مقدمة

في سنة ١٩٦٥م أصدرتُ كتاب «قِصَّة نفس»، الذي أردتُ به أن يكون ترجمة ذاتية من الباطن لا من الظَّاهر، بمعنى ألَّا تجيء تلك الترجمة سردًا للأحداث البارزة التي صنعت لي مجرى حياتي؛ لأن تلك الأحداث الخارجية وحْدَها إنْ هي في الحقيقة إلَّا سطحٌ يُخفِي وراءَه ما يُخفِي، وهي — بعد ذلك — أحداثٌ في مستطاع الباحث المتعقِّب — إذا أراد — أن يلتمسها في مَظانِّها ويرويها مُسلسَلةً في صورةٍ مترابِطةِ الأطراف، لكنني أردتُ لنفسي شيئًا آخَر حين كتبتُ «قصة نفس»، فرُبَّ حادثةٍ تبدو لأَعيُن الآخَرين تافهةً لا تستحِقُّ الوقوف عندها، فإذا هي عندي نقطةُ تحوُّلٍ في طريق الحياة بأَسْرها؛ لِمَا كان لها في نفسي من آثارٍ عميقة، فأين هو ذلك الباحث الخارجي الذي يستطيع أن يتعقَّب النتائجَ التي أحدثَتْها في حياتي كلمةٌ سمعتُها تُقال عني، وأنا في نحو الرابعة عشرة — فيما أذكر — تنصح أبي بأن يَكفَّ عن تعليمي بسبب قِصَرٍ في البصر، من شأنه حتمًا أن يَحُول بيني وبين وظائف الحكومة؛ أقول: أين هو ذلك الباحث الذي يستطيع إذا ما وجد في الوثائق ما يدلُّه على أن هذه الكلمة قد قِيلَتْ ذات يوم، فيستدلُّ منها أنها كانت هي إحدى نقاط التحوُّل الرئيسية في مجرى حياتي؛ إذ هي بدل أن تكون عندي عاملَ تثبيطٍ وإحباط، كانت حافزًا على مُضاعَفة القراءة لأُثِير الغيظَ في نفس قائلها، وما إنْ ضُوعِفَتِ القراءةُ منذ تلك اللحظة، حتى أصبحَتْ من حياتي بمثابة الرُّوح من الجسد، أو كادت! إنَّ مثل هذه الهزَّةِ الداخلية المؤثِّرة، كائنًا ما كان المُحدِث لها، لا يُدرِك حقيقةَ حجمِها إلَّا مَنْ يرى نفْسَه من الداخل.

إذن فقد أردتُ بكتاب «قِصَّة نفس» حين أنشأتُه، أن أصوِّر حياتي كما سارت بها عواملُ الباطن، وكان حتمًا أن ألجأ إلى الرمز؛ لأن ثَمةَ مِن حقائق الحياة الباطنية عند كل إنسانٍ ما لا قِبَل لأحدٍ بِردِّها، ومع ذلك فهي ممَّا لا يجوز الإفصاح عنه بحكم موازين المجتمع. وكان أول ما لحظتُه في نفسي حين بدأت العمل — وأظنه كذلك مما لا بدَّ أن يلحظه كلُّ إنسان في نفسه لو أمعَنَ النَّظر — هو أنني بمثابةِ عدةِ أشخاص في جلدٍ واحد، فهنالك مَن تجرفه العاطفة ولا يَقوى على إلجامها، ولكنْ هناك إلى جانبه مَنْ يُوجِّه إليه اللومَ ويحاول أن يَشكمه حتى يُقيِّد فيه الحركةَ التي تقذف به إلى الهاوية، على أن هذا الشد والجذب في داخل النفس، بين عاطفةٍ تشتعل وعقلٍ يُخمِد اشتعالَها، لا يمنع أن يَنعم الإنسانُ بلحظاتٍ هادئة تتصالح فيها العاطفة والعقل، فيسيران معًا في اتجاهٍ واحد.

وعلى هذا الإطار الثلاثي أقمتُ «قِصَّة نفس»، فلمَّا أنْ صدر الكِتاب وقرأتُه مطبوعًا؛ أحسستُ إحساسًا شديدًا بأَوجُهِ نقصٍ في بنائه؛ مما دعاني إلى التفكير في إعادة كتابته إذا هممتُ له بطبعة ثانية، لكني فوق ذلك أحسستُ بما هو أهم؛ وهو أن صورة نفسي كما قدَّمتُها إلى القرَّاء قد أسقطَتْ من حياتي جانبًا هو بغير شك أبرز جوانبها وأكثرها إيجابيةً، وأوفرها نفعًا للناس، إذا كان فيما أنجزتُه ما ينفع. وأعني بذلك الجانبِ الذي سقط من الحساب في «قصة نفس»، لا عن تقصير فيها، بل عمَّا تقتضيه طبيعةُ قصةٍ أرادت أن تغوصَ في باطن النَّفس؛ أقول: إن الجانب الذي أعنيه هو سيرة «العقل» في حياتي، فهو الذي كان أداة الدرس والتحصيل، وهو الذي طفق طوالَ سنواتِ النضج يتصيَّد «الأفكار» من عند الآخرين حينًا، وحينًا يعمل على توليدها في ذهني، وهو الذي تولَّى الكتابةَ فيما كتبتُه، حتى لو كان المكتوب أدبًا خالصًا، فلقد كان الأدب الذي أنتجتُه من النوع الذي يستبطن «أفكارًا» في أُطرٍ يُقِيمها لتَصلحَ حاملًا لها.

ومنذ أنْ أحسستُ بغياب الحياة العقلية من «قِصة نفس»، نشأتْ عندي الرغبةُ في أن أعقِّب على «قصة نفس» بتوءمٍ لها أسمِّيه «قِصَّة عقل»، ولبثَتْ تلك الرغبة حائرة، تَظهر لحظةً لتعود فتختفي، حتى أراد لي الله توفيقًا فأخرجتُها إلى دنيا الناس.

ولعل من أهم العوامل التي كانت تُضعِف عزيمتي دون تحقيق تلك الرغبة ما يقرب من عشرين عامًا؛ أن الشَّطْر الأعظم من الأفكار، التي هي أفكاري وليست مستعارة من أحد، جاء مُفرَّقًا في عددٍ ضخم من «المقالات»، فمن هذه الناحية يمكن اعتبار كل مقالةٍ منها كتابًا صغيرًا يحمل فكرةً محددة، لم يكن ينقصها إلا الإسهاب في عرضها لتكون كتابًا له حجمُ الكتب كما يَألَفها الناس، فإذا أردت أن أقدِّم صورة لإنتاجي العقلي، كان لا بد من جمع تلك الأفكار المُفرَّقة وتصنيفها تحت رءوسها التي تحتويها، فربما كنتُ أنا أَوضحُ رؤيةً لما أنتجتُه من غيري إذا أراد أن يضطلع بعملٍ كهذا، فقد كنتُ على يقين من أنني — خلال أربعين سنة على الأقل من (من ١٩٤٠ إلى ١٩٨٠م) — سرتُ على خطوط فكرية محددة واضحة، برغم ظهورها في أشكال مختلفة بين كتب ومقالات، ومن تصوير أدبي إلى كتابة تحليلية علمية. لكن الرءوسَ الفكرية واضحة؛ فأنا أدعو بكل قُوَّتي إلى أن نزيد من اهتمامنا «بالعلم»، حتى ولو جاء ذلك على حساب الجانب الوجداني، وأدعو إلى الأخذ بأسس الحضارة العصرية وما يتبعها من ثقافة، ثم أدعو إلى البحث عن صيغةٍ تَصُون لنا هُوِيتَنا دون أن يضيع منا العيش في عصرنا … هي خطوط واضحة أدرتُ عليها كلَّ ما بذلتُه من جهود.

لكنني كلما هممتُ بالكتابة في «قصة عقل»، ترددتُ في منهج السير كيف يكون؛ فقد فكرتُ مرةً في أن أجعل طريقَ السير على مراحل، كل مرحلة منها عشر سنوات، منذ بدأت نشاطي العقلي (١٩٣٠م) بصورة جادة وإلى الساعة التي هممتُ بالكتابة فيها؛ وذلك لأني — بالفعل — أجدُ لكل عَقدٍ من السنين في حياتي العقلية سمةً بارزة تُميِّزه من سواه؛ ففي العَقد الأول (١٩٣٠–١٩٤٠م) كنتُ أقتصر على عرضِ أفكارٍ أنقلها عن أصحابها في كتاب أو في مقالة؛ وفي العَقد الثاني (١٩٤٠–١٩٥٠م) ركَّزتُ طاقتي في نقد الحياة المصرية في مقالاتٍ رُوعِيَ في معظمها أن تلتزم «أدب المقالة»، ذلك فضلًا عن أن ذلك العَقد من السنين هو الذي قضيتُ جُزءَه الأوسط دارسًا في إنجلترا، ومحصِّلًا للدكتوراه من جامعة لندن، ومُبلوِرًا لنفسي وقفةً فلسفية لازمَتْني إلى اليوم؛ وفي العَقد الثالث (١٩٥٠–١٩٦٠م) اتجهتُ بمعظم جهدي نحو التأليف الجامعي، وهو تأليف دار كله على محور الوقفة الفلسفية التي انتهجتُها؛ وفي العَقد الرابع (١٩٦٠–١٩٧٠م) صببْتُ اهتمامي على طائفةٍ من الأفكار شاعت يومئذٍ في حياتنا الثقافية شيوعًا كان طابعه الغموض الشديد، فتناولتُها بالتحليل الذي يُبيِّن حقائقها؛ لتكون على وعي بمضمونها قبل أن نجعلها موضعَ قبول أو رفض؛ وأما العَقد الخامس (١٩٧٠–١٩٨٠م) فقد انصرفتُ خلاله إلى محاولات لم تهدأ للبحث عن نقاطٍ يلتقي فيها جوهرُ تراثنا بجوهرِ العصر الحاضر، لعلنا نجد الصيغةَ التي تجمع الطرفين في وعاء ثقافي واحد.

أقول إنِّي فكرتُ ذات يوم في أن أجعل هذا التقسيم التاريخي أساسًا للكتاب، لكنني عُدتُ فخشيتُ أن يَضيع عليَّ وعلى القارئ ما حرصتُ على ألَّا يَضيع، وهو إبراز «الأفكار» الأساسية التي صنعتُها بنفسي، أو اصطنعتُها لنفسي، ونسجتُ منها موقفًا عقليًّا متَّسقًا موحَّدًا، فلقد لحظتُ في مناسبات كثيرة أنه حتى أخصُّ الخاصة ليس على درايةٍ بأنني صدرتُ فيما كتبتُه عن «موقف»، بحيث ظنَّ أنني إنما كتبتُ ثم كتبتُ ثم كتبت، ولكنها كتاباتٌ جاءت كما اتفق كأنها ذراتُ الهباء لم تجتمع منها ذرة إلى ذرة عن قصدٍ وتدبير وغاية موحدة.

لهذا آثرتُ آخِر الأمر أن أسير على طريقٍ يحقق التسلسُلَ التاريخي إلى حدٍّ ما، ولكنه في الوقت نفسه يُبرِز أهمَّ الرءوس التي أَدرْتُ فكري على مِنوالها.

كان الفرق كبيرًا بين صورةِ حياتي كما رأيتها في «قصة نفس»، وصورةِ حياتي كما رأيتها وأنا أكتب «قصة عقل»: في الحالة الأولى رأيت نفسًا صنعها آخَرون فتلقيتها راضيًا بها أو مُرغَمًا عليها، وفي الحالة الثانية رأيت «عقلًا» صنع نفْسَه بنفْسِه، وهو راضٍ كل الرضا عما صنع، ويحمل تَبِعتَه أمام الله وأمام الناس، ومع ذلك فإنني لَشديد الرغبة في أن يقف التوءمان معًا جنبًا إلى جنب أمام القراء؛ ولهذا فقد صحَّتْ عزيمتي — بإذن الله — أن أدفع بقِصةِ نفس إلى الحياة من جديد، بعدَ شيء من المراجعة أتجنَّبُ به بعضَ ما لحظتُه من أوجه النقص في تكوينها الأدبي.

أسأل الله الهدى والتوفيق.

الجيزة، في ٨ يونيو ١٩٨٢م
زكي نجيب محمود

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤