حدث في الزحام

في الصباح الباكر كان المغامرون الثلاثة؛ «تختخ» و«محب» و«عاطف» يجلسون في القطار المسافر إلى «بنها». جلسُوا صامتين، القطار يُغادِر المحطة في بطء، كان كلٌّ منهم مستغرقًا في خواطره، إنهم مسافرون إلى «بنها» للبحث عن دراجة «رالي» زرقاء … ولون الكاوتش أبيض … فهل يجدونها؟ وإذا وجدوها هل يعني هذا شيئًا بالنسبة لهم؟ إن أفكارهم ليست واضحة … وحتى «تختخ» صاحب الفكرة لم يكن متأكدًا أن العثور على الدراجة سيؤدي إلى شيء، صحيح أنها بداية، ولكن بداية أي شيء؟!

وعندما غادر القطار محطة القاهرة، واستقبل الريف الأخضر … سرح «تختخ» بخياله قليلًا خلف «فريد». كان كعادته يضع نفسه مكان الشخص الآخر، ويُحاول أن يفكر مثله … فماذا فعل «فريد»؟

«تختخ» يتصور أنه لو كان مكانه … فسوف يقود دراجته إلى «بنها» … إنه رحالة يحب السفر، والمسافة بين القاهرة وبنها ٤٥ كيلومترًا، ومن المُمكن قطع هذه المسافة في يوم مع أخذ الراحة الكافية بين مسافة وأخرى، ويصل «فريد» إلى «بنها» جائعًا مُتعبًا … إنه في حاجة إلى مكان يبيت فيه … فهل يُمكن أن يُقدم صبيٌّ في مثل سنِّه على النوم في فندق؟! قال «تختخ» في نفسه: غير متوقَّع، وهو لن يسافر راكبًا دراجته ليلًا. إنه في الأغلب سيقضي الوقت ساهرًا … ولكن أين؟

إنَّ المكان الوحيد الذي يسهر في المدن الصغيرة هو بوفيه محطة السكة الحديد، وبخاصة في «بنها» حيث تمر بها كل القطارات التي تغادر القاهرة إلى الوجه البحري، والتي تعود من الطريق نفسه.

هل يجد شخصًا يذكر ولدًا صغيرًا يلبس قميصًا وبنطلونًا و«بلوفر» في بوفيه المحطة طوال الليل … صعب جدًّا فقد مرَّت ثلاثة شهور، ومن الصعب أن يتذكر أحد هذا الولد ومع ذلك فلنُحاول!

ووصل القطار إلى محطة «بنها» بعد ٣٥ دقيقة، ونزل المغامرون الثلاثة، ونظر «تختخ» حوله، كام الزحام شديدًا، وبوفيه المحطة مُمتلئًا بالمسافرين، وقال «محب» مُتسائلًا: هذه هي «بنها»، ما هي خطتك؟

تختخ: لقد فكرتُ طويلًا وأعتقد أنه باع الدراجة هنا!

عاطف: باعها؟

تختخ: نعم … إنه بعد أن يصل إلى «بنها» ستُصبح عبئًا عليه، وبخاصة في الشتاء والطرق مُوحلة وركوب الدراجة ليس أمرًا سهلًا.

مُحب: هل سنَبحث عنه في محلات تأجير الدراجات؟

تختخ: بالضبط، ولكن في الأغلب سوف يُنكرُون أنهم اشتروها منه، فليس من المعتاد أن يشتري تاجر من صبيٍّ صغيرٍ، عليكم فقط بالمراقبة، وسنَستمر في المراقبة حتى الواحدة، ثم نجتمع هنا في بوفيه المحطة لنرى ماذا فعلنا.

ونزل الثلاثة سلَّم المحطة، وأشار «تختخ» إلى اليمين، وقال ﻟ «محب»: منطقتك من هنا، ثم أشار إلى اليسار، وقال ﻟ «عاطف»: وأنت هنا، وسأبحث أنا في وسط المدينة.

ومشى الأصدقاء الثلاثة كل في طريقه، كان قلب «تختخ» يُحدثه أنهم لن يجدوا الدراجة، فلا بد أن من اشتراها سيغير معالمها، ولكن قال لنفسه: ليس أمامنا إلا أن نفعل هذا؛ فقد يؤدي العثور عليها إلى تطور جديد يساعدنا.

كانت منطقة وسط المدينة مزدحمة … وأخذ «تختخ» يسأل هنا وهناك عن محلات الدراجات، وتمنى أن يجد صبيًّا ممن يعملون في أحد هذه المحلات حتى يُمكن التفاهم معه، وتحقَّق أمله بأسرع مما توقع. فقد لفت نظره مشاجرة صغيرة بين ثلاثة أولاد، كان أحدهم بلا شك من الصبيان الذين يعملون في محلات الدراجات؛ فقد كان هناك دراجتان، والولد المتَّسخ الثياب بالزيت والشحم يحاول جذب إحدى الدراجتين من ولد صغير، وكان يَصيح: لقد تأخرتَ عن موعدك ربع ساعة.

رد الولد في غضب: أبدًا، ما زال أمامي خمس دقائق!

واقترب «تختخ» حتى أصبح في وسط المشاجرة، وتدخَّل سريعًا لفضِّ المشكلة، وكانت أفضل طريقة خمسة قروش وضعها في يد الولد المتَّسخ الثياب … وبدت الدهشة على وجوه الثلاثة، ولكن «تختخ» الذي كان متعجلًا قال للولد: أنت «حُسني»؟

رد الولد المتسخ الثياب بعد أن أطلق سراح الدراجة: لا … أنا «صُبحي»!

كانت حيلة بسيطة لمعرفة اسمه فقال «تختخ»: «صبحي» آسف لقد نسيتُ اسمك، إنك لا تتذكَّرُني؟

صبحي: لا … إنك لستَ زبونًا عندنا!

تختخ: إنني زبون المحل الآخر.

صبحي: محل «الزفتاوي» إن دراجاتهم كلها مكسَّرة!

تختخ: ولكن عندهم عجلة «رالي» زرقاء ممتازة!

تردَّد «صبحي» قليلًا، ولمح «تختخ» على الفور أن الحديث عن الدراجة «الرالي» الزرقاء أثار في نفس «صبحي» شيئًا، فقد قفز إلى دراجته وحاول الفرار، ولكن «تختخ» أمسك بالدراجة وقال: لا تخَفْ يا «صبحي» فقط أريد أن أعرف، هل صاحب الدراجة هنا؟

صبحي: أنا لا أعرف … اتركني أرجوك وإلَّا ضربني الأسطى فقد تأخَّرت!

استيقظت حواس «تختخ» كلها، لقد وقع على أثر، إن دراجة «فريد» هنا فعلًا في «بنها» ولكنَّ ثمة شيئًا عنها يجب أن يختفي.

عاد «تختخ» يقول: صدِّقْني إنني لا أريد استرداد الدراجة، إنني فقط أسأل عن صاحبها!

رد «صبحي» في صدق: أقسم لك أنَّني لم أره في حياتي!

تختخ: والدراجة؟

صبحي: لا علاقة لي بها.

وفجأة ضرب «صبحي» يد «تختخ» المُمسكة بالدراجة ضربة مُوجعة، وأطلق للدراجة العنان، وكان في إمكان «تختخ» أن يُمسكه مرة أخرى … لولا الزحام الذي اختفى فيه الولد سريعًا.

وقف «تختخ» مكانه لحظات، كان يحس بشعورين متضاربين … شعور الرضا عن نفسه لأن استنتاجاته كانت صحيحة … وشعور السخط لأن «صبحي» أفلت منه … ومشى في الاتجاه الذي اختفى فيه «صبحي» … لم يكن يُريد أن يلحق به … كان يريد السؤال عن المحلِّ الذي يعمل فيه … وسرعان ما كان أحد الصبية الصغار يُشير له على محلٍّ صغير اصطفَّت أمامه الدراجات، لم يكن «صبحي» قد وصل بعد … واختار «تختخ» مقهًى صغيرًا مواجهًا لمحلِّ الدراجات، وجلس داخل المقهى في الظل حيث لا يراه من في الشارع وأخذ يراقب محل الدراجات. شاهد رجلًا لم يشكَّ أنه صاحب المحل يجلس على كرسي قديم، وقد أمسك بشيشة وأخذ يدخن، وبجواره كوب من الشاي، وكان صبيان المحلِّ يعملون في تنظيف الدراجات وإصلاحها، وبعض الصبية يستأجرون الدراجات وينطلقون بها فَرِحين، ومضت نصف ساعة في المراقبة. ثم فجأة ظهر «صبحي» ماشيًا على قدمَيْه واقترب من الأسطى صاحب المحل ومال على أذنه، وأسرَّ شيئًا، وابتسم الأسطى، وربَّت على كتف «صبحي» لم يَعُد هناك شك لدى «تختخ» أن وراء الأسطى و«صبحي» معًا سرًّا هامًّا، وهذا السر له علاقة مؤكَّدة بالدراجة «الرالي» الزرقاء … وتمنَّى أن يقابل «محب» و«عاطف» سريعًا لمناقشة الموقف بدلًا من إضاعة وقتهما في البحث عن الدراجة ولن يَجِدا شيئًا.

ظلَّ «تختخ» مكانه في المقهى يراقب المحل، لم يكن ينتظر شيئًا محددًا ولكنه تمنى أن يرى الدراجة «الرالي» ضمن دراجات المحل. ولكن بخبرته بالدراجات فحصها جميعًا بنظرة مُتأنية وتأكَّد أنه ليس بينها الدراجة المقصودة. وظلَّ يُراقب «صبحي» الذي كان يختفي أحيانًا، ويظهر أحيانًا، ولكن سلوكه كان عاديًّا، وكذلك الأسطى. وعندما نظر في ساعته ووجدها قد أشرفت على الثانية عشرة والنصف، انتهز فرصة غياب «صبحي» وانسلَّ بسرعة ثم اتجه إلى المحطة التي لم تكن بعيدة.

وجد «محب» و«عاطف» قد سبقاه إلى هناك، وكان واضحًا من ملامحهما أنهما لم يعثرا على شيء هام، وعندما شاهدا «تختخ» اتجها إليه، ثم دخل الثلاثة إلى «بوفيه» المحطة.

قال «محب»: عرفنا جميع محلات الدراجات، وقد مررنا بها جميعًا فلم نجد شيئًا، هذا طبعًا بالنسبة للجهتيْن اللتيْن بحثنا فيهما، هل وجدت شيئًا في وسط المدينة؟

قال «تختخ» مُتمهلًا: وجدت الدراجة!

تساءل «عاطف» بسرعة: غير معقول … وأين هي؟

تختخ: في مكان ما من هذه المدينة!

عاطف: وأين رأيتها؟

تختخ: إنني لم أرها!

قال «محب» الذي كان يتابع الحوار متلهفًا: دعك من هذا الغموض، كيف تقول قد وجدت الدراجة وأنت لم ترها؟

تختخ: إنني لم أرها … ولكنني وجدتها!

وأمام نظرات «محب» و«عاطف» وحيرتهما روى «تختخ» لهما الأحداث التي مرت به في الساعات الماضية، وأنهى حديثه قائلًا: أعتقد أن «صبحي» بعد أن أفلتَ منِّي أسرع لإخبار الأسطى بما قلت له عن الدراجة، وهكذا أعطاه إياها الأسطى ليُخفيَها بعيدًا … بدليل أن «صبحي» عاد بعد ذلك على قدمَيه!

لم يكن هناك شكٌّ أن الاستنتاجات صحيحة، ولكن كيف الاستفادة منها؟!

قال «تختخ» إن الدراجة نفسها لا تُهمني، إن ما يهمني هو هل «فريد» موجود هنا أم لا … أما الدراجة فلا تهمنا في شيء!

عاطف: وما العمل؟

تختخ: سنجد وسيلة بعد أن نتناول الغداء، فأنا جائع جدًّا، وأنتما تعرفان أنني لا أستطيع التفكير ومعدتي تصرخ، إن صوتها أعلى من صوت العقل.

وابتسم الصديقان وقال «تختخ»: لقد لمحتُ مطعمًا صغيرًا بجوار المحطة، تتصاعد منه رائحة شهية!

هز «محب» يده في جيبه وقال: رفقًا بالميزانية، وإلا انتهت المغامرة في المطعم!

قال «عاطف»: لعلنا نجد «فريد» يعمل «جرسونًا» في المطعم وتنتهي المغامرة نهاية سعيدة على صوت الشوك والملاعق والسكاكين!

ونزلوا بالدرجات التي تؤدي إلى الشارع الموازي للمحطة، وانطلق «تختخ» وكأنه «زنجر» مُسرعًا في اتجاه المطعم، ولكن أحلام «تختخ» في طعام شهي تلاشَت بأسرع مما يتوقع، فما كادوا يدخلون المطعم حتى فوجئ «محب» و«عاطف» ﺑ «تختخ» يمسك بولد صغير كان خارجًا من المطعم يحمل ورقة مُحملة بالساندوتشات.

قال «تختخ» وهو يقبض على ذراع الولد بشدة: أظنُّكَ لن تستطيع الهرب هذه المرة!

ولفت نظر «محب» و«عاطف» ما ظهر على وجه الولد من خوف ولكن «تختخ» قال: اسمع يا «صُبحي» … كلمة واحدة … إما أن تقول لي حكاية الدراجة بالضبط وإلا لن أتركَكَ إلا في قسم الشرطة.

اصفر وجه «صبحي» وسقطت ورقة الساندوتشات من يده، وقال: أُقسم لك يا أستاذ أنني لم أسرقها!

تختخ: مَن الذي سرقها إذن؟

صبحي: اسأل عن «عقلة» ماسح الأحذية في «بوفيه» المحطة، إنه الذي يعرف الحكاية كلها!

تختخ: إنك لا تكذب؟

صبحي: أُقسم لك يا أستاذ … إنني غلبان ولم أفعل شيئًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤