع إلى عتبة التاريخ المكتوب. وهذه الأسطورة إن لم توضع كتابة فقد خلدتها أعمال الفن التشكيلي، وخصوصًا الأختام الأسطوانية منذ فجر التاريخ في سومر، حيث نجد مشهدًا متكررًا لصراع بين أسد وثور. وهذا المشهد ينطوي على بُعد أسطوري ورمزي عميق. فمنذ العصور الحجرية، كان الثور رمزًا للقمر، وموضع تقديس في الديانات القمرية التي عبدت الأم الكبرى؛ أول آلهة البشر وأقدمها. أما الأسد فقد كان على الدوام رمزًا شمسيًّا. يمثل قوى آلهة السماء وآلهة الشمس. وليس الصراع بينهما إلا صراعًا بين الآلهة الشمسية والآلهة القمرية، وهو ما تم خلال الحلقات الأخيرة من العصر الحجري الحديث، وانتهى في بدايات العصور التاريخية لصالح الديانات السماوية الشمسية، حيث تم دفع الديانات القمرية وآلهتها إلى المرتبة الثانية. وجلجامش في الملحمة، إنما يلعب دور إله الشمس نفسه في الصراع مع إلهة القمر، وقتاله لثور السماء ليس إلا صدى بعيدًا لصراع الشمس والقمر. ولعلنا واجدون في النص أكثر من إشارة تعقد صلة بين جلجامش ورموزها. فإضافة إلى تلك العروة الوثقى بين البطل والإله شمش، فإن جلجامش يرتدي في رحلته الطويلة جلد الأسد، وهو يسير في باطن عبر درب الشمس السفلى في فوهة المغرب ويخرج من فوهة المشرق.

مع الانتصار على ثور السماء، تبلغ مرحلة البطولة والإنجازات الباهرة قمتها، وتصل حرية الفعل الإنساني الحر أقصى حد لها، متجاوزة شرط البشر مستولية على مواقع متقدمة من أرض الآلهة. لقد حفر البطلان لنفسيهما اسمًا خالدًا لا يفنى، طالما بقي منشدٌ على الأرض يتغنى بالنبالة والبطولة الإنسانية. وها هما في قمة النشوة بالوجود الأرضي، يقودان عربتهما في أسواق أوروك، وجلجامش ينادي بأعلى صوته:
من المجيد بين الأبطال؟
من الظاهر فوق الرجال؟
فتردد عذارى أوروك:
جلجامش هو المجيد بين الأبطال،
إنكيدو هو الظاهر فوق الرجال.

غير أن رد فعل الآلهة قد جاء سريعًا، فتحركوا لإعادة التوازن بين عالم البشر وعالم الآلهة، عقدوا اجتماعًا وقرروا إنزال العقوبة بالبطلين اللذين وضعا القدم في الأرض الحرام. فإنكيدو يجب أن يموت، وجلجامش سيفجع بصديقه ويندبه ما تبقى من عمره، وسيبقى موت إنكيدو أمامه عبرة تذكره بشطره الإنساني دائمًا وأبدًا.

ينفذ قضاء الآلهة دون أن يستطيع شمش تقديم عون يُذكر، فيرقد إنكيدو في فراش المرض يعاني سكرات الموت، ويرى في أحلامه العالم الأسفل الذي سيهبط إليه قريبًا، وأحوال الموتى فيه، ثم يراجع شريط حياته فيندم على تركه حياة البرية وإتيانه المدينة، ويلعن باب الغرفة الذي أتى بخشبه من غابة الأرز، والصياد، وكاهنة الحب التي غيرت حياته فودع طمأنينة الحيوان السابقة ودخل في سلسلة من المغامرات جلبت عليه نقمة الآلهة وقضاء الموت. ولكن الإله شمش كلمه من السماء قائلًا:
لماذا يا إنكيدو تلعن المرأة؟ كاهنة الحب
التي علمتك أكل الخبز، طعام الآلهة،
وشرب الخمر، شراب الملوك.
من كستك ثيابًا فاخرة،
وأعطتك جلجامش الرائع، صديقًا.
فالآن، هو أخ لك.
لقد جعلك تستريح إلى أريكة الشرف،
حيث يقبِّل ملوك الأرض قدميك.
وغدًا، سيجعل أهل أوروك يندبون موتك،
ومن بعد: هو نفسه سيطلق شعره،
وسيكسو جسده بجلد الأسد، هائمًا في الصحاري.
لدى سماعه كلمات شمش، يهدأ فؤاد إنكيدو ويحول لعناته السابقة إلى بركات. لقد فهم مضمون خطاب شمش واطمأن إليه، ذلك الخطاب الذي يلقي ضوءًا هامًّا على معنى الملحمة ورسالتها، إذا فُهم في سياقه الصحيح. فالحياة رغم قصرها حافلة بما هو نبيل وعظيم، والإنسان قادر على تفجير لحظاتها والإمساك بعنان زمنها المنطلق نحو الأمام، لا لإيقافه أو امتطائه إلى الأبد، بل لترويضه واستنفاد ممكناته. فمعنى الحياة كامن فينا لا خارجنا، فيما نستطيع فعله خلالها وفيما يستطيعه الآخرون انطلاقًا من حيث انتهينا. ففي الحضارة يكمن رد الإنسان على الموت. لقد ماتت ملايين الملايين من الحيوانات منذ ظهور الحياة على الأرض، دون أن تترك أثرًا يدل عليها سوى بعض من مستحاثاتها، أما الإنسان فقد صنع الحضارة وهو مستمر في صنعها ماضٍ في المعرفة واكتساب الحكمة والتعمق في أسرار الكون. لقد انتقل إنكيدو من حياة البرية إلى المدينة حيث عاش حياةً مفعمةً ثم مات غير آسف؛ لأنه قد عاش منجزات الحضارة وشارك في صنعها، وخبر ذلك التعاطف الإنساني مع الجماعة، الذي يجعل للحياة طعمًا وجدوى. وعندما يأتي الموت لإنكيدو لا يبدو جزعًا منه، بل آسفًا لموته على فراشه بدل أن يموت خلال إتيانه لفعل جليل:
لن أموت كمن سقط في ساح القتال،
قد غشيت الوغى يومًا […]
مبارك يا صديقي من في ساح القتال يموت،
ولكن ها أنا ذا [في خزي أموت].
وبينما إنكيدو يغرق في ظلمة الموت شيئًا فشيئًا، بدأ جلجامش مناحته الكبرى التي دامت أيامًا طوالًا بعد موته. كان يدعو كل الأحياء والجمادات ومظاهر الطبيعة لتشاطره حزنه على إنكيدو: حيوانات الفلاة ومسالك غابة الأرز وشيوخ أوروك وشبانها والبراري والأنهار. وعندما هدأت حركة إنكيدو تمامًا، يصرخ جلجامش صرخة ما زالت أصداؤها تتردد منذ ذلك التاريخ، ويبدأ في مناجاة خِله في مقطع يُشكل قمة الإبداع الأدبي في الملحمة:
أنصتوا إليَّ يا شيوخ أوروك، اسمعوني.
إنني أبكي صديقي إنكيدو.
أبكي بحرقة النساء الندابات.
كانت البلطة إلى جنبي، والقوس في يدي.
المدية في حزامي، والتراس الذي أمامي.
حلة عيدي، فرحي الوحيد.
إنكيدو، يا صديقي، يا أخي الصغير.
يا من سابق حمار وحش البراري وفهد الفلاة.
لقد ذلَّلنا معًا الصعاب وارتقينا الجبال.
أمسكنا بثور السماء وقضينا عليه،
صرعنا خمبابا ساكن غابة الأرز.
فأي نوم هبط عليك
فغبت في ظلام لا تسمع كلماتي.

لم يصدق جلجامش موت إنكيدو، بقي إلى جانبه ستة أيام وسبع ليال، ولم يسلمه إلى الدفن حتى وقع الدود من أنفه. وهنا تنهار عوالم جلجامش القديمة برمتها، ويتحول الواقع إلى ركام مختلط الأشكال والألوان، ويبدأ رحلته الكبرى في البحث عن المستحيل.

(٣) المرحلة الثالثة

(٣-١) تفكك الواقع: البحث عن المستحيل

مرة أخرى يغادر جلجامش أوروك، ولكن وحيدًا شريدًا طويل الشعر يرتدي جلود الأسود التي يصطادها في الطريق. لم يخرج لوداعه شيوخ أوروك، ولم ترافقه إلى مشارف المدينة جوقات النصر، بل تسلل بهدوء وصمت تاركًا وراءه كل ما بنى وأشاد، في رحلة تبدو خارج الزمان والمكان الأرضيين. وهو إذ يغذ السير باحثًا عن أوتنابشتيم الحكيم، الذي نجا من الطوفان الشامل وأنقذ الحياة من الانقراض على سطح الأرض، فنال نعمة الخلود، إنما يعكس الزمن ويسير في اتجاه منقلب إلى الماضي، متنكرًا للواقع رافضًا له، في استجلاء لسر المستقبل، وبحثٍ عن معنى الحياة والموت. وبحثه عن معنى الحياة والموت هذا، لا يتخذ طابعًا عقليًّا منطقيًّا، بل طابعًا حلميًّا لنفس مفككة لا تجد في رفضها للواقع أفضل من البحث عن المستحيل.

في مطلع المرحلة الثانية من تطوره، لم يكن جلجامش يمتلك أية أوهام حول مسألة الحياة والموت. كان قابلًا بفكرة الموت، باحثًا عن معنى الحياة في الالتزام الأخلاقي وتحقيق جلائل الأعمال التي تخلد الذكر. وهو القائل لإنكيدو يحثه على المضي معه لقتال حواوا:
الآلهة وحدهم، هم الخالدون في مرتع شمش،
أما البشر فأيامهم معدودة على هذه الأرض.
أما الآن، وبعد أن قابل الموت وجهًا لوجه في حقيقته العارية، بعيدًا عن زخارف البطولة والمجد التي أحاطت لقاءه بالموت من قبل، فقد سقطت كل الغلائل الرومانسية التي تحجبه عنه. ها هي جثة صديقه الغالي مسجاة أمامه، تنهشها ديدان حقيرة لا تعبأ بأمجاد صاحبها، ولم تسمع بقتل حواوا ولا بدحر ثور السماء. وهذه الجثة، هي بشكل ما جثة جلجامش نفسه، والديدان في انتظار سقوطه لتفعل به فعلها بإنكيدو:
فانتابني هلع الموت حتى همت في البراري،
يثقل صدري خطب أخي،
ما لي من هدأة وما لي من سكون،
فصديقي الذي أحببت صار إلى تراب،
وأنا، أفلا أرقد مثله ولا أفيق أبدًا؟
وأيضًا:
أواه يا أوتنابشتيم. ماذا أفعل؟ أين أسير؟
لقد تسلل البلى إلى أطرافي،
وسكنت المنية حجرة نومي،
وحيثما قلبت وجهي أجد الموت.

فما معنى خلود الذِّكر، وأي شيء من جلائل الأعمال ونحن جثث لا حراك بها تطويها ظلمة النسيان، وتنشر فتاتها في كل اتجاه رياح الأزمان؟ هنا تنهار الأهداف التي وضعها جلجامش لحياته خلال رفقته القصيرة الحافلة لإنكيدو، وتبدو الحياة فارغة من أي معنى وهدف وغاية، فيسبح ضد تيار الزمن نحو البدايات، إلى أزمان ما قبل الطوفان.

وهنا يجب التفريق بين الدافع الحلمي الذي يسوق جلجامش في رحلته، والدافع الحقيقي الكامن. فجلجامش لم يكن باحثًا عن الخلود، حقيقة، كما تؤكد معظم التفسيرات والدراسات التي وضعت حتى الآن، بل كان باحثًا عن المعنى في الحياة، وعودته إلى أوروك في النهاية، لم تكن هزيمة للإنسان أمام هدف محكوم سلفًا بالهزيمة، بل انتصارًا لحياة وجدت المعنى فيها والغاية. لقد اتخذ البحث عن معنى الحياة، على المستوى الواقعي، شكل البحث عن الخلود على المستوى الحلمي. وفي كل مرحلة من مراحل رحلته كان جلجامش يتلقى درسًا في معنى الحياة.

تتميز رحلة جلجامش الثانية عن رحلته الأولى بلا واقعيتها وجوها الأسطوري. خلال رحلته الأولى إلى غابة الأرز كان يتحرك ضمن حيز وزمان أرضيين، فالمسافة محسوبة بدقة، يقطعها بمقياس الساعة المضاعفة التي تعادل بمقياسنا ١٠٫٨كم، والأمكنة التي يرتادها أمكنة حقيقية ومعروفة، والزمن يمر بالأيام والليالي والشهور. وأثناء ذلك، كان البطلان يضطرمان بالعواطف الإنسانية التي تختلج في نفس كل فرد، فنراهما مقدمين ومحجمين، هيابين ومتهورين، يحدوهما الأمل تارة وتعتورهما الشكوك تارة أخرى، أما في رحلته الثانية إلى أوتنابشتيم، فقد انقطع جلجامش عن الزمان والمكان الأرضيين، وعن العواطف البشرية المتلونة. فهو يتحرك في حيز غير محدد، ويرتاد مفازات لا وجود لها على خرائط ذلك العصر، دون أن يحكم حركته تدفق الزمن المعروف. والأشخاص الذين يقابلهم ليسوا ممن عهدناهم في مراحل الملحمة السابقة. فجلجامش يسير في اللامكان مدفوعًا بهاجس مسيطر واحد، حتى يصل جبل ماشو الذي تمتد أساساته إلى العالم الأسفل وتناطح ذراه حدود السماء. وهناك يقابل البشر العقارب، ثم يسير في درب الشمس السفلى قاطعًا الكون المعروف من مغرب الشمس إلى مشرقها، فيخرج إلى حدائق ثمارها من عقيق وأحجار كريمة، ثم يخرج منها ليجد نفسه عند حافة الأوقيانوس العظيم المحيط بالكون، وهناك يلتقي بالفتاة الغامضة سيدوري ساقية حان الآلهة، وبعدها بأورشنابي الملاح الذي يقطع معه مياه الموت وصولًا إلى الجزيرة التي تقع خارج المكان المعروف أو المُتصور، والتي يعيش فيها مع زوجته بطل أسطورة الطوفان الخالدة.

لقد تحرك جلجامش من أرض الواقع إلى أرض الأسطورة، ومن زمن الناس إلى الزمن المقدس، في بحثه عن الحقيقة، في رحلة سيكولوجية لا واقعية تقوم بها نفس منفصمة متشظية، تحاول رأب صدعها ولملمة نفسها من جديد، مستعينة بالأسطورة التي تختزن الحقائق وخبرة البشر النفسية والفكرية عبر العصور. وفي كل لقاء له كان يكرر نفس القول، مستعيدًا إنجازاته مع إنكيدو، فموت صديقه الوحيد، فهيامه على وجهه بحثًا عن الخلود. وفي كل مرة كان يستمع إلى نفس الدرس:
قال له شمش:
إلى أين تمضي يا جلجامش،
وأين تسعى بك قدماك؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
وقال له أوتنابشتيم:
هل نشيِّد بيوتًا لا يدركها الفنا؟
وهل نعقد ميثاقًا لا يصيبه البلى؟
هل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى دهرًا؟
وهل ينزرع الحقد في الأرض دومًا؟
وهل يخرج اليعسوب من شرنقته
ليدير وجهه للشمس طوالًا؟
فمنذ الأزل لا تظهر الأمور ثباتًا.
في البدء اجتمع الأنانوكي الآلهة الأكابر،
وزعوا الحياة والموت،
ولم يكشفوا لحي عن يومه الموقوت.
فالحياة قائمة بالتغير الدائم، والوجود صيرورة لا ثبات. وهذا يعني أن الخلود هو شكل من أشكال العدم لا شكل من أشكال الوجود. وجلجامش نفسه، عندما يجتمع بأوتنابشتيم بعد طول تلهف، لا يرى فيه صورة مشرقة للخلود الذي يبحث عنه. فها هو في جزيرته النائية مستلقٍ على جنبه أو قفاه لا يفعل شيئًا ولا ينتظر أن يأتيه الزمان بشيء:
أنظر إليك يا أوتنابشتيم،
شكلك عادي، وأراك مثلي.
صوَّرك لي خيالي كبطل على أهبة القتال،
ولكن ها أنت مضطجع على جنبك أو قفاك،
فقل لي كيف صرت مع الآلهة ونلت الحياة؟

ألم تكن العودة إلى أوروك، والدخول مجددًا في الزمن الحار، أفضل من هذا الوجود الثقيل، والزمن المتطاول الذي لا يسعى إلى غاية؟

أما حديث سيدوري فتاة الحان، فيشكل في تفسيرنا، بؤرة الدرس الذي تعلمه جلجامش في النهاية:
إلى أين تمضي يا جلجامش؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
فالآلهة لما خلقت البشر
جعلت الموت نصيبًا لهم،
وحبست في أيديها الحياة.
أما أنت يا جلجامش، فاملأ بطنك،
افرح ليلك ونهارك،
اجعل من كل يوم عيدًا،
ارقص لاهيًا في الليل وفي النهار،
اخطر بثياب زاهية نظيفة،
اغسل رأسك واستحم بالمياه،
دلل صغيرك الذي يمسك بيدك،
وأسعد زوجك بين أحضانك،
هذا نصيب البشر في هذه الحياة.

لقد ضلل حديث سيدوري المباشر، وصياغته الحسية القريبة المعاني، معظم المفسرين الحديثين ممن رأوا في الملحمة هزيمة واندحارًا، ودعوة إلى موقف نهليستي عدمي من الحياة. وفي الحقيقة، فإن ما تريد سيدوري قوله، هو أن هدف الحياة ومعناها قائم فيها، في الممكنات غير المحدودة التي تتيحها لنا، والتي نعمى عنها عندما يداهمنا رعب الموت فنسعى لإطالة حياة لا ندري ماذا نفعل بها. إن حديث سيدوري ليطرح سؤالًا جوهريًّا، يسأله نفسه، كل حالم بالخلود: هل استنفدت ممكنات الحياة قبل أن تطمح إلى الخلود؟ هل أغنيت حياتك وحياة الآخرين من حولك قبل أن تطمح في تمديدها. الموت حق ولكن الحياة حق أيضًا، ونحن قادرون على تفجير كل لحظة من لحظاتها وتفتيح أقصى ممكناتها. وإن الممكنات التي عددتها سيدوري ليست إلا أمثلة عن الممكن لا حصرًا له.

ولكن نفس جلجامش المشتتة لم تعِ تمامًا دروس الرحلة، قبل أن يهبط إلى أعماق مياه الغمر العظيم، حيث مسكن الإله إنكي، لجلب النبتة العجيبة التي تجدد شباب من يأكل منها. ففي حياة كل رجل حكيم لحظة كشف ومعرفة تأتيه بغتة بعد طول كدح في سبيلها. وقد جاء جلجامش الكشف الذي أزاح عن بصيرته الغمام ﺑ «شارة» وضعها له إله الحكمة والماء في الأعماق حيث جذور النبتة السحرية. أية شارة تلك؟ لا أحد يدري، ولا جلجامش نفسه ينطق بما رأى، أو بما لعله سمع:
عندما دخلت المجرى وفتحت القناة،
وجدت شارة لي، وإني أعلن انسحابي.

(٤) المرحلة الرابعة

(٤-١) إعادة تركيب الواقع

تنتهي رحلة جلجامش الحلمية بعد سماعه من أوتنابشتيم قصة الطوفان، وكيف حصل على الخلود نتيجة وضع استثنائي لن يتكرر لأحد من البشر. ثم يدرك نواحي قصوره الإنساني عقب إخفاقه في امتحان التغلب على النوم الذي تحداه إليه أوتنابشتيم، ولكنه بقي متعلقًا بهدب أمل واهٍ، فما إن نزل أوتنابشتيم عند رغبة زوجته ودل جلجامش على النبتة السحرية التي تعيش في الأعماق المائية، والتي تجدد شباب من يأكل منها دون أن تهبه الخلود، حتى هبط إليها فاقتلعها بعد لأي وعناء وحملها إلى السفينة التي جهزت لعودته إلى أوروك:
إنها لنبتة عجائبية يا أورشنابي،
بها يستعيد الإنسان قواه السابقة،
سأحملها معي إلى أوروك المنيعة وأعطيها للشيوخ يقتسمونها،
وأسميها رجوع الشيخ إلى صباه،
ولسوف آكل منها أيضًا فأعود إلى شبابي.

نلاحظ من خطاب جلجامش هذا، إلى أورشنابي، الذي يأتي في نهاية رحلته الحلمية، وفي نهاية الملحمة تقريبًا، كيف انتهى هاجس جلجامش المسيطر، وجريه المجنون وراء مصيره الفردي الخاص. فهو إذ يحمل النبتة السحرية معه إلى أوروك، سيجعل الشيوخ يقتسمونها فيما بينهم لتجديد شبابهم، وسيكون آخر من يأكل منها لا أولهم. وفي ذلك إشارة إلى التحول الجذري العميق الذي حققه جلجامش عبر الملحمة، من الموقف الفردي الخاص إلى الاهتمام بصالح المجموع؛ إذ لا قيمة للخير يصيب فردًا واحدًا إن لم نشرك به الآخرين. كما يتضح من مضمون هذا الخطاب، أن جري جلجامش وراء مصيره الخاص، عبر المرحلة الثالثة من تطوره، لم يكن إلا شكلًا ظاهريًّا لجريه الأعمق في سبيل حل معضلة وجودية تتعلق بالشرط الإنساني عمومًا.

شرع جلجامش في رحلة العودة ومعه أورشنابي ملاح أوتنابشتيم المطرود جزاء اقتياده جلجامش إلى الأرض الحرام. وتتميز رحلة العودة بواقعيتها وسرعتها وخلوها من التفاصيل. فلا نقطع مع جلجامش في عودته بحار الموت، ولا نحط عند شاطئ الأقيانوس حيث مسكن سيدوري، ولا نمر بحدائق العقيق واللازورد، ولا نعبر جبال ماشو حيث البشر العقارب أو نفق الشمس الطويل، ولا نتطوح في البراري الموحشة والأدغال العذراء. ذلك أن رحلة العودة إلى أوروك هي رحلة العودة إلى الواقع، وانتهاء للرحلة الحلمية. فبسطرين اثنين فقط يصف النص الطريق من جزيرة أوتنابشتيم إلى الشاطئ الآخر:
بعد عشرين ساعة مضاعفة توقفا للطعام،
بعد ثلاثين ساعة مضاعفة توقفا لقضاء الليل،
فرأى جلجامش بركة ماء بارد،
نزل فيها واستحم بمائها،
فتشممت أفعى رائحة النبتة،
تسللت خارجة من الماء وخطفتها،
وفيما هي عائدة، تجدد جلدها،
وهنا جلس جلجامش وبكى.
بعد خسارة جلجامش لأمل تجديد الشباب بعد أمل الخلود، يسقط عالم الحلم نهائيًّا، ويتابع رحلته إلى أوروك بعد أن يترك السفينة عند الشاطئ، وقد تحرر تمامًا من كل وهم. وهنا يصف النص بسطرين آخرين فقط بقية الرحلة. وعندما يحط جلجامش رحاله في أوروك ويطلب من أورشنابي أن يتلمس سورها ويفحص أساسه وصنعة آجره، تكون عودته إلى الواقع قد اكتملت.
بعد عشرين ساعة مضاعفة توقفا للطعام،
وبعد ثلاثين ساعة مضاعفة توقفا لقضاء الليل،
وعندما وصلا أوروك المنيعة
قال له، جلجامش قال لأورشنابي الملاح:
«أي أورشنابي، اعل سور أوروك، امشِ عليه،
المس قاعدته، تفحص صنعة آجره. أليست لبناته من آجر مشوي،
والحكماء السبعة من أرسى له الأساس؟»

وهكذا تنتهي الملحمة بما ابتدأت به من وصف لأسوار أوروك المنيعة التي بناها جلجامش، لا لإظهار الحلقة المفرغة التي سار بها جلجامش، وعبثية رحلته الكبرى (كما تقول معظم التفسيرات)، بل لتوكيد فكرة هي في البؤرة من تفسيرنا: فجلجامش قد غادر واقعًا غير مفهوم وغير مقبول، ليعود إليه بحكمة تساعده على فهمه وقبوله وتجاوزه.

إن الأسطر الأولى من الملحمة، التي تتحدث عن مآثر جلجامش وأعماله، لا تتطرق إلى بحثه عن الخلود، بل تركز على الحكمة التي اكتسبها بكدحه الطويل المرير. وهي بذلك تستبق النهاية التي توصل إليها، وعودته سالمًا غانمًا راضيًا، يحمل كنزًا من المعرفة والحكمة التي هي هدف الإنسان في هذه الحياة ومصدر سعادته. لقد أخفق جلجامش في الحصول على الخلود، ولكنه توصل إلى معرفة معنى الحياة وغايتها. ذلك المعنى الذي يكمن في الحرية مع الآخرين ومن أجل الجميع، في الفعل الحر الخلاق، لا من أجل خلود الذكر الفردي، بل من أجل أهداف إنسانية شاملة، في الحضارة الإنسانية الساعية أبدًا لتنصيب الإنسان ملكًا يجلس على يمين العرش الإلهي. في استنفاذ حدود الممكن وإبقاء الأبواب مفتوحة على غير الممكن؛ لأن الممكن وغير الممكن نسبيان في كل أوانٍ وزمانٍ، وأخيرًا في الحكمة والمعرفة التي نطرق بها باب المستحيلات.

لم يقهر جلجامش الموت، بل وحتى لم يقهر خوفه من الموت؛ لأن الخوف من الموت شرط لحب الحياة واستنفاذ ممكناتها. لقد قبل الموت، وبقبوله للموت قد قبل الحياة.

١  J. H. Tigay, The Evolution of The Gilgamesh Epic, p. 203.
٢  راجع مؤلفي: «مغامرة العقل الأولى» فصل التكوين البابلي.
٣  دور المرأة في تحضير المجموعات البشرية الأولى، مشروح في ثنايا كتابي «لغز عشتار».
٤  ثوركيلد جاكوبس ١٩٣٠م.
٥  معاني هذه الكلمات الخمس مأخوذ عن مقالة منشورة للسيد G. F. Held مطبوعات جامعة شيكاغو ١٩٨٣م.
٦  محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم.
٧  أنا مدين بهذه اللفتة إلى الباحث Held في مقالته التي أشرت إليها في الهامش السابق.
٨  المعلومات التي أوردتها هنا مأخوذة عن دراسة للمستشرقة الألمانية «آنا ماري شيمل» منشورة في العدد ٢١ من مجلة «فكر وفن» الصادرة في ميونيخ، وقد قامت بترجمة الأشعار عن الفارسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤