تختخ يتحدث كثيرًا

عندما اجتمَع المغامرون الخمسة ذلك المساء … كان عند «تختخ» حديث طويل للأصدقاء، وقد استمعوا إليه في دهشة وإعجاب …

قال «تختخ»: أيها المغامرون الخمسة … إنَّ أمامنا موضوعًا جديدًا للبحث لم يسبق لنا أن عالجناه، ربما صادفنا مرة واحدة في لغز الموسيقار الصغير، ولكن ليس بهذا العمق. إننا نريد البحث عن ولد صغير بين ٣٦ مليونًا من البشر يُقيمون في بلادنا … وسنَبحث عنه دون دليل واحد عن مكانه إلا ما ترَكه لنا من عادات وهوايات وذكريات، وسنعتمد في بحثنا على ذكائنا فقط وعلى تجاربنا … سيكون هذا تحديًا لا مثيل له … وبخاصة إذا عرفنا أن رجال الشرطة قد أخفقوا في حل لغز غياب هذا الولد الصغير.

وشرب «تختخ» رشفة من كوب العصير، ثم قال: لقد قلتُ إننا سنَعتمِد على ذكائنا وتجاربنا فقط، ولكن الحقيقة أنَّنا سنَعتمِد على شيء ثالث، سنعتمد على خيالنا.

قال «عاطف»: لعلَّ هرب «فريد» هذا قصة خيالية!

رد «تختخ»: لا داعي للهزار يا «عاطف» … إنه قصة حقيقية لها مَحاضر في أقسام الشرطة … ولها آثار، وبرغم أن القصة حقيقية كما قلت لكم … فإنني أعتمد على خيالكم في حلها!

ورفع «تختخ» يدَيه إلى فوق ثم قال: تعالوا نتخيل أن كل واحد منَّا هو «فريد»، تعالوا نتصور ولدًا صغيرًا بريئًا اتُّهِم ظُلمًا ولم يتحمَّل الموقف.

محب: الحقيقة أنني أعتبره جبانًا، لماذا لم يُقاوم ويدافع عن نفسه؟

تختخ: إننا لم نتدخل في هذا الموضوع لمحاكمته، إنه بلا شك ارتكب خطأ شنيعًا بهربه؛ فالرجل الحقيقي لا يهرب، ولكن هذه مسألة سنناقشها فيما بعد، المهم الآن أنَّنا نريد أن نعثر عليه، وقد ظللت طوال النهار أُفكر كيف نُحدِّد مكانه، ولكنني أخفقت، ولهذا فإنني أطلب منكم جميعًا، من كل واحد منكم أن يتخيَّل أنه «فريد»، وأنه خرج من منزله في الساعة السابعة صباحًا ليركب دراجته الرالي الزرقاء … ومعه مبلغ لا يزيد عن جنيه … فأين يهرب؟

سكت «تختخ» لحظات، ثم قال: فكروا معي، ليضع كل منكم نفسه مكان «فريد» كما رأيتم القصر الذي يسكن فيه، وكما سترَون شكله، وهذه هي الصور.

ومد «تختخ» يده بمجموعة الصور التي أخذها من «ليلى» إلى الأصدقاء وأخذ كلٌّ منهم ينظر إلى الصورة، ورأوا ولدًا رقيقًا، واسع العينين، مرتفع الجبين، طويل الوجه، رفيع الذقن، أنيق الملبس، ويبتسم في هدوء.

قالت «نوسة»: لقد شاهدت مجموعة أخرى من الصور، وقد كوَّنت فكرة عنه، إنه ولد هادئ، رقيق، حساس، من ذلك النوع الذي يميل للوحدة!

تختخ: هذا ما قالته أخته عنه بالضبط، والآن أريدكم أن تُفكِّروا معي … ليتخيَّل كلٌّ منكم أنه «فريد» فماذا يفعل؟ إذا تذكرنا هواياته؛ الصيد، الرحلات، السيارات، التصوير، وبخاصة نهر النيل.

وركز الأصدقاء جميعًا تفكيرهم، وبعد لحظات قالت «لوزة»: أذهب إلى الكورنيش وأتمشَّى على النيل.

تختخ: معقول … ولكن إلى أين؟

عاد الصمت من جديد … وقال «محب»: من الصعب التصوُّر يا «تختخ»!

تختخ: سأعطيكم معلومات إضافية، عندما كنت أُقلِّب في مكتب «فريد» وجدت مجموعة من الرسائل، بعضها من خارج مصر؛ من لبنان، وسوريا، والكويت، وبعضها من داخل مصر؛ من أسوان، ومن دمياط والإسكندرية وطنطا والمنصورة!

عاطف: هل تقصد أنه سافر خارج مصر!

تختخ: لا … إنَّ ذلك مُستبعَد، بل مُستحيل! ولكنني أتخيل نفسي مكانه، إن أول ما أفكر فيه أن أتجه إلى أحد أصدقائي ممن أراسلهم.

فجأة قالت «نوسة»: الرسالة التي أرسلها «فريد» إلى أسرته من أين أرسلها؟

خبط «تختخ» جبهته وقال: كيف نسيتُ هذه النقطة! هاتي التليفون لو سمحت يا «لوزة».

وأسرعت «لوزة» بإحضار التليفون، واتصل «تختخ» ﺑ «ليلى»، وبعد حديث قصير وضع السماعة، ثم قال: سترسل «ليلى» لنا الرسالة، ومجموعة من الرسائل التي تحدثتُ إليكم عنها الآن.

قال «محب»: لو أن الرسالة التي أرسلها ستكون من أحد البلاد التي ذكرتَها، فمعنى هذا أنه كان وما زال موجودًا هناك!

تختخ: أو كان هناك ثم انتقَل إلى مكان آخر!

عاطف: ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فلا بدَّ أن رجال الشرطة قد تتبعوا هذا الخيط!

تختخ: أشك أن رجال الشرطة اهتموا بهذا … إنهم عادة يُوزِّعون صورًا للهارب على أقسام الشرطة، وربما أرسلوا بعض المفتشين للبحث عنه في الأماكن التي قد يَشتبه بعض الناس أنه تردد عليها … وربما ذهبوا إلى أقاربه، ولكنهم لم يفكروا في قراءة رسائله، وعلى كل حالٍ لا بأس أن نسأل «ليلى».

وعاود «تختخ» الاتصال ﺑ «ليلى» وعرف منها أن رجال الشرطة اهتمُّوا بالرسائل أيضًا، ثم سألها «تختخ»: ماذا كان نوع الدراجة التي كان يركبها «فريد»؟

ردت «ليلى»: دراجة مقاس ٢٦، من طراز «رالي»، وبها حقيبة من الخلف كان بها بعض الأدوات، وفي يوم مغادرته المنزل كان بها آلة تصوير!

تختخ: آلة التصوير؟!

ليلى: نعم!

تختخ: ذلك شيء هام للغاية، لماذا لم تقولي لي؟

ليلى: إنك لم تسألني!

تختخ: هل كان معه أدوات الصيد؟

ليلى: لا …

تختخ: شكرًا، هل بعثتِ بالرسالة التي أرسلها ورسائل أصدقائه؟

ليلى: نعم، إنها في الطريق إليك!

وضع «تختخ» السماعة ثم التفت إلى الأصدقاء قائلًا: لقد كان معه آلة التصوير!

عاطف: وهل يضيف هذا شيئًا؟

تختخ: طبعًا، نتلمَّس طريقنا في ظلام حالك … وكل شيء نعرفه عن «فريد» هو نوع من الضوء مهما كان ضئيلًا يُنير لنا الطريق.

وسمعوا صوت سيارة تقف أمام باب الحديقة، ثم ظهر رجل على الباب، فأسرع «عاطف» إليه، وعاد بمظروف أبيض كبير سلمه ﻟ «تختخ» الذي أخرج مجموعة رسائل مربوطة بخيط من الحرير الأزرق، ورسالة «فريد»، كان واضحًا من مظروفها البالي أنه فُتح كثيرًا … وأخذ «تختخ» يتأمل الأختام ثم قال: للأسف الرسالة ليسَت من أي بلد من البلاد التي ذكرتُها، إنها من «بنها»!

عاطف: إن ذلك يهدم نظريتك!

تختخ: سنرى!

وأخرج «تختخ» الرسالة وقرأها بصوت مرتفع … ولم تزد عن بضعة سطور يَعتذِر فيها «فريد» عن هربه … ويتمنى لأسرته السعادة كما ذكَرَت «ليلى».

وأمسك «تختخ» ببقية الرسالة وقرأها، ثم أخرج ورقة وقلمًا من جيبه، ونقل أسماء وعناوين الأصدقاء الذين كانوا يُراسلون «فريد»، ولحُسن الحظ كانوا جميعًا يكتبون عناوينهم على ظهور المظاريف.

سأل «محب»: أليس بينها رسالة من «بنها»؟

تختخ: لا للأسف، ولكني ما زلتُ مُتمسِّكًا بنظريتي أن «فريد» ذهب أولًا إلى أحد أصدقائه، ثم بقي في هذا المكان أو غادره!

لوزة: ولكن يا «تختخ» لو أن «فريد» ذهب إلى أحد أصدقائه ألم يكن من واجب هذا الصديق أن يُبلغ أسرة «فريد»؟

ابتسم «تختخ» للمُغامِرة الذكية وقال: هذه نقطة فكرتُ فيها طويلًا يا «لوزة» ووصلت إلى أكثر من تفسير سوف أقوله لكم في الوقت المناسب، أما الآن فيجب أن أذهب إلى المنزل فسوف أسافر غدًا إلى «بنها»!

لوزة: وحدك؟

تختخ: معي «محب» و«عاطف».

لوزة: و«نوسة» … وأنا؟

تختخ: سيأتي دوركما، ولكن الرحلة إلى «بنها» حسب توقُّعي قد تطول … وستُكلِّفنا مالًا كثيرًا … وميزانيتنا كما تعرفين!

مُحب: وماذا تتوقَّع أن نجد في «بنها»؟

تختخ: لا أعرف بالضبط، ولكني سأبحث عن دراجة من طراز «رالي» أتوقع أن يكون «فريد» قد باعها هناك!

مُحب: وبعد ذلك؟

تختخ: وبعد ذلك لا أدري، سنَترك ذلك لما نجده قد تركه في «بنها» من آثار وربما ما زال هناك!

عاطف: من المؤكد أن رجال الشرطة قد أمسكوا بهذا الخيط!

تختخ: سأتجاهل كل الجهود التي بُذلت من قبل للعثور على «فريد» … إنه ما زال غائبًا! ومعنى ذلك أن الجهود التي بُذلت من قبل قد أخفقت، فلنبدأ نحن، وكأن أحدًا لم يسبقنا للبحث عنه.

مُحب: كم هي المدة التي تتوقَّع أن نتغيَّبها؟

تختخ: لا أدري بالضبط، ولكن على كلٍّ منكما أن يحضر ما معه من نقود، وأن يُخطر أسرته أننا في رحلة قد تطول بضعة أيام.

ران الصمت على الأصدقاء بعد ذلك، ونظر «تختخ» إلى صورة «فريد» طويلًا، ثم قال وكأنه يُحدث نفسه: إذا كنتَ حيًّا فسنجدُك!

قالت «نوسة»: ماذا تقول يا «تختخ»؟

ابتسم «تختخ» قائلًا: إنني أُحدث «فريد»، وفي الحقيقة أنني لم أتمنَّ شيئًا في حياتي مثل العثور عليه!

ابتسمت «لوزة» قائلة: لعلَّ دموع «ليلى» أثرت فيك!

قال «تختخ»: ووالداها المسكينان أيضًا.

ووقف «تختخ» وقال ﻟ «لوزة» و«نوسة» وهو يُودِّعهما: سنتصل بكما كلما أنجزنا شيئًا ونرجو أن تُبلغانا أية معلومات جديدة قد تصل إليكما.

وعندما عاد «تختخ» إلى غرفته جلس وحيدًا يُفكِّر، كيف يجد بين هذه المعلومات البسيطة عن «فريد» طريقًا للوصول إليه … إنه الآن لا يُطارد مجرمًا فارًّا من العدالة، ولا يحل لغزًا عن سرقة … ولكنه يبحث عن ولد صغير ظُلم ولم يستطع الثبات للدفاع عن نفسه، وهذا الولد غاب طويلًا عن أسرته ولم يستطع أحد إعادته، فهل يستطيع هو وبقية المغامرين العثور عليه؟ كيف؟ وأين؟

ووضع صورة «فريد» على «الكومودينو» بجوار فراشه، وأخذ يخلع ملابسه وهو ينظر إليه، كأن «فريد» شخصيًّا هو الذي أمامه وليس صورته، فقال له:

أين أنت الآن؟ ميت؟ حي؟ في أسوان؟ في الإسكندرية؟ في دمياط؟ مُتشرِّد بلا مأوى؟ تشتغل؟

وعندما انتهى من تغيير ملابسه، جلس على حافة الفراش يُقيِّد في دفتر مذكراته كل ما يتصل بهذه المغامرة العجيبة، واستسلم للنوم وهو يدير بينه وبين «فريد» هذا الحوار الصامت كأنما ينتظر أن تتحدث الصورة وتقول له أين صاحبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤