هل كانت تُهمة صحيحة؟

تقدم الأصدقاء من سور الحديقة الكبير الذي اختفى تحت غطاء سميك من نبات الياسمين، ووجدوا الجرس مُختفيًا تحت أوراق النبات … وتقدم «محب» ودق الجرس … وسرعان ما ظهر وجه بواب عجوز طيب، ابتسم لهم، فقال «محب»: نريد مقابلة «ليلى».

مدَّ البواب يدَه ففتح الباب قائلًا: تفضَّلوا!

مرَّ المغامرون الخمسة وخلفهم «زنجر» من الباب الكبير … ووجدوا أنفسهم في حديقة واسعة لا مثيل لجمالها وروعتها … وتذكَّرَت «لوزة» على الفور لغز الموسيقار الصغير «عصام»، لقد كان يسكن في فيلا مُماثلة، ولكن هذه الحديقة أكبر … كانت المسافة بين باب الحديقة وباب الفيلا تزيد عن الخمسين مترًا … ومن هذه المسافة البعيدة شاهَدَ المغامرون الخمسة فتاةً رقيقة كالفراشة تظهر على سلَّم الفيلا الرخامي وهي تلبَس ثوبًا أبيض اللون، وعندما شاهدَتْهم الفتاة نزَلَت السلَّم مُسرعة ثم أقبلت تمشي بخفَّة على العُشب الأخضر وتقدَّموا هم وتقدمت هي حتى التقوا في منتصف الطريق. ولاحظ المغامرون على الفور أن وجهها شديد الشحوب، وأن ابتسامتها الرقيقة لم تُخفِ آثار حزن واضح في وَجهِها الشاحب.

رحَّبَت بهم قائلة: مرحبًا بكم، وشكرًا على حضوركم … أنا «ليلى»!

قالت «نوسة» وهي أقرب المغامرين سنًّا إليها: إننا سُعَداء أن نراكِ، وأُقدِّم لكِ أصدقائي «توفيق» … «محب» … «عاطف» … «لوزة».

وتقدم كل منهم وسلم على الفتاة الصغيرة، وقالت «ليلى»: هل تُحبُّون أن نجلس في الحديقة؟

ردَّت «نوسة»: في الواقع إنها حديقة رائعة!

ومشت «ليلى» بينهم … واتجهوا إلى خميلة جميلة أحاطت بها الورود وتعلَّقت بدوائرها الخشبية النباتات المتسلِّقة، ودعتهم في وداعة للجلوس، وجلسَت بينهم، وكرَّرت شُكرها على حضورهم.

وقال «تختخ»: لقد وصلتنا رسالتك، ونحن على استعداد للمساهمة في البحث عن «فريد» … وإن كنت أُحب قبل أن نبدأ أن أقول لكِ إن المهمة ليسَت سهلة؛ لأن وقت غيابه طويل … كما قلتِ ثلاثة أشهر تقريبًا!

قالت «ليلى»: أعرف ذلك، ولكن أملي فيكم كبير جدًّا، وبعد أن تَشربوا شيئًا سأبدأ الحديث.

قالت «لوزة»: نُفضل أن تَبدئي فورًا … إن كلَّ دقيقة لها قيمتها!

ابتسم «عاطف» وكاد يُدلي بتعليقٍ ساخرٍ على هذا التسرُّع من «لوزة»، ولكن وجه ليلى الحزين أوقفه، فقد كان يُحسُّ مدى ألمها وحزنها على شقيقها الغائب.

ردت «ليلى» قائلة: كما ترون … سأتحدث فورًا … فإنني أشدُّ تلهفًا منكم على معرفة مكانه!

رفع «تختخ» يده قائلًا: قبل أن تقولي شيئًا أحب أن أوضح لك أننا نُريد أن نعرف كل شيء عن «فريد» قبل اختفائه … كل ما يتعلق به، في المدرسة، في البيت، علاقته بزملائه وبكِ أنتِ، وبوالديه، وبالخدم … كل شيء!

ليلى: سأقول لكم ما أذكره … ويُمكنكم أن تسألوني عن مزيد من التفاصيل!

تختخ: معقول … معقول جدًّا!

ركزت «ليلى» انتباهها لحظات ثم قالت: «فريد» هو شقيقي الأصغر، أنا في الرابعة عشرة وهو في الثالثة عشرة!

مُحب: هل لكِ أشقاء آخرون؟

ليلى: كان لنا شقيق أكبر تُوفِّيَ في حادث منذ خمسة أعوام!

سكت الأصدقاء … فمضت «ليلى» تقول: كان «فريد» تلميذًا ممتازًا، وشقيقًا مُحبًّا لطيفًا، ربما كان عيبه الوحيد أنه كان شديد الحساسية، فكان يَغضب لأيِّ نقدٍ يُوجَّه إليه، وكان يحب الرحلات الخلوية، ويُجيد الصيد بالبندقية والسنارة … والمشي، وهي رياضات كما ترَون انفرادية وليست جماعية؛ فقد كان يميل للوحدة، ولكن والدي ضغط عليه لينضمَّ إلى أحد الأندية، وفعلًا انضمَّ وأنا معه إلى أحد النوادي، وبعد ضغط آخر انضمَّ إلى فريق كرة السلة في النادي.

وكفت «ليلى» عن الكلام، فقد قدم أحد الشغالين صينية عليها أكواب عصير الليمون المثلَّج، وفي الواقع أن «تختخ» كان عطشان، فشرب كوبه دفعة واحدة، وسعد عندما سمع «ليلى» الذكية تقول: لعل «توفيق» يحب أن يتناول كوبًا آخر!

ثم قدمت كوبها له قائلة: سيُحضِر عم «عبده» كوبًا آخر لي.

وحاول «تختخ» أن يعترض، وبخاصة عندما لمح طيف ابتسامة تُلوح على شفاه المغامرين، ولكن «ليلى» ألحت عليه … فتناول الكوب الثانية، وهو يغضُّ من بصره حتى لا يلتقي بعيون المغامرين.

ومضت «ليلى» تقول: وربما كان انضمامنا للنادي هو سبب كل ما حدث.

وبدأ اهتمام الأصدقاء يتزايد، وأكملت «ليلى» قصتها: ففي ذات يوم ذهب «فريد» متأخرًا إلى النادي للتمرين، ودخل غرفة الملابس حيث خلَع ثيابه، ثم انضم إلى بقية زملائه — وبعضهم من مدرسته — حيث أدى التمرين، ثم عاد اللاعبون جميعًا إلى صالة خلع الملابس.

صمتت «ليلى» لحظات ثم قالت: وبدأت الكارثة!

وثبت المغامرون أنظارهم على «ليلى» فقد بدأت قصة الاختفاء، وقالت «ليلى»: عندما لبس اللاعبون ثيابهم صاح أحدهم إنَّ ساعته ونقوده قد سُرقت، وقرَّر المدرب أن يُفتِّش جميع من كانوا في صالة اللبس، وللأسف والعجب معًا، فقد وجدوا الساعة والنقود في جيب «فريد»!

وسكتَت «ليلى» وأدارت بصرها في وجوه المغامرين الخمسة لترى أثر هذا الحادث على وجوههم، ثم مضت تقول: وأكَّد «فريد» أنه بريء … وأنه لم يأخذ الساعة ولا النقود، وأنها مُفاجأة قاسية له أن وجدوها في جيبه … وقال المدرب إنه يصدقه، ولكن الذي حدث أن حكاية السرقة انتشرت في النادي … ثم انتشرت في المدرسة أيضًا … وبدأ «فريد» — وهو كما قلت لكم شديد الحساسية — يلاحظ أن نظرات بعض الأصدقاء والزملاء إليه تغيَّرت … بل إن بعض زملائه يتهامسون بينهم بأنه «لص».

وساد الصمت لحظات، ثم تنهَّدت «ليلى» قائلة: وذات صباح خرج «فريد» بدراجته «الرالي» الزرقاء إلى المدرسة … ولم يَعُد … وظننَّا في البداية أنه قد وقع ضحية حادث في الطريق، وقام والدي بالاتصال بالشرطة، وبحثُوا في كل المُستشفيات دون أن يجدُوا له أثرًا … ومضى يومان دون أن يظهر «فريد»، وبدأنا نشكُّ أنه خُطف طلبًا للفدية، فوالدي على جانب لا بأس به من الثراء … ولكن في اليوم الثالث وصلتْنا رسالة منه.

وتوقَّفَت «ليلى» عن الحديث، وبدا واضحًا أنها تُغالب نفسها حتى لا تبكي ثم مضت تقول: كان في الرسالة سطور قليلة، أكَّد فيها «فريد» أنه يُحبُّنا … ولكنه لم يَعُد يستطيع الحياة في المعادي بعد الحادث الذي جرى، وأنه يُفضل الاختفاء فترة من الوقت … ورجانا ألَّا نبحث عنه … ووعدنا أن يُرسل لنا رسائل أخرى لنطمئن عليه.

قالت «نوسة» فجأةً: وهل فعل؟

ردَّت «ليلى» بحزنٍ: للأسف … كانت هذه أول وآخر رسالة تلقيناها منه، وبعدها اختفت أخبار «فريد»، وقد بذَلَ رجال الشرطة كما قلتُ لكم في رسالتي جهودًا جبارة للبحث عنه وتقفِّي آثاره، ولكن كل ذلك لم يُؤدِّ إلى شيء، كما قام والدي بنشر نداء في الصحف يَطلب منه العودة، ولكن لم نتلقَّ أيَّ ردٍّ … بل إنَّ والدي رصد مكافأة ضخمة لمن يُرشد عنه … ولكن بلا جدوى …

مُحب: وهل علم والدك بما حدث في النادي في اليوم نفسه؟

ليلى: لا … لقد كنتُ وحدي الذي علم، وقد رجاني «فريد» ألا أُخبر والِدَينا بما حدث، ولم يعلما إلا بعد أن اختفى!

تختخ: آسفٌ أن أعاود السؤال في موضوع هوايات «فريد»، لقد قلت إنه كان يَهوى المشي والصيد، ألم تكن له هوايات أخرى؟

ردت «ليلى»: كان يهوى قيادة السيارات … وكثيرًا ما كان يقود سيارتنا داخل الحديقة في الممرات بمهارة واضحة رغم صغر سنِّه … وكان أيضًا يهوى إصلاح السيارات ومُختلف الآلات، كما كان يهوى التصوير الفوتوغرافي.

عاد «تختخ» ليقول: ما هو المبلغ الذي كان معه عندما اختفى؟

ليلى: لا أعرف بالضبط، ولكن ما بين الخمسين قرشًا وجنيه واحد!

تختخ: ألم تَعثُروا على الدراجة؟

ليلى: لا …

تختخ: هل أستطيع زيارة غرفته؟

ليلى: بالطبع!

وقام «تختخ» و«نوسة» فقط، واتجها مع «ليلى» إلى داخل الفيلا، وقالت «ليلى»: هل تحبان مقابلة والديَّ؟!

تبادل «تختخ» و«نوسة» النظرات … ثم قالت «نوسة» بصوت خافت: لا داعي الآن … إننا نرجو أن نراهما في ظروف أفضل!

واجتازوا ممرًّا طويلًا داخل الفيلا، ثم انحرفوا في نهايته إلى صالة فيها مكتبة وكرسيان ومكتبان، ثم دخلا غرفة واسعة … ولفَتَ نظر «تختخ» على الفور عدد كبير من الصور مُعلقة على الحائط؛ لوحات جميلة لنهر النيل.

قالت «ليلى» عندما لاحظت نظرة «تختخ»: لقد كان «فريد» يحب نهر النيل جدًّا … وقد التقط له مئات الصور في مختلف ساعات النهار، ومن أسوان إلى دمياط، وإلى الإسكندرية، وقد كسب مرة في مسابقة للتصوير بهذه اللوحة!

وأشارت إلى لوحة كبيرة عُلقت بجوار فراش «فريد» وأخذ «تختخ» ينظر إليها متأملًا … ثم التفتَ على صوت «ليلى» وهي تقول: هذا هو فِراشُه … وهذا دولاب ملابسه …

وأخذت «نوسة» و«تختخ» يَفحصان أشياء «فريد» باهتمام. وكانت دهشة «ليلى» تتزايد وهي ترى «تختخ» يَفحص الأحذية والقمصان … وكأنه يبحث عن شيء هام … ثم خرج الثلاثة إلى الصالة، وأشارت «ليلى» إلى مكتب «فريد»، ومرةً أخرى انهمك «تختخ» في فحص الكتب والأوراق والأقلام بالاهتمام نفسه. ثم أشار إلى أدراج المكتب مُستأذنًا في فتحها، فأحنت «ليلى» رأسها موافقة، وفتح «تختخ» أدراج المكتب وأخذ يفحص ما فيها من أشياء صغيرة … منها مجموعة من الرسائل قرأها بسُرعة … ثم قال «تختخ»: هل أجد عندك بعض صور ﻟ «فريد»؟

ليلى: طبعًا، عندي مجموعة كبيرة له!

وفتحت درج مكتبها وأخرجت «ألبوم» صور، أخذ «تختخ» و«نوسة» يتفرَّجان عليه، وفجأةً توقَّف «تختخ» عند صورة وقال: هل دخل «فريد» المستشفى؟

ليلى: نعم … كان قد سقط مرة عند الهرم وأُصيب في قدمه ونُقل إلى المستشفى حيث أُجريت له عملية.

تختخ: هل تركت العملية أثرًا؟

ليلى: أثر بسيط جدًّا في قدمه اليُسرى، لا يبدو في مشيه إلا لمن يعرف الإصابة!

تختخ: شكرًا لك … سنأخذ بعض الصور لو أذنتِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤