مواجهة نقدية

هكذا تكلم نجيب محفوظ

١

تعددت الدراسات حول أدب نجيب محفوظ خلال السنوات العشرين الأخيرة، ولكن بعض الظواهر الخاصة بأعمال هذا الكاتب لم تنَلْ بعدُ حقَّها — لا حظَّها — من الدراسة والتحليل.

ومن بين هذه الظواهر هناك ثلاث تحتاج، إضافة إلى الرؤية النقدية، إلى أدوات علم الاجتماع الأدبي.

وأولها عملية تأسيس فن الرواية؛ ذلك أن التأسيس عملية، وليس معطًى أو صدفةً عشوائية أو احتمالًا.

وهنا أضع هذا الافتراض، وهو أنه كان لا بد لمصر من أن تؤسس هذا الفن الروائي، لا لأن قوامها السوسيولوجي يشكل «مجتمعًا سرديًّا»، كما يقال في بعض الأحيان، وإنما لأن درجة التطور الاجتماعي كانت قد بلغت بمصر مستوًى من «التعقيد» يسمح في إحدى المراحل بولادة البنية الروائية. وهي المرحلة التي انتقل فيها شبه الإقطاعي إلى التجارة والصناعة، فأصبح أقرب ما يكون إلى «البرجوازي الممسوخ» الذي تتحول سيرته إلى «رحلة المسخ من التشوه إلى الحرية».

وهي رحلة الحداثة الغربية إلى الحضارة المقهورة، ورحلة السلطة من الوطن إلى الأجنبي، ورحلة المواطن إلى الدولة، ورحلة الجميع إلى «السوق» المهيمن عليها في النسق الهرمي؛ بدءًا من الجابي وانتهاءً بالسلطان.

هذه الرحلة، جزئيات منها وقعت في بلاد الشام، وبعض الجزئيات في ديار المغرب. وقد أثمرت هذه الجزئيات رواية هنا وأخرى هناك في تلافيف القرن الماضي. ولكن هيكل الرحلة وبنيتها الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية؛ لم تتكامل في غير مصر. من تحديث الدولة إلى تحديث المجتمع، تناقضت العلاقات الاجتماعية الواجبة السيادة على القيم والمعايير المستقرة في الفكر والسلوك. كان المصدر الأول للتناقض هو أن «الحداثة» وافدة من الخارج في ظروف غير متكافئة، بل إن مصدر التحديث هو ذاته مصدرُ القهر. وكان المصدر الثاني هو أن القدوم الاستعماري قد كرَّس التجزئة القومية للولايات العربية الخاضعة للسلطنة العثمانية، فأصبح النمو أسيرًا لمقومات القطر الواحد، وبعيدًا عن التمدد الأفقي المشترك في نظرية الأواني المستطرقة.

ونتيجة لذلك أقبل الموهوبون والتجار والهاربون من الاضطهاد، من سوريين ولبنانيين، إلى مصر، فازدهرت الأفكار والفنون في هذه البيئة دون غيرها، لا لأنها كانت ولاية شبه مستقلة فقط، أو أنها تميزت بالسماحة الدينية؛ وإنما لأن قوامها الاجتماعي كان قد صيغ في دولة أتاح التفاعل بين وظيفتها وبين التشكيلات الاجتماعية المحيطة بها على ضفتَي النهر من الجنوب إلى الشمال، أن تُحرزَ درجة من التطور، عندها يمكن — ولعله يجب — تأسيس فن الرواية وفن القصة وفن المسرح، بل والتأثير في فننا العريق؛ الشعر.

كانت الاحتياجات الفكرية والوجدانية لهذا التطور الاجتماعي قد تبلورت في تجاوز «المقامات» الموروثة. وتجاوزت أيضًا التمصير واللبننة أو التعريب للروايات الغربية. وبدأت سلسلة من المحاولات الهازلة والجادة معًا؛ لتأليف رواية مصرية أو لبنانية أو فلسطينية أو سورية. غير أن تغيير الأسماء الفرنسية أو الأحداث الإنجليزية لم يكن هو التلبية الصحيحة للاحتياجات الروحية الملحة؛ بناء الحلم الجماعي من أشخاص وعلاقات تتطور بالأحداث إلى مواقف تُبرز الأمل أو تجسِّد اليأس من القيم القديمة السائدة المهيمنة.

في ذلك الوقت، وقد قاربنا أوائل الثلاثينيات، ظهرت الرواية المصرية التي تعبر حقًّا عن هذا الحلم. ظهرت مرتين لكاتب واحد هو توفيق الحكيم في «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» … ليس المهم أن رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل ظهرت (عام ١٩١٤م) قبلهما بعشرين عامًا، فالأهم أن الرواية التي تعادل مرحلة «التطور» الاجتماعي المصري، والتي تلبي طموحات «الروح» المصرية في حلم جماعي يحدِس بإرادة التغيير من مرحلة «المسخ» المعوق إلى الحرية، قد ظهرت أخيرًا.

ولكن هذه الريادة العظيمة لتوفيق الحكيم لا تعني أنه هو الذي «أسس» الرواية المصرية، فالرجل قد انشغل بتأسيس المسرح، وترك الرواية لمن واصل تطويرها، وهو نجيب محفوظ.

نجيب محفوظ، في الأربعينيات، هو الذي أسس الفن الروائي، بالرغم من احترامنا العميق لأولوية هيكل وغيره عشرات من المصريين وغير المصريين. ذلك أن التأسيس «عملية» وليس معطًى أو صدفة.

ليس معطًى لأن «القالب» الروائي ليس «وصفة» جاهزة يمكن استيرادها من الغرب، وإنما هو «بنية» تحتاج إلى تأصيل فكري وجمالي واجتماعي في وقت واحد. وهذا «القالب» — كما يسمى — ليس صدفة، بمعنى أن يكتب أحدهم رواية كبيرة الأهمية، ثم يتوقف لسبب أو لآخر وينصرف إلى نشاط مختلف. هذا ما حدث من كاتب كبير لا يعرفه معظم القراء العرب؛ لأنه توقف بعد روايتين هما «مليم الأكبر» و«ملك من شعاع»، هو عادل كامل صديق نجيب محفوظ منذ الشباب الباكر، والذي يمكن اكتشافه باسم «رياض قلدس» في ثلاثية محفوظ، وأيضًا في روايته «الشحاذ». هذا كاتب طليعي، كأنه «الصدفة». لم يؤسس، وإنما الذي أسس هو الرجل الذي قام بعملية مضنية في الاختبار والتجريب والتأصيل؛ بدءًا من اللغة وأسلوب السرد في بناء الشخصية وأسلوب الحوار في إكسابها الحياة وأسلوب الخبر في صياغة الحكاية. وقبل ذلك وبعده، اقتناص اللحظة (من الحدث إلى الموقف) التي يتجلى فيها النهوض الوطني المتداخل في المأساة. هكذا يجرب نجيب محفوظ الديكور الفرعوني في رواياته (التاريخية) الأولى: «عبث الأقدار»، «كفاح طيبة»، «رادوبيس». وهو ليس ديكورًا تمامًا، وإنما هو إحدى زوايا التأصيل، إحدى مراحل العملية، حيث يستحيل البعد المصري القديم جزءًا لا ينفصل عن معنى النهضة. ثم نصل إلى مرحلة القاهرة المعزِّية (نسبة إلى المعز لدين الله الفاطمي)، فنلتقي أحياءها العريقة: سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة عائشة والسيدة نفيسة في «القاهرة الجديدة»، «خان الخليلي»، «زقاق المدق»، «بداية ونهاية»، والثلاثية. وهنا اكتملت عملية التأسيس، وأضحى لشرائح الطبقة الوسطى «فنها» الوطني؛ الرواية. لم تكن مصر الفرعونية ولا مصر الإسلامية مجرد ثياب فولكلورية للشخصيات والحوادث، وإنما كانت عنصرًا في البيئة الداخلية لهذه الشخصيات، كما كانت عنصرًا في البيئة الجمالية للتكوين؛ التأسيس المزدوج: الكتابة الروائية، والشعور الروائي (الحلم).

وهناك صف طويل واكب نجيب محفوظ من أمثال محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي. ولكن توفيق الحكيم — قبل محفوظ — كان قد تجاوزهم، فبدت أعمالهم كالمواليد التي جاءت في غير أوانها. إنها جزء من المقدمات الأولى السابقة على التأسيس.

الظاهرة الثانية هي «إبداع الجمهور الروائي»، فالذين يكتبون الرواية العربية منذ ربع قرن ويحققون فيها إنجازات كبيرة؛ إنما يجدون جمهورًا مستعدًّا سلفًا لاستقبال هذه «الرواية» التي لم يكن الذوق العام يُسيغها.

وتبقى واقعة الدكتور هيكل جديرة بالتذكر دومًا، وهي «أنه خجل» أن يضع توقيعه على الطبعة الأولى من «زينب»؛ ذلك أن سمعته الاجتماعية تتهددها هذه «الفضيحة». كان الشعر هو الفن الرسمي المحترم. وكانت السيرة الشعبية على الربابة هي الفن الشعبي الممتع. ولم يقتنع الرأي العام المصري بأن مسرحية «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم عمل أدبي «محترم» إلا بعد أن كتب العقاد وطه حسين يُشيدان بها. كان ذلك عام ١٩٣٤م. وبعد عشر سنوات لم يكن الذوق العام قد تغير تغيُّرًا راديكاليًّا. كان المشهد الاجتماعي هو الذي تغير بدولة الموظفين وصغار التجار وطلاب (وطالبات) الجامعة وشركات الغزل والنسيج وبنك مصر وبدء صناعة السينما (١٩٣٧م) والانتشار الواسع للصحف والمجلات المصورة والأحزاب والندوات والأفكار السياسية والاجتماعية الجديدة. علاقات الإنتاج الوافدة تناقضت مرارًا وتكرارًا مع القيم السائدة (ومن بينها الذوق العام وعادة القراءة)، مما تسبب في المآسي العاطفية والكوارث الاجتماعية التي تجد نفسها في «الرواية».

ولكن خلْق جمهور للرواية ليس مقصورًا على النخبة التي تقرأ الشعر، ويعتمد على القراءة لا على الاستماع لسيرة أبي زيد الهلالي، كان عملًا إبداعيًّا على الصعيد الاجتماعي، ولعله شارك في عملية الإبداع الفني ذاتها. أي: إن «شارع القراءة» قد شارك في توجيه الكاتب إلى اختيار موضوعات بعينها وطريقة معينة في القص، والتفات خاص إلى نوع من المفردات والتراكيب. ولا يعني ذلك مطلقًا أن الكاتب كان يكتب ما يعجب الجمهور أو ما يسمعه منه. لا يرد هذا بالطبع على خاطري. وإنما أقصد أن هناك «مؤثرًا» هامًّا بين جملة المؤثرات الملهمة هو الجمهور. أما الاستجابة لعادات وتقاليد وقيم وأساليب هذا الجمهور، فإنها تختلف من كاتب إلى آخر.

إنني أفترض أن نجيب محفوظ قد أقام همزة وصل متينة بينه وبين الجمهور الذي ساهم مساهمة أساسية في تكوينه. إن اختيار نجيب محفوظ لبيئته الشعبية الأولى، واختيار مادته من حياة البرجوازية الصغيرة التي نبت في صفوفها، والتعاطف الحميم مع مصائر أبطاله المطحونين الكادحين المحزونين القانطين المتطلعين مع ذلك إلى أمل غامض يشبه المعجزة، كل ذلك جعل من الرواية المحفوظية قطبًا جاذبًا لدائرة واسعة من القراء لم يسبق الكاتبَ إليها أحدُ «الروائيين» من قبل.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن البنية القاهرية الشعبية لأعمال نجيب محفوظ لم تحُلْ دون اجتذاب جمهور واسع من خارج مصر في مختلف الأقطار العربية.

وهذا الجذب القوي لا علاقة له بالنقد أو الإعلام، إذ إن النقد لم ينتبه إلى نجيب محفوظ إلا بعد أن أنجز القسم الأكبر من مرحلته الكلاسيكية. والفضل يعود إلى أنور المعداوي وسيد قطب ويوسف الشاروني الذين اكتشفوا «خان الخليلي»، و«زقاق المدق» في الأربعينيات. ولكن هذا الاكتشاف كان نقديًّا محضًا ولم يكن جماهيريًّا؛ لأنه تم عن طريق مجلات أدبية متخصصة، ولم يتحول إلى تقليد في النقد العربي إلا بعد صدور ثلاثية «بين القصرين» عام ١٩٥٧م. وأما الإعلام فقد كان بعيدًا كلَّ البعد عن هذا الكاتب الذي كان يعمل «موظفًا» لا يدخل في دائرة النجوم أو أصحاب النفوذ.

هذا الجذب أيضًا لا علاقة له بالسينما؛ لأن السينما اكتشفت نجيب محفوظ في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات. وعلى أية حال، فقد كانت السينما أداة شعبية واسعة الانتشار لتعريف قطاعات لا يستهان بها من المجتمع بنجيب محفوظ، الذي عرف الشعبية الحقيقية عندما بادر محمد حسنين هيكل في خطوة غير مألوفة بنشر رواية «أولاد حارتنا» على حلقات في «الأهرام» كان ذلك حدثًا، فقد كان من الشائع أن تنشر «روز اليوسف» لابنها إحسان عبد القدوس رواية مثل «لا أنام» وبقية المسلسلات العاطفية ذائعة الصيت.

ولكنها المرة الأولى التي تغامر فيها أكبر صحيفة عربية بنشر هذه الرواية التي تسببت في حملة شعواء على «الأهرام»، نجحت فعلًا في منعها من النشر في كتاب، ولكنها لم تستطع ثني رئيس تحرير الأهرام عن مواصلة نشرها.

استطاع نجيب محفوظ أن يوزع من الرواية الواحدة عشرين ألف نسخة (حسب تصريح مكتبة مصر ناشره الوحيد) غير الطبعات المزورة. والثلاثية تنفد كل ثلاث سنوات، بمعدل جزء في السنة الواحدة. ومعنى ذلك ببساطة أن رواياته وُزعت بملايين النسخ. وهذا أمر لم يحدث قط في تاريخ الرواية العربية. وهو أيضًا الأمر الذي جعل نجيب محفوظ يستطيع أن يكون جمهورًا للرواية. وهو حقًّا يتعلم من هذا الجمهور، ولكنه يربيه أيضًا. هذه التربية هي أنه يربط قارئه بمجموعة من النماذج الاجتماعية والقيم الجمالية والأخيلة، هي التي تقود الوجدان الجماعي.

نجيب محفوظ لم يرث هذا الجمهور، ولكنه خطف بعضه من التيارات الروائية الأخرى. وهي عملية صعبة؛ أن تجنِّد لحسابك مساحة من الذوق التقليدي الذي تربى وتكوَّن على الميلودراما الفاقعة والفانتازيا الفاجعة، تجنِّد هذه المساحة لتربية ذوق جمالي مغاير كليًّا لهذا الخيال المبسط، ولمصلحة رؤية وطنية اجتماعية مختلفة تمامًا عن الفكر المهيمن.

ولذلك فإن نجيب محفوظ الذي قام بتأسيس فن الرواية انطلاقًا تأصيلها الأدبي في أرض الواقع الاجتماعي، فإنه هو الذي جعل من الرواية فنًّا شعبيًّا؛ أي إنه أنجز الوجه الآخر للتأصيل؛ صنع أوسع دائرة من قراء الرواية.

الظاهرة الثالثة التي افتُرِض اقترانها بأدب نجيب محفوظ هي أنه الكاتب الأكثر حضورًا في أدب الأجيال الجديدة؛ أي على النقيض تمامًا مما قيل ذات يوم بأنه أصبح جدارًا يسدُّ الطريق أمام ظهور جيل جديد. يومها قال نجيب محفوظ بهدوء: إنني أستغرب هذا الكلام؛ لأنه ينفي الثقة في النفس من الأدباء الشبان، ولأن أعظم الأدباء في مختلف العصور لم يسدوا الطريق في وجه المستقبل، فما بالك وليس لدينا احتياج لاستخدام أفعل التفضيل في غير مكانه وزمانه؟

إنه التواضع …

دعونا منه إلى محاولة البحث عن الوقائع. وقبلها أحب أن أحدد مفهومي عن «حضور نجيب محفوظ في الأدب الجديد».

ليس هناك من الموهوبين في الرواية المصرية أو العربية ممن يمكن أن نكتشف عندهم آثار لغة نجيب محفوظ أو ظلال شخصياته أو بصمات القيم التي دعا إليها. بل إن ما كان يسمى ﺑ «القالب الروائي» قد عرف تغييرات عديدة.

ولكن تأملوا معي هذه الوقائع:
  • نجيب محفوظ ويوسف إدريس هما الأكثر حضورًا في «قراءة» الجيل الذي ظهر في الستينيات داخل مصر وخارجها. ذلك أن هذا الجيل الذي لم يقرأ القسم الأكبر منه في لغة أجنبية، لم يكن أمامه طيلة الخمسينيات — وهي مرحلة التكوين — سوى المترجمات اللبنانية، وأدب محفوظ وإدريس …

  • نجيب محفوظ هو «الأوحد» من الجيل السابق الذي أدار حوارًا خصبًا مع الأجيال الجديدة على مدى عشرين عامًا من ندوة كازينو أوبرا إلى مقهى ريش. كان المحاور الأول والأكبر لمعظم الوجوه الجديدة في الأدب المصري، ومن يزور مصر من مثقفي الأقطار العربية. وهو الذي كان يقرأ إنتاج الشباب ويشاركهم — بالاختلاف والاتفاق — الحوار والرأي.

  • نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس هم الذين حاولوا بقدر ما يستطيعون تجديد أدواتهم الفنية. الحكيم في المسرح (يا طالع الشجرة)، وإدريس في القصة القصيرة (لغة الآي آي). أما نجيب محفوظ الذي ساهم بعض الشيء في تجديد القصة القصيرة (تحت المظلة)، فإن ميدانه الرئيسي كان، كالمعتاد، هو الرواية. كتب «أولاد حارتنا» عام ١٩٥٩م، ولكنه على صعيد آخر كتب «اللص والكلاب» عام ١٩٦٠م، و«ثرثرة فوق النيل» عام ١٩٦٥م و«ميرامار» عام ١٩٦٦م. وكلها أعمال حاولت التجديد بقدر ما اتسعت رؤية الكاتب لهذا التجديد. وقد لعب «تجديد» نجيب محفوظ دورًا إيجابيًّا في حماية تجديد الشباب، حيث اتخذ النقد والذوق العام من التجديد عمومًا موقفًا سلبيًّا. ومحفوظ نفسه اتُّهم بالغموض. ولكن القبول الشعبي الواسع لأعماله جعل منه مظلة واقية للأجيال الجديدة من النفور والغضب، والاتهام الذي وُوجِهت به الأعمال الجديدة.

هل تكفي هذه الوقائع الثلاث وحدها للقول بحضور نجيب محفوظ في الأدب الجديد وكل أدب جديد؟

إنني أقدمها في جميع الأحوال للاختبار. خاصةً وأن تأثير محفوظ مباشر وغير مباشر، فهو يترسب في التكوين الروحي والإبداعي للكاتب الجديد تدريجيًّا وببطء. يترسب كمناخ وكجمهور وكإيقاع، حتى إذا تراكم في اللاوعي فإنه يتسرب متخفيًا إلى لحظة الإبداع دون أن يشعر به الكاتب، ودون أن يلمسه. فالنقد الأدبي يستطيع أن يقوم بدور هام في هذا السياق؛ لأن نجيب محفوظ يستطيع أن يدخل عالم الروائي الجديد عن طريق دستويفسكي أو كافكا أو جويس أو بروست. ويظن هذا الروائي أنه «تأثر» بهذا أو ذاك من كتَّاب الغرب وحدهم. ومن المؤكد أنه تأثر بهم. ولكنه في الحقيقة قرأهم في المناخ العام لنجيب محفوظ وتحت مظلته ومن خلال إيقاعه، فهو يقرأ محفوظ مرتين إحداهما مباشرة والأخرى تحت ثياب الآخرين؛ عبر المقارنة الضمنية والتقمص المتخيل والتداخل الملتبس. ومن المرجح أنه إذا كانت هناك السيرة الشعبية على الربابة في صبا الكاتب الجديد وماركيز في كهولته، فإن نجيب محفوظ بينهما يمثل مرحلة «الشباب» التي كونت وأبدعت الموهبة الجديدة، تمامًا كما فعل يوسف إدريس في كتاب القصة القصيرة وتوفيق الحكيم في كتاب المسرح … ويبقى نجيب محفوظ الأكثر حضورًا في كتَّاب الرواية العربية جيلًا بعد جيل.

وها قد مضى على لقائنا الأول أكثر من ثلاثين عامًا. نحن الآن في بداية العام الجديد، يناير ١۹۸۸م، يسرع الزمن وتمضي معه الحياة قطرةً قطرةً كأننا نموتها كلَّ لحظة. ولكن ضحكته المجلجلة تبقى في القلب زمانًا آخر. ماذا تعني الأعوام الستة والسبعون في حياة الرجل الذي ولد كبيرًا؟

هزال الجسد أم انكسار الروح؟

لا تخطئك نقطة الحزن الغامضة في جبينه، في قامته، في لهجته. لا تخطئك حتى إذا أنت أخطأتها، تلمسك، تطارد روحك حتى ينشق العظم ولا تفلت من أسْرها. كأن موعدكما تأخر ألف عام أو كأنه تقدم ألف عام. ولكنه ليس الموعد الصحيح. نسينا المواعيد الصحيحة.

وتحاول أن تغير وجهة «الكلام» الذي لم يبدأ.

– لماذا تهاجم جائزة نوبل؟ أنت تغار؟

– أغار؟

– هل تنكر عظمة الغالبية ممن حظوا بها؟

– لا أنكر شيئًا، ولكني أنكر على العرب «حلمهم» بها.

– لم تحلم بها أبدًا؟

– لا والله العظيم.

– بماذا تحلم إذن؟

– إيه حكايتك «عالصبح»؟ اشرب القهوة طالما أنك ما زلت تحلم بأنني أحلم …

– أنت تحلم بالتأكيد من وراء هذا الزجاج الذي تُطل منه على ميدان التحرير.

– لم نعد في زمن الأحلام.

– أنت اختتمت بالأمس فقط رواية «صباح الورد»، أليست الرواية حلمًا؟

– وهناك رواية أخرى معَدَّة للنشر وبضع قصص.

– أليست كلها أحلامًا؟

– أحلام يقظة؟

– الخيال الروائي، أليس حلمًا؟

– إياك القول إننا باعة أحلام.

– ممكن، إذا كنت تحلم بما لا يحلم به بقية الناس، فروايتك أنت ليست حلمهم، وإنما هو حلم تبيعه لهم.

– رأيك كده؟

– ورأيك أنت إيه؟

– موافق على أن الأدب كله والفلسفة أيضًا من الأحلام، خذ جمهورية أفلاطون مثلًا، وكل المدن الفاضلة التي بناها الفلاسفة … إنها أحلام في أحلام.

– ولكن هناك فرقًا بين أن يكون حلمك جزءًا من الحلم الجماعي للوطن أو الأمة أو الطبقة التي تنتمي إليها، وبين أن تلفق أحلامًا للبيع.

– وكيف يمكن التفرقة بين هذا الحلم وذاك؟

– جئت لأسألك لا لتسألني.

– ولكني بالفعل أريد أن أعرف.

– أليس هناك مجتمع استهلاكي يضغط فيه الإعلان على أعصاب الزبون بحيث يرغمه لاشعوريًّا على أن يحتاج إلى سلعة لا ترتفع إلى مستوى الضرورة؟ بل إنه في الحقيقة لا يحتاج إليها أو أنها لا تُشبع فيه رغبة أساسية. هكذا أيضًا بعض الأدب الذي يريد أن يبيع حلمًا يلفقه ويفتعله ويشحن به خيال القارئ الذي يرى فجأةً أنه صاحب الحلم المزور. إنه حلم غير مشروع.

– يعني توجد مثلًا رواية مشروعة وأخرى ليست كذلك؟

– ما زلت تسألني يا عم نجيب. دعك من هذه اللعبة، وقل لي: القصة القصيرة لا تشكل إلا جانبًا ثانويًّا في عالمك، بالرغم من أنك بدأت أصلًا بكتابتها. و«همس الجنون» (١۹٣۸م) هو مختارات من قصصك التي نشرتها حينذاك.

– من الآن فصاعدًا ستجدني أكتب القصة القصيرة جدًّا، هل تسمعني؟ القصيرة جدًّا جدًّا. الكتابة أصبحت عملية صعبة للغاية. ومنذ أسبوعين فقط أخبرني الطبيب أن ضمورًا قد أصاب شبكية العين. وهي مسألة ليس لها علاج، فكيف أكتب الرواية. إنها عملية مضنية.

– سلامتك. ولكن هل تظن أن الحالة الصحية، وخصوصًا في النظر، تتدخل في الكتابة؟ أتصور مثلًا أن تكتب الرواية في سنتين أو ثلاث سنوات بدلًا من عدة شهور. ولكن أن تستبدلها بالقصة القصيرة جدًّا، فإنني لا أستطيع أن أبرر ذلك بمتاعب العين.

– صدِّقني فيما أقوله لك.

– مؤكد أصدِّقك، ولكن ربما كانت الأسباب الأعمق لهذا التحول غير واضحة الآن … لأن العمل الفني ليس مجرد طول أو مساحة، بل هو تكوين يتشكل داخلك أولًا ثم يحتاج إلى حيز كتابة يتسع له، سواءٌ كان هذا العمل رواية أو قصة قصيرة.

– هناك حيز للإرادة أيضًا. واعتلال الصحة يتدخل كثيرًا وبقوة في تغيير أشياء كثيرة كالطعام والشراب والعادات والنوم، فكيف لا يؤثر في الفن؟ الكاتب ليس نبيًّا يستقبل الوحي، ولا ماكينة تعمل بالأزرار؛ إنه بشر من لحم ودم.

– لا شك أن الإرادة والوعي من العناصر الفاعلة في الفن. ولكننا إذا عدنا إلى حديث الأحلام لقلنا إن الرواية حلم كامل كبير، وإن القصة القصيرة مجرد مشهد. والكاتب غالبًا لا يستطيع أن يتحكم في الحلم. حين تقول إنك ستكتب قصصًا قصيرة جدًّا جدًّا، فقد أدخلت الإرادة إلى مجال ليس مجالها، وأقحمت الوعي في غير اختصاصه.

– هل تظن ذلك؟ أم أن تولستوي كان يستطيع أن يكتب «الحرب والسلام» في ثلث حجمها، ودوستويفسكي كان يقدر على اختصار «الإخوة كارامازوف» إلى النصف؟

– أنت تضطرني الآن إلى الدخول في مناقشة أخرى، وهي عملية الكتابة ذاتها، وما إذا كان «المونتاج» مطلوبًا قبل الصياغة النهائية. هذه مسألة تختلف وسنتناقش فيها. ولكني أتكلم عن الفرق بين فنين مستقلَّين تمامًا.

– ليس تمامًا.

– كيف يمكن استبدال فن بآخر؟ هذا الاستبدال لا يعني — كما أرجو — عدوانًا على أحد الفنين تحت ضغط صحي. هل لديك أشياء تستحيل كتابتها في غير القصة القصيرة؟ أي إنها خُلقت لتكون قصصًا لا روايات؟ أم أنك قررت هكذا الاكتفاء بتقصير القصة إلى أقصى حد؟

– من قال إنني استبدلت؟ أنا لم أقل هذا. لقد تركت القصة القصيرة من ١۹٣۸م إلى ١٩٦٧م؛ أي حوالي ثلاثين عامًا، ولم يكن هذا استبدالًا. كانت الظروف لم تعُد تنتظر الرواية التي تأخذ وقتًا من الكاتب والقارئ على السواء؟ بل تحتاج إلى قالب مكثف، فكانت العودة إلى القصة القصيرة.

– أرجو ألا تنزعج حين أقول لك إنك حصرت الآن «عودتك» إلى القصة القصيرة في عامل الوقت، ومنذ قليل حصرته في عامل الصحة. كلاهما من العوامل الخارجية، ألَا تشعر بأن ثمة عاملًا داخليًّا يضغط في هذا الاتجاه؟

– ربما. ثم إنني قلت لك إنني سأكتب قصة قصيرة جدًّا، ولكن الأمر ما يزال في ضمير الغيب، قد أشرع غدًا في كتابة رواية جديدة.

– إنني في الحقيقة أناقش معك أطروحة «الأشكال» الفنية، هل هناك بالفعل شيء بهذا الاسم، بحيث يمكنك أن تقرر اليوم أن تكتب رواية، وغدًا قصة قصيرةً طالما أن هذا لن يكلفك سوى «تفصيل» المضمون على مقاس الشكل المعد سلفًا؟

– لا، لا، لا. ليست المسألة على هذا النحو المبسط إطلاقًا عند من يريد أن يكتب فعلًا، لا عند من يريد أن «يبيع» أقصوصة أو حلقات رواية. الشكل ليس وعاءً جاهزًا مسبقًا، نضع فيه ما نشاء. إنه تصور خيالي يولد وينمو ويكبر في وحدة واحدة مع بقية عناصر العمل.

– هو نفسه مجموعة عناصر؟

– إذا تخيلناه وجودًا مستقلًّا.

– أم أن اللغة والخيال والإيقاع والانفعال والزمان والمكان والشخصيات والسرد والحوار والأحداث والمواقف، كلها تشكِّل العمل الأدبي فيحتويها؟ أي إنها في جملتها روح الشكل؟

– لا أستبعد ذلك.

– إنني أطلب تجربتك ومفهومك.

– ليس في ذهني «شكل» مسبق كما قلت لك، وإنما أتعرف على هذا الشكل إن جاز التعبير حين أقرأ العمل بعد الانتهاء من كتابته. وحينذاك، بالمناسبة، يفتُر حماسي له بنسبة لا تقل عن خمسين في المائة.

– أستاذ نجيب، في إحدى المراحل مثلًا، كان السرد الحكائي يغلب على بناء الرواية؛ كما هو الحال في المرحلة التي تسمى الواقعية أو الاجتماعية. وفي مرحلة تالية غلب الحوار حتى إنك استدرجت نفسك إلى كتابة الحواريات الخالصة. وفي كلتا المرحلتين هناك بذور نمت لما يُدعى المونولوج الداخلي. ألم تكن واعيًا في استخدامك لهذه الأدوات؟ أي هل اكتشفتها بعد انتهائك من الكتابة كما تقول؟

– أنت تتكلم عن التفاصيل التكنيكية، وأنا أتكلم عن البناء الفني في تمامه. ومن ناحية التفاصيل، فإن المسألة ليست في الوعي أو اللاوعي، وإنما تحكمها — ولا تتحكم فيها — الضرورة والإحساس معًا. أي إنني في رسم شخصيةٍ ما أجد السرد مطيعًا وقادرًا على إنجاز المهمة، ثم أصل إلى موقف أجد فيه الحوار الداخلي أقدر، أو أن الحوار مع الآخر هو الأقدر من الوسيلتين السابقتين. هنا عدة عناصر: الهدف (وهو رسم الشخصية افتراضًا) ومدى طواعية الأداة وقدرتي على الاستجابة لها وإيقاعها في أذني وفي نفسي. وهذا كله أشعر به وأفهمه وأدركه ولا علاقة له باللاوعي. ولكن اختيار الشخصية أو التقاط الفكرة، ولو كان ذلك من الواقع الحي المباشر، يعتمد كثيرًا على اختلاط الوعي باللاوعي، ولست أقول اللاوعي وحده.

إن شيئًا ما يلفتني بقوةٍ نحوَ هذه الشخصية، أو يجذبني دون هوادة لتأمل تلك الحادثة. وهذا الشيء أيضًا يجعلني أتعاطف أو أنفر من موقف أو فكرة أو رجل أو امرأة. الانجذاب والتنافر والالتفات لها مصادرها في تركيبتي النفسية والعقلية أو ما يسمى باللاشعور. ولكن أين ينتهي اللاشعور ويبدأ الوعي أو العكس متى ينتهي الوعي بالأشياء، ويبدأ تقليبها البطيء في العقل الباطن؟ هذا ما لا أملك جوابًا عليه؛ لأن الجواب الحقيقي هو العمل الأدبي نفسه.

– هذا العمل الأدبي أنت تبدأ في إنجازه تحت ضغوط عصبية من أجل البوح. ولكن هذه الضغوط التي لا ترتاح منها إلا بإنجاز الكتابة، تترافق معها صورة عامة غامضة لما ستكتبه. ولست أظنها صورة واضحة إلا عند من أسميناهم باعة الأحلام.

– بالتأكيد، هناك صورة عامة تأخذ وقتًا في التبلور والتشكل والتخييل قبل البدء في الكتابة.

– ولكن الكتابة ذاتها شيء آخر؟

– نعم، وقد تحدث مفاجآتٌ حقيقية كأنْ أبدأ وفي ذهني كوميديا وإذا بها تنتهي مأساة. وقد حدث هذا فعلًا؛ رواية «بداية ونهاية» بدأتها على أساس كاريكاتوري ساخر، ثم انتهت كما تعلم.

– لنقبض على هذه «اللحظة» التي يتم فيها التحول الانقلابي غير المحسوب، أين نصيب الوعي أو اللاوعي في هذه الحال؟ وما هي العناصر أو الآليات التي أفضت إلى تغيير وجهة شخصية أو موقف؟

– لا أدري، أنا أقول لك ما حدث ويحدث.

– هل تتصور معي أن هناك منطقًا داخليًّا للعمل له استقلاله النسبي عن إرادة الكاتب؟

– جميعها مسميات احتمالية هدفها الغوص في عملية الخلق.

– هذا صحيح.

– ولكني ككاتب لا أدري حقًّا هذا المنطق الداخلي.

– قل لي، هل يمكن لرواية شرعت في كتابتها أن تتحول إلى قصة قصيرة؟

– كلا، ربما، أقول ربما، كان العكس ممكنًا.

– فترة التأمل السابقة على الكتابة، ماذا تتأمل فيها؟

– كل شيء. أتأمل الشخصية مثلًا من كافة جوانبها، أحاول أن أستكشف العلاقة بين ظاهرها وباطنها. وأستمر في تبين علاقاتها مع الآخرين وصداماتها مع وقائع الحياة.

– تقصد شخصية واقعية أو شخصية قرأت عنها أو شخصية خيالية تمامًا؟

– ليست هناك شخصية خيالية تمامًا إلا في تجريدات أهل العبث أو اللامعقول أو الشيئيِّين. ولكن الشخصية سواء كنت تعرفها أو سمعت عنها أو قرأت حادثة تخصها، فإنها في جميع الأحوال شخصية واقعية بدرجات متفاوتة. ولكن التأمل الذي نتحدث عنه يُكسب هذه الشخصية أبعادًا تجعلها في الكتابة أكثر واقعية. أي إنك لو قرأت صفحة الجرائم في الجرائد اليومية لوجدت كنوزًا من الخامات الأولية للقصص. ولكنك إذا نقلتها إلى الكتابة كما قرأتها، فإنك حينئذٍ لم تكتب أدبًا؛ لقد أعدت صياغة الخبر الصحفي فقط في «أسلوب أدبي» كما يقال. ولكنك حين تتجاوب مع إحدى شخصيات الجريمة أو مع مناخها العام أو مع أحد مواقفها، ثم تأخذ هذا العنصر الواقعي تمامًا وتضعه في علاقات جديدة وإشكاليات أخرى تمارس فيها اللغة نفوذًا غير منكور، حينذاك يصلح «التأمل» في إعادة صياغة الشخصية أو الحدث بما يتسق مع «نقطة الجذب» الداخلية التي جعلتني أنتبه أو أتعاطف. إعادة الصياغة هذه مصطلح صحفي، ولكني عنيت به هنا نقيض الخبر الصحفي، وهو الخلق.

إن الذين يعيدون صياغة أخبار الصحف والصالونات والنميمة بما يجعلها أكثر جاذبيةً للقراءة هم «باعة الأحلام» الذين يكتبون روايات «تفصيل».

– ومع ذلك فأنت لا تستطيع أن تتجاهل كليًّا دور العوامل غير الأدبية في إبداع الأدب. نشر الرواية في الصحافة أو قراءة القصة في الإذاعة يتدخل تدريجيًّا في كتابتها، أي في لغتها وإيقاعاتها وأخيلتها وطريقة تركيبها. هل تنكر أن الحياة «الحديثة» قد غيرت مبنى الكتابة ومعناها؟

– لا أنكر، وقد كنت من بين الذين تأثروا بكل ما في الحياة من تجدد أو تجديد لوسائل الإنتاج وطرق الاستهلاك.

واقعة

يذكر يحيى حقي، وقد كان رئيسًا لنجيب محفوظ في «مصلحة الفنون»، أن حوادث اللص الشهير محمود سليمان كانت قد اقتحمت مخيلة نجيب محفوظ في أول الستينيات. كانت الشرطة تطارده دون جدوى، وكانت إحدى الصحف الكبرى (الأخبار) قد رصدت لاصطياده مبلغًا كبيرًا. وكان نجيب محفوظ يقطع مكتبه ذهابًا وجيئةً، وقد عقد كفَّيه خلفه ونظر إلى الأرض دون أن يشعر بما حوله. وقد سأله يحيى حقي عما يشغل باله، ففاجأه بأنه اللص الهارب، لماذا تحول عند الناس إلى أسطورة شعبية؟ كان الذي لفت انتباه نجيب هو موقف المصريين الذي أضفى على هذا اللص هالةً بطولية. وكان موقف الصحيفة الكبرى يحيِّره. وبعد شهور طويلة وقع خلالها محمود سليمان في حضن الجبل والصحراء، وسقط برصاصة قيل إنها انطلقت من مسدسه (أي إنه انتحر ولم يسلم نفسه) … بعد هذه الشهور بدأ نجيب محفوظ يكتب «اللص والكلاب».

هذه واقعة لا تؤكد لنا على سبيل القطع، ما إذا كانت شخصية اللص أم صداها عند الناس؛ هي نقطة البدء في كتابة الرواية.

وسنلقي الضوء على واقعة أخرى حين قام جمال عبد الناصر بزيارة مؤسسة «الأهرام» عام ١٩٦٩م، فقد سأل كلًّا من الأدباء الحاضرين سؤالًا. وحين جاء دور نجيب محفوظ بادره الرئيس: هل من قصة جديدة من السيدة (يقصد حي السيدة زينب)؟ فأجابه محفوظ: من سيدنا الحسين يا ريس.

هنا يتأكد لنا أن الانطباع الراسخ لدى جمال عبد الناصر هو «المكان». بينما أرجح الاحتمالات بالنسبة ﻟ «اللص والكلاب» أنه كان الزمان؛ أول الستينيات العاصفة.

– الشخصية أم الحدث أم الدلالة، هو نقطة البدء في ما تسميه مرحلة التأمل السابقة على الكتابة؟

– صعب، صعب جدًّا؛ لأن نقطة البداية هي أكثر المراحل غموضًا، ربما لأنها تشتمل على انفعالات وأحاسيس ومشاعر ضبابية غائمة أكثر من اشتمالها على عناصر واضحة.

– هناك أفكار وهناك تجارب. الأفكار تعرفها كرجل تخرجت في قسم الفلسفة، والتجارب مارستها كرجل عاش عصره بكل ما تعنيه المعايشة من معنًى … أين تضع هذه وتلك في البناء الروائي؟

– إننا نعود مرة أخرى إلى مسألة الشكل، فالأفكار لا توجد في الرواية بمعزل عن أدواتها التعبيرية. ليس هناك وجود مستقل للأفكار، فهي تتبدَّى في اللغة والصور والإيقاع، وكأنها تأخذ سمتًا آخر فتصبح أفكارًا روائية لا أفكارًا فلسفية أو سياسية أو اجتماعية. وهي بذلك لا تتخفى في اللغة أو الشخصية، وإنما هي تتحول في العمل الروائي إلى شيء مِن نسيجه لا من معدن الفلسفة أو السياسة.

أما التجارب، فهي الإنسان ذاته الكامن في الكاتب والظاهر أيضًا. الكاتب مُواطن كغيره من المواطنين، وكما أنه لا ينفصل عن أفكاره ومشاعره، فهو لا ينفصل — أثناء الكتابة — عن تجاربه. ولكن هذه التجارب، كالأفكار؛ لا تنعكس كما هي على الصفحات. إنها تتحول هي الأخرى من كونها تجربة شخصية إلى تجربة فنية، روائية مثلًا.

– أين الحلم إذن؟ ألم نتفق على أن الكتابة حلم؟

– نعم، إن الخيال الروائي هو الذي يصوغ كل المواد الخام الخافية والغافية والواعية في بناء جديد هو الأدب.

– الخيال مادة لاصقة لمكونات الرواية المتباعدة، أم أنه أداة عقلية تعيد ترتيب العلاقات؟ أم أنه يولد في رحلة التأمل التي تشير إليها قبل الكتابة وينمو أثناءها؟

– الخيال هو كل شيء. الأدب عالم خيالي. وليس المقصود هنا هو «المدينة الفاضلة» التي بدأت من الفلسفة وانتهت إلى الرواية العلمية. لا، الكتابة إبداع خيالي للواقع، وليست العكس إبداعًا واقعيًّا للخيال.

تأويل

هذا الإبداع الخيالي يقدم عالمًا مواده الأولية جزءٌ لا يتجزأ من الواقع الخام الذي يبعثرها شتاتًا يكاد يفتقد المعنى؛ هو العبث. أما الخيال فهو الذي يعيد تركيب هذه المواد الأولية وَفقًا لرؤية شديدة الخصوصية والاستقلال من جهة وشديدة العمومية والاتصال من جهة أخرى. إنها رؤيا الكاتب التي أبدعها من جوانحه وكينونته وروحه، بمعاناته ومجمل تجاربه وثقافته، تعبر عن سر أسراره الحميمة … ولكنها في الوقت نفسه رؤيا الجيل أو العصر أو المجتمع أو الطبقة. توحيد الخصوصية والعمومية في رؤيا واحدة هو الإبداع الخيالي، الذي يصبح فيه الحلم الفردي للكاتب حلمًا جماعيًّا.

– هل توافقني على أن أحلام الكاتب — أعماله — هي إحدى خزائن اللاشعور الجمعي؟

– الكاتب له ذات مستقلة، ولكنه غير منفصل عن الجماعة.

– يحلم لها أم معها؟

– الأحلام الخاصة قد تلتقي بأحلام الجماعة (الوطنية، القومية، الاجتماعية، الإنسانية)، وفي هذه الحال، فهو الحلم المرشح لأن يكون أدبًا. ولكن ثمة شروطًا أخرى حتى تكتمل عملية الكتابة أو الخلق، في مقدمتها أن يكون الإبداع الخيالي مطابقًا أو قريبًا جدًّا من الخيال الشعبي الغالب.

– لقد دخلنا الآن منطقةً صعبة كالغابة.

– إذا كنت شجرة في الغابة، فلن تشعر بالغربة. وإذا أردت أن تكون على الخط مع سكان الغابة، فلا بد من أن تجيد لغتها؛ أي أن تُوائم بين خيالك الشخصي والخيال الجماعي.

– ولكن الخيال الشخصي قد يكون بالغ التفرد؟

– ليس لدرجة الانفصال، إذا كان خيال الموهبة الخلاقة.

– هل تظن أن هذا الخيال هو «المغناطيس» الذي يجذبك نحو المواد الأولية، فتلتقط بعضها وتسقط منها الأخرى … وأن القاسم المشترك بينك وبين «الآخرين» هو مساحة الخيال الممغنطة هذه؟

– ربما كان ذلك صحيحًا.

– إذا كان اللاوعي من أرصدة الخيال الشعبي التي تلزم المبدع في الكتابة، هل تعتقد أن الذاكرة تخص الوعي بالماضي وحده؟

– تلعب الذاكرة دورًا مدهشًا في تكوين الإبداع الخيالي. وطبعًا تسقط منها أشياء كثيرة جدًّا، ولكنها تبقى مَعينًا لا ينضب.

– اللاوعي والذاكرة إذن هما مصدر الإبداع الخيالي؟

– والأحلام الحقيقية (لا بالمعنى الأدبي) والكوابيس، كلها أدوات تنشيط خلَّاقة للخيال، وأكاد أقول إنها تقوم بتدريب الخيال على الإبداع.

– هل ندمت ذات مرة على ما ساقك إليه الخيال القادم من هنا أو هناك؟

– كيف؟

– بمعنى: هل حدث أن أنجزت الكتابة؛ وإذا بالإبداع الخيالي قد ساقك إلى أطروحات في الفكر والتعبير تختلف بما أنت «مقتنع» أو «مؤمن» به؟

– قلت لك أمرين: إنني بدأت بعض الروايات وأنهيتها على غير الصورة التي كنت أتوقعها، كما أن حماسي يفتُر لعملي بعد إنجازه بنسبة النصف.

– لا أقصد هذا ولا ذاك؛ أقصد «القناعة» أو «الإيمان» بشيءٍ ما، لنقُل إنها رؤياك للعالم مثلًا … هل حدث أن إبداعك الخيالي قد خانه التوفيق في تجسيم هذه الرؤيا؟ بمعنى أنك استخدمت من الشخصيات ومستويات اللغة والأحداث والمواقف، ونسجت هذا كله نسجًا خياليًّا متقنًا، ولكنه لا يتجانس ورؤياك للعالم.

– لا أتذكر شيئًا بهذا الوضع الجلي، ولكني أفترض أن قيمة أعمالي ليست مكتملةً على الإطلاق، وأن الخلل في بنائها أو الاختلال بين عناصرها وارد. وقد كنت أرجع هذا أو ذاك إلى حالتي النفسية أثناء الكتابة أو حتى ضعف إحدى الأدوات. أما أن يكون الإبداع الخيالي ذاته قد ساهم في خلل الرؤيا كلها، فإنه أمر لم أفكر فيه من قبل.

– هناك تباينات بين أدوات الخيال، فالذاكرة تختلف عن اللاوعي، وكلاهما يتمايزان عن القدرة الذاتية على التصور … فمن الممكن تحت أية ظروف طارئة أن تتناقض وظائف أحد هذه العناصر في بناء شخصية أو دلالة أو رمز. وحينئذ يؤدي هذا التناقض إلى اهتزاز الرؤيا التي تراها أو «الإيمان» الذي يملأ قلبك.

– ربما، ولكني أعرف من كلام النقاد أن هذا العمل جيد وأن الآخر أقل جودة. وكنت أظن أن هذا التفاوت هو أيضًا خلل في توصيل الرؤيا.

– ألَا يمكن أن يكون ذلك صحيحًا؟ ماذا يكون موقفك في هذا الحال؟

– الأمر لله من قبلُ ومن بعد.

– والقارئ الذي تلقَّى رؤياك على غير ما ترى، ألَا ينفصل خياله عن خيالك في تلك اللحظة؟

– يجوز.

– لا، قل لي حقًّا، فإذا انفصل الخيال الشخصي كما قلنا عن الخيال الشعبي، حينئذ لا يتحول الحلم إلى أدب.

– ونصير من باعة الأحلام! ها … ها … ها!

– لا أقصد المعنى الأخلاقي؛ وإنما عَنيت الأحلام المتناقضة.

– ومن أو ماذا يخلو من التناقض في هذه الحياة يا عزيزي؟

٢

«… إن كتابات نجيب محفوظ تشغل مكانةً مركزية في الثقافة العربية، ليس فقط لأنها تعلمنا، بشكل لا يضاهى، حول المجتمع المصري خلال فترةِ ما بين الحربين، هذا المجتمع الذي هو أمٌّ وقدوة لكل الحداثة العربية، بل كذلك لأن محفوظ عرَف كيف يبدع أنماطًا تتجاوز، في الزمان والمكان، شخصياتِ مكان معين وزمان معين — قاهرة العشرينيات أو الثلاثينيات أو الأربعينيات — مما جعله يتوصل إلى تأسيس خيال روائي قادر على أن يكون بديلًا للواقع وبديلًا للتاريخ.»

وصاحب الكلمات هو فيليب كاردينال في مجلة ليبراسيون الفرنسية. ثم …

«إنه فيلسوف الحياة اليومية، نجيب محفوظ ذلك الانطباعي الذي لا يهمل أي تفصيل؛ سواء أكان منتميًا إلى أحداث كبرى أو إلى أحداث صغرى، لا يهمل أي حدث من تلك التي تحرك البيت، حيث ضجيج نساء في ثيابهن التقليدية يتبادلن الأحلام … إنما من دون أن يسمحن لأي شيء يَرْوينه إلى حدود البذاءة.

إذا ما كان صحيحًا ما يقوله الآخرون من أن الجلد هو الأعمق، فسيكون صحيحًا كذلك القول بأن الأساسي هو ذاك الذي يظهر على سطح الأشياء. ولكن علينا، مع هذا، أن نعرف كيف نلتقط الإحساس الهارب، فكتابة نجيب محفوظ، وهي شديدة الكلاسيكية على صعيد الشكل، تتبدَّى لنا على شكل مرآة تلتقط الصور، وتكون قادرة على إبراز اللحظة المجسمة. ترى هل تعرفون روايات كثيرة في هذا العالم تُقرأ وكأنها لوحة تشاهَد؟»

والسؤال موجَّه من جيل ترجمان في المجلة الفرنسية أيضًا «لونوفيل أوبسرفاتور».

وليس أخيرًا …

«من بين كل الكتَّاب الكبار الذين دأب القارئ الفرنسي على اكتشافهم خلال السنوات الأخيرة، يبرُز نجيب محفوظ، ليس فقط لأنه أكبر كاتب عربي نكتشفه الآن، بل لأنه كاتب كبير عرَف، في روايته التي نقرأ الآن جزْأَها الأول، كيف يجعل لتفاصيل الحياة اليومية معانيَ تصرخ … وكيف يجعل من همسات الناس أحداثًا خطيرة تسيِّر الدنيا وتسبُرُ دواخلَ الشخصيات.»

والكلمات لمجلة «لوبوان» الفرنسية.

وكان ذلك مجرد مثال على المقالات العديدة التي ظهرت في فرنسا تعقيبًا على ظهور الجزء الأول من ثلاثية «بين القصرين» من ترجمة فيليب نيجرو. وتضيف مجلة «المقاصد» اللبنانية في عددها المزدوج (٤٥ و٤٦ فبراير/شباط ١٩٨٦م) أن ألوفًا من النُّسخ بيعت من الرواية في زمن قياسي، ونشرت «لوموند»، أكبر الصحف الفرنسية وأكثرها مدعاةً للاحترام، مقالًا في صفحة كاملة عنوانه «ملك الرواية» العربية بقلم أحد أهم نقَّادها، «وقد وصل الأمر بالبعض إلى حد ترشيحه لجائزة نوبل.»

ولكن نجيب محفوظ لا تعنيه هذه المسائل برمتها؛ بدءًا من الاحتفال الإعلامي الصاخب بأعماله (المنشورة في العربية منذ ثلاثين عامًا)، وانتهاءً بالترشيح لجوائز عالمية.

ومع ذلك، فإننا نقول بأن الحضارات الفنية لها تمايزاتها الخاصة المستقلة ذات السيادة، وإن اشتركت في الحضارة الإنسانية الواحدة. ونقول أكثر من ذلك؛ إن الغرب — سواء في جذوره اللاتينية واليونانية أو في نهضته الأوروبية وما تلاها من ثورات كبرى في العلم والفن والتاريخ — قد أسهم بنصيب موفور في بناء الحضارة الحديثة.

هذه المساهمة ليست فقط هي الاختراع أو الاكتشاف أو الإبداع، وإنما هي الخبرة القابلة للتعميم الإنساني … فالقارئ الغربي الذي اطلع، جيلًا بعد جيل، على أعمال بلزاك وستاندال وفلوبير وزولا وبروست وموبسان، بل وقرأ في لغته أعمال تولستوي وديكنز ودستويفسكي وكافكا وفرجينيا وولف وجيمس جويس وشتاينبك وملفيل وميلر، هذا القارئ تكونت لديه خبرة إنسانية عميقة بالخيال الروائي والنماذج الأدبية. والجيل الأوسط هو الذي قرأ ناتالي ساروت وروب جرييه وميشيل بوتور وكلود سيمون. وبالتالي فإن ذوقه العام لم يعُد يتوقف عند الكلاسيكيات في تراثه الوطني، فكيف به يلتفت إلى عمل كلاسيكي لكاتب عربي؟

هذا هو السؤال الذي يجب أن يشد انتباهنا، حين نعرف أن «بين القصرين» قد راجت في بلد كفرنسا على صعيد التوزيع كما على صعيد النقد والإعلام.

لسنا هنا بصدد «انبهار» بالغرب؛ وإنما بصدد ظاهرة لا يجوز إهمالها … فنحن قد نقلنا عن الغرب أعمالًا كثيرة، ولكننا لا نتوقف غالبًا إلا عند أعمال محدودة.

و«بين القصرين» لم توزَّع على طلاب الدراسات الشرقية، ولا علاقة لها بالاستشراق الذي تناولها مرارًا من دون أن يؤهِّلَها للنشر على نطاق واسع، فضلًا عن التذوق الذي يصل إلى درجة الإعجاب. وهي ليست رواية صغيرة الحجم حتى يمكن «المغامرة» بنشرها، فقد نشر الجزء الثاني («قصر الشوق») والجزء الثالث قيد الترجمة. وكنت شخصيًّا الذي حملت إلى نجيب محفوظ عرضًا من دار جاليمار الشهيرة (أكبر ناشر فرنسي على الإطلاق) لنشر ملحمة «الحرافيش»، لولا أنه كان قد تعاقد على نشرها.

هذه كلها عناصر تشدنا شدًّا إلى أدوات علم الاجتماع الأدبي، فالسوق وأدوات التوصيل، والترجمة غير الاستشراقية، تحتاج إلى البحث السوسيولوجي الذي يعيد النظر في «كلاسيكية» نجيب محفوظ.

هل يمثِّل أحمد عبد الجواد قيمة أو رمزًا خارج «بناء الشخصية»، فيصبح تطريز التفاصيل الدقيقة ستارًا خارجيًّا يحجب الدلالة الأعمق، والتي قد تتجاوز آل عبد الجواد في العشرينيات المصرية إلى آفاق إنسانية تخترق الزمان والمكان؟

لقد اعتدنا على أن ننسب الرمز إلى الأعمال «الحديثة» شبه التجريدية، التي تختزل الفرد في موقف، والسردَ في لقطة، والحدثَ في مشهد، والحوار في إشارة. ولكن هذا الاعتياد على «أولاد حارتنا، و«الطريق» و«الشحاذ» يُنسينا أنه يمكن للتفصيل أن يكون تطريزًا للدلالة، وأن تكون «الحياة اليومية» مكمن الرمز.

إنه افتراض يبحث عن قارئ.

وقارئ الخمسينيات الذي تابع محفوظ في الثلاثية وما قبلها؛ يختلف عن قارئ الستينيات الذي عاش في الواقع أحداثَ وشخصياتِ «اللص والكلاب» أو «السمان والخريف». وكلاهما يختلفان عن قارئ السبعينيات الذي يجرُّه محفوظ جرًّا إلى طفولة الأشياء في «حكايات حارتنا»، وإلى بكارتها الأولى في «ملحمة الحرافيش»، بكارة تُنتزع دون رفق في ثمانينيات «صباح الورد».

إذا كان هذا هو حال قارئ نجيب محفوظ في مصر — اختلاف أجيال التلقي — فكيف لا يكون حال القارئ في غير مصر مبعث اهتمامنا والسؤال عن «المشترك في العمق» بين قرَّاء الأزمنة المختلفة والأماكن المتباعدة؟

– أحدث أعمالك هي «صباح الورد»، أنت تستعيد فيها الماضي؟

– نعم، الماضي الوطني والماضي الشخصي.

– سيرة ذاتية؟

– لا، السيرة الذاتية في كتاب جمال الغيطاني والإذاعة والتليفزيون. إنها الماضي الممتد في الحاضر.

– أنا قصدت في الحقيقة الماضي الفني. إنك تعود في الرواية المثلثة (وليست الثلاثية): أم أحمد، صباح الورد، أسعد الله مساءك، إلى البناء السابق على مرحلتك الوسطى «اللص والكلاب، ثرثرة فوق النيل، ميرامار»، حيث العناية القصوى بالتفاصيل. الفرق هو تعدد الرواة في «صباح الورد» بتعدد زوايا النظر، بينما كان الراوي في مرحلتك الأولى عالمًا بكل شيء من قبل أن يحدث. أنت تعود إلى الماضي في هذه الرواية، بمعنى العودة إلى البناء الكلاسيكي.

– ربما، لم أنتبه لذلك.

– هل تقوم بتصفية حساب مع التاريخ؟

– ربما كان بحثًا مجددًا عن جذور الحاضر، فالحاضر هو الذي يشغلني.

– هل أنت، بمعنًى ما، تُكمل الثلاثية؟

– لا. إنني لا أكتب التاريخ، بل أبحث عن جذور الحاضر الذي لم يكن قائمًا حين أنجزت الثلاثية، لذلك قد أعود إلى مناخها لأتنسَّمه من جديد في رؤية العلاقة بين ما كان وما هو كائن.

– إذا كانت ثمة علاقة …

– هناك علاقة دائمًا على نحو من الأنحاء.

– لا بمعنى «الحتمية التاريخية»؛ وإنما بمعنى التطور التاريخي؟

– إن مصائر الأفراد تختلف عن الأقدار الاجتماعية، تقدُّميٌّ بالأمس قد يصبح رجعيًّا اليوم، ولكن المجتمع نفسه لا يتوقف عن التطور.

– على أية حال، فالتطور لا يرادف التقدم، فلربما تقع انتكاسات أثناء المسيرة، كما حدث بعد الثورة الفرنسية. ولكنها في الأغلب انتكاسات مؤقتة، أليس كذلك؟

– أعتقد ذلك، ولكن «المؤقت» هذا يطول أو يقصُر حسَب عواملَ عديدة.

– هل أنت تستعيد هذه «العوامل» في بحثك الروائي عن الماضي الممتد في الحاضر؟ وبالمناسبة، عن أي ماضٍ تتحدث يا أستاذ نجيب؟

– الماضي الوطني والماضي الشخصي.

– نعم، ولكن العودة إلى مرحلة تاريخية معينة تكتسب دلالة مغايرةً للعودة إلى مرحلة أخرى. تلاحظ مثلًا على مسرح أحمد شوقي أنه يركز على مراحل الهزيمة في تاريخ مصر. والسنوات السبع التي كتب فيها المسرح (١٩٢٥–١۹٣۲م) كانت بدورها سنواتِ إجهاض ثورة ١٩١٩م؛ أي إنه كانت هناك علاقة بين الواقعة التاريخية التي استلهمها (قمبيز، كليوباترا … إلخ) والواقع المعاصر له. أنت نفسك في رواياتك المسماة تاريخية قد استحضرت من المشاهد في «كفاح طيبة» و«رادوبيس»، و«عبث الأقدار» ما يعادل موضوعيًّا الأربعينيات المصرية.

– إنني لا أختلف معك، ولكن الأمور لا تكون بهذا الوضوح في الخيال الروائي. إن التقابل الذي تتكلم عنه وارد، ولكني لم أفكر في «صنعه» أثناء الكتابة، وربما لم يخطر ببالي.

– يا أستاذ نجيب، كيف لا يخطر ببالك، وأغلب أعمال المرحلة الأخيرة في الأعوام العشرين ١٩٦٧–١۹۸۷م تدور بشكل أو بآخر عن الماضي.

عن «الحاضر» مثلًا كتبت: الحب تحت المطر، الكرنك، يوم قتل الزعيم. وهي أعمال لا ترقى — وأرجو أن تأذن لي — إلى المستوى الذي كنت عليه في الأربعينيات أو الستينيات.

عن «الماضي» مثلًا، كتبت: حكايات حارتنا، ملحمة الحرافيش، صباح الورد. وهي أعمال (خصوصًا الحرافيش) استعدت فيها أنفاسك التي كانت. والكلام هنا عن الفن، اللغة، الإيقاع، الصورة، الشخصية، الحوار، هنا تعود إلى سابق عهدنا بك من «قوة». ما علاقة الماضي بهذه القوة؟

– سأقول لك. هناك شخصيات تركت في نفسك علامة، ولكنها لم تكن في الماضي قد بلغت داخلك مستوًى من النضح يؤهلها لأن تكون شخصية روائية. ولكنها مع ذلك لم تُمحَ من ذاكرتك، ومارست دومًا الدقَّ على بابك. لم تهرب هذه الشخصيات من وجدانك ولم ترتحْ منها في أي وقت. ثم جاءت «لحظة» لم تحددها من قبل، لم تعمل لها أي حساب في وعيك، وإنما تجسدت أمامك هكذا فجأةً من عناصر متباينة، وأمْلتْ عليك ضرورة الإمساك بهذه الشخصيات، فقد آن أوان «قطافها» وإني لقاطِفُها. هكذا تتحول إلى شخصيات روائية.

– هل أفهم من ذلك أن «الشخصية» هي التي تستدرجك لكتابة حكايتها؟

– لا، وإنما مجموعة الملابسات المعقدة كالعصر والبيئة والذكريات.

– إذن، هناك ما يربط ذاك الماضي بهذا الحاضر.

– مؤكد، وإلا فما الذي جعلني أفكر فيها وأنشغل بها إلى حد مطاردتها، بعد أن كانت هي التي تطاردني؟! وحين أقول «الشخصية» فإنما أعني في الوقت نفسه جملة علاقاتها ومواقفها والأحداث المحيطة بها.

– هل لاحظت — أو قال لك أحد — أن «الماضي» الذي تكتب عنه الآن، له طابع انفعالي ساخن، كأن هذه الأحداث مرت بنا بالأمس فقط؟

في ثلاثية «بين القصرين» — وهي العمل الكبير — أشعر أن هذه — الأحداث قد تمت منذ أمد بعيد، وأن شخوصها قد طوتهم الأيام. في مثلثة «صباح الورد» أشعر كأن وقائعها تحيط بنا، وبأشخاصها كأنهم معنا.

– هذا شعور أم تحليل؟

– كلاهما. والمفارقة هي أنك كنت في الحادية والأربعين تقريبًا حين أنجزت الثلاثية؛ أي أنك كنت في زهوة الشباب، ولكنك كتبت بهدوء ورصانة الشيوخ. أما في «ملحمة الحرافيش» فقد كنت في الخامسة والستين تقريبًا، ومع ذلك فإن الكتابة تشتعل دون أي استخدام لمعجم الحماس ومفردات التدفق الانفعالي. إنه أسلوب التركيب اللغوي الذي انتقل من التطريز الصبور للتفاصيل الخارجية إلى اختزال السرد الوصفي في «ثرثرة» ثم إلى تجريد الكيان اللغوي من ثياب السهرة الموشاة بالقصب والاكتفاء بملابس «اللحظة» كما في «رحلة ابن فطومة» و«ألف ليلة». ولكني كنت أسألك عن العلاقة بين العودة إلى الماضي ورواياتك الأخيرة أو بعضها على وجه أدق.

– أظن أن منطلَقي ومبعث إلهامي هو الحاضر.

– نعم، ولكن ماذا هناك في الحاضر مما يدفعك دفعًا إلى هؤلاء الذين تركوا علامة، كما تقول، في نفسك ووجدتهم أخيرًا أمامك يطلبون الدخول إلى عالمك؟

– سأجيب، ولكن أغلب الظن أن الاجابة الأعمق والأكمل والأدق راقدة في اللاوعي. مع ذلك سأقول لك، إن «هؤلاء» الذين أقصدهم شاهدت ولمست نهاياتهم في الحاضر، منهم من ضرب، ومنهم من هرب، ومنهم من كسب … ربما كان تغير المصائر في الحاضر هو الذي لفتني إلى ماضيهم فتتبعته.

توثيق

يوم أن صدرت «الحب تحت المطر» في أوائل السبعينيات أفضى إليَّ نجيب محفوظ بسرٍّ أدبي مدهش؛ وهو أنه عندما اختتم «المرايا» لسبب أو لآخر، بقيت في ذاكرته ثلاث شخصيات دون «كتابة». ومن هذه الشخصيات بدأ ينسج قصة و«الحب تحت المطر». ولو أنه استكمل «المرايا» لَمَا كانت هذه الرواية.

وأضيف: إن الأهرام في ذلك الوقت لم تنشر «الحب تحت المطر»، فأعطاها نجيب محفوظ لمجلة متواضعة اسمها «الشباب» تتبع وزارة الإعلام. وفي الوقت نفسه كانت الرواية تطبع لدى الناشر. وهكذا صدرت الرواية في حلقات مجلة «الشباب» في صورة مختلفة عنها في «الكتاب»، وكلاهما يختلفان عن النص الأصلي الذي لم ينشر كاملًا إلا عام ١٩٧٣م، وهكذا أصبح للرواية الواحدة، التي كتبت صدفة، ثلاث صيغ.

– أنت تذكر طبعًا كيف كتبت «الحب تحت المطر»، هل معنى ذلك أن الشخصية في ذاتها هي نقطة البدء، أم أنه «المصير» كما تقول الآن؟

– لا سبيل لفصل الشخصية عن مصيرها. المصير ليس خبرًا يضاف إلى الشخصية، بل هو جزء منها لا يتجزأ.

– اسمح لي بالتكرار، هل يعنيك أكثرَ من أي شيء آخر تجسيمُ الشخصيات أم نسيج المرحلة التاريخية؟

– النسيج أكثر، والشخصية خيط مهم في هذا النسيج.

– ولكن «المرايا» مجموعة شخصيات. وكان واضحًا أن هزيمة ١٩٦٧م هي البؤرة التي انطلقت منها نظرتك إلى هذه الشخصيات. هناك راوٍ، وهناك وآخرون. وكان من الممكن لهذا «الشكل» أن يتيح فرصة كاملة لضمائر المتكلمين. ولكنك اخترت الراوي؛ أي إنك في واقع الأمر جعلت من هؤلاء الناس «متهمين» سلفًا. وكان دور الراوي هو دور القاضي ودور الاتهام معًا. و«الجريمة» المسكوت عنها هي الهزيمة.

– كل ما أتذكره عن «المرايا» أنني أردت أن أؤرخ لبعض الناس بالمعنى المضبوط للتاريخ، ولكنني فشلت. خُيِّل إلي أنني أملك من المادة التاريخية عن كل شخصيةٍ ما يسمح لي بعملية التأريخ، غير أنني اكتشفت أنني لا أعرف الواحد منهم إلا في موقف أو اثنين. وإذا أردت أن أكتب تاريخًا فلن يزيد عن سطرين لكلٍّ منهم. وهكذا أدركت صعوبة التاريخ في مثل هذه الحال. ولم يكن ليمنعني من كتابة الأسماء الصريحة سوى أن أغلب أصحابها من الأحياء، وقد يسبِّب لي الكشفُ عنها متاعبَ أنا في غنًى عنها. ولكن نيتي كانت هي أن أؤرخ لهم. ولم يكن الحيز الذي استهلكتْه ستون شخصية تقريبًا كافيًا لشخصية واحدة في حالة التاريخ. كنت أريد أن أقدم لوحة ثقافية عن عصر تاريخي كامل، وهو الأمر الذي تعذَّر عليَّ.

وأشهد أن العمل الروائي — إذا توفرت الموهبة والاستعداد — أيسر كثيرًا من عمل المؤرخ.

– علاقتك بالتاريخ لم تنقطع قط، سواءٌ التاريخ الذي يتدخل في البنية الروائية عمومًا، أو المادة التاريخية التي تتعلق بماضٍ بعيد؛ كما هو الحال في رواياتك الأولى أو في روايتك الحديثة نسبيًّا عن إخناتون «العائش في الحقيقة»، ما نصيب أعمالك الأخرى التي لا يتدخل التاريخ في بنيتها الأدبية من التاريخ؟

– الحقائق العامة التي أقتنع بصحتها. ولكنك يجب أن تلاحظ أني كتبت «الكرنك» مثلًا ضد أجهزة القمع في العهد الناصري قبل أن ينهمر السيل المُعادي للناصرية، ولو كان هذا السيل قد انهمر قبل أن أكتب لَمَا كتبت. والذي حدث هو أنني أثناء جلساتي في مقهى ريش كنت أستمع إلى أشياء يتكتمها الناس، وإذا لم أكتبها يمكن أن تضيع، فكتبت. ولو كنت أعلم بأن غيري سيكتب عن السجون والمعتقلات ما يشكِّل الآن مكتبةً كاملة، لَمَا كتبت. وأنت الآن أمام هذه المكتبة الضخمة، لن تفكر في قراءة «الكرنك». ولكن «الكرنك» في وقتها لم تُنشر في «الأهرام». رفضها أحمد بهاء الدين الذي كان رئيسًا للتحرير، وهو نفسه الذي رشحها للنشر عند كمال أبو المجد في مجلة «الشباب».

– كان ذلك في أول عهد السادات.

– طبعًا، لم تكن الحملة ضد الناصرية قد بدأت، كنت أكتب بمعزل عن أي شيء سوى ضميري وما أقتنع بصحته. وكانت صورة النظام هي الصورة الناصرية، ولكن الموقف تغيَّر بعد قليل، ولم تكن لي أية علاقة من قريب أو من بعيد بهذا التغير، ولا شأن لي بأية حملات شُنَّت بعدئذٍ. لقد قلت ما كنت أقوله في ظل عبد الناصر لو كان حيًّا. وفي حياته كتبت ما أريد بكل ما أملك من أدوات التعبير. ولكن ماذا أفعل وقد فوجئت — بعد شهور قليلة — أن كتبًا تغزو السوق ضد الناصرية. وها أنت تذكرت حكاية «الحب تحت المطر»، وكيف كان لها ثلاثة أصول، لقد حذفوا الجزء الخاص بالجبهة كاملًا. وكدت — أنا نفسي — أُحجم عن نشر الرواية في كتاب، لولا أن الناشر طالبني في هذه الحال بدفع أجرة المطبعة. وجد نفسه أمام أحد أمرين، إما أن يطيع أوامر الرقيب أو يخسر ثمن الصف. وهو لن يخسره طبعًا، وإنما أنا الذي سأعوضه. لذلك قبِلت أن يصدر الكتاب مراقبًا، فلم أكن أستطيع أن أدفع التعويض. كان النظام هو مراقبة الكتاب بعد طبعه، وبالتالي فمن لا يمتثل لتعليمات الرقابة المرفقة بالنص المخطوط عليه تقع المسئولية القانونية والخسارة المادية معًا. وأصبحت الرواية المنشورة كأنها طائر كسير الجناح ليس له سوى جناح واحد، فلم نعرف حياة «المجند» حتى نبرر السخط والغضب.

– قبل ذلك، أي في الزمن الناصري، هل كان الرقيب يسكن رأسك؟

– أبدًا؛ لأن الأهرام شجعتني على أن أكتب ما أشاء.

– ومع ذلك فهناك واقعتان عاصرتهما معك، ولكني أريد توثيقهما مجددًا برفقتك.

أما الواقعة الأولى، فهي تخص «أولاد حارتنا» التي نُشرت مسلسلةً في «الأهرام». وظن بعض الناس — بحسن نية — أن خاتمتها أو الحلقة الأخيرة لم تُنشر. ولم يكن هذا صحيحًا، فقد أصر محمد حسنين هيكل على الاستمرار في النشر حتى النهاية، بالرغم من الحملة العاتية التي تعرَّض لها هو والأهرام وأنت. وقد أثمرت هذه الحملة في عدم نشر الرواية في كتاب داخل مصر إلى الآن.

وأما الواقعة الثانية، فتخص «ثرثرة فوق النيل» التي نُشرت هي الأخرى مسلسلةً في «الأهرام»، ولكن قيل في ذلك الوقت (١٩٦٥م) إنك تعرضت لتهديدٍ ما من أحد مراكز قوى السلطة لم يُنقذك منه سوى ثروت عكاشة وزير الثقافة، الذي كان رأيه في الموضوع لدى عبد الناصر هو الذي نجا بك من «العقاب».

أريد أن أسمع منك الآن، وبعد مضيِّ سبع وعشرين عامًا على الواقعة الأولى، واثنين وعشرين عامًا على الواقعة الثانية، تفاصيلَ الواقعتين.

– عندما صدرت ثرثرة فوق النيل، علمت أن عبد الحكيم عامر قال عني: «لقد تجاوز الحد، ويجب تأديبه.» ولا أتذكر من الذي أنهى إليَّ الخبر. ولكنه ليس هيكل؛ لأنه لم يكن يحب أن يخيفني. وحين كان يعرف أمرًا كهذا لم يكن ينقُله لي. ولكن الذي أتذكره أن ثروت عكاشة كان يستعد للسفر إلى أوروبا حين سأله عبد الناصر: هل قرأت «ثرثرة فوق النيل؟» فأجابه: «لا، ليس بعد.» فقال له عبد الناصر: اقرأها وقل لي رأيك. لذلك أخذها معه ثروت عكاشة وقرأها وفهِم سبب سؤال عبد الناصر. وكان سؤالًا غاضبًا، وقد خشي ثروت من أن يصيبني ضرر ولو بسيط؛ كالإحالة إلى التقاعد أو نقْلي إلى مكان آخر. لذلك قابل عبد الناصر حين عاد، وقال له: يا سيادة الرئيس، أصارحك بأنه إذا لم يحصل الفن على هذا القدر من الحرية لن يكون فنًّا. قال له عبد الناصر بهدوء: وهو كذلك، اعتبِر الأمر منتهيًا. هذه هي الحقيقة.

– ولكن الواقعة لها امتداد غير مقصود، حين زارنا الرئيس في «الأهرام» عام ١٩٦٩م، وكنت أنت بين الذين التقوا به في مكتب لويس عوض.

– فعلًا سألني ما إذا كنت أكتب شيئًا عن «السيدة»، وأجبته ضاحكًا: بل عن سيدنا الحسين، فقال لي: لم نقرأ لك شيئًا منذ أسابيع. قلت: والله يا ريس غدا تُنشر لي قصة (وكان اليوم خميس والغد هو الجمعة يوم الملحق الأدبي)، فعلق هيكل: إنها قصة ترسل صاحبها إلى الجنايات، فوجه إليه عبد الناصر الحديث ضاحكًا: بل ترسلك أنت!

– وبالنسبة ﻟ «أولاد حارتنا» هل تضيف شيئًا؟

– أبدًا، لقد ذكرت الواقعة كما حدثت بالفعل.

– كيف تنظر إلى كتابك «أمام العرش»؟

– حوار مع زعماء مصر، أعتمد فيه أساسًا على الحقائق وتفسيري لها، فهو ليس كتابًا فنيًّا على الإطلاق.

– أين ينتهي الرمز ويبدأ التاريخ في عملٍ مثل «يوم قتل الزعيم»؟ وقد سمعت أن السيدة جيهان السادات قد انزعجت وسألتك في الأمر.

– لم تكن السيدة جيهان قد قرأت الرواية، وقد زرتها بنفسي وشرحت لها أنها رواية وليست كتابًا تاريخيًّا، وانتهى الأمر عند هذا الحد.

أما عن الرمز والتاريخ، فدعني أقول لك إن الأدب مهما بالغ في التجريد أو الرومانسية، فإنجازاته كلها إبداع تاريخي. ليس هناك أدب من دون تاريخ. هناك اتجاهات قليلة جدًّا كالتعبيرية والسريالية التي عاملت الزمن على نحو غير تاريخي من زاوية البناء الجمالي. ولكن الفن نفسه عمل تاريخي، حتى ولو لم يستدعِ المادة التاريخية أو الزمن في تصوره التاريخي.

وأيضًا ليس هناك أدب من غير رموز. ولست أقصد هنا المدرسة الرمزية أو السريالية أو العبثية، ولكن الأدب كأدب هو مجموعة من الرموز، أيًّا كان اتجاهه وشكله. حياتنا نفسها مليئة بالرموز في العادات والقيم، فكيف لا تنتقل إلى الأدب؟

إذن لا يخلو الأدب من الرمز والتاريخ معًا.

– هل من علاقة بين الرمز والتاريخ بهذا المعنى، وبين الأخلاق بالمعنى الفلسفي لهذا المصطلح؟

– أكيد.

رسالة
عزيزي الدكتور رشاد رشدي

الأدب وثيقة تسجيلية يمكن الاستئناس بها، ولكن من المغامرة غير العلمية الاعتماد عليها. إن أحداث الأدب تقع في التاريخ، القديم أو المعاصر، حتى الأدب المجرد لا يخرج كليةً عن حدود التاريخ المرنة. ولكن أي تاريخ؟ وأي تسجيل؟ إنه لا يعتمد على المراجع أو الإحصاء، بل يعتمد أولًا وأخيرًا على القلب، العاطفة، الوجدان. فالأدب وثيقة تسجيلية لا للتاريخ ولا للواقع. يخيل إليَّ أن الأدب ثورة على الواقع لا تصويرٌ له. غاية ما في الأمر أن هذه الثورة قد ترتدي شكلًا صريحًا، كما في الأدب الحديث، أو ترتدي لباس الواقع الظاهر بعد أن تُحدِث فيه خفيةً كلَّ تغييراتها. إن «بين القصرين» يمكن اعتبارها وثيقة تسجيلية. كذلك رواية الأستاذ أحمد حسين، وهي عن نفس الفترة. أقرأ الروايتين وسوف توقن من أنه لا توجد وثيقة تسجيلية على الإطلاق. والحق أنني لم أكتب «الثلاثية» لأؤرخ لمصر، بل لم أكتب القصص التاريخية الصريحة «عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة» لأقدم تاريخًا بأمانة. وما دفعني للكتابة في الحالين إلا حبي لأماكن وأشخاص وقيم.
أما الأخلاق فأمرها مختلف في اعتقادي.
أي رواية هي مجموعة من السلوك، وأي سلوك هو حركة أخلاقية، فلا يخلو أدب من أخلاقية معينة. أحيانًا يكون الأديب مؤمنًا بمجتمعه فيحكم — بالطريقة التي يختارها — على شخوصه تبعًا لأخلاقية جاهزة يؤمن بها. وهناك من يقترب من قيم جديدة، وقد تبدو لذلك روايته غير أخلاقية، أو أنها جمالية بحتة، على حين أنها تبشر ضمنًا بأخلاق جديدة. على هذا الأساس فإني أعتبر مؤلفي «صورة دوريان جراء» و«أزهار الشر» و«عشيق الليدي تشاترلي» كتَّابًا أخلاقيين، حتى المرحوم الشاعر عبد الحميد الديب، فهو شاعر أخلاقي.
نجيب محفوظ

– بهذا المعنى، فأنت ضد الانقلاب الاجتماعي الذي وقع في مصر تحت اسم «الانفتاح الاقتصادي». وهو أمر واضح في رواية «يوم قتل الزعيم»، فهذا الانفتاح يرتبط على الفور باسم الرئيس السادات الذي نال تأييدك، أليس كذلك؟

– ليس هناك تأييد مطلق ولا معارضة مطلقة، أنا كنت مع السادات قلبًا وقالبًا في السادس من أكتوبر ١۹۷٣م. وكذلك في محاولته من أجل السلام. وهنا أحب أن أستشهد بك في واقعة، وسأروي لك واقعة أخرى لم تشهدها لأنك كنت قد سافرت.

أما الواقعة الأولى، فإنك تذكر أننا دعينا إلى اجتماع مع العقيد القذافي عام ١٩٧٢م في حضور هيكل ومجموعة من كتاب «الأهرام».

وفي هذا الاجتماع الذي تحول إلى ندوة ناقشنا، أو نوقشنا، في أمرين: الأول هو الإسلام والثورة الليبية، والآخر هو القضية الفلسطينية. وفي هذا الموضوع قلت إنه إذا لم تكن لدينا القدرة على الحرب «فلنتفاوض ونصطلح»، وننهي هذه المسألة التي لا تحتمل بلادُنا معها حالةَ اللاحرب واللاسلم لفترة أطول. وقد أيدني حسين فوزي وتوفيق الحكيم. وكان كلامي مفاجئًا، فلم يكن يخطر ببال أحدٍ التفكير، مجرد التفكير، في هذا الحل. ذلك أننا كنا نعيش في أجواء لاءات الخرطوم الشهيرة. ولكننا عشنا بعدها اضطرابًا هائلًا في صفوف الطلاب والعمال والمثقفين. وفي هذا الخضم حضر العقيد ليتكلم عن الحرب الشعبية. ونحن نعاني أزمات معقدة ومركبة بعضها موروث وبعضها طارئ. ولكن البلد توشك على الدخول في مأزق تاريخي يقود إلى اليأس، حينئذٍ فكرت بصوت عالٍ، وبين سياسيين وثوريين، فكانت المفاجأة، حتى لي شخصيًّا. السياسة الرسمية بعيدة تمامًا عن مثل التفكير الذي نطقت به أمام ضيف هو رئيس دولة عربية. ولكني وجدت نفسي أنطلق بما أفكر فيه، حتى ولو لم يشاركني أحد. كان ذلك قبل زيارة السادات للقدس بخمس سنوات.

هذه واقعة أنت تعرفها، فقد كنتَ شاهدًا عليها.

أما الواقعة الثانية التي لا أتذكر تاريخها تمامًا، ولكنه يقع — على وجه التقريب — بين أواخر ١٩٧٥م وأوائل ١٩٧٦م حين أجْرَت معي جريدة «القبس» الكويتية مقابلةً كررت فيها رأيي السابق. وقد أفردت الجريدة صفحاتها بعد ذلك ستة أشهر لمهاجمتي. ولكن هذا حدث أيضًا قبل زيارة السادات للقدس بحوالي عام.

أي إنني لم أتملق السادات بتأييد كامب ديفيد.

شهادة

لن تكون شهادتي بالمنطق الذي أراده لها نجيب محفوظ، فالوقائع التي ذكرها عن ندوة القذافي في «الأهرام» صحيحة دون شك. وأضيف: إن البعض أخطئوا — بحُسن نية أو بسوئها — خطأً فادحًا حين قالوا: إن نجيب محفوظ (أو توفيق الحكيم أو … إلخ) قد أيد السادات ابتغاءً للرضا السامي ونشدانًا للأمان، فأمثال هؤلاء الرجال لا يبيعون تاريخهم هكذا بالمجان، مهما ارتفعت الأثمان. وإنما الأدق والأعمق — وربما الأخطر — هو أن تتخذ محاولةُ الفَهم من جانبنا سبيلَ التأصيل.

هل يمكن أن يكون موقف محفوظ والحكيم وفوزي وغيرهم من المسألة مفاجئًا بالفعل؟ الجواب أن هؤلاء هم أبناء ثورة ١٩١٩م الذين تربوا وطنيًّا في أحضان مصر المصرية الليبرالية التي تكافح التخلف باحتذاء الغرب، وتقاوم الأجنبي حتى الجلاء، وتناضل النظام الأوتوقراطي بطلب الدستور والبرلمان وحرية الصحافة والأحزاب.

حين أقبلت الثورة الناصرية كان هؤلاء في مرحلة النضج، وقد أنجزوا الوعد الأدبي الكبير، فقدَّموا أعمال الثورة الوطنية الديمقراطية في المسرح والرواية والقصة والنقد الأدبي. ولكن الثورة كانت تغاير أحلامهم في المظهر (العسكري) والجوهر (السياسي). وهنا وقع اتفاق صامت أشبه ما يكون بالصفقة التاريخية، بين جيل يرى مصر رؤية رأسية من الجنوب الأفريقي إلى الشمال المتوسطي، ومن الفراعنة إلى سعد زغلول، وبين جيل آخر لا يتجاهل التاريخ الرأسي تمامًا، ولكنه سرعان ما يركز على الجغرافيا الأفقية عبر سيناء شرقًا وعبر الصحراء الغربية نحو المغرب العربي. هذه مصر الجديدة يبنيها العسكريون من دون ليبرالية، وفي إطار قومية عربية نشطة، وفي سياق صدامي مع الغرب من أجل استقلال حقيقي.

صمت جيل ثورة ١٩١٩م عن مصريته وليبراليته ثمانية عشر عامًا، فما إن انطوت الصفحة الناصرية حتى وجد نفسه تتحقق في شعارات النظام الجديد: مصر عمرها سبعة آلاف سنة (الرؤية الرأسية) ومصر الليبرالية تعود بدستورها الدائم وأحزابها المتعددة وصحافتها الحرة. تلك كانت الشعارات التي أخرجت «المكبوت» من صدر الجيل (المصري) الذي لا يعرف من العروبة سوى ما يُنسب إلى سعد زغلول من أنها «صفر + صفر + صفر»؛ سواء كان هذا قوله أو مدسوسًا عليه. وإنما هم يعرفون «الجيران» أقطارًا مكتفية بذاتها لا يجمع بينها سوى اللغة العربية الفصحى المكتوبة والدين. هنا يصبح النزاع في الشرق الأوسط صراعًا داخليًّا بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وليس صراعًا قوميًّا بين العرب و«الصهاينة».

لم تكن إسرائيل، حتى عام ١٩٤٧م قد وُلدت رسميًّا، ولم يكن ميسورًا للوعي القومي العربي أن يسود أو يحفز العقلَ القطري على التفكير في «وطن عربي» أو «أمة عربية» حتى تنبثق رؤية جديدة. وهي الرؤية التي وُلدت تدريجيًّا عند الضباط الأحرار حتى عام ١٩٥٦م حين اكتملت. وحينئذٍ لم يعُد العدوان على مصر لأنها مصر فقط، وإنما لكونها اكتشفت وعمَّقت اكتشاف هويتها العربية، فأصبحت فلسطين جزءًا من وطن أكبر يضمنا وقومية واحدة تجمعنا. هنا كان الانفصال التاريخي بين جيلين. ولكن «الصفقة» كبَتت هذا الفصام زمنًا طويلًا، لم يتغير فيه جوهر نجيب محفوظ وتكوين توفيق الحكيم وفكر حسين فوزي. وحين أقبلت شعارات السادات كانت في الحقيقة شعاراتِهم فأيدوها لأنهم صادقون مع أنفسهم غايةَ الصدق.

بهذا المنطق المصري، إن جاز التعبير، وافق نجيب محفوظ، وغيره ممن يشاركونه التكوين التاريخي والرؤية، على مبادرات السادات من كامب ديفيد إلى التطبيع. وهكذا نتبين أن محفوظ لم ينافق أحدًا، بل كان منسجمًا إلى الحد الأقصى وأمينًا مع تكوينه الحقيقي ورؤياه الصافية، وهي الرؤيا التي لا تتناقض مع عروبة مصر؛ ما دامت الوطنية لا تتناقض مع القومية، كما أن القومية لا تتعارض مع الإنسانية.

– هذه شهادتي يا عم نجيب، هل توافق عليها؟

– تمام الموافقة، فقد ربحت شعاراتُه تسعين في المائة من تأييدنا. ولكن الذي حدث هو أنه حبس مصر، وخرَّب وحوشُ الانفتاح بيوت أهلها، وحرر البلاد.

– تقصد سيناء؟

– لقد اتفقنا على أن مصر هي «الوطن» بالنسبة لرؤية جيلي، أليس كذلك؟ لنقل إذن إنه حرر الوطن.

– ما الذي دفعك إلى السياسة المباشرة؛ حتى إنك تُدلي بتصريحات وتكتب المقالات التي لم تكن تكتبها منذ عام ١٩٣٦م، أي إنك توقفت عن الكتابة للصحافة أربعين عامًا متصلة؟

– والله، الشاب الذي أجرى معي مقابلة «القبس» نصحني بألا أجيب عن السؤال السياسي. ولكني رأيت أنه إذا لم أُجب عن السؤال سأظل خجِلًا من نفسي طيلة العمر؛ ذلك أن النصيحة التي أبديتها كانت للعرب وليس للإسرائيليين.

– ومع ذلك فإني أرى أن نجيب محفوظ الروائي فقط هو الذي سيهتم به التاريخ والأجيال. أما مواقفه السياسية — الصحفية، إن جاز التعبير — فلن ترتفع إلى هذا المقام.

– مفيش كلام، سياسة إيه وبتاع إيه!

– أدبك غارق في السياسة حتى العنق، ولكنه يخلو من «صراع الشرق الأوسط» أو التصدي للقضية الفلسطينية.

– فعلًا؟ ليس هناك من تكلم عن القضية العربية؟

– لا أتذكر، هل تذكر أنت؟ وأنا أقصد حتى وقعت زيارة القدس المحتلة لا بعدها.

– ربما بسبب ما أسميته أنت بالرؤية المصرية؟

– ألَا تشعر بأي تناقض بين الروائي المستقل عن الأحزاب مثلك، وبين الانشغال المستمر بإعلان المواقف السياسية في الصحافة، إنك تكتب زاوية أسبوعية في «الأهرام» لا علاقة لها بالأدب أو الثقافة عمومًا؟

رسالة
عزيزي الأستاذ أنيس منصور

لقد بدأت حياتي بكتابة المقال، كتبت بصفة متواصلة فيما بين عامَي ١۹۲۸م و١٩٣٦م مقالات في الفلسفة والأدب في المجلة الجديدة والمعرفة والجهاد اليومي وكوكب الشرق. ثم اهتديت إلى وسيلتي التعبيرية المفضلة؛ وهي القصة والرواية. ولو كنت صحفيًّا لواصلت كتابة المقال إلى جانب القصة والرواية. ولكني كنت وما زلت موظفًا، فلم يكن شيء يرجعني إلى المقال إلا ضرورة مُلحة، يضيق عنها التعبير القصصي. وأعترف لك بأن هذه الضرورة لم توجد بعد، فأنا لا أعد نفسي من أصحاب الرأي، ولكن من زمرة المنفعلين بالآراء. ولذلك فمجالي هو الفن لا الفكر، وثِقْ بأنه لو أخرجني الله من الظلمات برأي شخصي يمكن أن أنسبه إلى نفسي، لَمَا ترددت لحظةً في تسجيله في مجاله المفضل — بل الوحيد — وهو المقال. ألَا ترى جرييه صاحب رأي في الرواية الجديدة؟ وكذلك يونسكو بالنسبة للمسرح؟ ولكن ما حيلتي إذا لم يكن عندي رأي جديد؟ قضى ربك أن أكون من أصحاب القلوب لا العقول، ولا مناص من الرضا بقضاء الله.

نجيب محفوظ

– ليس مِن تناقض بين أن يكون للروائي أدبه وأن يكون له موقفه. ومن حقه إعلان هذا الموقف بكل ما يملك وما يستطيع من أدوات تعبير ووسائل. والصحافة تأتي في مقدمة هذه الوسائل، لِم لا؟

– هل تظن أن هناك نموذجًا في المعمار أو الحياة أو الشكل الاجتماعي؛ ينعكس على الكتابة، بحيث تلمس بعد الانتهاء من «ألف ليلة» أو «رأيت فيما يرى النائم» أن هذا الشكل متحقِّق فعلًا؟

– أصارحك بأنني أندهش حقًّا حين أقرأ لأحد الدارسين أن هذه الرواية أو تلك هي معبد فرعوني منقوش بما لا أدري من الحفر الذي … إلى آخر هذا الكلام الذي يدهشني جدًّا؛ لأنني بالطبع لم أفكر على هذا النحو بتاتًا، ولأنني بعد أن أقرأ الكلام وأحاول تطبيقه على الرواية لا أصل إلى ما وصل إليه الدارس.

– سأقول لك إنني شاهدت أستاذًا وطالبة فرنسيَّين يتناقشان حول «بين القصرين» في ترجمتها الفرنسية. كانت الفتاة تسأل ما إذا كانت الرواية تشبه شيئًا ما في مصر. أوضحت أنها لا تقصد الشخصيات أو نوع الحوادث، بل البناء الروائيَّ نفسه. قالت: «الرواية ذاتها» ماذا تشبه في مصر؟ بادلها الأستاذ سؤالًا معاكسًا: هل الرواية تشبه شيئًا ما في أوروبا؟ هل تشبه بلزاك أو زولا أو فلوبير؟ الفتاة وأستاذها لا يعرفان مصر ولكنها ألحَّت في السؤال ما إذا كان هذا «البناء الخيالي» يشبه تكوينًا واقعيًّا مصريًّا؛ لأنه لا يشبه خيالًا أو واقعًا أوروبيًّا (عكس المقولة النقدية الشائعة عن تأثر محفوظ بالواقعية النقدية والطبيعية). نفت الفتاة نفيًا قاطعًا وهي ترد: لا! لا! أوروبا ليست هنا مطلقًا. صديق عربي عاشق لمصر راح يصف لها بدقة أعجِز عن بلوغها، أحياءَ مصر الشعبية، فقالت البنت: أليس هناك احتمال بأن يكون المعمار في هذه الأحياء أو الشكل الاجتماعي للحياة فيها قد ترك بصمته على بناء الرواية؟ إنه احتمال.

أسرُد عليك هذه الحادثة لأنني أريد أن أستفسر منك عن أعمالك الأخيرة، والتي يتفاوت فيها الأسلوب والقيمة والرؤية. هل هناك «نموذج» بنائي يسبق ويواكب بناء هذه الأعمال البعيدة عن التجريد، والتي يمتزج فيها الرمز والتاريخ والواقع المعاصر؟

– حين كنت أقرأ مثل هذا الكلام، كنت أتأمله وأحاول اختبار صحته، ولكني لا أملك أي تأكيد لهذه الفكرة.

– في اللغة مثلًا، هل ترى أنك تكيِّفها للمعنى «العامي» إن جاز التعبير، أو أنك تقوم بتطويعها للتركيب الشعبي المصري؟ أنت لا تكتب بلغة قاموسية، فهل تظن أن اللغة «الشعبية»، إن جاز التعبير أيضًا، تبني الشخصية، أم أن اللغة هي لغتك أنت؛ لغة الراوي؟ اختيار اللفظ وخلق الحوار وطريقة السرد، هل هي لغة الشخصية وقد ولدت معها أم أنها لغتك أنت؛ نجيب محفوظ؟

– في الحقيقة يصعب الفصل لأنني أندمج في الشخصية، فهي لغة الاثنين، الراوي والشخصية معًا. ولم أضبط نفسي متلبسًا بالبحث عن لغة تخص هذا الرجل أو هذه المرأة. وإنما المشكلة التي صادفتني من اليوم الأول لكتابة القصة؛ هي الازدواج اللغوي بين لغة الكلام ولغة الكتابة. وكما لاحظت أنت فإن لغتي الروائية تبدو كما لو أنها عامية، وهي ليست كذلك، بل أحاول توحيد الفكر واللسان في الكتابة. أحيانًا أستخدم ألفاظًا يعتقد البعض أنها عامية، وهي فصيحة. ويعتقد البعض الآخر أن هذا تعبير شعبي غير فصيح التركيب. ولكنه نحويًّا فصيحُ التركيب. يبدو لي أن هناك روحًا للغة. أنا أكتب بالعربية الفصحى حقًّا، ولكنها العربية الحية بالروح المصرية، بالمجاهدة الذاتية حولت العربية إلى المصرية دون تقنين. وهي عملية أخذت وقتًا لأنها مضت ببطء. والتطور اللغوي في أعمالي يتم — إذا تم — دون وعي أو تعمُّد من جانبي.

رسالة
عزيزي الدكتور لويس عوض

أعتقد أن الازدواج اللغوي ظاهرة عامة في جميع اللغات، فما يقتضيه الفكر من تعبير تحليلي وتفسيري مختلفٌ جدًّا عما تقتضيه الحياة اليومية من اقتصاد في التعبير وإعداد له؛ بحيث يعبر تعبيرًا عمليًّا يلبي مطالب الحياة القومية.

ولقد كان الأدب يُكتب بلغة الشعر، مسرحًا وحكاياتٍ وملاحم، وباعَد ذلك بين اللغتين، وأكد على الازدواجية، ولكنه لم يقلل من عبقرية التعبير الفني. وما أكثرَ الذين يكتبون حوارهم بلغة الحياة اليومية! ومنهم من يكتب النص والحوار بها متجاوزًا بذلك مشكلة الازدواج، فهل بلغوا العالمية؟ الحق أنهم فقدو العالمية «المحلية» التي تتضمنها اللغة الفصحى بين البلاد العربية، ولم يصِلوا إلى عالمية العالم.

إني لا أعتبر هذه الازدواجية مشكلة، فهي طبيعية، بل هي تعبير صادق عن الازدواجية في شخصية الفرد، بل توجد عادةً بين حياته اليومية وحياته الروحية.

نجيب محفوظ

– إذا كانت الازدواجية تعبيرًا صادقًا عن الازدواجية في شخصية الفرد، فلماذا لا يكون الأدب صادقًا و«تزدوج» لغته؟

– لأن الصدق الفني شيء آخر. إن تصديق الواقع (اللغوي في مناقشتنا) لا يعني نقله حرفيًّا. النقل نفسه مستحيل. وإذا كنت أختار من بين الملايين رجلًا واحدًا أو امرأة أو دكانًا أو جامعة أو مضيفًا، فأنا أقوم في الحقيقة — مع التجاوز — بعملية مونتاج مكثفة للواقع، فلماذا لا يكون هو موقفي نفسه بالنسبة للغة؟

– لم أقصد الفرق بين «لغة» السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية و«لغة» ابنه كمال، فكلاهما يتكلم العامية. والمونتاج اللغوي لا يحول العامية إلى فصحى، ولكنه يجعل من كمال عبد الجواد مثقفًا ومن والده تاجرًا. كذلك فإن هذا المونتاج هو الذي يفرق بين لغة «بين القصرين» ولغة «أولاد حارتنا» ولغة «ثرثرة فوق النيل» … أليس كذلك؟

– إنني أندمج في الشخصيات فلا أعود أعرف لغة من … هذه اللغة.

٣

من أبرز ملامح نجيب محفوظ أنه عاش حياته «موظفًا في الحكومة» هذا الملمح له سلبيات وإيجابيات، ولكنه في الحالين شديد الفعالية والتأثير في موقف الكاتب وأدبه.

من السلبيات مثلًا أن هذا الموظف لا يتيسر له الانطلاق بعيدًا كالسفر ومعرفة العالم. والحقيقة أن محفوظ لم يسافر خارج الحدود إلا مرتين ولأسباب وظيفية أو اضطرارية كأنها «تعليمات». سافر مرة إلى يوغسلافيا في شأن يخص وزارة الثقافة. وكانت المرة الأولى التي يركب فيها الطائرة. والمرة الثانية سافر ضمن وفد من الأدباء المصريين إلى اليمن أثناء الحرب.

ومن السلبيات كذلك أن الارتباط بالوظيفة يفرض عليه نوعًا من الارتباط بالدولة حتى لا يفقد مصدر رزقه، وبالتالي فهي من زاويةٍ ما تقييد للحرية، وربما كانت الوظيفة من الأسباب التي حالت بين نجيب محفوظ والالتزام السياسي المعلن في حزب أو تنظيم.

ولكن الوظيفة من زاوية أخرى أتاحت له استقرارًا معقولًا أتاح للكاتب في شخصه أن يكتب بدأب وصبرٍ هذا الكمَّ الهائل من الأعمال التي ينفرد بها في تاريخ أدبنا الحديث (٣۲ رواية و١٢ مجموعة قصصية وكتابان أحدهما مترجم، أي ٤٦ عملًا على مدى نصف قرن أو يزيد قليلًا).

هذا الإنتاج الذي أصبح عنوان نجيب محفوظ يعود جانبٌ من الفضل فيه إلى الاستقرار الوظيفي.

وهناك جانب آخر؛ أن الوظيفة أتاحت له التعرف على أنماط بشرية لا حصر لها، خاصة حين كان يعمل في وزارات كالأوقاف والثقافة. وهذه الأنماط هي التي شكلت على نحوٍ ما عالمَه البشرى.

يقول نجيب محفوظ إنه توظف عام ١٩٣٤م؛ أي منذ ٥٤ عامًا، وإنه يدرك في وقت مبكر أن الوظيفة شيء والأدب شيء آخر. وهو كان يردد هذا الكلام بمدلوله السلبي. ولكن الوجه الآخر هو أنه لم يشتغل بالصحافة التي كان من الممكن أن تسرق منه القلم. الوظيفة تستهلك الوقت وتبعث على الملل. ولكن الصحافة تشاطر الأدب أداته الأولى، وهي القلم. ولذلك نادرًا ما يستطيع كاتب أن يجمع بينهما، فالصحافة تهديد وتبديد للموهبة الأدبية، ولكنها في الوقت نفسه منبر الأدب الذي يصل إلى أوسع رقعة جماهيرية قارئة. محفوظ لم يشتغل بالصحافة حتى حين عمل في «الأهرام» فقد كان وما يزال ينشر أعماله الأدبية. أما الزاوية الأسبوعية الصغيرة و«وجهة نظر» فهي ليست من العمل الصحفي في شيء. وهو لا يذهب إلى مكتبه إلا يومًا واحدًا في الأسبوع لمقابلة الضيوف.

يقول عن «الوظيفة في الماضي» إنها كانت مأوى الفساد، فنماذج مثل محجوب عبد الدايم (بطل «القاهرة الجديدة» ورضوان ياسين في الثلاثية) هي النماذج الشائعة. الأول كان قوادًا والآخر كان شاذًّا. «كانت أيامًا شبيهة بأيام المماليك، جهاز إداري فاسد، لكن بالنسبة لمسألة الرشاوي كان الحال أفضل من الآن.»

«عندما التحقت بوزارة الأوقاف كان يلازمني المرحوم كامل كيلاني، وحذرني من إظهار أي نشاط أدبي، وطلب مني أن أخفي هويتي كمؤلف. قال لي إنهم لو عرفوا سيضطهدونك.» وقد أخذ نجيب محفوظ بنصيحة كامل كيلاني رائد أدب الأطفال في مصر. ولكن النصيحة لم تُفدْه شيئًا حين كبر اسمُه وذاع صيتُه وأضحت صوره في الجرائد والمجلات منتشرةً كنجوم السينما.

هذه الوظيفة كانت في حياة نجيب محفوظ وأدبه بنية اجتماعية وبنية أدبية في وقت واحد، إنها ليست مجرد مادة مجردة، وإنما هي عالم واقعي وبناءٌ خيالي في الوقت نفسه، إنها نسق من العلاقات الترتيبية ونظام من القيم المعيارية؛ ولذلك فإن الباحث في الروايات المحفوظية عن مستويات المعنى والتركيب الدلالي يجب أن يكون مستعدًّا للانطلاق من «الوظيفة» التي شاركت في تكوين الوعي بممارستها وبالنوعيات البشرية الحاضرة في إطارها.

ليست الكتب وحدها هي مصدر الوعي، وليست تربية البيت في الطفولة والصبا، ولا تربية الجامعة والصحافة فقط هي مصدر الوعي … وإنما «الوظيفة»، كمجموعة من العلاقات والدلالات والقيم، هي نقطة الانطلاق الرئيسية في تشكيل «الوعي الروائي» عند نجيب محفوظ، وكذلك حدود الوعي الشخصي.

«الوظيفة» زاوية للرؤية: رؤية الماضي والحاضر والمستقبل.

– أريد أن أعود بك مرةً أخرى إلى التاريخ والفن، ففي أعمالك الأولى (كعبث الأقدار ورادوبيس وكفاح طيبة) كان التاريخ وسيلة تعبيرية أقرب إلى الديكور الذي يخفي الحاضر ويقوم بعملية إسقاط عليه، فهو أقرب إلى الاستعارة التاريخية. دعني أقول أيضًا إن أعمالك تلك واكبت أعمالًا «فرعونية» أخرى لعبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير وعادل كامل. أي إنها ليست بريئة من التقمص الرومانسي للتاريخ من جهة، ولا هي بريئة من تكوين الرؤية المصرية للتاريخ من جهة أخرى. وكلاهما — التقمص والرؤية — استغاثة واستنجاد بالتاريخ الوطني لمواجهة الحضارة الوافدة القاهرة.

في عملك الأخير «العائش في الحقيقة» تكتب عن إخناتون لأنك تريد أن تكتب عنه فعلًا، فهو ليس وسيلة تعبيرية ولا هو تقمص رومانسي. إنه إخناتون كشخصية تاريخية تثير لديك تأملاتٍ معاصرة، ربما، في معنى «التوحيد» أو معنى ازدواجية السلطة والدعوة أو في معنى «تجديد الفكر» لدرجة التغيير، أم ماذا؟

– أنت تعرف أن التاريخ يُستخدم في أكثر من طريق؛ هناك من تراه مغرمًا بالتاريخ في حد ذاته، إنه ينقُلك إلى فترة تاريخية ويتركك هناك، هذا ليس أنا، وهناك من يُغرم بالتاريخ ولكن الحاضر هو نقطة انطلاقه، ولذلك ينعكس التاريخ على الحاضر. إخناتون ألهمني الكتابة عنه وعن الحاضر في وقت واحد. ومن هذه الزاوية، هناك علاقة بين أعمالي الأولى وهذا العمل. «عبث الأقدار» حكاية مصرية قديمة استكملتها، وفيها صورة الحاكم وابن الشعب. «رادوبيس» ثورة على ملك، فهي واضحة الدلالة، كل المكتوب عن هذا الملك في التاريخ أنه تولى المُلك فترة قصيرة، وأنه قُتل في ظروف غامضة. هذا هيكل عظمي تحول إلى بشر وأحداث ومواقف في الرواية التي كتبتها.

– إخناتون يختلف؛ ليس مجرد وسيلة تعبيرية، إنه «غاية تعبيرية» إن جاز الوصف. ليس «حكاية» قديمة قمت باستكمالها ولا «حادثة غامضة» قمت بتوضيحها. وهناك كما تعلم مدرستان في تفسير الإخناتونية. وأقول يا أستاذ نجيب «الإخناتونية» فأمنمحتب الرابع (= إخناتون) لم يكن مجرد ملك، بل صاحب دعوة، رسالة، عقيدة. وهكذا يختلف الأمر اختلافًا كبيرًا بينه وبين غيره من الإلهامات الفرعونية في رواياتك.

هناك من يرى أن مسألة «التوحيد» هذه ملفقة، وأن المقصود بها توحيد الإمبراطورية باعتبار أن «الشمس» (= آتون) تشرق على مساحة هائلة من الأرض. وهناك من يرى أن إخناتون هو الشاعر القدِّيس، الحلم، وهو صاحب أقدم تصور للتوحيد الإلهي.

أنت، يا عمنا، في الرواية لم تتخذ موقفًا من كلا التفسيرين.

– لا، إزاي، أنا مع إخلاصه للتوحيد، بمعنى أنني مقتنع تمامًا بأن ولاءه كان لهذه القضية. ولكني مقتنع كذلك بموقف القائد الذي قال له اترك العرش وتفرَّغْ للدعوة. هذه حكمة صادقة، فليس المطلوب هو تقويض إمبراطورية لحساب نشر العقيدة. وليس من عمل الدعاة استغلال السلطة المادية لنشر الدعوة. انزل إذن عن العرش واترك لنا الإمبراطورية. ولذلك كان جانب كبير من نفسي مع حور محب؛ القائد. أي إنني معجب بإخناتون ودعوته، ولكني لست موافقًا على فرض الدعوة بقوة العرش. لقد تجاهل إخناتون الواقع، فإمبراطوريته تستغيث به وهو ينادي بالحب. لا يريد أن يعاقب أحدًا في الدولة لأنه يعتقد أن الحب هو العلاج، حتى استشرى الفساد. ليست مثالية فقط، وإنما خطأ في معالجة الواقع.

– ولكنك كنت منحازًا لنفرتيتي.

– بالتأكيد. هناك تصورات عديدة لنفرتيتي، ولكن أحببتها من زاوية معينة؛ هي الزاوية التي صورتها منها.

واقعة «١»

«كنت ما أزال طالبًا في المرحلة الثانوية عندما رحت أترجم كتابًا إنجليزيًّا إلى العربية، عنوانه «مصر القديمة» لجيمس بيكي. هدفي هو تقوية نفسي في اللغة التي أنقل عنها. وقد أرسلت الترجمة والأصل إلى سلامة موسى الذي سأذكر لك تأثيره الضخم في تكويني المبكر. كان يصدر «المجلة الجديدة» التي نشرت فيها مقالاتي الفلسفية الأولى. وقد أرسلت له الترجمة حتى إذا أعجبته كان هذا اعترافًا جميلًا منه بأنني قادر على الترجمة، وقلت إنه ربما ينشر فصولًا من الكتاب في المجلة الجديدة. ولكن الذي حدث أنني فوجئت بترجمتي مطبوعةً في كتاب يوزع على قراء المجلة كهدية للمشتركين فيها مقابل توقفها شهرين في السنة عن الصدور.»

واقعة «٢»

يتكون كتاب «مصر القديمة» من ثلاثة عشر فصلًا، هي على التوالي «أرض ذات شهرة قديمة» و«يوم طيبة» و«يوم في طيبة» و«فرعون في القصر» و«حياة الجندي»، و«بعض الأساطير» و«استكشاف السودان» و«رحلة استكشافية» و«الكتب المصرية» و«المعابد والقبور» و«قدماء المصريين والسماء».

يقع الكتاب في ٦٨ صفحة نصفها مكرَّس لوصف الحياة في مصر القديمة، وصف الأشياء والبشر والعلاقات بينهم والحياة اليومية. والنصف الآخر يحكي بعض الأساطير المتداولة في تلك العصور القديمة.

واقعة «٣»

في الثلاثينيات وجزء كبير من الأربعينيات كان الحماس الوطني في أوجُّهِه، وكنت أبحث عن الكتب التي تتناول تاريخ مصر. ولم أكن وحدي في ذلك، بل كان أغلب أقراني يفعلون ذلك. قررت أن أؤرخ لوطني في صيغة روائية، حتى إن الشيخ مصطفى عبد الرازق قال لي إنني سأحاكي جورجي زيدان. أما أحمد أمين فقد سألني على أثر فوزي بجائزة عن «رادوبيس»: لماذا ذكرت العجلات الحربية التي لم يعرفها المصريون إلا بعد أن دخل الهكسوس مصر؟ فأجبته إنني تعمدت ذلك.

والحقيقة أن مصر الفرعونية كانت ينبوع إلهام في مرحلة مظلمة تكاد تكون نقيض ما يمثله تاريخنا المصري القديم من عزة وفخار. إنني أنتمي إلى جبل أو قطاع من جيل يكره الإنجليز والأتراك، ودرسنا جذورنا الحضارية دراسة جيدة. وبالنسبة لي بلغت هذه الدراسة مشارف الاحتراف. كنت أذهب إلى محاضرات قسم الآثار وأتابع كل جديد حول مصر الفرعونية متابعة دقيقة. وقد أعددت في خيالي، وربما نقلت إلى الورق، أفكارًا روائية عن ذلك التاريخ، ماتت فجأةً بالسكتة القلبية.

كنت قد أعددت مسلسلًا كاملًا، ربما بلغ ٣٥ رواية، ماتت كلها فجأة. لم يعُد التاريخ القديم قادرًا على إلهامي، فكتبت «القاهرة الجديدة» عن العصر الذي أعيش فيه. كتبت عشرات القصص القصيرة ربما كانت أقرب إلى الروايات الملخصة عن مصادر فرعونية ستجد بعضها في «همس الجنون» التي شاء الناشر أن يكتب تاريخها عام ١٩٣٨م (وهو تاريخ يصلح لزمن كتابتها)، ولكنها في الواقع نُشرت في كتاب للمرة الأولى بعد «زقاق المدق».

من بين أهم الموضوعات التي فكرت أن أكتبها رواية عن إخناتون — منذ نصف قرن كان هذا التفكير — ولكني لم أكتبها حينذاك، كانت من بين الأفكار التي ماتت. وانقطعت صلتي فعلًا بالتاريخ القديم حتى ظننت يومًا أنني استنفدت جزءًا من عمري في دراسة لم أستفد منها. طبعًا، هذا ليس صحيحًا، فقد دخل التاريخ الفرعوني في تكويني، ولو بصورة غير واعية. قد ألجأ إليه لتفسير ما يغمض عليَّ في حياتنا المعاصرة.

– لقد عدت إليه في «إخناتون» و«أمام العرش». الكتاب الأخير ليس رواية، ولكن «إخناتون» رواية. واقع الثلاثينيات ليس هو واقعنا الراهن، فلماذا عدت إلى التاريخ بعد نصف قرن، وبالذات إلى إخناتون الذي قررت ذات يوم بعيد أن تكتب عنه، ثم ماتت الفكرة على حد تعبيرك؟

– لا أدري.

– هل ثمة ما استعصى عليك تفسيرُه في الحاضر، فاستعنت بالتاريخ لفكِّ طلاسمه؟

– ربما.

– يا عم نجيب، حكاية الرومانسية القديمة ومواجهة العصر الملكي والاستعمار البريطاني؛ لم تعد واردة لتفسير عودتك إلى التاريخ.

– يجوز.

– ما هو الذي يجوز ولا يجوز؟ أنت تعلم أن أحد أهم شعارات السادات كانت «مصر ذات السبعة آلاف سنة»، ألم يكن يعني لك هذا الشعار شيئًا؟

– بل إنه يعني لي الكثير، أليس هو الحق يقال؟

– هو الحق الناقص الذي يراد به اصطناعُ التناقض مع عروبة مصر، وبالتالي تبرير العلاقة مع إسرائيل.

– لا تحتاج هذه العلاقة إلى تبرير؛ لأنني كما قلت لك إما الحرب وإما السلام. وبما أننا لا نحارب، فلا بديل سوى الصلح.

– هذا لأنك ترى مصر في تاريخها القديم فقط لا بقية التاريخ وبقية الجغرافيا.

– التاريخ ليس هو القديم أو الجديد، وإنما هو شجرة ذات جذور وجذع وأغصان وفروع.

– إذا كانت ثورة ١٩١٩م والمد الوطني المصري في الثلاثينيات هو الأصل في رؤية «مصر المصرية» التي انعكست في أدب جيل كامل، فهل تظن أن عودتك إلى التاريخ بعد نصف قرن من الانقطاع ترادف سياسيًّا الارتدادَ الساداتي على الناصرية؟

– لم أكن ناصريًّا ولم أصبح ساداتيًّا.

– قصدت الارتداد السياسي الرسميَّ على القومية العربية.

– أنا وطني مصري ولم أتغير.

– ما هي رؤيتك المصرية؟

– عرف الشعب المصري على مدى تاريخه صنوفًا من القهر والاضطهاد، فتكونت لديه «شخصية» لها معالمها المميزة، كالصبر الذي استمده من الحياة الزراعية، والصمود الذي يتغلب على الفناء. وهو لا يعتدي على الآخرين بل مفعَمٌ باللطف والإنسانية وحسن المعاشرة. ولكنه من جهة أخرى اعتاد القهر فاكتفى بالسخرية بدلًا من الصراخ، وخفتت لديه إلى حدٍّ ما حاسةُ المقاومة. واضطرته الحاجة إلى النفاق والفهلوة. وهي رذائلُ تحتاج إلى مساحة من الحرية حتى يتخلص منها.

– في قصتك «التنظيم السري» التي جعلتها عنوانًا للمجموعة التي صدرت لك عام ١٩٨٤م، تعود إلى معالجة النموذج السياسي-الديني بعد أن توقفت به في «السكرية»، وقد حبسوا عبد المنعم شوكت عام ١٩٤٤م (حسب الزمن الروائي). لقد عدت إلى معالجة هذا النموذج في عصر مغاير. كانت الدعوة المصرية في العشرينيات والثلاثينيات وحتى الأربعينيات دعوةً وطنية شائعة في صفوف الشعب، وليست دعوة رسمية للنظام. وكان الإسلام السياسي قد وُلد في أواخر العشرينيات وقوِيَ عودُه تدريجيًّا بعدها. الآن، يختلف الأمر؛ لأن الدعوة المصرية جاءت من أعلى، من الحكم، ليواجه بها سياسيًّا الدعوة العربية التي كانت من علامات الزمن الناصري. في ظل هذه الدعوة المصرية الرسمية، نمَت التيارات الإسلامية السياسية ذات الاتجاه الأممي المعادي للقومية. هل لهذا السبب اتخذت في قصة «التنظيم السري» موقفًا مضادًّا للإسلام السياسي؟

الإخوان

«كرهت منذ بداية الوعي السياسي المبكر مصر الفتاة والإخوان المسلمين، فالأولون أفصحوا عن انتهازيتهم وفاشيتهم في وقت واحد؛ أيديولوجيًّا وعمليًّا. والآخرون بدءوا كجمعية دينية؛ حتى إن بعض الوفديين انضموا إليها، ثم أفصحت هذه الجمعية عن نشاطها السياسي المعادي للوفد فوقفنا ضدها. وسأروي لك حقيقة تاريخية، وهي أن الوفد كان يرشح الأقباط من أنصاره في الانتخابات، فكانوا يهزمون الإخوان في دوائر غالبية سكانها من المسلمين·

كان الزميل الراحل عبد الحميد جودة السحَّار ممن يميلون إلى الإخوان، فدعاني أكثر من مرة لمقابلة الشيخ حسن البنا ولكني رفضت الدعوة بكل إصرار.

الآن تغيرت الدنيا. أصبحت هذه التيارات على درجة كبيرة من الخطر. والفساد هو الأب الشرعي لقوتها. إنهم يستولون على الجامعات والنقابات. كيف؟ أعدت قراءة التاريخ الإسلامي فاكتشفت وجود هذه التيارات — مع فوارق الأزمنة والمصطلحات — وأنها تزدهر مع ازدهار الفساد. وقد بلغ الأمر بهذا الفساد حدًّا لم تعُد معه الكتابة الأدبية ممكنة، فالواقع يسبق الفن. حين تقول لي إنك ستكتب روايةً «تثير الدهشة» بعد وصول الإنسان إلى القمر، لن أصدقك. وكذلك حين تكتب الآن وتجد الإعلام وقد سبقك بالأرقام والصور، ماذا تستطيع أن تفعل؟

– رغم ذلك فقد كنت أنت الذي كتب «أهل القمة» عن الفساد.

– متى كان ذلك؟ في بداية البدايات. الآن لا أستطيع أن أكتب مثل هذه القصة؛ لأن الناس سيضحكون قائلين: «يا سلام! يحدث أكثر من ذلك.» في الماضي كتبت عن موظف تحول إلى قوَّاد حتى يحصل على الدرجة السادسة، جاءني الشيخ أحمد حسين في وزارة الأوقاف ليُجري معي تحقيقًا؛ لأنه خاف من أنني أقصد ربما وزيرًا بعينه. كان ذلك عام ١٩٤٣م أو ١٩٤٤م. الشيخ أحمد هذا هو أخو طه حسين، وقد ظن أنني أحد تلامذة أخيه فتواطأ معي وقال إن الأمر خيال في خيال ليُنقذني من التهمة. هل أستطيع أن أكتب الآن قصةً من هذا النوع؟ سيقال — كما لو أن الأمر نكتة —: «لماذا يكتب عن رجل شريف؟!»

– ولكن هذه التيارات الدينية السياسية لها رأي في الأدب نفسه.

– رأي مدمر، فهم يرون الأدب رجسًا، إنني أقرأ صحافتهم، وهم يشتمونني وغيري ويقولون إننا من حثالة الغرب، وإننا ننشر الانحلال. يتكلمون أحيانًا عن أدب إسلامي. ولست أعرف أدبًا إسلاميا خارج الأدب المكتوب في ظل التاريخ الإسلامي. وهو أدب يشتمل على أكثر مما يحتويه الأدب الغربي من صراحة في القول والتصوير. أبو نواس وبشار أليسا من الأدب الإسلامي؟

لقد علمت أن الجماعات الإسلامية في الإسكندرية اقتحمت معرض الكتاب وصادرت مؤلفاتنا. إلى هذا الحد وصلت الأمور. حدث ذلك منذ ثلاث سنوات. صادروا كتب طه حسين وكتبي وكتب غيرنا. ولا أعرف ما إذا كان الأمر قد تكرر أم لا.

– كم نسخةً يطبع ناشرُك من الرواية الواحدة؟

– في الماضي كان يطبع ويوزع عشرين ألف نسخة، أما الآن فعشرة آلاف فقط.

جدول
اسم الرواية تاريخ آخر طبعة
عبث الأقدار الحادية عشرة ١٩٨٥م
بداية ونهاية الرابعة عشرة، ١٩٨٤م
بين القصرين الثانية عشرة، ١٩٨٣م
اللص والكلاب التاسعة، ١٩٨٠م
ثرثرة فوق النيل السادسة، ١٩٨٣م
ميرامار الخامسة، ١٩٧٩م
المرايا الرابعة، ١٩٨٠م
ملحمة الحرافيش الثالثة، ١٩٨٤م
ليالي ألف ليلة الثانية، ١٩٨٣م

– أستاذ نجيب، أين أصبح «المنتمي»؟

– الحقيقة أنني لم أعش حياتي في أي وقت دون الانتماء. وأقول: «الانتماء» لأن التعريف هنا مقصود؛ ذلك أن انتمائي لم يتغير في الجوهر. هناك قيمتان أساسيتان؛ هما الحرية والعدالة الاجتماعية. يقال لي إنهما لا يجتمعان، ولكني لست مقتنعا أبدًا. لست أفهم لماذا يجب حين أعطيك حقك أن أصادر رأيك. لست مقتنعًا.

– غير أنني قصدت بالمنتمي النموذجَ الروائي وليس نجيب محفوظ نفسه.

– ربما في روايتي «رحلة ابن فطومة»، وقد اعترفت لهذا النموذج بأنه حقق أكبر عدالة في التاريخ، وانتقدت الدكتاتورية التي لا مبرر لها.

– أنت تقصد الانتماء هنا من موقع السلطة، ولكني قصدت المنتمي في المجتمع.

– هل تتذكر التصنيف الذي قمت به في الثلاثية: إخوان وشيوعيون وليبراليون وانتهازيون؟ هذا التصنيف ما زال صالحًا إلى اليوم. ولكن الذي يتغير من مرحلة إلى أخرى هو الحجم أو الحيز الذي يحصل عليه كل فريق، الليبرالي والشيوعي انكمشا، والديني تمدد، والانتهازي أكبر الجميع، وقد انعكس تغير النِّسب في أعمالي الأخيرة انعكاسًا واضحًا.

– تتعدد تجليات السلطة، فهي السلطة التنفيذية، وهي سلطة الرأي العام، وهي سلطة المؤسسة الدينية، وهي سلطة النقد، وهكذا … في أي وقت شعرت بأنك تمارس حريتك تمامًا؟

– في كل الأوقات وفي كل العصور، فأنا أثناء الكتابة حر مائة في المائة، ولم يحدث قطُّ أن تنازلت عن حريتي. بعد النشر، حين أسمع بعض التعليقات، أشعر أحيانًا بالخوف.

– ألم يتدخل هذا الخوف في اختيار أدواتك الفنية أو في تطويع أسلوبك بحيث لا يعرضك؟

– بالطبع، كأن أستخدمَ «الفتوة» رمزًا للدكتاتور. أما حين أريد مهاجمة المؤسسة كالاتحاد الاشتراكي مثلًا، فإنني أهاجمه مباشرة.

– أي إننا نستطيع القول بأنك لجأت إلى استخدام الأقنعة … ففي العصر شبه الليبرالي — أيام الملك — استخدمت القناع التاريخي، وفي ظل الثورة الناصرية استخدمت القناع الاجتماعي. ومعنى ذلك أن أدبك كان يتغير جماليًّا من عصر إلى آخر لا بسبب تطورك الشخصي، وإنما بسبب وضع الحرية.

– بالتأكيد، ﻓ «الكرنك» تختلف عن «روبابكيا». في «روبابكيا» كتبت عن المخابرات. ولكن أحدًا لا يستطيع أن يمسك شخصيات بعينها ويقول هذه هي المخابرات. بينما في «الكرنك» نرى ونسمع ونلمس مدير السجن الحربي برسمه وشخصه. الفرق هو أن المناخ السياسي قد سمح بذلك.

– حسنًا، إنك استخدمت تعبير «المناخ السياسي» وليس الحرية؛ لأن الحقيقة أن عهد السادات كان يسمح بظهور مدير السجن الحربي في «الكرنك» طالما أن هذا السجن مرتبط بالعهد السابق.

– هل تظن أن تطور الأدب يقع داخله دون أية علاقة بالخارج؟ الكاتب يعيش بجسمه وعقله وأعصابه في محيط يؤثر فيه ليلًا ونهارًا، فكيف لا يتأثر الجسم والعقل والأعصاب بما يجري في هذا المحيط؟ وإذا كان «الإنسان» في الكاتب يتأثر بالعوامل الخارجية، فإن كتابته تتأثر بالضرورة.

– إذن هل يتطور الإيمان الفلسفي للكاتب؟

رسالة
«عزيزي الأستاذ رجاء النقاش

إنني ضعيف الإيمان بالفلسفات، ونظرتي إليها فنية أكثر منها فلسفية. ولعل الإيمان الوحيد الحاضر في قلبي هو إيماني بالعلم والمنهج العلمي. وبقدر شكي في النظرية كفلسفة فإني مؤمن بالتطبيق في ذاته، بصرف النظر عن أخطاء التجريب ومآسيه. ولكي أكون واضحًا أكثرَ أعترف لك بأنني أؤمن بتحرير الإنسان من:
  • (١)

    الطبقية وما يتبعها من امتيازات كالميراث وغيره.

  • (٢)

    الاستغلال بكافة أنواعه.

  • (٣)

    أن يتحدد موقع الفرد بمؤهلاته الطبيعية والمكتسبة.

  • (٤)

    أن يكون أجره قدر حاجته.

  • (٥)

    أن يتمتع الفرد بحرية الفكر والعقيدة في حماية قانون يخضع له الحاكم والمحكوم.

  • (٦)

    تحقيق الديمقراطية بأشمل معانيها.

  • (٧)

    التقليل من سلطة الحكومة المركزية بحيث تقتصر على الأمن والدفاع.»

نجيب محفوظ

– من الناحية النظرية، ربما يتطور إيمان الفرد من النقيض إلى النقيض، أما بالنسبة لي فهذا الإيمان لم يتغير قط، بل ستجده بتفاصيله في «وجهة نظر» المنشورة في «الأهرام» الأسبوع الماضي.

– هذا الإيمان لا ينتقل إلى الكتابة بصورة واعية تمامًا، وإلا اكتفيت بكتابة المقالات أو السياسة. الفن يختلط فيه الوعي باللاوعي، أليس كذلك؟

– الكاتب يعبر عن نفسه، وليست هناك لحظة يمكن أن يفرق فيها بين الوعي واللاوعي أو نسبة أحدهما إلى الآخر. الكتابة «عملية» شديدة التعقيد.

– سأضرب لك مثلًا، أن تبدأ روايةً على نحوٍ ما ثم تنتهي على نحو لم يكن في حسبانك. أو أن يكشف لك أحد النقاد عن نقطة في أحد أعمالك لم تَرِد على خاطرك من قبل. أو أن تبدأ الكتابة وليس في ذهنك أية «فكرة» عما ستكتبه. إنها ثلاثة أمثلة افتراضية لا أكثر.

– في العادة أمتلك تخطيطًا ذهنيًّا للرواية سابقًا على الكتابة. الكتابة ليست مجرد «تنفيذ» لهذه الخطة؛ لأن الكتابة هي عملية الكتابة ذاتها. الخطة فكرة عامة جدًّا، أما الكتابة فهي الرواية. ويحدث أثناء التبييض أن أغيِّر قليلًا هنا أو هناك.

هذا في العادة، ولكن حدث أنني بدأت أعمالًا وفي ذهني — كما هو الشأن في «بداية ونهاية» — أنها ستكون كوميديا، وإذا بها كما قلت لك من قبلُ تنتهي مأساة.

وحدث أيضًا أنني بدأت «تحت المظلة» و«حكاية بلا بداية ولا نهاية»، و«شهر العسل» وليس في ذهني أية خطة أو انفعال أو موضوع. بدأت هذه الأعمال هكذا وانتهت على النحو المكتوب.

أين الوعي وأين اللاوعي في ذلك كله؟ لا أدري.

– تضم بعض الأعمال — التي أشرت إلى أنك كتبتها دون تخطيط مسبَّق — بعض الحواريات الأشبه بالمسرحيات ذات الفصل الواحد. وكذلك فإن القصص القصيرة التي تشملها هذه الأعمال يغلب عليها الحوار. وألاحظ أن تاريخ هذه الكتابات يدور حول عام ١٩٦٧م … فهل كانت مرحلة كلام أو أفكار؟

– لست كاتبًا مسرحيًّا، وإن مثَّلوا ثلاث مقطوعات مسرحية لي. ولكني أردت أن أشارك في الحوار الدائر. كلنا كنا نتكلم. وقد عِفْت السرد، وأردت الاكتشاف عن طريق الكلام، ما الحكاية؟

– كيف تتعامل مع المادة الخام؟ هل تبدأ مثلًا من شخصيةٍ ما أو ذكرى أو حادثة أو من فكرة؟

– قليلة جدًّا الأعمال التي بدأت عندي من فكرة، والأغلب أنها تبدأ من شخصية أو عاطفة أو موقف أو علاقة.

– هذا النوع من التعامل يتكئ على الواقع كمرجع مباشر. ولكن التأثير الثقافي ألَا ينعكس أيضًا على أسلوب تعاملك مع المادة الخام! مثلًا، أنت لا تحب جويس كثيرًا كما فهمت منك، لكنك أحببت بيكيت.

– بيكيت جاءنا في لحظة عبثية أو لحظة بيكيتية، إن شئت، حتى بدا لي مؤلَّفًا مصريًّا. لقد فتنني الأسلوب العبثي. ولكني حين كتبت لم تتطابق الكتابة تمامًا مع «العبث»، كان الواقع عبثيًّا أكثر من الكتابة ذاتها، فلم تفقد المعنى. والعكس أيضًا صحيح، فسوف تجدني في ذروة الكتابة الواقعية، أستخدم حالة السكر مثلًا في صياغة ما يشبه تيار الوعي الذي لم يكن هناك كاتب واقعي يجرؤ على استخدامه. هناك لحظات عبثية وسريالية تمر بالإنسان، فكنت أقتنصها ولكنها لا تصل عندي إلى مرتبة «الفكر» أو «البناء»، هذا الشخص المطارد في «اللص والكلاب» سيتكلم مع من سوى نفسه؛ لذلك كان الحوار الداخلي أسلوبًا واقعيًّا. ولم يكن هذا المونولوج الداخلي هو مونولوج يولسيز لجويس، لأنني أشعر بالمسئولية نحو القارئ. أريده أن يتعرف على تيار الوعي وأن يفهمه في نفس الوقت.

– من هو هذا القارئ؟

– الكاتب الغربي يستطيع أن يقول إنه يكتب للعمال أو للفلاحين أو لليبراليين، أما أنا فليست لديَّ إمكانية هذا التصنيف. قارئي أتصوره دائمًا في محيطي، أي الرجل الذي يتعلم ويحب الثقافة؛ سواء كان عاملًا أو فلاحًا أو طالبًا أو موظفًا. هؤلاء أسميهم القارئ.

– بالرغم من أنه ليست هناك وسائل علمية وأبحاث ميدانية لاستطلاع الرأي الأدبي في مصر حتى الآن، إلا أن رسائل القراء وتقارير التوزيع ربما تحيطك علمًا بقرَّائك؛ مِن أين؟ ومَن هم؟

– الرسائل تصلني من الطلاب والموظفين نساءً ورجالًا. أما الذي يحييني في الشارع أو سائق التاكسي، فإنه جمهور لم يقرأ لي حرفًا، وإنما شاهد أعمالي في السينما والتليفزيون. هاتان الوسيلتان هما الجسر بيني وبين قطاع كبير من الأميين.

– هل تشعر بتأثير وسائل الاتصال الحديثة في أسلوب كتابتك؟

– كتبت قصة «فنجان شاي» التي يراها البعص نوعًا من المسرح التسجيلي قبل أن نتعرف على هذا المسرح. والخيال البصري هو أساس السينما، وتجد تأثيره في «ميرامار» مثلًا، حيث يسود المنظر وليس السرد.

– ولكن، هل تضع وسائل الاتصال هذه في ذاكرتك وأنت تكتب حتى يصبح نقلها من الأدب إلى السينما أو التليفزيون أكثر إغراءً للمنتجين؟

– كلا، على الإطلاق. وهناك أعمال تستعصي على أي إنتاج سينمائي كرواية «العائش في الحقيقة» أو «حديث الصباح والمساء» أو «صباح الورد» أو «رحلة ابن فطومة».

– من هم أولئك الذين أحببتهم من أدباء العالم وتركوا أثرًا في تكوينك تَعيه وتعترف به؟

– تولستوي ودستويفسكي وبروست وكافكا وشكسبير ويوجين أونيل وإبسن وسترندبرج وبيكيت وهيرمان ملفيل في «موبي ديك» إحدى أعظم الروايات في تاريخ الأدب، وجوزيف كونراد في «قلب الظلمات»، ودوس باسوس وباسترناك وتوماس مان وشولوخوف وطاغور وحافظ الشيرازي.

أما جويس فقد قرأته لمجرد المعرفة، ولكني لم أحبه أبدًا. ومسرح تشيكوف وجدته مثيرًا للملل، وهمنجواي أعجبني في «العجوز والبحر»، ولكني أندهش من تواضع أعماله الأخرى التي صنعت له شهرة كبيرة ولم أحب فوكنر. يخيل لي أحيانًا أن رواية «موبي ديك» هي أعظم رواية في العالم. ولكني كم تمنيت، إلى جانبها، أن أعيد قراءة «الحرب والسلام» و«البحث عن الزمان الضائع» و«الشيخ والبحر» إلا أن الزمن لا يرحم ولا يسمح.

– مقالات الفلسفة في الثلاثينيات عرض محايد لبعض التيارات، رواياتك يقول البعض إنها أيضًا عرض محايد لبعض الاتجاهات. وأنت لم تدخل تنظيمًا سياسيًّا سواء في العصر الملكي أو في العصور التالية، أليس كذلك؟

– نعم، ولكن ماذا تريد أن تقول؟ إنني شديد الأمانة في العرض، ولكني أتعاطف مع شخصية يظهر تعاطفي معها بصورة أو بأخرى في الرواية. من يريد أكثر هو من يريدني أن أصرخ. وليس هذا هو الفن. في «الثلاثية» أو في «الحرافيش» تجدني على الحياد، ولكنك ألا تشعر بأنني مع من وضد من؛ وذلك رغم الحياد؟

– أنت تعلم أنه ليست هناك لغة محايدة، فاللغة محملة في المفردة وأسلوب التركيب، بالأيديولوجيا أي بإيحاءات. الاختيار أيديولوجي. كذلك الأمر في اختيار الشخصية أو أحد جوانبها أو موقفٍ ما بين مواقفها.

– أنا اعرف أمرًا واحدًا هو أن هذا العالم الذي أقدمه بمنتهى الحياد، فإنما أفعل ذلك وأنا لست محايدًا.

– أنت تكتب عن بيئة محددة. البيئة موضوع وليست أيديولوجيا.

– هناك فرق بين كاتب البيئة والكاتب عن البيئة.

– ولكنك لم تكن في أحد الأيام عضوًا في تنظيم أي بيئة أو طبقة أو تيار سياسي تؤمن به.

– تستطيع أن تدعوني من الجمهور الإيجابي، فلم أكن قياديًّا في أي وقت. ولكن حين كان زعيم المدرسة أو الحي يدعو إلى الإضراب، فأنا أول من يضرب ويتظاهر. ولكني لست خطيبًا ولا موهوبًا للعمل السياسي من موقع التخطيط والقيادة. هذا في الزمن القديم. أما بعد الثورة فكلنا أعضاء في الاتحاد الاشتراكي كالوظيفة تمامًا. إنني في الحقيقة أحب أن تكون هناك مسافة بيني وبين الحزب حتى أظل — ككاتب — مستقلًّا.

– إلى أي مدًى تلاحظ أن تذوُّقَك للفنون التشكيلية أو الموسيقى له بصماته على فنك الروائي؟ السرد مثلًا، ألَا يتأثر بحبك للتصوير؟ الحوار، ألا يتأثر بناؤه بحبك للموسيقى؟

– كل ما أستطيع قوله أنني أحببت الفنون التشكيلية والموسيقى لدرجة أن شغفي بالموسيقى يكاد يفوق شغفي بالأدب. ولقد شاهدت أول فيلم سينما ولم يتجاوز عمري خمس سنوات. كانت في حيِّنا أقدَمُ دار سينما، ودخولها كان بتعريفة (خمسة مليمات). وبالرغم من أنني لست قَرويًّا إلا أنني أكاد أرى في أفلام رعاة البقر قريتي.

– أنا قصدت يا أستاذ نجيب أن الفنون غير الأدبية تساهم في تربية حواس وإرهاف حواس كالبصر والسمع. وهذه الحواس تشارك في الإبداع الأدبي، في عملية التشكيل والإيقاع وما إلى ذلك. أنت مثلًا تحب الاستماع إلى الموسيقى الغربية الكلاسيكية، أنت تحب بيتهوفن كما قلت لي، ويشاركك في هذه المتعة الملايين. ولكن تأثير بيتهوفن أو أم كلثوم عليك ككاتب روائي سوف يختلف عن تأثيره في الآخرين، أليس كذلك؟

– سأقول لك إن كتاباتي الأولى تتسم بنوع من الدرامية، ويقل دور الراوية، وهذا من تأثير السينما. وذات مرة قال لي الفنان صلاح طاهر إن شخصيات رواياتي تبدو كأنها منحوتة. إنني لم أنقطع عن الفن التشكيلي إلا بسبب تقدُّمي في السن وضعف القدرة على الذهاب إلى المعارض؛ ولذلك أكتفي بالكتب التي تشتمل على لوحات أو صور تماثيل.

– بمناسبة «الراوية» فقد كان دوره في الرواية الكلاسيكية هو دور العالم بكل شيء من قبل أن يحدث عن جميع الشخصيات والأحداث والمواقف. أما الرواية الحديثة …

– أصبحت وجهة نظر تخص شخصية واحدة لا تعرف — إن عرَفت — إلا نفسها فقط. وكل شخصية تروي ما يخصها الذي تعرفه. هذا تغيير جوهري في بنية الرواية الحديثة.

– في لحظات التغيير هذه يبدو دور النقد أساسيًّا، سواء بالنسبة للقارئ أو الكاتب. وقصتك مع النقد طويلة، فقد تجاهلك يومًا واحتفل بك يومًا آخر. وهكذا … كيف كان تأثيره عليك؟

– إذا غضضنا النظر عن النقد غير الجدير بهذا الاسم، فقد استفدت جدًّا من النقد؛ أفاد روحي المعنوية، وأفادني في تصحيح خُطاي، وفي فَهمي لنفسي كذلك. وقد ساهم في إعطائي وجودًا أو كيانًا أدبيًّا. لقد عشت في مرحلة نهضة أدبية من العشرينيات حتى أواخر الستينيات، وكان النقد من أبرز معالمها، ولكنه تدهور في السبعينيات، أو بعد الهزيمة مباشرة. كان النقد مؤثرًا في القرَّاء في زماننا. ومثلًا، فنحن نسلِّم بموهبة توفيق الحكيم، غير أنه ما كان سيكتسب المكانة التي حظي بها من دون النقد إلا بعد ربع قرن. طه حسين والعقاد اختصرا له هذا الزمن. أيامها كنت قارئًا، وليس هناك ما يغريني إطلاقًا بقراءة كتاب لتوفيق أفندي الحكيم، فمن يكون! وقد تصادف أنني قرأت في «الجهاد» مقالًا للعقاد عن صاحب هذا الاسم، وقبل إن أتوجه إلى الجامعة ذهبت إلى المكتبة التجارية لأشتري الكتاب.

اليوم أصبحت الضجة حول كتابٍ ما تخيفنا لدرجة التردد في شرائه. اليوم يكتبون كلامًا لبعضهم البعض. أما القارئ ففي وادٍ آخر. كان النقد في جيلنا هو الذي يرشدنا إلى الكتاب الجيد والفيلم الجيد والمسرحية الجيدة. أما الآن فهناك أزمة ثقة بين الناقد والقارئ.

لقد انفعلت بأول مقال كُتب عني حوالي عام ١٩٤٨م، ربما بقلم سيد قطب. الصمت لا يطاق. وقد دَهِشت حين قال أحد النقاد إن «حميدة» في زقاق المدق هي مصر، فهو معنًى لم يخطر ببالي، ولكن الكاتب لا يُلمُّ بكل أبعاد عمله. هذا من واجب الناقد. الآن أتصفح ما يُكتب عني بسرعة، فليس من الممكن أن يغيرني النقد في هذا العمر.

٤

بعد هزيمة ١٩٦٧م بعامين نشر نجيب محفوظ مجموعتين من القصص القصيرة هما «تحت المظلة» و«خمارة القط الأسود»، ويرى الكاتب أنه في هذه المرحلة كتب القصة القصيرة لأول مرة، بالرغم من أنه كان قد مارس كتابة هذه «القصة» قبل ثلاثين عامًا. ولكنه يقصد أن الكتابة القديمة لم تكن النموذج الذي يتمنى أن يحققه في هذا الميدان.

والمفارقة أن هذه القصص التي كتبها في المرحلة الجديدة جاءت أقرب ما تكون إلى التأثر بالمفهوم «العبثي»، إن جاز التعبير. كان مسرح الجيب في مصر قد عرض بعض أعمال بيكيت ويونسكو. وكان نجيب محفوظ مفتونًا ﺑ «بيكيت، وكانت الهزيمة «لحظة عبثية تمامًا» في عينيه. وهكذا تكاملت الصورة والألوان والأضواء والظلال؛ لغةً وأخيلة. ولذلك كتب محفوظ قصص «تحت المظلة» تحت وطأة الشعور الحاد بالعبث الواقعي والإحساس العميق بجمال مسرح العبث.

وكانت هذه هي المرحلة التي كتب فيها ما يدعوه ﺑ «أول قصص قصيرة حقيقية»، وفي الوقت نفسه تمنى أن ينزاح عن صدره هذا الهم الثقيل وألا يعود إلى كتابة هذا النوع «اللامعقول»؛ على حد تعبيره.

الدلالة الكامنة في المفارقة (بين أول كتابة حقيقية للقصة القصيرة وعبثيتها) هي أن هذه المرحلة بالضبط قد جسَّدت نقطة «النهاية» لرؤيا سيطرت على الإبداع المصري — وربما العربي — في الأدب والفكر والنظام الاجتماعي. سقطت الرؤيا في الواقع والفن على السواء. ولأن نجيب محفوظ كاتب كبير بكل معاني الكلمة، فقد أدرك معالم «الهوة» الفاغرة فاهها بعد أن وصلت القدَم إلى مشارف الحافة، إلى منتهى نهاية النهايات.

كانت القصة القصيرة (العبثية وإن لم تطابق أبدًا أدب بيكيت وغيره) هي التي كثَّفت وجسَّدت هذه «اللحظة» الفاجعة في تاريخ الأمة والوطن والشعب والثقافة. إنها لحظة انعدام التوازن التاريخي. لم يشعر بها الكثيرون فظلوا يكتبون كأن شيئًا لم يحدث.

ولكن نجيب محفوظ وقلة نادرة معه اكتشفوا أبعاد الكارثة، بوقوعها وبانعدام القدرة الذاتية لدى التكوين الاجتماعي-الثقافي على تجاوزها. لم يكن عجزًا شخصيًّا عند محفوظ أو الحكيم أو لويس عوض، وإنما كان عجزًا موضوعيًّا في صميم الطبقة والمجتمع والرؤيا.

وكانت تلك القصص المحفوظية التي يفخر بأنها الأولى ويرجو انتهاءها في وقت واحد؛ هي التجسيم الأوفى والإعلان المدوِّي عن العجز التاريخي.

وكان نجيب محفوظ يستطيع أن يصمت، فقد بنى هرمًا للرواية العربية، هرمًا من اللغة والخيال والإيقاع والذوق والمعايير والقيم والجمهور. والهرم المحفوظي ليس مقبرة فخمة لمومياءات، وإنما هو عالم كامل من الأحياء داخلنا وفي الأجيال التي مارست من بعده الكتابة.

ولكن نجيب محفوظ، لأسباب تخصه، لم يصمت. ظل يكتب أحيانًا كلاما سبق أن قاله بصورة أفضل، وأحيانًا أخرى كلامًا يرادف الصمت. وفي الأحيان كان مخلصًا شديد الإخلاص، في العودة إلى الماضي.

نعم، كان الحاضر، وما زال، طيفًا يخيِّم على الأحداث أو أنها تنطلق منه. ولكن تبقى العودة إلى الماضي هي حجر الزاوية، سواء كان هذا الماضي هو ثورة ١٩١٩م أو هي الناصرية، وسواء كان «الحارة» أو «الطفولة»، وسواء كان «اللغة» أو «البنية».

سنجده في السبعينيات والثمانينيات يكتب الرواية القصيرة المكثفة التي بدأها مع الستينيات. وسنجده يكتب عن الجمالية والعباسية كما كان يكتب في الأربعينيات. والذاكرة هي العمود الفقري الذي ينتظم المفرداتِ والتراكيبَ والأخيلة، و«متابعة المصائر».

دعونا نقول إن رواية «الحب تحت المطر» (١۹۷٣م) ورواية «الكرنك» تنتميان إلى الماضي الناصري بالنقد. ولكن نجيب محفوظ كان الكاتب الوحيد في جيله الذي فضَّل الصمت أكثر من خمس سنوات بعد ثورة يوليو ١٩٥٢م؛ حتى لا يقع في مصيدة «نقد الماضي»، وهو النقد السهل. لقد واجه الحاضر الملكي الإقطاعي الاستعماري في عنفوانه بسلسلة أعماله المسماة تاريخية والاجتماعية (من ١٩٣٩م إلى ١٩٥٢م عام انتهائه من كتابة «الثلاثية»). ولم يسمح لنفسه أن يواصل هذا النقد بعد قيام الثورة. توقف عن الكتابة. وحين استأنفها كانت نقدًا للثورة لا للعصر الملكي.

لم يكن ذلك موقفًا أخلاقيًّا؛ وإنما كان «رؤيا» تنتمي جوهريًّا إلى الثورة الوطنية الديمقراطية التي تحتاج في التطبيق إلى النقد من الداخل. لذلك لم يكن ثمة تناقضٌ بين النقد الجذري للعصر السابق والنقد الديمقراطي لمسيرة الثورة، طالما أن الرؤيا تضمنت الأسس المشتركة في هذا النقد وذاك.

أما في عام ١٩٦٧م فقد سقطت الرؤيا وزلزلت الأرض زلزالها. جاءت «تحت المظلة» و«خمارة القط الأسود» و«حكاية بلا بداية ولا نهاية» و«شهر العسل» و«المرايا» تسجيلًا وثائقيًّا للزلزال. ولكن بعد أن توقف الزلزال وتغيرت المواقع والمواقف، اكتشف النادرون أن «الرؤيا» قد سقطت. وكان تأسيس رؤيا جديدة من المستحيلات على أصحاب الرؤيا القديمة.

ولأن نجيب محفوظ لم يتوقف عن الكتابة، فقد اتجه — بعد توقف الزلزال — إلى الماضي. ولأنه أيضًا أحد الذين تعايشوا مع الناصرية بسبب توجهاتها الاجتماعية وكبتوا «مصريتهم» و«ليبراليتهم»، فقد تجاوز نقده للنظام الناصري نقده السابق في ظل النظام نفسه. أصبح ممكنًا أن يفرج عن المكبوت طيلة ثمانية عشر عامًا، فأضحى نقده للماضي الناصري أكثر تحررًا مما كان عليه، ومستمرًّا في نقده للحاضر.

ومن ناحية أخرى اتجه إلى الماضي في «حكايات حارتنا» و«حديث الصباح والمساء» و«صباح الورد»، منطلقًا من الحاضر وعائدًا اليه، ولكن مستكنًّا في أحضان الطفولة الدافئة.

وهذه كلها من مواد التسليم بأن الرؤيا القديمة ماتت وتحولت إلى «ذكريات»، حتى لَيبدو الأمر في بعض أعمال المرحلة الراهنة طيلة السنوات الخمس عشرة الماضية، وكأنها «سيرة ذاتية» يكتبها الرجل الكبير لمجرد و«ملء الفراغ».

ولكننا هنا يجب أن نتوقف عند ملاحظة تقديرية، أي إنها ملاحظتي الشخصية الخاضعة لقيم نقدية موضوعية، وهي أن أعظم عملين في حياة نجيب محفوظ الأدبية هما ثلاثية «بين القصرين» ورواية «ملحمة الحرافيش». والملاحظة هي أن كلتا الروايتين قد أنجزهما في عصر التدهور الاجتماعي والسياسي، ولست أقارن بين أدبية هذه أو تلك، فهما يختلفان. وبينما تُعَد الثلاثية هي أرقى تجليات الرؤيا النهضوية — الثنائية التوفيقية: التراث والعصر — بالرغم من انشغالها بالحاضر (١۹١۷–١٩٤٤م)، فإن «ملحمة الحرافيش» التي تنطوي على منجزات «أولاد حارتنا» و«حكايات حارتنا» معًا، هي أرقى تجليات العودة إلى الماضي.

وليس من رؤيا جديدة. ولا كان هذا ممكنًا لنجيب محفوظ أو غيره من أصحاب الرؤية الصادرة عن ثورة ١٩١٩م الوطنية، الليبرالية. ولكن نجيب محفوظ الذي لم يكن عضوًا في إحدى لجان الوفد، ولم يتخلف عن المشاركة في أي نشاط وفْدي، لم يصبح «وفديًّا جديدًا» في عصر الانفتاح … لأن البعد الاجتماعي للديمقراطية ظل كما كان همًّا يؤرقه منذ بدء الكتابة.

– خلال السنوات العشرين الأخيرة، أي منذ عام ١٩٦٧م، ظهر جيل أو أكثر في الحياة الأدبية، هل تجد نفسك في بعض أعمال الموجة الجديدة؟

– أحيانًا أجد نفسي في الأساس، ولكن الكاتب تطور وأبدع شيئًا جديدًا، وهذا النوع أعجب به. وأحيانًا أجد من يقلدني، وهو ما لا يعجبني، ولحسن الحظ أن المقلدين قليلون.

– إذا قدمت لك أهم عشر روايات صدرت في العشرين سنة الأخيرة، هل ترى في مجموعها تجاوزًا لإبداعك؟ أم أنك تقيس الأمور بالأفراد، كأن يقال هذا أو ذاك امتداد لك … بعبارة أخرى، هل هناك من تجاوزك أم أن هناك ما تجاوزك؟

– أنا شديد الاعجاب ببعض أبناء الجيل التالي لنا. وأقول التالي وليس الجديد. فهم لم يعودوا شبابًا ناشئين، بل إن بعضهم من الكتَّاب الناضجين، وهذا البعض تجاوزني أو يتجاوزني أو أنه — في أدق تعبير — سيتجاوزني … بمعنى أنه لو مضى فيما هو ماضٍ فيه بالإيقاع نفسه، فلا شك أنه سيتجاوزني يومًا ما لأنه بدأ من نقطة متقدمة كثيرًا عن النقطة التي بدأت منها. ولكنك لا تستطيع اليوم أن تقارنه بكاتب بدأ ينشر أعماله منذ نصف قرن.

– إنني لا أقارن أحدهم بك، وإنما أقارن بين مجموعة من أعمالهم وبين مجمل رؤياك.

– ليست هناك أهمية خاصة للشكل الجديد بحد ذاته إلا إذا صاحبتْه رؤية جديدة. لم يكن جيمس جويس هو الذي «اكتشف» المونولوج الداخلي، سبقه إلى ذلك فرنسي مجهول. ولكن جويس اكتشف ما هو أهم؛ الرؤية التي احتاجت إلى المونولوج الداخلي.

رسالة
عزيزتي الدكتورة لطيفة الزيات

أعترف لكِ بأنني لست معاصرًا إلا في النطاق المحلي ومع بعض التحفظات … إني قارئ لا بأس به، أتابع خلاصات العلم الحديث والفلسفات الحديثة، ولكن قدرة العقل على التكيف تفوق قدرة الشخص ككل. وقد كان عصر الإقطاع يحولنا إلى «أشياء»، والصناعة الحديثة بدورها حولت الإنسان العربي، فيما يقال، إلى شيء أيضًا. ولكن ما أبعدَ الهوَّةَ بين هذا الشيء وذاك!

أما قصتي مع الأساليب الحديثة، فإنني أرى فيها بعض تجربتي الشخصية، وأختارها أو هي تختارني؛ بحسب الأحوال والمقامات. وأذكر الآن أنني كتبت «زقاق المدق» بالطريقة التي كتبتها بها وأنا على علم بجويس وكافكا وبروست. وكان النقد يوجه إليَّ في ندوة كازينو أوبرا — من الأستاذين بدر الديب ويوسف الشاروني — بأنني أكتب بأسلوب القرن التاسع عشر. ولكنني وجدت الشجاعة أن أكتب الثلاثية بنفس الأسلوب؛ لشعوري بأنه المناسب للتجربة التي أقدمها.

بعد ذلك تغير ذلك الشعور. لم يعُد يُهمُّني الفرد كفرد له خواصه في زمان معين ومكان محدد. ولكني جعلت أبحث فيه عن الإنسان في موقفٍ ما. دون تردد وجدتني أنتقل إلى أسلوب جديد مناسب سواءٌ في القصة القصيرة أو المتوسطة. حققت في عام ١٩٥٩م وما بعدها ما طالبني به الديب والشاروني في الأربعينيات وأبَيْتُه، ولكن لأسباب ذاتية جوهرية غير مجرد الاطلاع والثقافة.

ونحن في الأساليب مسبوقون كما تعلمين، ولذلك لم أجد مناسبة للأخذ من الأجيال اللاحقة أو المعاصرة لي ما دمت أستقي من النبع الذي منه يسْتقون. والحق أن الحظ لم يسعدني بالتعرف على جيل الشباب إلا قبيل النكسة، بعد أن أنجزت جلَّ أعمالي. ولا أقول ذلك ترفعًا، فإنني على استعداد طيب للإفادة من أي زميل مهما يكن عمره لو أحدث في الفن جديدًا وجدت فيه إشباعًا لحاجة أبحث لها عن شكل مفتقد. وثابت أنني مِلْت إلى تجربة الأساليب الحديثة بدءًا من عام ١٩٥٩م قبل إن يشرع أغلب الشبان الجدد في نشر شيء من أعمالهم.

هذه حقيقة لن تقلل من مجهود الشباب الذي أحترمه وأعجب به، كما ينبغي الاعتراف أيضًا بأن كثيرين منهم يجربون أساليب لم أقترب — وربما لن أقترب — منها على الإطلاق.

نجيب محفوظ

– التجاوز المقصود من جيل لأجيال سبقته، مقصود به تجاوُزُ الرؤيا. ومن ثم فإننا يجب أن نتفق — أو لا نتفق ولكن نوضح — أن هناك رؤيا أضحت في ذمة التاريخ عام ١٩٦٧م، وهي الرؤيا التي تنسج أعمالك أنت وجيل كامل، بل لعلها تطبع مرحلة تاريخية-اجتماعية أيضًا. وهنا تصبح الأجيال التالية هي البديل المفترض على صعيد الرؤيا بهذا المعنى. أي إنها صاحبة مشروع أدبي جديد. كانت الهزيمة في ١٩٦٧م من إحدى الزوايا هي هزيمة رؤيا بالإضافة إلى أنها هزيمة طبقة أو نظام اجتماعي.

– إذا كان الكلام عن الرؤيا فإني مستعد لأن أوافقك. ولكن الفن ليس رؤيا فقط، إننا نقرأ حتى الآن سوفوكل وشكسبير ودانتي، ولا نشاركهم الرؤيا، ولكن فنهم يهزُّنا من الأعماق.

– ربما كان المصطلح يحمل قدرًا من الغموض، فلست أقصد بالرؤيا العقيدةَ الدينية أو الفلسفية أو السياسية، وإنما أعني ذلك «الحلم» أو «المشروع الخيالي» الذي قد يحمل في تضاعيفه الدينَ والفلسفة والسياسة، ولكنه أكثر تركيبًا في ينبوعه وبنائه … فالمقال أو الكاتب النظري كفيل بتوصيل العقيدة أو وجهة النظر أو الرأي. ولكن الإبداع الجمالي وحده الذي يجسِّم ما ندعوه بالرؤيا. لذلك من الخطأ اختزال سوفوكل في الإيمان بالقدر، أو بريخت في الإيمان بالاشتراكية، أو دستويفسكي في الإيمان بالمسيح.

ومع ذلك دعني أستوضحك عما إذا كنت توافق فعلًا على أن ثمة رؤيا سقطت عام ١٩٦٧م؟

– مؤقتًا، نعم، فالناصرية كقومية عربية سقطت.

– أنت لم تكن مؤمنًا بها!

– لست أتكلم عن نفسي، وإنما المجتمع كان يتكلم عنها ليلَ نهار. الآن انقلبت إلى النقيض. وأقول مؤقتًا؛ لأننا في الوقت الحاضر نلاحظ محاولات لإحيائها.

كذلك سقط الحكم الشمولي (أي غيبة التعددية، والانفراد بالسلطة) وأيضًا أقول مؤقتًا؛ فلست أعرف ما يخبئه الغد.

– يا أستاذ نجيب، القومية العربية هوية، وما تدعوه بالشمولية نظام حكم سياسي. وليست هناك قومية أو هوية تسقط، ونظام الحكم ليس رؤيا فنيةً بل هو تكوين سياسي. الرؤية التي أقصدها فكريًّا هي معادلة عصر النهضة التي تجمع بين التراث والعصر أو بين الأصالة والتجديد؛ إلى آخر هذه المسميات «التوفيقية» التي توارثناها ابتداءً من الطهطاوي. وسواء كان الآخذون بها من القوميين العرب أو من الوطنيين الإقليميين، فإنها عرفت السقوط المدوي مع شعار «دولة العلم والإيمان». ولذلك قلت لك إن الرؤيا أكثر شمولًا من العقيدة الدينية أو السياسية، فقد تجمع الرؤيا الواحدة بين عقائد مختلفة وأحيانًا أجيال مختلفة.

وتتكلم يا عم نجيب عن الناصرية فأقول لك إن عبد الناصر الذي لم يكن مفكرًا هو صاحب المشروع البديل لمعادلة النهضة التوفيقية، مشروع «القومية العربية والعالم» في مستوى التركيب لا في مستوى التوفيق. ولكن النظام الاجتماعي في ظل الناصرية لم يمنح الرؤيا الجديدة فرصة التحقق.

– ما الذي سقط إذن، إذا لم تكن الناصرية؟

– سقط نظامها الاجتماعي-السياسي، فقد حرمت المعادلة الجديدة من عنصرين حاسمين هما القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة والديمقراطية.

– وماذا يبقى؟ ومن أين جئت بهذه المعادلة التي تنسبها لعبد الناصر؟

– من الخلاصة الفكرية لحصيلة منجزاته، ومن الفجوة — أو «الشرخ» — بين المعلن والمسكوت عنه. مثلًا، القومية العربية التي نادى بها عبد الناصر — وأقول نادى — تختلف عن مجمل الأفكار القومية العربية المطروحة قبله. ولذلك كان الانفصال من إحدى نواحيه تعبيرًا عن هذا الاختلاف. والتطور من شعار «الاشتراكية الديمقراطية التعاونية» إلى شعار «الاشتراكية العلمية»؛ يختلف عن تطور الفكر القومي خارج الناصرية إلى الاشتراكية (العربية عند البعث، والماركسية عند حركة القوميين العرب).

إذا حللنا «أقوال» عبد الناصر (سواء للجماهير أو في المباحثات مع أطراف أخرى) برفقة «المنجزات» فإننا سنصل في تقديري إلى هذا «المدخل» الذي يستبدل الأصالة والمعاصرة بالقومية العربية والعالم. ولكن هذا المدخل لم يُفضِ إلى البناء، بل لعله تنافر مع البناء النقيض فسقط.

– على أية حال، فالأجيال الجديدة في الأدب لم تتبنَّ رؤًى عامةً جديدة كهذه التي تشير إليها أو غيرها. إنهم أكثر اهتمامًا بذواتهم وهمومهم الشخصية، لذلك فهم يتوغلون في عالمهم الداخلي أكثر مما يعالجون رؤيا عامة.

لست أشعر لديهم بتجاوب مع الأفكار الكبرى. لقد أصابهم القرف من هذا كله؛ فلم يعودوا متحمسين لأيٍّ من القضايا التي نتفق أو نختلف حولها، وإنما هم منشغلون بتجربة حب، تجربة جنس، تجربة قرف، تجربة زبالة، هكذا.

– ألا يمكن أن تكون هذه التجارب مصدر رؤًى جديدة؟

– ربما في المستقبل، ولكني الآن لست أرى شيئًا من ذلك.

– هل ينطبق كلامك على الأدباء العرب خارج مصر؟

– لا، حنَّا مينا وغسان كنفاني وعبد الرحمن منيف لهم رؤًى طبعًا. وربما لا ينتمون إلى الجيل ذاته، ولكنهم من أصحاب الرؤى دون شك. وهناك أيضًا من لا يملك رؤيا واضحة المعالم، ولكن هذا ليس نقصًا فنيًّا.

– الرؤيا ليست من المعطيات السكونية الثابتة المكتملة مرةً واحدةً وللأبد. البعد الاجتماعي في رؤياك كان أكثر وضوحًا في أعمالك الأولى، ثم تداخل معه بُعدٌ ميتافيزيقي في مرحلة تالية، وهكذا. وهما بُعدان حاضران منذ البداية إلى الآن، ولكن وضوح أحدهما أكثر من الآخر في مرحلة، والعكس في مرحلة أخرى، من المتغيرات الطبيعية في إطار الرؤيا الواحدة، أليس كذلك؟

– ذات مرة كتبت رواية اسمها «السماء السابعة» عن جريمة وقعت على الأرض وصعد أطرافها إلى السماء السابعة. ولكني عدت بعد خمس دقائق إلى الأرض. ليست هناك ميتافيزيقا تعفيني من الاهتمام بالمجتمع.

– الميتافيزيقا سؤال، أما المجتمع فهو سؤال وجواب معًا. وهما يتبادلان التأثير والتأثر، فهل تظن أن الرواية المحفوظية — واسمح لي بهذا التعبير — هي رواية سؤال أم رواية سؤال وجواب معًا؟

– صدقني لا أدري كيف يمكن للأدب أن يكون جوابًا على أي شيء. الأدب في صميمه سؤال. ولو كان الجواب حاضرًا لَمَا كانت هناك حاجة إلى الأدب، فالمقال السياسي أو الاجتماعي يكفي.

– لا يا أستاذ نجيب، فالمقصود بالسؤال هو الصيغة الروائية ذاتها. أن تكون الرواية سؤالًا لا يعني أن تكون سؤالًا أخلاقيًّا أو أيديولوجيًّا. وإنما هي ذاتها كبنية تتحول بلغتها وشخوصها وأحداثها إلى بنية سلبية بعيدة عن الاحتمال والترجيح فضلًا عن اليقين، أقرب ما تكون إلى الهشاشة. ليست مجرد نهاية مفتوحة، وإنما البناء كله مفتوح من أوله إلى آخره. بناء الشخصية وبناء الحدث وبناء الموقف، ولست أقول «تطور» الشخصية أو «تطور» الحدث يشترط لغة وأخيلة وإيقاعات تصوغ سؤالًا، أو أنها تضع «كل شيء» في صيغة سؤال.

رواية «الإيمان» تختلف، وقد يكتبها أدباء كبار جدًّا كتولستوي أو دستويفسكي، ولكنها رواية «تسرد» و«تحاور» من نقطة انطلاق غائية. ومثل هذه الرواية قد تلامس الدين أو الفلسفة أو التاريخ أو السياسة، باعتبارها نسيجًا من القيم الغائية؛ كالسعادة في الدنيا أو في الآخرة. وهذه الرواية قد تصل إلى حدود الحتمية المادية أو المثالية، فيكتبها الواقعي والأخلاقي جميعًا. وكل ذلك ينعكس على جماليات الرواية.

اعتراف

«عندما بدأنا نكتب الرواية، كنا نظن أن هناك الشكل الصح والشكل الخطأ، أي إن الشكل الأوروبي للرواية كان مقدسًا. بتقدم العمر تجد أن نظرتك تتغير وأنك تريد أن تتحرر من كل ما فُرِض عليك، ولكن بطريقة تلقائية طبيعية، وليس لمجرد الخروج أو كسر الشكل عمدًا، تجد نفسك تبحث عن النغمة التي تستخرجها من أعماقك، أيًّا كانت هذه النغمة، سواءٌ عادت بك إلى القديم، أو قادتك إلى الحداثة، أو عادت بك إلى الحدوتة، كأنك تقول ما هي الأشكال التي كتبوا بها؟ أليست طرقًا فنيةً خلقوها هم؟ لماذا لا أخلق الشكل الخاص بي والذي أرتاح إليه؟ بالنسبة لي ازدادت ثقتي في نفسي وأصبحت أبحث عن النغمة التي أكتب بها من داخل ذاتي وأكثر. اتجاهي إلى الحدوتة أحد معالم هذه المرحلة، أخص بالذكر الحرافيش. بعد الحرافيش حاولت أن أستوحي عملًا قديمًا هو ألف ليلة وليلة. ولكن يجب أن أوضح شيئًا مهمًا هو أن تقليد القديم كتقليد الحديث كلاهما أسْر. المهم أن تبحث عما يتفق مع ذاتك. طبعًا الكاتب الأوروبي ليس لديه هذه العقدة لأنه لا يأخذ ثقافته من الخارج. ولكن بالنسبة لنا، نحن الكتاب الذين ننتمي إلى العالم المسمى بالنامي أو المتخلف، فقد كنا نعتقد وقتئذ أن تحقيق ذاته الحقيقية الأدبية لا يجيء إلا بإلغاء ذاته، يعني أن الشكل الروائي الأوروبي مقدس والخروج عنه كفر. لهذا خُيِّل لي في لحظة معينة أن دور جيلنا هو أن يكتب الرواية بشكل صحيح؛ لأنني كنت أتصور أن هناك رواية صحيحة وأخرى ليست كذلك. الآن تغيرت النظرية، فالرواية الصحيحة هي النابعة من نغمة داخلية، فلا أنا أقلد المقامة ولا أقلد جويس. وما أرجوه من الجيل الذي تلانا، والذي قد يصل بنا العالمية، أن يكون أكثر إخلاصًا بالنسبة لهذه النقطة، الإخلاص للذات؛ لأنه لا يجب أن يكون الموضوع فقط محليًّا، ولكن الشكل أيضًا، يوم أن نحقق هذا يمكن القول عندئذ إننا قدمنا أدبًا عربيًّا صحيحًا إلى العالم.»

– هذا الاعتراف المنشور ضمن ذكرياتك التي أعدها جمال الغيطاني يتضمن إشكاليات عدة؛ أولها أن الرؤيا الأدبية السائدة منذ قرن تقريبًا لم تعُدْ هي «النغمة الصحيحة». وهو ما سبق لي أن عبَّرت عنه بالسقوط. أعني سقوط معادلة «التراث والعصر»؛ ذلك أن التراث المعنيَّ هو الماضي القومي، والعصر المعنيَّ هو الغرب الحديث. هذه المعادلة سقطت في الواقع وفي الفكر وفي الأدب.

– أنا لم أقل إننا استغنينا عن التراث أو عن الغرب، ولكني أطالب بالبحث داخلنا.

– ولا أنا قلت بالاستغناء. ولكني أفرق بين التوفيق والتركيب من ناحية، وأفرق بين التراث الحي فينا والتراث الميت خارجنا من ناحية أخرى، وأفرق بين العصر الأوروبي والأميركي والحضارة الإنسانية الحديثة في العالم من ناحية ثالثة.

– أين الخلاف بيننا؟

– إنني أقول بأن ثمة رؤيا أعلنت سقوطها التاريخي خلال الفترة ما بين هزيمة ١٩٦٧م والغزو الصهيوني لبيروت ١۹۸۲م. لقد سبق لمعادلة عصر النهضة (الثنائية-التوفيقية) أن أنجزت للمجتمع والفكر والأدب انتصاراتٍ عظيمةً في مرحلة صعود فئات من الطبقة الوسطى هي مرحلة الطموح للاستقلال الوطني. ولكن هذه المعادلة — والشرائح الاجتماعية التي صاغتها على أرض الواقع — قد تعرضت لهزات عنيفة وانكسارات عديدة. أما سقوطها النهائي فقد كرسته المفارقة التاريخية؛ هزيمة البديل.

– أنا رؤياي مصرية، بمعنًى لا يتناقض مطلقًا مع أية صداقات أخرى، وهي ليست موجَّهة ضد أحد على الإطلاق. ولكن حين يقال: «هيا إلى الحرب» أسأل هل في ذلك مصلحة لمصر؟ العروبة تختلف، وكذلك الإسلامية. أتذكر أنني زرت سيد قطب عقب خروجه من السجن في الستينيات برفقة عبد الحميد السحار. وتكلمت معه ضمن موضوعات مختلفة عن الحرب مع إسرائيل، فإذا به يقول لي ما معناه: هذه الحرب لا تعنيني بحد ذاتها، فلو أن باكستان في حرب سأنضم إلى باكستان. هذه رؤية إسلامية.

وذات مرة على مقهى ريش حكى لي محمد عودة عن الصعوبات في وجه المبادئ، وأن الاستجابة الشعبية لما يجري (في الستينيات أيضًا) ليست بمستوى الإنجازات. قلت له إن لهذا الشعب لغة، ولكي نفهمه ويفهمنا لا بد أن نكلمه بلغته. وأقصد باللغة جملة معتقداته الراسخة في وعيه، والمطلوب أننا حين نتقن الكلام مع الشعب بلغته هذه، نستطيع بواسطتها أن ننتقل به ومعه من الظلام إلى النور. ولأننا لا نقوم بذلك فإن جيوش الظلام التي تجيد التفاهم بلغة الشعب تزحف، وتسرق الأرض من تحت أقدام الجميع.

ونقطة أخرى هي العنصرية. إننا شعب لا يعرف العنصرية مطلقًا. تراث طويل عريض يخلو من العنصرية، وهذا ما يدعوه البعض بالوداعة أو اللطافة أو الألفة أو الدفء المعروف عن المصريين في علاقاتهم الاجتماعية وموقفهم من الغرباء. ولكن الظلام الزاحف يزرع بذورًا غريبة في أرضنا الطيبة. أين دور الاستنارة والعقلانية؟ الابتعاد عن تراثنا الوطني يبعدنا في الوقت نفسه عن شاطئ الأمان. هذه أيضًا رؤية مصرية. المصريون مشدودون برباط وثيق إلى الحكومة المركزية، لدرجة العبادة أحيانًا، مما يجعل القرب والبعد من السلطة قيمةً اجتماعية. الشعور بالأمن في حضن هذه السلطة يجعل البعد عنها مخاطرة. وهذه من السلبيات المصرية التي أحب التأكيد عليها، ولو بالتكرار. ولكني أضيف أن المصري مرهف الحساسية إزاء «ذمة الحاكم». قد لا يهتم في المقام الأول باتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، ولكنه يهتم جدًّا ويستثار ولا يكظم غيظه من اللصوص والمرتشين.

كذلك من السلبياتِ الروحُ العائلية التي تقتل القانون. إن أصعب رذيلة في عملية الإقلاع هي تلك التي يعتقد المجتمع أنها فضيلة.

وحين أنتمي إلى الوطنية المصرية فإنني أدرك السلبيات والإيجابيات جيدًا في الشخصية المصرية، ولكن لا معنَى لأدبي خارج نطاق هذه الرؤية.

– هل تظن أنك كتبت الأدب لأنه «اللغة» الوحيدة القادرة على تجسيد هذه الرؤية؟

– لا، فهذه أمور يمكن الكتابة فيها بأشكال مختلفة، ولكني كتبت الأدب لأنني لم أكن أستطيع إلا أن أكتبه. لم يكن ثمة بديل.

– هكذا حدث الأمر مرة واحدة أم بالتدريج؟ إنني أعرف مثلًا أن قراءاتك الأدبية ذاتها تأخرت قليلًا.

– صحيح، فقد كان الفكر هو القراءة الأولى، بل إن الرواد في مصر كانوا مفكرين أكثر منهم مبدعين. ولكن قراءاتي، حتى في الوقت المبكر، لم تخْلُ من الجانب الأدبي. ولكن الأدب لم يكن في حياتي بديلًا عن شيء آخر، كان اختيارًا حرًّا مائة في المائة. وكان اختيار حياة جسَّد لي الحد الأقصى من الإحساس بالمسئولية. ولكن الغريب أن ما وقع تحت يدي من روايات مترجمة مثلًا في المرحلة الثانوية كنت أقرأها كما يقرأها الصيدلي أو المهندس أو الطبيب. وحتى عندما فكرت في التخصص اخترت الفلسفة ولم أفكر بالأدب. وفي الجامعة أيضًا كتبت القصة، ولكن لم يخطر ببالي التخصص في كتابتها. أقول لنفسي إن طه حسين يكتب القصة ولكنه مفكر أولًا وأخيرًا، العقاد كتب رواية، سلامة موسى كتب قصصًا، ولكنهم جميعًا مفكرون.

وأذكر أنني في أواخر عهدي بالجامعة أردت أن أتخصص في الأدب، ولكن سكرتير الكلية — وكان اسمه عباس محمود — قال لي بعد الانتهاء تمامًا من دراسة الفلسفة، وبعد حصولي على الليسانس، أستطيع الالتحاق بقسم اللغة العربية وأبدأ من السنة الثانية. لماذا طلبت ذلك؟ ربما في ذلك الوقت تمامًا أدركت بشكلٍ ما أن الأدب بالنسبة لي أكثر من هواية. بعد التخرج كان عليَّ أن أعدَّ الماجستير وأن أكتب الأدب في وقت واحد. والذي حدث هو أنني بين عامَي ١٩٣٤م و١٩٣٦م عانيت مشقة الاختيار؛ لأن التعارض بين الدراسة (الجادة) للفلسفة وبين التخصص في الأدب كان يزداد حدَّةً يومًا بعد يوم، فكلاهما يحتاج لوقت. وقد حسمت الاختيار عام ١٩٣٦م لمصلحة الأدب حسمًا نهائيًّا.

– كيف تفسر دور سلامة موسى في حياتك الأدبية، والرجل لم يكن اهتمامه بالأدب موازيًا لاهتمام طه حسين أو العقاد؟

– بل كان سلامة موسى هو أحد العوامل الكبرى التي ساعدتني في حسم اختياري الأدبي. وقد بدأت أكتب في «المجلة الجديدة» منذ إنشائها عام ١٩٢٩م، ولم أزل طالبًا في البكالوريا. وأذكر أنني في إحدى زياراتي له سألني في قلق عما إذا كان متاحًا للرواية أن تنجح في مصر؛ ذلك أن الفن الروائي يقوم على تصوير الرجل والمرأة، فهل سيكون هناك من يجرؤ على تصوير صادق للمرأة؟ بل وأين هي المرأة في الحياة العامة حتى يمكن تصويرها؟ هذه مسألة لا أنساها أبدًا. والمسألة الثانية أن سلامة موسى قال لي يومًا إن أغلب الذين يكتبون القصة في مصر من المتأثرين بالغرب، فكيف يمكن كتابة رواية مصرية لحمًا ودمًا؟ وأذكر للتاريخ أنه اجاب: ربما كان الأزهريون هم الأقدر على القيام بهذه المهمة، ليت أزهريًّا يكتب لنا رواية مصرية. أي إنه كان يريد أن يرى كاتبًا لم يتأثر بالغرب، كيف يكون خياله وتعبيره في كتابة رواية مصرية! قلت له: ولكن الرواية شكل حديث، وأنا شخصيًّا أحاول، فسألني: هل تكتب روايات؟ قلت: نعم. تساءل: هل نشرت؟ قلت: لا بالطبع، ولكني أكتب لنفسي ولا أدري ما إذا كان ما أكتبه يستحق النشر أم لا. وطلب مني أن يطَّلع على شيء مما أكتبه. وفعلا أطلعته على بعض ما أكتبه، فكان يقول لي: أنت تملك موهبة روائية ولكن هذه الكتابات لا تصلح للنشر. وقد كرر على مسامعي هذا الكلام مرارًا، حتى أطلعته على مسودة «عبث الأقدار» ففاجأني: هذه تصلح. وحجزها لديه. وكانت فرحتي لا تُقدَّر. كنت قد أسميتها «حكمة خوفو» فلم يعجبه وقال لي: «هذا عنوان غير روائي ولن يحبه الناس.» واستقر الرأي على «عبث الأقدار». عشر سنوات كاملة بين ١۹۲۹م و١٩٣٩م، كان سلامة موسى هو الراعي والمربي الأدبي لي. نشر لي وأنا بعدُ في الثانوي ثم في الجامعة عشرات المقالات، وكتابًا مترجمًا وأول رواياتي. إنه أستاذي العظيم، ومن النادر في الماضي أو في الحاضر أن تجد رجلًا مثله يكتشف الموهبة ويواكب نموها بالرعاية الكاملة حتى تصل. ومن النادر كذلك أن تجد مثل الأخلاق الرفيعة التي كان عليها. باع كل ما يملك من أجل الرسالة التي نذر نفسه من أجلها.

وقد كتب عن ثلاثية بين القصرين قبل وفاته عام ١٩٥٨م بعدة أشهر. ومن ١٩٣٦م إلى ١٩٧٦م لم أكتب سوى القصة والرواية.

– في الطفولة أصابك مرض الصرع، وفي الكهولة أصابك مرض السكر، فهل انعكس هذا المرض أو ذاك على الكتابة؟

– الصرع كان خفيفًا، وإلا فهو مرض قاتل لا شفاء منه. لم يترك أثرًا فقد شُفيت منه بسرعة. أما السكر فقد هاجمني وأنا في التاسعة والأربعين، أي عام ١٩٦٠م، وقد خفت منه خوفًا شديدًا؛ لأنني فهمت أنه يُضعِف الإنسان إلى حد كبير. ولكني لم أشعر بأن المرض أثَّر في عملي، فقد ظل نشاطي كما هو، ولم يحدث للكتابة أي شيء بسببه.

– هل تظن أن المرض، أيَّ مرض، لا يؤثر في توجيه الأحداث أو في بناء الشخصيات أو صياغة المواقف عند الروائي؟ بل ألَا يؤثر في لغته ومصائر أبطاله؟

– إنني أعرف أن السكر يسبب لمن يصيبهم بالعصبية الشديدة في فقدان الكثير من الأصدقاء أو المواقف. وهو أمر لم يحدث لي. ربما له تفاعلاته الداخلية التي لا يعيها المريض، ولكن هذا أمر آخر. إنني أتكلم عن الانعكاسات الواضحة لي. مثلًا، أنا الآن ومنذ شهر واحد فقط أُصِبت بضمور شديد في شبكية العين؛ مما أضعف بصري أكثر عن ذي قبل. أصبحت أقرأ وأكتب بصعوبة بالغة؛ مما سيترتب عليه التضحية بقراءات هامة لمجرد أنها مكتوبة أو مطبوعة بأحرف صغيرة. كذلك لن تكون الكتابة كما كانت في سابق عهدي بها. ألم أقل لك إنني سأكتب قصصًا قصيرة جدًّا؟ أما الصرع، فلقد كنت طفلًا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يستمر.

– إذا قلنا الفلسفة والسياسة والحياة اليومية والقراءة العامة هي مصادر خيالك الأدبي، فكيف تؤثر كلٌّ منها على الكتابة؟

– الفلسفة تؤثر على النظرة العامة، وعلى ما يسمى بالحياد أو ما تسميه أنت بالكتابة — السؤال. ولكن الفكرة عندي نادرًا ما تسبق التجسيم، ونادرًا كذلك ما تجد عندي شخصيات متفلسفة مثل كمال عبد الجواد في الثلاثية أو «الشحاذ». أما السياسة فهي شحنة موجودة في كل شخصية، فالإنسان في رواياتي حيوان سياسي. ثم إنني شخصيًّا أشارك في معارك الحياة العامة بالسياسة في الفن لا السياسة العملية. أما الواقع فكثيرًا ما أختار نماذجه الحية وبعض أحداثه، بل هو يمنحني ما يمكنك تسميته «المادة الأساسية» أو الجزء الأكبر من الرواية. القراءة تعطي المواقف والرؤية. هذا كله يدخل مطبخ العقل والشعور واللاشعور، ويخرج منه أخيرًا العمل الفني مستقلًّا عن جذوره لا منفصلًا عنها.

ملحوظة

يذكر جمال الغيطاني في كتابه «نجيب محفوظ يتذكر» بعض المشاهد والشخصيات الواقعية التي استلهمها نجيب محفوظ في أدبه؛ ومنها: إحدى مظاهرات ثورة ١٩١٩م، وقد سجلها في الحكاية الثانية عشرة من كتاب «حكايات حارتنا»، ملامح الأب في الثلاثية وكذلك في الحكايات ١٤ و١٥ و١۸ و٢٣ أقرب ما تكون إلى الملامح التي يرسمها في مذكراته، أصدقاء العباسية حاضرون في «المرايا»؛ من أمثال جعفر خليل وخليل زكي ورضا حمادة وحنان مصطفى وزهران حسونة وسابا رمزي وغيرهم. معركة اختيار التعليم الجامعي بين نجيب محفوظ ووالده تترك بصماتها في أحد فصول «قصر الشوق» بين كمال عبد الجواد ووالده. وأيضًا عشق نجيب محفوظ للعلم، وما كتبه كمال في «البلاغ الأسبوعي».

وممن لم يذكرهم الغيطاني شخصيات مثل عادل كامل المحامي صديق نجيب محفوظ ومؤلف «مليم الأكبر» و«ملك شعاع» (وهو رياض قلدس في الثلاثية كما سبق أن ذكرت) وسلامة موسى (هو عدلي كريم في الثلاثية أيضًا) والمجلة الجديدة (هي الإنسان الجديد).

إلى هذا الحد يصبح الواقع المباشر إطارًا مرجعيًّا للروائي.

– إذا كانت مصادرك الأساسية هي الفلسفة والسياسة والحياة اليومية والقراءة، فهل توافقني على أن عملية «الطبخ» كما دعوتها تحيل هذه المصادر إلى محاور هي — في أدبك — الجنس والسياسة والعقيدة؟

– أعتقد ذلك.

– الجنس في الأدب إما فلسفة حضارية كما هو الحال عند لورنس، أو تشريح للنفس البشرية كما هو الحال عند فوكنر أو ميلر (أقصد هنري)، أو هو تعبير اجتماعي عن تشابك العلاقات والقيم في بيئة معينة. الجنس في أدبك تطورت أشكاله ودلالاته. ما قبل الثلاثية، كيف رأيته؟

– رأيته كتشريح للنفس البشرية في «السراب» و«بداية ونهاية» و«زقاق المدق» … في الأولى تجد العاجز جنسيًّا، وفي الثانية تجد تأثير الدمامة في مصير نفيسة، وفي الثالثة تجد الشذوذ. ولكنك لا تفتقد التعبير الاجتماعي في الوقت نفسه كظاهرة أصيلة في البيئة.

– مجرد ظاهرة بين ظواهر «الحارة» التي سجلتها، أم أن له وظيفة، كما هو شأن رضوان مثلًا في «الثلاثية» فشذوذه لا ينفصل عن النقد السياسي.

– بل أردت القول إن الشذوذ يلعب دورًا في السياسة.

– لو بدأنا من «القاهرة الجديدة» (١٩٤٥م) لقلنا إن الجنس تعبير عن الفقر والحرمان …

– والاستغلال من جانب الوزير. أما في «زقاق المدق» فهو ظاهرة بيئية.

– أنت تتكلم عن الشذوذ أم عن الجنس عمومًا؟

– الجنس عمومًا، فسقوط «حميدة» ظاهرة بيئية. أما في «بداية ونهاية» فالسيكولوجي يرتبط بالاجتماعي. و«السراب» تكاد تكون دراسة تربوية نفسية.

– الثلاثية متحف جنسي؟

– هنا الجنس كغريزة مسيطرة على ياسين مثلًا، وكجزء من الفحولة والوجاهة عند أحمد عبد الجواد، وكدور سياسي عند رضوان.

– في المرحلة التالية للثلاثية بدءًا من «اللص والكلاب» تلعب المومس دورًا متزايدًا في أدبك.

– هو دور اجتماعي وسياسي، وليس تصويرًا وتحليلًا لشخصية المومس بحد ذاتها. هناك أعمال عظيمة لكتَّاب كبار تناولوا شخصية المومس ذاتها لا لسبب آخر. أما أنا فقد تناولتها لأضرب بها نماذج في المجتمع تتسم بالعهر الفكري أو الدعارة السياسة. ومعنى هذا أنني حاولت القول بأن المومس مضطرة غالبًا، أما الأشكال الأخرى للبغاء الفكري والسياسي فما هي حاجة أصحابه؟ المقارنة ستتولد تلقائيًّا عند القارئ في مجرى الأحداث حتى إنه قد يُفاجأ بأن المومس أحيانًا أفضل من الآخرين. وبطبيعة الحال، فإنني أثناء هذا التوظيف لشخصية المومس فإنني أدرس طبيعتها.

– هل المقارنة أخلاقية؟ مثلًا، في «السمان والخريف» نجد المومس أفضل من بطل الرواية، فهل القصد هنا أخلاقي؟

– بل أقرب إلى الرمز السياسي. وأحيانًا تصبح المومس في حالة عشق حقيقي كما هو الحال في «نور» في «اللص والكلاب».

– هل تلاحظ أن الوضوح القوي لشخصية المومس ترافَق مع الستينيات؟ أي إنك لم تعُد بحاجة إليه في السبعينيات والثمانينيات، بالرغم من شيوع المعاني والدلالات لهذه الشخصية في مجتمع الانفتاح؟

– ربما لأنني لم أعد بحاجة إلى الرمز الكامن في استخدام هذه الشخصية، أصبح المجتمع مكشوفًا لدرجة لا تحتاج معها إلى المقارنة، وأضحت الحريات معقولةً لدرجةِ أنك لم تعُدْ محتاجًا للاستعارة.

٥

ربما يقول النقد والتاريخ الأدبي معًا إن الفن الروائي قد استنفد السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، أي إن الكثير من صور حياته في مراحلها المختلفة قد انتقلت إلى هذا الحد أو ذاك إلى أدبه، ومن ثم لم يجد داعيًا لأن يكتب سيرة ذاتية مستقلة عن الأدب.

وربما يقال أيضًا إن نجيب محفوظ، الاجتماعي إلى أقصى حد مع أصدقائه وزملائه ومعارفه، في المقاهي والندوات الضيقة والمكتب؛ هو في الحقيقة رجل محافظ لا يدخل بيته أحد، وبالتالي فهو لم يكتب سيرته الذاتية لأنه لا يرغب في إطلاع الآخرين على تفاصيل حياته. وهو في أحاديثه العديدة، وأطولها كتاب «نجيب محفوظ يتذكر» الذي أعده الروائي جمال الغيطاني، لا يقول شيئًا يخشاه أو يشعر معه بالحرج.

وفي ظني أن الناس تنتظر من الكاتب أو الفنان الشهير أن تكون حياته غير عادية وغير مألوفة؛ بينما قصة حياة نجيب محفوظ تخلو من هذه «الخوارق». طفولة عادية عاشها في كنف أبوين ينتميان لإحدى شرائح الطبقة الوسطى الصغيرة، فالأب موظف، والأسرة تكونت قبل مجيء نجيب محفوظ، من الوالدين وأربع بنات وولدين. وبلغت المسافة الزمنية بين نجيب وشقيقه الذي يكبُره مباشرةً تسع سنوات. وحين وصل إلى سن الخامسة كانت شقيقاته قد تزوجن، وكذلك شقيقاه. وكان أحدهما قد دخل الكلية الحربية وسافر للعمل في السودان. لذلك وجد نجيب محفوظ نفسه في سن مبكرة وكأنه الابن الوحيد في البيت الذي يضمه ووالديه في الحي الشعبي «الجمالية». يقول: «كنت محرومًا من الإحساس بالأخوة.» ولذلك كانت العلاقة بين الإخوة من العلاقات التي يتابعها في حياته وأدبه باهتمام.

البيت والحارة والمدرسة، عناصر «البيئة» الأولى التي عاشها في طفولته بين اللعب واحترام الكبار ومظاهرات ثورة ١٩١٩م. وبقيت الحارة في أدب محفوظ وخياله، بأعيانها وفقراتها وفتوَّاتها وتجَّارها وكأنها «ثقب الإبرة» الذي يرى منه هذا الكاتب العالَم، وفيه يضع الخيط الذي ينسج به رؤياه.

والدته على عكس «أمينة» في الثلاثية هي التي خرجت به إلى الدنيا وزار برفقتها الكثير من معالم القاهرة. وكان والده هو الذي عرَّفه على سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد، ولكن الحماس الأكبر والحرارة السياسية القصوى كان مبعثها اسم سعد زغلول. كانت حياة الأسرة طبيعية، لم تعرف تعدد الزوجات ولا إدمان الخمر أو القمار أو المخدرات. بل كان الأب يعرف المويلحي معرفةً شخصية. وكان كتابه هو الكتاب «الأدبي» الوحيد، وسواه كان هناك القرآن فقط، فالثقافة هي «الدين» في البيت. وبعد ثلاث سنوات مِن تخرُّج نجيب محفوظ توفي والده عام ١٩٣٧م عن خمسة وستين عامًا. وكانت الأسرة قد انتقلت عام ١٩٢٤م من الجمالية إلى الحي الأرقى؛ العباسية. ولكن هذا الانتقال لم يُمحِ الجمالية من ذاكرة محفوظ، بل كان الحي العتيق يشدُّه إليها فتًى وشابًّا وكهلًا. بل إنه عمل موظفًا في حي الجمالية حين انتقل إلى مكتبة الغوري في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. وفي هذه الوظيفة قرأ أكثر وأكبر وأهم الكتب.

ولكن شلة العباسية هي التي رسخت في حياة نجيب محفوظ، وظلت علاقته بها إلى وقت قريب. ولم يكن في الأسرة بالطبع من يستطيع مساعدته، فعانى كثيرًا منذ اطَّلع من أحد أصدقائه على رواية عنوانها «ابن جونسون». كان ما يزال تلميذًا في الثالثة الابتدائية. وبحث عن سلسلة «جونسون» هذا فقرأها كلها بمتعة كبيرة. كانت أول روايات يقرؤها في حياته، وكان قد بلغ العاشرة من عمره. وقد توهم في ذلك الوقت أن هذه الروايات هي حقائق، فكان يبكي ويضحك ويحزن لمصائر الشخصيات حسب الأحوال المتغيرة. وفي هذه المرحلة كان يعيد كتابة الرواية ويكتب اسمه عليها. وحين كبِر كان العقاد وطه حسين وسلامة موسى هم الذين تناوبوا على عقله ووجدانه، وأوقعوه في تلك الحيرة العنيفة بين الأدب والفلسفة. كانوا هم أنفسهم من المفكرين، رغم أنهم جميعًا كتبوا القصص والروايات. ولكنه حوالي عام ١۹٣۰م قرأ كتاب درنك ووتر في تاريخ الأدب. وكان هذا هو الكتاب الذي أرشده إلى تولستوي ودستويفسكي وتشيكوف وموبسان وبروست وجويس وشكسبير ويوجين أونيل وإبسن وهمنجواي وسترتدبرج ودوس باسوس وميلفيل وكونراد وشولوخوف وحافظ الشيرازي وطاغور. «وهنا تلاحظ أنني لم أتأثر بكاتب واحد، بل أسهم هؤلاء كلهم في تكويني الأدبي، وعندما كتبت لم أكن أقع تحت تأثير أحدهم، ولم تبهرني الإنجازات التكنيكية الحديثة. تخيل لو أنني كنت تأثرت بجويس وحاولت أن أنهج نهجه في تيار الوعي، لقد قرأت يولسيز في أواسط الثلاثينيات، لكنني عندما بدأت الكتابة كنت أطرح هذا كله، وأنهج منهجًا واقعيًّا. كنت أكتب طبقًا للمنهج الواقعي، في نفس الوقت الذي كنت أقرأ أعنف الهجوم على الواقعية. كان الأدب العالمي قد تعرَّض للواقع عبر مئات الأعمال ثم انكفأ إلى الداخل، إلى تيارات الوعي واللاوعي، وما وراء الواقع. لكن بالنسبة لي وللواقع الذي أعبر عنه لم يكن قد عولج معالجةً واقعيةً بعدُ … الغوص إلى الداخل يبدو منطقيًّا مع بطل جويس؛ لأنه منطوٍ ومغلق … المهم أن يدرك الكاتب الأسلوب المناسب للتعبير عن موضوعه وعن نفسه. كنت بلا مرشد وبلا دليل، وكنت أكتب وَفق منهج أقرأ السخرية منه، أقرأ نعيه. لكنني الآن أعتقد أن إدراكي كان سليمًا، وكان مما يزيد الأمر صعوبةً أننا نفتقد التراث الروائي في الأدب العربي.»

في عام ١٩٤٣م بدأ نجيب محفوظ ينشر مؤلفاته مقابل أجر. تكونت «لجنة النشر للجامعيين، وبدأت تطبع لجيل كامل (عبد الحميد السحار، علي أحمد باكثير، عادل كامل … إلخ). كانت تطبع ألفي نسخة من الرواية أو مجموعة القصص أو المسرحية. غير أننا نفاجأ أولَ الخمسينيات ﺑ «روز اليوسف» تصدر سلسلة «الكتاب الذهبي»، فتطبع منه خمسة عشر ألف نسخة شهريًّا. وعرفت روايات محفوظ طريقها إلى هذه السلسلة الشعبية الأنيقة وإعلاناتها التي اكتشفت الطريق إلى القارئ. وكانت الطبعة الواحدة تنفد في أسبوع واحد. هذه هي السلسلة التي أشاعت أعمال إحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعبد الحليم عبد الله وسعد مكاوي وزكريا الحجاوي ويوسف إدريس ويوسف الشاروني و… نجيب محفوظ. كانت هذه خطوته الأولى إلى الجمهور الواسع.

أما الخطوة الثانية فجاءت عام ١٩٥٤م. وكان محفوظ قد انتهى من كتابة ثلاثية «بين القصرين» في أبريل عام ١٩٥٢م. كان الناشر الأصلي لنجيب محفوظ قد قلب الصفحات الألف وهتف أمام صاحبها: «وكيف أطبع هذه؟ إن ذلك مستحيل.» ولم تكن الرواية «ثلاثية»؛ وإنما كانت جزءًا واحدًا لم يتصوره كاتبه ثلاثة أجزاء أو ثلاث روايات مطلقًا. ولم ينسَ نجيب محفوظ قط أن رد الفعل السريع لدى الناشر كان هذه العبارة في اللهجة الدارجة: «إيه الداهية دي؟» وفي نادي القصة حكى نجيب محفوظ ما حدث، وإذا بيوسف السباعي يقول له: «أعطني الرواية لأقرأها، فسوف نُصدر مجلة جديدة للأدب.» كانت هذه المجلة هي «الرسالة الجديدة» التي صدرت شهرية وبدأت تنشر «بين القصرين» مسلسلة. وإذا بها تروج رواجًا جعل الناشر سعيد السحار يتراجع في موقفه من الرواية مقترحًا على كاتبها أن تقسم إلى ثلاثة أجزاء بثلاثة أسماء. وهكذا أصبحت ثلاثية، وراجت حتى بلغ عدد المطبوع منها إلى الآن نصف مليون نسخة معترف بها؛ أي غير النسخ المزورة التي لا تقل بأية حال عن نصف مليون أيضًا.

كانت هذه الخطوة الثانية لنجيب محفوظ في طريق الانتشار الواسع. أما الخطوة الثالثة فقد بدأت بنشر «أولاد حارتنا» وما تلاها في جريدة «الأهرام». واما الخطوات الرابعة والخامسة والسادسة وبقية الخطوات، فقد أنجزتها السينما والإذاعة والتليفزيون بإخراجها معظم أعمال نجيب محفوظ على الشاشتين الصغيرة والكبيرة ووراء الميكروفون.

ولكن الشعبية الواسعة لم تؤثر على التكوين الشخصي لنجيب محفوظ، فقد ظلت عاداته وسلوكه كما كان الأمر عليه فيما مضى من أيام «مغمورة». ربما تركت هذه الشعبية أثرها على درجة الإحساس بالمسئولية، وعلى معرفة القطاع الذي يخاطبه، ولكن الرجل الذي رفض عرضًا من مصطفى أمين عام ١٩٤٤م بالكتابة مرتين في الشهر في «أخبار اليوم» مقابل خمسة عشر جنيهًا؛ لم يتغير قط. كان ذلك عام ١٩٤٤م ومرتَّبه لا يتجاوز ثمانية جنيهات، وقد أصبح مسئولًا عن البيت. لم يشأ أن يكتب تحت ضغط الحاجة.

ومرت الأحداث الشخصية الكبرى في حياة نجيب محفوظ مرورًا طبيعيًّا، فقد وقع في الحب في صدر شبابه وكان حبًّا عنيفًا لم يبْرأ منه بسهولة، وإنما ترسَّب في أعماقه هذا المعنى الذي يوجزه بنفسه قائلًا: «إنك تجد أحيانًا وجهًا يخيَّل إليك أنك على موعد معه، لماذا هذا الوجه بالذات؟ لا أدري. لماذا هذا التكوين بهذا الشكل بالذات يؤثر في الإنسان هذا التأثيرَ بالذات؟ أيضًا لا أدري.» ويعترف: «أن الأديب يبدع أفضل ما عنده وهو يحب.» ولم يكن صراع «الأدب أم الفلسفة» هو الصراع الوحيد الذي عرفه عقل وقلب نجيب محفوظ، بل كان ينتظره في الرجولة صراع آخر: «الزواج أم العزوبة؟» فقد قرر ذات يوم، رغم إلحاح الوالدة، ألا يتزوج. وذات يوم آخر تعرَّف على صديق وزوجته، وإذا به يقرر الزواج من شقيقة هذه الزوجة. ولم يعرف بهذا الزواج إلا بعض أفراد الأسرة، ولم تكن الوالدة من بينهم؛ إذ فضَّل أن يحيطها علمًا بما تم على مراحل؛ لأنها كانت ترتب له زواجًا مختلفًا. وقد ظل زملاؤه ومعارفه من الأدباء لا يعرفون بزواجه أمدًا طويلًا، بالرغم من أنه تزوج عام ١٩٥٤م؛ أي وهو في الثالثة والأربعين من عمره. تزوج — كما يحب أن يؤرخ — إبان الفترة التي توقف فيها عن الكتابة. وكان «الأدب» هو الذي يخيفه من الزواج، فقد خشي أن تَصرِفَه الحياة العائلية و«اجتماعياتها» عن الكتابة. ولعل السر في أن محفوظ لا يستقبل أحدًا في بيته، هو أنه يحاول ايجاد البرهان على أنْ لا تناقضَ بين الزواج والأدب، وأن التعايش بينهما ممكن، بل «أعتقد أن حياتي الزوجية قد ساعدتني.»

والرجل الذي عاش طفولته وحيدًا، رأى الطفولة وواكبها في ابنتيه، أم كلثوم وفاطمة، اللتين تختلفان عن والدهما في الكثير. إنه، على الأقل، أحب أم كلثوم فتسمت ابنته الكبرى باسمها ولكنها، كأختها، تحب الموسيقى الغربية والغناء الغربي. وهو، على الأقل، تعلَّم في الجامعة المصرية، ولكن ابنتيه تلقَّيتا العلم في الجامعة الأمريكية.

إنه «زمان آخر» كما يقول نجيب محفوظ …

– يعني، أنت الآن «دقة قديمة»؟

– إنها سنة الحياة.

– ألذلك غاب الطفل عن أدبك في السنوات الأخيرة؟

– إذا كنت تقصد الطفل بالمعنى الحرفي، فأنا لم أعش الطفولة بهذا المعنى، ولكني أملك عين الطفولة التي رأيت وأحسست بواسطتها الأشياء، على نحوٍ لا يتيسر في مراحل النضج. حياة الطفولة لا يتدخل «الوعي» في تحويرها وتعديلها. إنها المادة الخام الصحيحة، إن جاز التعبير، بالصواب والخطأ عن مراحل العمر. الطفولة ليست قامعة، فهي ترى الأشياء والكائنات كما هي، أما حين نكبَر فهي شيء يختلف، تختلف الأحجام والنسب والأشكال، أصبحت لدينا معاييرُ تحذف بها أو تضيف، ولا يبقى الشيء أو الكائن على حاله أبدًا.

– هل تظن أن الكاتب يتخصص في شخصيات دون غيرها؟

– كلما كبِر الإنسان يصبح الاختيار أصعب. في الشباب لا نتأنى ولا نتأنق لأن العمر أمامنا. أما الآن فنختار وندقق في الاختيار. والمسألة ليست كامنة في شخصيات بعينها، وإنما فيما تُضمره هذه الشخصيات من دلالات. هل تناسب التجربة والإحساس والرؤية؟ هذا هو المعيار، فالكاتب يقابل أصنافًا لا حصر لها من البشر. عالمي يبدو من الصعاليك. والصعلكة ليست طبقة اجتماعية، فقد تجد الفقير والغني من الصعاليك. المومس وليس القواد. الحشاش وليس تاجر الحشيش. السجين السياسي وليس الجلاد. المتقاعد وليس المدير العام. الفتوَّة وليس الجبان. المهزوم وليس الوصولي … إلى آخر هؤلاء الحرافيش أو الصعاليك، كما تشاء.

– وتنسى الدراويش. لقد غابت شخصية الدراويش عن أدبك أيضًا في السنوات الأخيرة. إننا لا ننسى الشيخ درويش في «زقاق المدق» ولا الشيخ متولي عبد الصمد في «الثلاثية»، ولا الشيخ علي الجنيدي في «اللص والكلاب». أين ذهب الشيخ أو الدرويش في أدبك؟

– الموضوع يفرض احتياجاته. والفن يلبي رؤية الكاتب. والدرويش عندي يجسِّد الصوت الميتافيزيقي الأقرب للتصوف، فإذا لم أكن محتاجًا إليه لا أفتعله.

– إذن، فأنت لا ترى نفسك محتاجًا إليه في الفترة الأخيرة؟

– أظنه حاضرًا على نحوٍ ما كلما رأيت في «التصوف» نافذة أكثر اتساعًا للرؤيا، أقصد كلما احتجت إلى الحدس.

حكم «١»

قد يكون بيننا من لا يوافق نجيب محفوظ في تصوره للعالم كما يجب أن يكون، ولكن المقدمات التي شاد عليها استنتاجاته لا يمكن إلا أن تقابَل بالترحاب حتى مِن قِبلِ مَن يعترض على الاستنتاجات. فهذه المقدمات هي في «حكاية بلا بداية ولا نهاية» كما في «ثرثرة فوق النيل» و«الشحاذ» و«الطريق» و«أولاد حارتنا»؛ مقدمات المذهب الإنساني الذي لا يستطيع أحد أن يماري في دوره الديمقراطي التقدمي في مجتمع شرقي، غيبي، لم يعرف ثورة ديمقراطية جذرية.»

جورج طرابيشي

– هل ترى أن ثمة تطورًا في رؤيتك السياسية من المرحلة التي عاصرت فيها النظام الملكي إلى المرحلة التي عاصرت فيها النظام الناصري؟

– طبعًا، وُلدت ظواهرُ جديدة في المجتمع بعد الثورة؛ أصوات جديدة ورؤًى جديدة. هناك استمرارية لبعض نواحي النقد الذي وجهته للنظام السياسي قبل وبعد الثورة، كالموقف من الدكتاتورية. إن غياب الديمقراطية في عهد الثورة لم يكن أمرًا جديدًا. كنا نتوقع أن تصلح الثورة، طبعًا، المسار الديمقراطي، ولكنها للأسف كرست الأوضاع الدكتاتورية السابقة. ولذلك استمر عنصر النقد في كتاباتي قائمًا؛ خاصة وأن تغييب الديمقراطية ليس مجرد امتهان لحقوق الإنسان في حرية الفكر والتعبير وغير ذلك من الحريات الأساسية، بل إن هذا التغييب يؤثر على الإنجازات الإيجابية تأثيرًا سلبيًّا. الديمقراطية تعني الرقابة الشعبية والمسئولية. وغياب الرقابة يجعل من بعض القرارات العظيمة حبرًا على ورق، أو أنه يعرقل تنفيذها أو يجعل التنفيذ هشًّا، فما إن تأتي العاصفة — وما أكثر العواصف في بلادنا — حتى تسحق الإيجابيات في سرعة قياسية.

– أريد أن ألفت انتباهك إلى الشخصيات، فالشيوعي والإخواني والوفدي قبل الثورة غيرُهم بعدها.

– لقد ضُربوا جميعًا.

– عنيت أن البيئة السياسية من حيث علاقات القوى الطبقية قد تغيرت؟

– نعم، فقد أصبحت بعض نماذج البرجوازية الصغيرة في مَصافِّ الزعماء وأشباه الزعماء، بينما انتهى بعض الباشوات إلى صندوق القمامة.

– هذا الانقلاب الهائل، ألم يترك أثرًا على رؤياك؟

– تغيرات اجتماعية متلاحقة، بيئة اجتماعية كاملة تغيرت، التركيب الاجتماعي لم يعُدْ قط كما كان. وظهرت أجيال لها طموحات وأشواق وأهداف جديدة. كان لا بد لذلك كله من أن يترك أثره على رؤيتي الاجتماعية، وأن تنعكس هذه المتغيرات على ما أكتبه. في الماضي كان هناك نوع من الاستقرار الشكلي بالرغم من تغيير الحكومات والأخذ ببعض الإصلاحات. بعد الثورة لم نعرف الاستقرار. صراع مستمر على السلطة، سلسلة متلاحقة من الإجراءات والقوانين والسجون والامتيازات والحروب. من الإصلاح الزراعي إلى تحديد الملكية بخمسين فدانًا، ومن التمصير إلى التأميم، ومن الوَحدة مع سوريا إلى الانفصال، ومن عدوان السويس إلى هزيمة ١٩٦٧م، ومن التعليم المجاني إلى تمرد الطلاب في ١٩٦٨م، ومن التصنيع إلى السد العالي. تغييرات! تغييرات؛ في العلاقة بين الطبقات وبين الأفراد، وبين الحاكم والمحكوم، وبين المواطن والمواطنة. تغييرات في ١٨ سنة كأنها وقعت في ١٨٠ سنة. وطبعا نحن لسنا معزولين عن الدنيا التي راحت هي الأخرى تتغير من ستالين إلى خروشوف، ومن حرب فيتنام إلى ووترجيت، ومن تخمة الغرب إلى الجفاف والمجاعة والأوبئة في العالم الثالث. ومن القنبلة الذرية إلى الثورة الإلكترونية. ومن الراديو إلى التليفزيون الملون. ثورة في كل شيء، لم نكن نستطيع أن نتجنبها، وقد تركت آثارها على عاداتنا وتقاليدنا وعلاقاتنا وقيمنا، فكيف لا تنعكس على الكتابة؟ ولذلك كتبت «أهل القمة» و«الحب فوق هضبة الهرم»، و«باقي من الزمن ساعة» و«يوم قتل الزعيم» … وهذه كلها لم تكن لتخطر على بالي في الماضي.

– هنا اختلفت الأزمنة؛ بمعنى أننا دخلنا على عصر الانفتاح. ولكني أسألك عما إذا كانت رؤياك ذاتها — وليست الموضوعات أو المادة الخام — قد استضافت جديدًا؟ ما هي الثوابت والمتغيرات في أدبك؟

– قلت لك إن الثوابت هي العدل والحرية، ولقد ازددت إيمانًا بهما. إنني ما زلت على حماسي البكر للقطاع العام والإصلاح الزراعي والتأميم ومجانية التعليم والقضاء على الإقطاع وجزء من الرأسمالية، وهي أمور مطلوبة اليوم وغدًا.

حكم «٢»

«ينبت كثير من الإنتاج الجديد في الرواية المصرية تحت جناحَي نجيب محفوظ متأثرًا على الأخص بالمرحلة الأخيرة من أعماله التي جاءت بعد الثلاثية. وربما انفرد نجيب محفوظ بذلك بين أبناء جيله من الفنانين البارزين. ولا غرابة في ذلك؛ فقد استطاع أن يضم في عالمه الرحيب ما تحتويه عوالم معاصريه من الروائيين جميعًا. ولا يمكن لتجربة جديدة في الخلق الروائي أن تحقق ميلادًا بلا تراث ابتداءً من الصفر والهواء المعقم بمعزل عن عالم نجيب بقَبوله أو تطوره أو رفضه.»

إبراهيم فتحي

– يميل البعض إلى توسيع الدلالة أو تكبير حجمها، فيرون مثلًا أن العجز الجنسي في رواية «السراب» هو عجز اجتماعي أكثر شمولًا.

– أقرأ هذا الكلام وأستغرب قليلًا، ولكني لا أعترض على أي تفسير؛ لأني أؤمن فعلًا بأن الكاتب قد لا يعي كل خفايا عمله، إن كانت له خفايا. في «السراب» لم أشأ سوى تشريح حالة نفسية، فالحقيقة أن العجز لم يكن مطلقًا أو كاملًا؛ إذ إن الشخصية كانت تمارس الحب على نحو أو آخر. وليس صحيحًا ما أُشيعَ نقديًّا من أنها «عقدة أوديب». فالعقدة التي رآها الدكتور يحيى الرخاوي، الطبيب النفسي المشهور، هي عقدة الأم التي لا تريد أن تحبل بسبب الشقاق الدائم بينها وبين زوجها، ثم حملت (ببطل الرواية)، وكأنها لا تريد أن تقطع الحبل السري وتفضل قتله.

حكم «٣»

إننا نرى في هذه القصة بناء سيكولوجيًّا متماسكًا، أساسه العقدة الأوديبية وما يتبعها من انحراف جنسي، ثم ما ترتب على ذلك من عدم القدرة على الاتصال بكل ما يذكِّر بالأم وصورتها، وتفضيل العودة إلى عادته القديمة، بينما يثير شهوته كلُّ ما هو دميم؛ نتيجة للتثبيت الذي حدث له منذ كانت له علاقة بخادمة دميمة. وإذا كنا نعلم أن مصادر التحليل النفسي الرئيسية الثلاث هي الوثائق التي يحصل عليها أطباء النفس أثناء معالجتهم مرضاهم، ثم الأساطير ثم الآداب المختلفة، فلا شك في أن قصة نجيب محفوظ تضاف إلى هذا التراث الأخير كمرجع، له أهميته في الدلالة على ما يعانيه الكثيرون من انحرافات وتعقُّد ومرض.»

يوسف الشاروني

– أستاذ نجيب، أدبك قبل الثورة يمنحنا الإيحاء بحتمية سقوط النظام بكامله … نهايات «القاهرة الجديدة» و«زقاق المدق» و«بداية ونهاية» تُشعِرنا بأن البيت آيل للسقوط. وأيضًا حين نقرأ نهايات «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» نشعر بأن النظام الثوري كذلك قد شارف على النهاية المحتومة. في «الثرثرة» جريمة يتنصل الجميع من مجرد مشاهداتها. وفي «ميرامار» ينتحر الممثل الشرعي الوحيد للاتحاد الاشتراكي. وفي السنوات العشرين الأخيرة نجد أيضًا من «ألف ليلة» إلى «يوم قتل الزعيم» نظام الانفتاح وكأنه نظام الانهيارات المتعاقبة، ومآله كذلك السقوط المحتم. هناك إذن ثلاثة أنظمة وثلاث مجموعات من الأعمال المحفوظية التي ربطت بين هذه الأنظمة والسقوط … فهل تقتصر رؤياك على «نبوءة السقوط» أم أن لديك «مدينة فاضلة» تستتر خلف النهايات الفاجعة، لا تفصح عنها ولكن أي بديل واقعي لها مصيره السقوط؟

– لست يائسًا من المستقبل. وابن فطومة قد «رأى»، وعرفة في «أولاد حارتنا» كان يعرف. الرؤيا والمعرفة هما عماد المستقبل. السقوط الذي تشير إليه هو دعوة إلى البديل الكامن صاحب التجليات غير الخافية لمن يعنيه المستقبل. أنا غارق في الحاضر حتى العنق، وعيناي مشدودتان دائمًا إلى المستقبل.

– كيف ترى إشكالية الحداثة إذن، في أدوات التعبير أم في الرؤيا؟

– في الماضي كان الاستقرار، ولو على الفساد. في الحاضر، الذي بدأ من أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، كان الاضطراب والقلق والانطواء على النفس، فكان اللجوء إلى أدوات التعبير الملائمة للواقع والرؤيا معًا. ليست هناك أدوات تعبيرية منفصلة عن الرؤيا. وقد تواضع النقاد والدارسون على تسمية هذه الرؤية القلقة المضربة المنطوية بالحداثة. هذا مصطلحهم، أما أنا فأكتب متحررًا من أية تصنيفات مسبقة. أكتب حسب شعوري وانفعالي وفكري وتجربتي وثقافتي. لقد تغير تصورنا للعالم من نيوتن إلى هايزنبرج، في العالم الأول كان الاطمئنان إلى ميكانيكية الحركة، وفي العالم الثاني كان الاحتمال وليس الاطمئنان. المجتمع نفسه لا يقل عن «الكون» خروجًا على الميكانيكية. أضحت مفاجآته تأكيدًا للصدفة والاحتمال. وهذا كله يستوجب تجديد الرؤى الفنية وما يرتبط بها من أدوات تعبيرية.

– أمِن هنا جاءت فكرتك عن الموت؟ في أقاصيص الستينيات نلاحظ أنه يأتي بغتةً على غير توقع ومفتقدًا لأي منطق؟ أم أن هذا التصوير للموت هو جزء من عبثية الوجود في تفكيرك؟

– إنني أقاوم عبثية الوجود دائمًا، حياتي كلها مقاومة للعبث.

واقعة

بعد حوالي أسبوعين من إنجاز هذا الحوار، كنت جالسًا إلى جوار نجيب محفوظ في سرادق للعزاء، وقيل إن المتوفي قد مات بالسكتة أثناء أدائه لرياضته اليومية في النادي. همس لي محفوظ بأن أخاه الأكبر قد تعذَّب كثيرًا قبل الوفاة، أما الأخ الأوسط فقد كان يتحدث معه حين أمال رأسه على كتفه ومات في هنيهة، أقل كثيرًا من الثانية. وعلَّق: الموت هكذا نعمة للميت ونقمة على الأحياء. أما عذاب المرض قبل الموت فهو نقمة على الجميع.

– هل للموت أكثر من مدلول في أدبك؟ هل له مثلًا مغزًى اجتماعي أو سياسي أو فلسفي؟

– كل ذلك: المغزى الاجتماعي والسياسي واضح حين يموت المرء من الفقر أو القهر أو الظلم. والمدلول الفلسفي واضح كذلك من الموت صدفة. إنني أرى نوعين من الموت؛ أحدهما منطقي بسبب المرض أو الشيخوخة، والآخر غير منطقي، عبثي تمامًا.

– هل يرتبط ذلك بمفهوم الزمن؟

– مفهوم الزمن أساسي في الكتابة والحياة. ولعل الحداثة التي يتكلم عنها البعض قد انطلقت أولًا من المفهوم النفسي للزمن، أو مما أسميه بالزمن الجوَّاني. والزمن له علاقة مباشرة بالموت، وعلاقة مباشرة بالرؤيا، وعلاقة مباشرة بأدوات التعبير. الزمن الخارجي هو الزمن الكمي الخاضع للمنطق الشكلي؛ حيث يموت الإنسان موتًا «طبيعيًّا»، أي موتًا يمكن حسابه وتصوره، وهو الموت الذي يعبر عنه السرد الوصفي أو الحوار الخبري. أما الزمن الجواني الذي قد يقتل الشاب ويترك الشيخ، فهو الزمن المركب الذي يختلط فيه زمن الحلم بزمن الكابوس بأزمنة الضمائر المتداخلة. وهو الزمن المكثف غير المترابط، ويحتاج إلى المونولوج الداخلي والهذيان والحدس واستعادة الماضي وتذكُّرِ ما لم يحدث.

– هذا مثلًا ما يفرق بين زمن «الثلاثية» وأزمنة «ثرثرة فوق النيل» أو «ميرامار»؟

– طبعًا، فالزمن في «بين القصرين» هو الزمن الموضوعي الذي يفعل فعله المستقل عن العواطف والمرتبط بالمعقول. أما الزمن الآخر فهو «حالة».

– أنت تستثني «حكاية بلا بداية ولا نهاية» و«شهر العسل» و«تحت المظلة» من التخطيط المسبق والتأمل، وتقول إنك اندفعت إلى كتابتها دون تصور مسبق للبداية أو السياق. وهذه التجربة ترتبط فكرًا وتعبيرًا بالزمن، فأية نتائجَ حصلت عليها؟

– لقد توقفت أكثر من خمس سنوات عن الكتابة في بداية الثورة حين ماتت شهوة الكتابة، كانت لديَّ موضوعات، ولكن الرغبة في الكتابة ماتت. هنا العكس؛ فالانفعال بالكتابة موجود والرغبة فيها قوية، لكن ليست هناك موضوعات. بعد الهزيمة لم يكن ثمة موضوعٌ واحد للكتابة، كمن يرغب في الرقص وليست هناك الموسيقى الراقصة. أكرر لك أن المسألة باختصار هي أن اللسان الجماعي للشعب انفكت عقدته بعد الهزيمة، كلام! كلام! كلام كثير جدًّا! وفي هذه القصص كنت أتكلم، أو وجدتني أتكلم. لذلك تغلَّب الحوار على السرد. وكتبت الحواريات أو المسرحيات ذات الفصل الواحد. فعلًا مارست الكتابة للمرة الأولى في حياتي، وليس في رأسي أية فكرة ولا أي موضوع. وكنت أنتهي من الكتابة، فإذا بالناس تقول إنها ذات فكرة وذات موضوع. ليكن، ولكني لم أكتب «عبثًا» بالمعنى المعروف للعبث. لعلي كنت واقعيًّا، فالواقع كان عبثيًّا، وأتمنى حقًّا ألا أعود إلى تلك التجربة مرةً أخرى.

حكم «٤»

ابتعد نجيب محفوظ عن الروائيين الجدد، ومن بينهم ألن روب جرييه في قولهم بأنه يجب إلغاء الحكاية من الرواية. وبالتالي فإن الرواية يجب ألا تحتوي على أي شخصية وبالأحرى على أي بطل. وإن وُجِد فلا أهمية له؛ وإنما هو شيء من الأشياء. والأشياء وحدها تمثل العنصر الأساسي في الرواية إلى جانب الرواية ذاتها. بل إن نجيب محفوظ قد مال ميلًا واضحًا إلى التكثيف الروائي حتى جعل الرواية بأكملها تقوم على كاهل شخصية واحدة هي البطل. بل إن البناء الروائي بأكمله يتحدد بحسب شخصية هذا البطل. ولكن الكاتب استعار الوسائل الروائية الجديدة ليضعها في خدمة هذا البطل الواحد. ومن هنا يشترك مع الروائيين الجدد في مفهومهم للزمن الروائي. وبما أنه استعار صفات أشخاصهم المرضية ليُسبِغَها على بطله، فقد اشترك معهم في استعمالهم لما يُعرف بالرواية المنطوقة القائمة على الومضة الوراثية والهذيان والحلم والحوار الباطني. وهو ما أدى إلى القطيعة مع لغته الروائية السابقة، ليعوضها بلغة مكثفة هي لغة الشعر محوِّلًا بذلك الروايةَ إلى عمل شعري.»

مصطفى التواتي

– تقول إن بعض القصص كتبتها اشتراكًا برأي في معركة أو أزمة أردت أن يكون لك دورٌ فيها، حتى لو قُدر لهذا النوع من القصص أن يموت فور انتهاء المناسبة التي كُتب من أجلها.

– لقد أردت فعلًا بهذا الكلام أن أحدد وظيفة الفن؛ لأن هناك من يقول بأن الفن للخلود؛ أي أنه يتناول الأمور الخالدة … أما أنا فأقول الخالدة واليومية، فللفن دور في خدمة المجتمع يؤديه كيفما تراءى له وبالوسائل التي تساعده على أداء هذه الخدمة. لنفترض أننا الآن في ثورة، وأنني لا أستطيع أن أساهم فيها إلا بقصة لن تدوم فعاليتها أكثر من أسبوع، فإنني أكتبها، لا أهتم بموتها بعد ذلك طالما أنها أدت وظيفتها. وهي حين تؤدي هذه الوظيفة فإنها لا تموت.

– ولكن وظائف الأدب مركبة.

– إنني لا أنفي ذلك مطلقًا، ولكني أقول فقط إنه حين تكون البلد مشتعلة لا يجوز لي أن أحتمي ببرجي العاجي للخلود وأقولَ إنني لا أكتب سوى القضايا الخالدة.

– لذلك أنت تختار أحيانًا أحداثًا واقعية يعرفها الناس جميعًا في حياتهم اليومية؟

– نعم، ولكن التحقيق الصحفي يهتم بالخارج وينتهي اهتمامه في الخارجي. تقول للمحرر إن هناك سفاحًا في المدينة فيأخذ الكاميرا ويحصل على كل المعلومات الخاصة به، وتنتهي مهمته. الفنان يهتم بالصلة بين الخارج والداخل. ويصبح الفرق بين الصحفي والفنان هو الفرق بين قصة السفاح في صفحة الجرائم بالصحيفة اليومية، وبين هذه القصة في رواية «اللص والكلاب». إنه الفرق بين الواقع كما هو والواقع الفني. الفن في جوهره ذاتي. إنه يأخذ من الواقع ويضيف إليه ويحذف منه ويعدله؛ أي يعيد خلقه ليصبح تعبيرًا عن الذات. وذاتُ الفنان هي بيئة الرؤية، فلست أقصد بالذات الهواجس الشخصية وحدها، وإنما أقصد زاوية الرؤية وطبيعتها النابعة من صدر الفنان وقلبه.

– هذه العناصر المحلية في البيئة الواقعية لا تحول دون إنسانية الكتابة المسماة عالمية. ولكنك تضيف أن الامتياز الجغرافي واللغوي والسياسي لبعض الآداب يدفع بها إلى دائرة العالمية بسبب انتمائه إلى هذا البلد أو تلك اللغة. كما أنك أضفت ذات مرة مسألة العبقرية فقلت إنه سيأتي يوم تقدم فيه العبقرية الأدبية العربية عطاءها للعالم.

– نعم، هناك سبب خارج عنا وسبب آخر من داخلنا. الامتيازات عند الآخرين تعطل الاعتراف بنا، ولكن العبقرية الأدبية هي الأساس، وهي لم تظهر بيننا بعد. العبقرية تحطم أسوار الزمان والمكان لأنها ستجد حتمًا من يعترف بها هنا أو هناك.

– ولكن هناك بلاد غير متقدمة، كأمريكا اللاتينية، تنجب أدباءَ كبارًا على مستوى العالم.

– أمريكا اللاتينية امتداد للحضارة الغربية، وقد تُرجمت أعمال أدبائها منذ نصف قرن. وفي الوقت نفسه ظهرت مواهبُ كبرى في أدب أمريكا اللاتينية حين بدأت تختفي الأسماء العملاقة للآداب الغربية.

أما بالنسبة لأديب أفريقي يكتب في الفرنسية أو الإنجليزية، فهو ينتمي فعلًا إلى حضارة اللغة التي يكتب بها. وفي جميع الأحوال هناك الموهبة.

– الفقر والقهر ينسجان الشخصية المحفوظية، فما العمل بالنسبة للشخصية غير الفقيرة أو غير المقهورة؟

– أولًا، الفقر له تجليات مختلفة، فهو طبعًا الفقر المادي المباشر، ولكنه كذلك الفقر النفسي والروحي والإنساني. والقهر ليس هو القمع الجسدي المباشر، ومع ذلك فمَن هو الإنسان غير المقهور في دنيانا، حتى بالمعنى الجسدي! الإذلال قهر، المرض قهر، الضغوط النفسية قهر، النقص أيًّا كان قهر. ولذلك فأنا أتعامل مع الفقراء والمقهورين والضعفاء والبؤساء والتعساء بكل هذه المعاني مجتمعة. ولكنني منحاز أصلًا للأغلبية الساحقة من الشعب؛ حيث يتخذ الفقر والقهر معالمَ ثابتة. لذلك تظهر مختلف الشخصيات الروائية أو القصصية في أعمالي، وقد «أصيبت» غالبًا بهذا الفقر أو ذاك القهر أو بكليهما. ولم أستبعد صحة النقد الذي قال إن «حميدة» في «زقاق المدق» ترمز لمصر. وهو معنًى لم يخطر ببالي أثناء الكتابة ولا بعدها. ولكني حين قارنت بين ظروف مصر وظروف حميدة رأيت تشابهًا كبيرًا في الفقر والقهر، هنا عميل للخواجات يريدها أن تعمل لحسابه، وهناك عميل للخواجات يريدها للغرض نفسه. هكذا لم أستبعد انعكاس حالة مصر على حميدة. وقلت لنفسي إنه ليس بعيدًا أن التفكير المتصل في العام يترك أثره على الخاص.

– ألا يمكن أن يكون هناك إسقاط من جانب الناقد؟

– ممكن، هناك من يتسرع ويقول إن هذه المومس هي مصر. ولكن في موضوع حميدة كان الناقد قد أقام المقارنات ورصد الملاحظات.

– بالمناسبة، فهناك نوع من النقد الذي تحول إلى فن؛ إذ كانت المرة الأولى التي يحدث فيها أن يأخذ قصَّاص شخصياته من رواية كاتب آخر ويعيد صياغتها في عمل مستقل. هكذا فعل يوسف الشاروني حين كتب «مصرع عباس الحلو» و«زيطة صانع العاهات». فقد أخذ القصتين من «زقاق المدق».

حكم «٥»

«إن حميدة تذهب وتواصل حياتها بين الحانات، ويذهب إليها عباس ليعيدها إلى الزقاق، ولكنه يصطدم بالحرب العالمية الثانية اصطدامًا مميتًا، في معركة عنيفة مع الجنود الإنجليز. ويموت عباس الحلو، وتواصل حميدة طريقها، ويواصل الزقاق كذلك حياته؛ حياة العمل والأشواق المتجددة، وتطلع الأجيال الجديدة.»

محمود أمين العالم

حكم «٦»

أهم بطلين في هذه الرواية هما عباس الحلو وحميدة. لقد كانت بدايتهما طبيعية هادئة طيبة، ولكن المجتمع الخارجي، بفساده وانهياره، جرَّهما جرًّا إلى الخارج بعيدًا عن زقاق المدق، وقادهما شيئًا فشيئًا إلى مصيرهما المحتوم، إلى الدمار والهلاك والموت.»

رجاء النقاش

– هناك من النقاد من يستكشف فعلًا أحد المعاني التي أقول إنها لم تخطر ببالي، ولكنها بعد أن خطرت ببال الناقد أتبناها. مثلًا، تفسير محمد مندور ﻟ «أولاد حارتنا» حين قال إن الكاتب أراد أن يقتل الفكرة الوثنية أو الأسطورية عن الإله. لم يخطر هذا المعنى ببالي، ولكني تبنَّيته.

– من أي الأزمنة تكوِّن رصيدك اللغوي؟

– هذا الرصيد بدأ يتكون في الطفولة. وفي المرحلة الثانوية بدأت أقرأ الشعر والنثر في التراث باعتباره رصيدًا لغويًّا، كانت البيئة التي أسمعها هي ما بين الشعبية والوسطى. هذا هو المخزن اللغوي الخاص بي. وقد أرهقني حين بدأت أكتب الرواية؛ إذ كانت لغتي كلاسيكية تسعد مدرس الإنشاء الذي يقرؤها على الطلبة، ولكنها لا تفيد الكتابة الروائية بل تعوقها. غير أن البيئة الشعبية وحياة الجامعة واللغات الأجنبية، كلها عناصر تدخلت تدريجيًّا في صياغة وإعادة صياغة لغة الكتابة.

حكم «٧»

«ما عرفت كاتبًا رضي عنه اليمين والوسط واليسار ورضي عنه القديمُ والحديث ومن هم بينَ بينَ مثل نجيب محفوظ. فنجيب محفوظ قد غدا في بلادنا مؤسسة أدبية وفنية مستقرة قائمة وشامخة. والأغرب من هذا أن هذه المؤسسة التي هي نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التي تستمد قوتها من الاعتراف الرسمي فحسب، بل هي مؤسسة شعبية أيضًا يتحدث عنها بمحض الاختيار في المقهى والبيت وفي نوادي المتأدبين والبسطاء. فنجيب محفوظ عندي كاتب من أولئك الكتاب القلائل في تاريخ الأدب في الشرق والغرب؛ كلما قرأته عشت زمنًا بين أمجاد الإنسان.»

لويس عوض

– نجيب محفوظ، أنت «متهم» بأنك من أتباع «المذهب الإنساني»، وهو مصطلح ماكر يقصدون به أنْ لا مذهب لك في الأدب أو الحياة.

– كل إنسان له مذهبه في الحياة، فلا تصدقهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤