الفصل العاشر

مصري يكتب عن مصر

١

في أوائل عام ١٩٥٦م تلقيت عرضًا من دار كبرى للنشر في الولايات المتحدة الأمريكية، يعرض عليَّ أن أكتب كتابًا متوسط الحجم عن مصر، يصور لقارئه أهم ما يتعلق بمصر في ماضيها وحاضرها، فما لبثت بعد ذلك يومًا واحدًا حتى انكببت انكبابًا في جمع المادة المطلوبة لأصوغها في كتاب. وأذكر أني إذ أخذت في الكتابة؛ شعرت شعور العاشق ينظم قصيدة يتغزل بها في الحبيبة، دون أن يسمح لعاطفته — على شدتها — أن تجرفه فينحرف عن الحقيقة الواقعة كما يقررها التاريخ وتقرها المشاهدة العلمية، وحسب تلك العاطفة أن تكون صادقة، فلا يضير الحقيقة الواقعة أن ينظر إليها الرائي بعين مفتونة بجمالها وجلالها معًا.

فرغت من كتابة الكتاب في نحو ستة أشهر، وجعلت عنوانه «أرض مصر وأهلها»، ورسمت به صورة مشرقة عن هذا البلد الخالد، ملتزمًا علمية الحقائق المعروضة ودقتها في كل كلمة أوردتها في سياق الحديث، ولكن ما حيلتي إذا كانت الحقائق — التي لا ينكرها إلا جاحد ظلوم — تشع الضياء الباهر كما تشعه شمس الضحى؟ وما حيلتي إذا كان المصري، إذا ما أنصفت في تصويره ظاهرًا وباطنًا، وجدته يحمل في سلوكه البادي حكمة الخبير، كما يكنُّ في عمقه الخافي خشية الله ونقاء الضمير؟

لقد وقع الغرب في مغالطة كبرى، وكان ذلك على أيدي مؤرخيه، عندما ابتكروا له قسمة التاريخ ثلاثة أقسام: قديم ووسيط وحديث، فظن أن هذه الأقسام متساوية الطول والوزن، ولما كان القسم الثالث هو ما يهم الغربي بصفة عامة رأيته إذا ما أرخ للإنسان لخص القديم في بضع صفحات، واكتفى من الوسيط بلمحات، ثم أفاض القول في الحديث، فإذا الصورة التي أمامه توهمه بأن الدنيا بأسرها إنما اجتمعت له في تاريخه الحديث، وأما القديم الذي امتد عشرات القرون وشهد أكثر من عشرين حضارة (في تقدير آرنولد توينبي) فلا يرى منه في صفحاته القلائل إلا طفلًا يحبو أو قزمًا وقف به النمو عند حد محدود.

فلكي أوقظ القارئ العادي لكتابي «أرض مصر وأهلها» من هذه الضلالة؛ صرخت في وجهه قائلًا ما معناه: عندما كان شيكسبير في إنجلترا يكتب مسرحياته شعرًا، لم تكن أمريكا قد وُلِدَت بعدُ، مع أن شيكسبير يعدُّونه في تاريخ الأدب شاعرًا من العصر «الحديث»، وعندما كان الشاعر الروماني «أوفيند» يكتب شعره لم تكن الدنيا قد عرفت بعدُ شيئًا اسمه «إنجلترا»، وعندما كان الشاعر اليوناني هوميروس يَنْظِم ملحمته الإلياذة، كانت الأمة الرومانية كلها ما زالت في جوف العدم، وأما حين كان هوميروس ذاك يَنْظِم ملحمته تلك، فقد كانت مصر قد أمضت من تاريخها نحو أربعين قرنًا تنشئ أدبًا وشعرًا وديانةً.

لقد رسم ليوناردو دافنشي على شفتي الجيوكوندا ابتسامة وقف عندها العالم كله — ولا يزال يقف عندها — فتونًا بسرها وسحرها وغموضها، وكان الفنان المصري القديم قد انقضى على عهده تلك العشرات من القرون بعد أن نقش على حجر الجرانيت مثل تلك الابتسامة العميقة الدلالة على شفاه مَنْ خلدهم بفنه، وإنها لابتسامة تراها على كل تمثال مصري قديم، فترى فيها شيئًا من السخرية الهادئة بمن تغره الدنيا بحوادثها العابرة فيفوته التعلق بالخلود. وهنا أسمح لنفسي بأن أستطرد في حديثي قائلًا: إنه قد حدث لي أثناء زيارتي لمتحف المتروبوليتان بنيويورك في ديسمبر من سنة ١٩٥٣م (ووصفت تلك الزيارة في كتاب «أيام في أمريكا»)، أن بدأت الزيارة بالقسم المصري، وكان لا بد لي أن أفعل بحكم مصريتي من جهة، وبحكم أنه أول الأقسام موقعًا من المتحف من جهة أخرى، وسرت خلال الغرف العشر المفتوح بعضها على بعض في تسلسل واحد بخطوات وئيدة ونظرات فاحصة تتأمل العظمة فيما هو معروض أمامها، وعند تمثال صغير من الحجر الأسود أطلت الوقوف، فهتف بي صوت من الخلف سائلًا: أيعجبك هذا التمثال؟ ونظرت خلفي لأجد سيدة أمريكية عرفتُ فيما بعدُ أنها فنانة وتقوم بتعليم الفن في معاهده، أجبت على سؤالها بكلمة واحدة: بالطبع. فعادت إلى الحديث قائلة: إنني لو رأيت هذا التمثال في كفة والفن المعاصر كله في كفة، وقيل لي اختاري إحدى الكفتين، لما ترددت لحظة في اختيار هذا التمثال الصغير، الذي اجتمعت فيه روعة الفن النحتي في أبهى صورها.

تلك هي مصر التي طُلب إلى كاتب مصري أن يصورها في كتاب متوسط الحجم، فلما أن فرغتُ في سبتمبر من ١٩٥٦م من إعداد الكتاب بما يُرضي عقل العالم وقلب الأديب وضمير الوطني المفتون بحب وطنه، وهممت بإرسال المخطوط إلى دار النشر في نيويورك، كانت المواصلات بيننا وبين أمريكا قد اضطربت نتيجة للعدوان الثلاثي على مصر إبَّان تلك الفترة، فأرسلت المخطوط مع صديق مسافر حتى لا يفوتني موعد التسليم كما اتفقنا عليه.

ومضت ثلاثة أشهر أو نحوها، ثم جاءني خطاب من الناشر يحمل اعتراضات على نقاط معينة مذكورة في الكتاب، كان أهمها ما هو متصل بالاحتلال البريطاني وبالمشكلة العربية الإسرائيلية، فأرسلت من فوري أطلب رد المخطوط وإلغاء الاتفاق، فأنا المؤلف وأنا المصري فلي في كتابي عن مصر الكلمة الأولى والكلمة الأخيرة، فما كان من دار النشر — بعد بضعة أشهر — إلا أن ترسل إليَّ بالموافقة على نشر الكتاب، وصدرت طبعته الأولى سنة ١٩٥٨م. ولست أعزو النجاح الذي لقيه لشخصي بقدر ما أعزوه لمصر ومجدها اللامع وشعبها العظيم، فليست المسألة تاريخًا طويلًا يُعَدُّ بآلاف السنين، وإلا لكانت القيمة كلها قيمة عددية، بل المهم في الحديث عن المصري وبلده وتاريخه هو الجوهر الأصيل الذي عبر عن نفسه بالدين والعلم والصناعة والفن، والسيادة بهذا كله على سائر الدنيا طيلة عشرات من القرون تلاحقت سطوعًا بعد سطوح كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها.

٢

نقرأ تاريخ الأقدمين الأولين، فنقرأ عن الأكَّاديين والآراميين والحيثيين والآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين … ذهبوا جميعًا وبقي المصريون كما كانوا مصريين من أول الدهر، فيما سجل التاريخ وقبل أن يسجل.

بقي المصريون من أول الدهر كما كانوا مصريين، يربطون الرباط الوثيق بين الأرض والسماء، بين الحياة وما بعد الحياة، ورفعوا لذلك رمزًا ناطقًا في مسلاتهم وأبراجهم ومآذنهم؛ مسلات الهياكل وأبراج الكنائس ومآذن المساجد، وارتفعت كلها لتشير إلى السماء، وكأنها أصابع السبابة من الأيدي بُسِطَت لتشهد أن لا إله إلا رب العالمين. وهل كانت مصادفة شاردة من مصادفات التاريخ أنْ قويت المسيحية في كنف الإسكندرية قبل أن تعبر البحر إلى أوروبا، وأن اجتمع تراث الإسلام في حمى القاهرة بين جدران الأزهر الشريف؟ إنها مصر، بلد العقيدة الدينية نشأةً ورعايةً (راجع مقالة «المصريون وسر خلودهم» في كتابي «هذا العصر وثقافته»).

… إنَّ روح التَّدين التي تغلغلت في أعماق هذه الأمة منذ أقدم القدم، قد نتج عنها نتيجة أعانتها على الخلود، وهي جمع الإنسان الواحد بين أن يكون فردًا وأن يكون في الوقت نفسه مواطنًا؛ وذلك لأن هاتين الصفتين قد تجتمعان معًا في شخص واحد وقد لا تجتمعان؛ لأن الإنسان الواحد قد يغوص إلى أذنيه في فرديته، وكأنه في هذه الدنيا وحيدًا لا يجاوره أحد سواه، وكذلك قد تجد الإنسان الواحد يغوص إلى أذنيه في خدمة الآخرين؛ لينسى أنه بدوره فرد يجب أن يعيش … ولقد اجتمع الجانبان معًا في المصري؛ لأنه يحمل في قلبه عقيدة دينية، فهو بحكم عقيدته الدينية مسئول عما يفعل مسئولية فردية، وبحكم هذه العقيدة نفسها أيضًا هو مطالَب بألا يعيش بمعزل عن الناس، بدليل قيام الشعائر التي تحتم أن يجتمع العابدون في مكان واحد وهم جماعة، ومن روح التدين العميقة العريقة عند المصري تعلَّم أن يجمع الجانبين في صدره بغير عناء؛ فهو يشعر بأنه فرد مسئول، وهو في الوقت نفسه يشعر أنه ملتزم بأمته … (راجع «المصريون وسر خلودهم» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

خذ ما شئت مما تراه في حياتنا ولا ترى مثله في حياة الآخرين؛ تجد فكرة الدوام — أي فكرة الخلود — الذي يعلو على اللحظة العابرة، تجدها كامنة فيه قريبة إلى الظهور أحيانًا عميقة الخفاء أحيانًا؛ فالدوام هو معيارنا في التغير الذي نقبله أو التغير الذي لا نقبله، فما جاء على أُطر حياتنا العميقة إضافة تفيد ولا تضر قَبِلْناه، وأما ما جاء ليهدم لنا الأطر الأساسية ذاتها فهو مرفوض.

وعندنا أن حرية المفكر وحرية الفنان وحرية الإنسان بصفة عامة مشروطة بالتزام الثوابت التي تدوم (راجع «ثقافة المصري وجذورها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

ولكي أدلل على صواب هذا الرأي؛ طالبت نفسي بأمثلة تفصيلية من ثقافتنا تقوم برهانًا أو بيانًا يوضح ما أجملتُه في الأسطر القليلة السابقة. إن ثقافة الشعب المعين إنما تتجسد في معالم معينة؛ فاخترت مجموعة من تلك المعالم، راعيت فيها أن تكون منوعة في طبيعتها، متفاوتة في أزمانها من تاريخنا، اخترتُ القرية المصرية في طريقة تكوينها: أبو الهول، الأزهر، أم كلثوم، أحمد شوقي، مولد السيد البدوي، خان الخليلي … وهو اختيار شبه عشوائي كما ترى، وتناولت هذه الأمثلة بشيء من التحليل، لعلِّي أجد الأساس الواحد الذي تلتقي كلها عليه، فيكون ذلك الأساس هو قُطْب الرَّحَى من الثقافة المصرية:

ولنبدأ حديثنا بالقرية المصرية وطريقة تكوينها، فأوَّل ما يلفت النظر من ذلك هو تكتلها وتلاصق مبانيها، حتى لتبدو للقادم من بعيد كأنها كومة واحدة، تنبثق من رأسها مئذنة، أغلب طرقها مغلق من أحد الطرفين، وهي طرق تتعرج مع المباني فلا يُراد لها أن تستقيم؛ لأن القرية في حقيقتها الاجتماعية أسرة واحدة، تجد الدفء في الجوار، وتجد الطمأنينة في أن يتعانق الكل في جسم واحد، فلا بأس في أن تضيق الطرق وفي أن تنحني ليقترب أعضاء الأسرة بعضهم من بعض. إن مثل هذه القرية لا تقبل الغريب إلا إذا انخرط في كيانها، إنها ترفض أن يدخلها دخيل يغير لها ركنًا أساسيًّا من قواعد حياتها فيعكر عليها تلك الحياة وصفوها؛ فدوام بقائها هو معيارها، وكل تغير مقبول إذا جاء في إطار ذلك الإطار الدائم.

وأبو الهول — كسائر الآثار المصرية — يبني العقل على أساس الفطرة ليكسب الدوام، إنه رأس إنسان بما يتضمنه من بصيرة واعية، لكنه رأس رُكِّبَ على حقيقة فطرية ليكون لاصقًا بالطبيعة، وأعني بها جسم الأسد، فها هنا كذلك جاء الرمز دالًّا على التمسك بالأساس الفطري الثابت، حتى ولو كان التغير الطارئ هو عقل بإدراكه الواعي.

والأزهر تتلخص رسالته الحضارية الكبرى في أنه هو الذي جمع أشتات التراث العربي عندما تعرض ذلك التراث للبعثرة والفناء على أيدي التتار، ولولا هذا الجمع الذي اضطلع به الأزهر لما كان بين أيدينا اليوم ما يُسمَّى بالتُّراث العربي، ومرة أخرى نجد «الدوام» ومقاومة التفتت والفناء هدفًا رئيسيًّا تنتظم خطوات السير على هداه.

وأم كلثوم التي ترسل الغناء وكأنها تقيم عمارة على عمد مَكِينة ثابتة، إنها لتسلك أرق العواطف في جو من الوقار المهيب، لا تكاد تفرق فيه بين قصيدة في مدح النبي عليه السلام ونشيد وطني وقطعة غزلية مما يتبادله العاشقون، كل ذلك في إطار الفن الغنائي عندها، يتخذ الصورة التي تضمن له «الدوام». وشيء كهذا يقال في شعر أحمد شوقي، إنه يقول الشعر — كائنًا ما كان الموضوع — وكأنه يخاطب به الزمن غير المتقيد بأفراد من البشر يجيئون ويذهبون، والحقيقة هي أن هذه الخاصية تبدو لي مميزة للشعر العربي كله.

ومولد السيد البدوي — كأي مولد آخر يُقام في مصر مع اختلاف الحجم — يعطيك إحساسًا عجيبًا بالحياة المصرية بشتى عناصرها، إنها ليست تعبدًا كلها، ولا هي مرح كلها، ولا هي تجارة كلها، إنها كل ذلك في مزيج واحد، تحمل في طيِّها من الرمز مثل ما تحمل من الواقع، إن حلقة الذكر الصوفي قد تنعقد بجوار حلقة الرقص الشعبي، والحلقتان معًا على مقربة لصيقة من بائع الحمص والحلوى وحب العزيز … حياة لها عُرفها الذي يتكرر عامًا بعد عام، لم توضع لها القواعد والقوانين، ولكنها تجري في انبثاقها الفطري، كما جرت في أعوام مضت، وكما ستجري في أعوام تتلو.

وماذا عن خان الخليلي؟ إنه في مجمله رواسب عصور تأبى أن تزول، تدخل عليها عوامل العصر الجديد، كما تلبس الحسناء سوارًا حول معصمها، فهو حلية مضافة، لكنه ليس هي، وهذا هو ما يشد السائحين الأجانب إليه، إنهم لا يذهبون إلى شارع قصر النيل وشارع طلعت حرب؛ لأنهم لو فعلوا كانوا ما يزالون في بلدهم وفي عصرهم وضاعت عليهم تكاليف السفر، لكنهم يذهبون إلى خان الخليلي؛ لأن الماضي يزاحم الحاضر ويزحمه، والمعنى نفسه قائم في كل قطعة مصنوعة هناك، ففي كل قطعة معروضة تلمح التكامل البشري الذي لم يمزقه تعدد الاختصاص، كما هي الحال في الصناعة الآلية الجديدة، ففي مصنوعات الخان تمتزج الصناعة بالفن، ويمتزج المصنوع بالصانع (من «ثقافة المصري وجذورها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

٣

… لَكَمْ سأل منا كاتب: مَنْ نحن؟ ما حقيقتنا؟ وأين نكون؟ لَكَمْ قال منا قائل: إننا في هذه المرحلة المرتجة من تاريخ العالم، نريد البحث عن هويتنا حتى لا تذوب وتنمحي في هويات الآخرين … هكذا طرحت السؤال على نفسي، وحاولت الجواب بالبحث عما يميزنا من خصائص وسمات، فكان لي ما يأتي:

إننا أمة تتحقق وحدتها بفعلٍ موحد مشترك، فلقد قالها الإمام ابن تيمية منذ زمن بعيد، حين قال: إن فكرة «الأمة» لا تتحقق لمجموعة من الناس إلا إذا اشتركوا في «فعل» واحد. إن فكرة «الأمة» لا تتحقق — عند ابن تيمية — لمجرد أن يعيش أفراد المجموعة على رقعة جغرافية واحدة، ولا لأنهم يشتركون في تاريخ واحد، ولا لأنهم يتكلمون لغة واحدة، بل تتحقق فكرة «الأمة» في حالة واحدة وبشرط واحد، هو أن تلتقي فاعلياتهم في «فعل» واحد، يستهدف هدفًا واحدًا؛ وذلك لأنه بالفعل المشترك يجاوز كل فرد حدود نفسه لينفتح على الآخرين الذين يشاركونه في أداء ذلك الفعل. إن التجاوز المكاني وحده لا يكفي في إيجاد الرابطة الحيوية العضوية التي تجعل من الأمة أمة واحدة …

ومن أبرز سماتنا — نحن المصريين — هذا الرابط الأسري الذي يجعل العلاقة بين أفرادنا تجاوز حدود المصلحة إلى ما هو أهم من ذلك وأعمق، وهي علاقة قد تَخفَى على الرائي في فترات الحياة العادية، لكنها تشتد ظهورًا في لحظات التأزم …

سمة أخرى تتميز بها أكثر مما تتميز بها أمة أخرى، وتلك هي الحاسة المرهفة التي تميز بها بين ما يستحق الاهتمام الجاد وما لا يستحقه، إننا أمة قطعت على طريق الزمن أكثر من ستة آلاف عام، وحملت على كتفيها أربع حضارات متعاقبة، وهي الآن تدخل الخامسة، ومُحال أن يكون وراءها هذا الرصيد الضخم من خبرات متراكمة دون أن يترك على وجهة نظرها أثرًا باقيًا، يشبه ما تتركه الأعوام في حياة الفرد الواحد، فعلى خلاف الحديث الغر، ترى مَن أثقلته السنون بخبراتها بطيء الانفعال أمام الحوادث، فلا يستثيره منها إلا ما يمس صميم الحياة … وهذه هي صورة المصري. إنني كثيرًا ما أتفرس ملامح الفلاح المصري وهو ما يزال في نقاء الريف، خصوصًا مَنْ تقدمت به السن، فأجد على وجهه وفي نظرات عينيه تلك الرصانة الرزينة والحكمة الهادئة — مع صمت لا يلغو ولا يثرثر — التي يراها الرائي في تماثيل الفن المصري القديم … والمصري — بل العربي بصفة عامة — متفائل بطبعه، فهو مهما ضاقت عليه الدوائر آمن بكل كيانه أن بعد العسر يسرًا. ولا يجيء تفاؤله هذا عن سطحية النظر، بل هو تفاؤل صاحب النظرة العميقة التي تعلم أن في الكون تدبيرًا يكفل أن يعتدل الميزان، فلا يكون نقص هنا ولا إجحاف هناك إلا ابتغاء تكامل أسمى، لا يترك مثقال ذرة من الخير أو من الشر إلا أن يعقب عليه بما يوازنه … (من مقالة «هذه بعض سماتنا» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

مَنْ ذا الذي لا يحس الشعور الديني العميق الذي يملأ النفوس ويعمر القلوب في أبناء مصر؟ ذلك الشعور الديني — في عمومه وبغير تخصيص عقيدة بعينها — الذي يجعل الإنسان يجاوز الشهادة إلى الغيب، ويجاوز اللحظة العابرة الحاضرة إلى حياة الخلود، ويجاوز حدود الأشياء إلى ما يمكن أن ترمز إليه تلك الأشياء. أقول: إن ذلك الشعور الديني العام مميز ثابت لنا مهما يطرأ على تياره الدائم من متغيرات الشعائر في مراحل التاريخ ومتعاقب الديانات؛ ذلك إذن أحد الأصول الثابتة في نظرتنا إلى الكون وإلى الحياة، وأما ما «ينبع» من تلك الطبيعة فينا فأمور كثيرة، من أهمها في حياتنا العصرية الحاضرة: التسوية بين الناس على اختلاف أعمالهم؛ لأنه إذا خُيِّلَ إلينا أن الأفراد يتفاوتون في اللحظة العابرة، فهم بالنسبة إلى الأبدية سواء، على غرار ما نقوله إذ نقول: إن جميع الأشياء على وجه الأرض يتساوى بُعْدُها عن الشمس.

ولهذه النقطة نفسها وجه آخر «ينبع» مباشرة من نظرتنا الدينية العميقة التي ذكرناها، وهي أن القيمة العليا التي يقاس بها الناس ارتفاعًا وانخفاضًا ليست هي النجاح المادي في الحياة العملية؛ فهذا النجاح الذي يقاس بالمال والمنصب إنما ابتكرته شعوب أخرى حديثة العهد في تاريخها، لكننا — حتى وإن تظاهرنا بقبوله — لا نحس أنه يضرب بجذوره في أعماقنا. إن الواحد منا يعمل العمل ثم يأخذ أجره المالي وهو في حالة من الخجل لا يستطيع إخفاءها، وكثيرًا ما نسمع المتحدث منا يقول في سياق حديثه: إن ما يهمني ليس هو المال، وإنما المهم هو كذا وكذا. والخلاصة هي أن الإنسان في نظرتنا إنسان بإنسانيته الطيبة الورعة المستقيمة أكثر منه إنسانًا بما يملكه أو لا يملكه (راجع مقالة «طبيعتنا وما ينبع منها» في كتاب «هذا العصر وثقافته»).

٤

لبثت على ضلال فيما يختص بالعلاقة بين مصر والوطن العربي إلى سنة ١٩٥٦م، فلقد كنت قبل هذا التاريخ معتقدًا بأن مصر وحدة قائمة برأسها من الناحية الحضارية، ولا يجوز لنا أن ندمج أنفسنا في قومية عربية تأخذ منا ولا تعطينا. ومن طريف ما أذكره في هذا الصدد أنني عندما زرت متحف المتروبوليتان بنيويورك، ووجدت الجناح المصري ممتدًّا على عشر غرف متلاصقة، ويسطع ضياؤه كأنه هو الجوهرة النفيسة على تاج الماضي كله في تاريخ الإنسان، عدت إلى غرفتي بالفندق مسرعًا لأكتب يوميتي التي كنت أتابعها يومًا بعد يوم (ونُشرت بعد ذلك سنة ١٩٥٥م في كتاب «أيام في أمريكا») فكتبت يومئذٍ ما عبرت به عن خوالج نفسي إزاء آبائنا القدماء، وزلَّ قلمي وانحرف عن حدود اللياقة عندما تساءلت في دهشة الذاهل: كيف يمكن أن يكون هذا هو مجد مصر، ثم نجد فينا من يدعونا إلى «عروبة» تكاد لا تملك في يديها ما تقدمه إلى العالم، وإلا فأين معروضها في متاحف الدنيا؟ … فلما أن نفدت الطبعة الأولى من ذلك الكتاب في عام أو بعض العام، ولم أكن أنوي إعادة طبعه؛ وجدتني قد غيرت رأيي في هذا الموضوع الحيوي، فكأنما أراد لي الله هداية بعد ضلال، فرأيت الحقيقة أنصع من ضوء النهار المشرق بشمسه الساطعة؛ وهي عروبة مصر، واشتد إيماني بأن عزة مصر لا تكتمل إلا وهي — برغم مصريتها المتميزة بماضيها وحاضرها معًا — جزء من وطن عربي كبير؛ فأعدت طبع «أيام في أمريكا» لأمور كان أبرزها عندي وأهمها أن أحذف ما ورد في تلك اليومية مما اجترأت به على الحق، والحق أحق أن يتبع؛ فذلك خير ألف مرة من أن يمضي الضالُّ في ضلاله. وكان ذلك في سيرتي العقلية فاتحة خير وبركة؛ لأنه دفعني بقوة إلى التزود من الثقافة العربية كما هي واردة في تراثها، وكان ما كان من وقفات فكرية سجلتها خلال السبعينيات في عدة كتب، بدأتها بكتاب «تجديد الفكر العربي».

وكان من الأسئلة الفرعية التي طرحتها على نفسي وبحثت لها عن جواب سؤال عن الصورة التي اقترحت بها الرؤية المصرية الخالصة والرؤية العربية العامة، فماذا حدث بعد الفتح العربي؟ وكيف حدث؟ لتخرج مصر بما خرجت به آخر الأمر من وجهة نظر اختلطت فيها — بغير شك — قيم الصحراء وحياتها بقيم الوادي الأخضر وحضارته على مدى التاريخ؟

ولقد أعانني على الجواب عن هذا السؤال تلك اللفتة البارعة التي وجدتُها عند ابن خلدون، حين تناول فكرة الصراع بين «البداوة» و«الحضارة» بالمعنى الخاص الذي قصد إليه ابن خلدون بهاتين الكلمتين، فنظرة خاطفة إلى خريطة الوطن العربي الكبير تكفينا لندرك الصورة في إجمالها، وهي أن ذلك الوطن قوامه الصحراء التي هي أوسع الصحراوات اتساعًا على وجه الأرض، تطرِّز حوافيها مراكز عريقة في الحضارة، تمتد مع شواطئ البحر الأبيض المتوسط، وتعبر بلاد الشام إلى العراق، لتعود فتمتد على شواطئ الخليج العربي والبحر الأحمر، فكأنك إذ تنظر إلى خريطة الوطن العربي فإنما تنظر إلى رقعة فسيحة من النسيج الأصفر توشي أطرافها — دائرًا ما تدور — زخارف الألوان.

وهنا تأتي الملاحظة البارعة النافذة التي ذكرها ابن خلدون، وهي أن الصراع ما انفك قائمًا بين ثقافة الوسط وثقافة الأطراف، والثقافة الأولى هي ما أسماه «بالبداوة» والثقافة الثانية هي ما أسماه «بالحضارة»؛ أي إن الأمر بينهما لم يكن أمر تخلُّف هناك وتقدم هنا، بمعنى أن تكون البداوة مرحلة تجيء سابقة على طريق التطور، ثم تأتي بعدها مرحلة الحضارة، بل الأمر بينهما هو أمر ثقافتين متجاورتين، لكل منهما خصائصه التي يتميز بها. ولما كانتا متجاورتين على النحو الذي ذكرناه فقد شهدتا تفاعلًا هو الذي حدد مسار التاريخ في هذه الرقعة الفسيحة من الأرض، ولكنه تفاعل فيه طغيان البداوة على الحضارة أحيانًا، فتهجم الثقافة الأولى على ظهور جيادها وفي ظلال سيوفها؛ لتغزو الثقافة الثانية في حصونها وقلاعها.

وأبرز العناصر في المركب الثقافي الذي نعنيه بكلمة «البداوة»: العصبية للقبيلة أو للعشيرة، والركون في تأمين المستقبل ضد مفاجآت الحوادث، هي «المروءة» التي هي مزيج من الكرم والشهامة في نجدة المحتاج. ويقابل هذه الخصائص في المركب الثقافي الآخر — الذي نطلق عليه اسم «الحضارة» في سياق حديثنا هذا — الانخراط في بناء الدولة، والانصياع عن طواعيةٍ للقوانين التي تسنُّها تلك الدولة لتنتظم شئون الحياة، وأما تأمين المستقبل فوسيلته في هذه الثقافة الحضارية هي ادخار المال الفائض، ادخارًا يُبقيه كما هو، أو يستثمره في إنتاج جديد.

والآن فلننظر إلى مصر، فما الذي حدث لها في كيانها الثقافي خلال هذا الصراع بين بداوة الوسط وحضارة الأطراف؟ لقد كانت مصر على امتداد تاريخها الطويل مركزًا هامًّا من تلك المراكز الحضارية، التي قال عنها ابن خلدون: إنها ما فتئت مهددة بهجمات البداوة تأتيها من خارج حدودها، وإذن فلا بد أن تكون قيمها الأساسية قد ارتجت آنًا بعد آنٍ، حتى تداخلت فيها عناصر البداوة مع عناصر الحضارة، في مزيج قد يتعذر فيه أن نردَّ كل عنصر إلى أصله إلا بعد تحليل هادئ ودقيق.

وربما كان من أوضح المعالم التي تستوقف النظر عند التحليل أن ثمة ينبوعًا مشتركًا بين ثقافة البداوة الوافدة إلينا من الصحراء، وثقافة الريف الزراعي كما انتهى أمرها تحت سيطرة الطغاة الذين استبدُّوا بالحكم في مصر قرونًا طويلة، وهذا الينبوع المشترك هو فقدان الأمان في كلتا الحالتين، لأسباب تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى؛ فنتج عن الشعور بقلة الأمان مجموعةٌ من القيم في بداوة الصحراء، ومجموعة أخرى من القيم في حضارة الريف الزراعي، فلما غزت ثقافة البداوة بمجموعة قيمها، ثقافة مصر بمجموعة قيمها؛ حدث مركب خليط هو الذي نحياه اليوم (مأخوذ من مقالة «بداوة وحضارة» في كتاب «هذا العصر وثقافته» فارجع إليه لمعرفة تفصيلات التحليل الذي أوردتُه عن ثقافة المصري).

على أن عروبة المصري لا تنفي عنه مصريته بكل ما يميزها عن سائر أجزاء الوطن العربي، كالفرد في الأسرة الواحدة تكون له خصائصه الفردية كما تكون له سمات الأسرة في وقت واحد، فمهما يكن بين أبناء الأمة العربية من ضروب التباين من حيث العِرق أو الأصول التاريخية أو غير ذلك، فبينهم وحدة «ثقافية» فيها من السعة والعمق ما يكفل لها القوة والدوام، وإذا نحن أنكرنا القومية الثقافية فلن نستطيع أن نعلل الوحدة القومية لشعوب كثيرة كالولايات المتحدة الأمريكية — مثلًا — وغيرها.

فما هي أبرز الخصائص الثقافية التي تجعل العربي عربيًّا، سواء كان قبل عروبته مصريًّا أم سودانيًّا أم عراقيًّا؟ أول خصائص العروبة لغتها، على أنه لا يكفيني في هذا الجانب أن تكون لغةُ الكلامِ والكتابةِ عربية؛ فالأوروبي الدارس للغة العربية قد يتكلمها ويكتبها، ومع ذلك لا نُدرجه في العروبة ابنًا من أبنائها، وإنما المهم هنا هو اللفتات العقلية أو الإدراكية العميقة التي تكمن في كيان العربي، فتميل به إلى اكتساب الصفات المتمثلة في اللغة العربية؛ فالأجنبي الذي درس اللغة العربية إنما يتكلمها ويكتبها من السطح — إذا جاز هذا القول — وأما العربي فهو يتكلمها أو يكتبها من الجذور.

وأعني بالجذور تلك الصور الدفينة التي توشك أن تكون جزءًا من فطرة الإنسان التي منها تنبثق اللغة المعينة، فمن خصائص اللغة العربية — مثلًا — أنك إذا عرفت الأصل الثلاثي عرفت كيف تفجِّر منه شجرة المشتقات على كثرة فروعها، فإذا عرفت كلمة «كتب» فجَّرتها بعد ذلك فأخرجت منها: كاتب، كتابة، مكتوب إلخ إلخ، فهي على غرار القبيلة أو العشيرة العربية يتعدد أفرادها، لكن هؤلاء الأفراد جميعًا ينتمون إلى رأس واحد.

فإذا قلنا: إن اللغة العربية هي أول خصائص العروبة، فإنما نقصد بذلك إلى ما هو أعمق من مجرد عملية التفاهم بلغة معينة، وهو أن خصائص اللغة تكون هي نفسها خصائص أصحابها، ومعنى ذلك أن أبناء العروبة على امتداد الوطن العربي الكبير قد جاءوا في طرائق النظر على غرار ما تتميز به لغتهم من صفات.

وثانية الخصائص الإدراكية التي تتألف منها عروبة العربي هي ميله إلى القفز السريع من الأفراد الجزئية إلى تجريدها وتعميمها في أنواع وأجناس، فهو لا يهمُّه «هذا» الطائر المفرد المعين الواقف هناك على ذلك الفرع من تلك الشجرة، بل يكفيه أن يعرف الطائر في عمومه من حيث هو نوع بأسره من الأحياء؛ انظر إلى رسوم الطير والحيوان والنبات في الفن العربي كما تراها — مثلًا — في سجادة أو فوق آنية فخارية؛ تجد الفنان العربي يتعمد إهمال التفصيلات، كما هي الحال اليوم في الفن التجريدي المعاصر، فكأنما هو يرسم تخطيطًا لطائر ولا يرسم طائرًا، أو يخطط لغزالة ولا يرسم غزالة، وهكذا، لماذا؟ لأنه في صميم تكوينه العقلي لا يعبأ كثيرًا بالأفراد أو المفردات، وإنما يريد «الخلاصة» العامة المجردة؛ ليسهل حملها معه وهو مسافر في الفلاة على ظهور الإبل، شأنه في ذلك كشأنه تجاه اللغة، فهو يحرص على الأصل الثلاثي ليحمله معه أينما سار، وأما ما يتفجر من ذلك الينبوع اللغوي فيتركه إلى حين الحاجة إليه …

(مأخوذ من مقالة «العروبة ثقافة لا سياسة» في كتاب «هموم المثقفين»، راجع المقالة للمزيد من جوانب الثقافة العربية التي تتألف منها الذات العربية.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤