في الحواري المُظلمة

كانت رائحة الشواء ترتفع من المطعم تعلن عن غذاء لذيذ … وكان بطن «تختخ» يَجذبه … ولكن نداء المغامَرة والواجب كان أقوى … وهكذا غادَرُوا المطعم مُسرعين إلى بوفيه المحطة … كان الزحام أكثر شدة في هذا الوقت من النهار … وأخذوا يَنظُرون بين الموائد بحثًا عن «عقلة»، ولكن لم يكن في البوفيه ولد صغير يمسح الأحذية، ولم يتردَّد «محب» اقترب من أحد الجرسونات وسأله: أين «عقلة»؟

رد الجرسون وهو يمضي مسرعًا بين الموائد: إنه يأتي ليلًا فقط!

وكأنما كان «تختخ» يتلقَّف هذه الإجابة فقد قال على الفور: إذن هيا بنا إلى المطعم!

ومرة أخرى ابتسم «محب» و«عاطف» وانطلقوا جميعًا إلى المطعم الصغير، وسرعان ما انهمك الثلاثة في غذاء شهي من الكباب والكفتة … ولم يكن بينهم من يفكر في هذه اللحظة إلا «محب» كان يفكر في الحساب باعتباره المسئول المالي عن المغامرين.

عندما انتهى الطعام قال «تختخ»: عندما كنا نمُر ﺑ «بنها» في رحلاتنا السابقة لاحظت وجود كازينو جميل عند الكوبري الذي يمرُّ عليه القطار … هيا نشرب شيئًا هناك …

وقطعوا الطريق الموازي لشريط السكة الحديد حتى وصلوا قرب الكوبري، ثم انحرفوا يسارًا إلى الكازينو الذي كان مُكوَّنًا من طابقين … وتمتد حوله حديقة جميلة واختاروا مائدة منعزلة بعيدًا عن الضوضاء … ووضع «تختخ» كفَّيه خلف رأسه واضطجع إلى الخلف واستغرق في تفكيرٍ عميقٍ بعد أن أغلق عينيه.

ظلَّ الثلاثة صامتين فترة … ثم قال «محب»: ماذا توقع من تطورات بعد العثور على الدراجة؟

فتح «تختخ» عينيه ونظر إلى «محب» نظرة شاردة، ثم قال: لا أدري بالضبط، ولكن كل شيء الآن متوقف على كلام «عقلة»!

عاطف: كانت صُدفة مدهشة هذه المشاجرة بين «صبحي» والولدين!

ابتسم «تختخ» قائلًا: إنها عبقرية يا بني!

عاطف: عبقرية!

تختخ: طبعًا كان يمكن أن ترى هذه المشاجرة دون أن تَلفِت نظرك مطلقًا!

عاطف: إنَّ أي مشاجرة في العالم تلفت نظري، حتى ولو كانت بين كلب وقطة! ووجود مشاجرة بين صبيٍّ في محل دراجات … ونحن نبحث عن دراجة لا بد أن تلفت نظري وعقلي، وربما بطني أيضًا!

مُحب: البطن من اختصاص «تختخ»!

عاد الصمت يرين على المغامرين الثلاثة من جديد … ولاحظ «محب» و«عاطف» أن «تختخ» عاد إلى إغماض عينَيه … ثم سمعا صوت تنفُّسه المُنتظِم فعرَفا أنه استغرق في النوم فقال «عاطف» هامسًا: تعالَ نمشِ على النيل.

وافق «محب» فقد كان النيل يمتد بجوار الكازينو وقد ظلَّلته الأشجار، فقاما يسيران، كان الجو لطيفًا برغم الصيف … فمَضَيا يسيران مبتعدين عن الكازينو حتى اختفى عن أنظارهما … ثم جلسا على شاطئ النيل يتحدثان … ومضت الساعات حتى هبط المساء … وعادا إلى الكازينو، وكم كانت دهشتهما أن وجدا مكان «تختخ» خاليًا.

قال «محب»: أين ذهب؟

عاطف: لعله سبقنا إلى البوفيه.

وأسرعا الخُطى إلى «البوفيه» … كانت المسافة تستغرق نحو عشر دقائق فلما وصلا إلى هناك، صعدا سلم المحطة مسرعَين، ثم نزلا السلم مرة أخرى، وقد ركبتهما الأفكار السوداء عن مصير «تختخ» ولكنهما فوجئا به يأتي مسرعًا ويكاد يصطدم بهما …

صاح به «محب» أين كنت؟

تختخ: أين كنتما؟ لقد استيقظت من النوم فلم أجدكما بجواري، وسألت الجرسون فقال أنكما خرجتما ولا يَعرف اتجاهكما!

عاطف: لقد جلسنا على شاطئ النيل، وأنت ماذا فعلت؟

تختخ: أسرعت أراقب محل الدراجات لعلني أجدكما هناك.

عاطف: وهل وجدتنا؟

تختخ: لا داعي للهزار الآن يا «عاطف» … هل جاء «عقلة»؟

مُحب: الحقيقة أننا لم نبحث عنه!

وصعد الثلاثة مرةً أخرى إلى «البوفيه» وجلسوا في انتظار «عقلة» ومر الوقت دون أن يظهر وكلما سألوا الجرسون قال: شيءٌ عجيبٌ، إنه لم يتأخر أبدًا عن ساعة الغروب!

هبط الظلام على المدينة، واقتربت الساعة من التاسعة دون أن يظهر «عقلة».

وبدا على «تختخ» الضيق وقال: لن نجلس هنا في انتظاره!

عاطف: وماذا نفعل؟

تختخ: سنبحث عنه … إن هنا ثلاثة آخرين من ماسحي الأحذية … ولا بد أن واحدًا منهم يعرف منزله.

ونادى «تختخ» على أحد الأولاد، وطلب منه أن يَمسح حذاءه، وبينما الولد منهمك في المسح سأله «تختخ» بلا اهتمام: لماذا لم يأتِ «عقلة» الليلة؟

رد «الولد»: لا أدري ربنا حدث شيء لوالدته العمياء!

تختخ: هل يعيش مع والدته؟

الولد: نعم … إنه الوحيد الباقي من إخوته … والده مُتوفًّى، وهو يُساعدها طوال النهار في بيع الخضار، ثم يسرح ليلًا لمسح الأحذية هنا!

تختخ: هل تَعرف منزله؟

الولد: طبعًا، إنه يسكن في «كفر مناقر» بحارة الجلاد.

تختخ: كفر مناقر! … أين هذا المكان؟

الولد: في طرف «بنها» … بعد المحطة بمسافة قصيرة!

تختخ: هل تستطيع أن تدلَّنا عليه؟

الولد: ولكن، ولكن يا أستاذ … سأتعطَّل.

وبسرعة دسَّ «تختخ» في يد الولد عشرة قروش وسرعان ما كان يُغادر معهم «البوفيه» بعد أن ترك صندوق المسح بجوار أحد زملائه … وبعد أن غادروا شارع المحطة بدأ ضوء الشوارع يقلُّ تدريجيًّا، ودخلوا في الحواري المُظلمة … وساروا … وفجأةً توقف «تختخ» وهمس في أُذن «محب»: إن هناك من يتبعنا!

مُحب: لقد أحسستُ بذلك منذ لحظات.

تختخ: لم أتصوَّر أن خلف الدراجة شيئًا بهذه الخطورة!

مُحب: ماذا سنفعل؟

تختخ: سنَمضي في طريقنا طبعًا!

سار الأربعة مرةً أخرى، وازدادت الحواري ظلامًا، وفجأة وهم يدخلون إحدى الحواري وجدوا ولدًا يصيح: سعد!

وتوقَّفَ ماسح الأحذية وعاد الصوت يقول: تعالَ بسرعة … صندوقك سُرق! لم يكد الولد يَسمع هذه الكلمات حتى انطلق دون كلمة واحدة، وتلاشى في الظلام، ووقف الثلاثة … وقال «محب»: من الواضح أنها خدعة حتى لا يذهب بنا إلى منزل «عقلة»!

تختخ: إننا نعرف العنوان وسوف نصل.

واختار «تختخ» أقرب منزل مُضاء ثم دقَّ الباب … وظهر له رجل عجوز بعد لحظات فقال له «تختخ»: آسف يا عمي، ولكن أين حارة الجلاد؟

ردَّ العجوز وهو يشير بيده: ثالث حارة في جهة اليمين.

شكر «تختخ» الرجل وقال ﻟ «محب» و«عاطف»: بسرعة، فقد يسبقوننا إلى هناك!

وجرى الثلاثة حتى وصلوا إلى الحارة الثالثة … كانت مُظلمة تمامًا، ومرة أخرى اختار «تختخ» أقرب باب مُضاء ثم دق الباب … وظهر ولد صغير وقال على الفور: والدي ليس هنا!

قال «تختخ»: إننا نسأل عن منزل الست أم «عقلة».

خرج الولد من الباب وأشار إلى منزل صغير وقال: هناك …

وأسرع الثلاثة … ودق «تختخ» الباب وسرعان ما ظهر ولد لم يشكَّ «تختخ» عندما نظر إلى يدَيه أنه «عقلة» فقد كانت آثار طلاء الأحذية واضحة على يدَيْه … ودون دعوة دخل «تختخ» وخلفه «محب» و«عاطف» المنزل وأغلق الباب وقال «تختخ»: اسمع يا «عقلة» لقد جئتُ أسألك عن الدراجة «الرالي» الزرقاء، إنها مسألة …

وقبل أن يُتم «تختخ» جملته قال «عقلة»: دراجة الأستاذ «فريد»؟

ذُهل الأصدقاء الثلاثة وقال «تختخ»: هل تعرفه؟

عقلة: أعرفه؟! إنه صديقي!

نظر «تختخ» إلى «عقلة» كان ولدًا أسمر، قصير القامة، متين البُنيان، تبدو في عينيه لمعة ذكية، وفي وجهه علامات الطيبة والشجاعة، فقال «تختخ»: ونحن أصدقاء «فريد» وقد جئنا بحثًا عنه.

في تلك اللحظة سمع الأربعة صوت أقدام تقترب، وسمعوا خَبطًا قويًّا على الباب، فوضع «تختخ» يده على فم «عقلة» وقال: لا تَقُل لهم إننا هنا!

خرج «عقلة» يفتح الباب، ثم سمع المغامرون الثلاثة حوارًا يدور بين رجل خشن الصوت و«عقلة»، قال الرجل: هل حضَر إليك ثلاثة أولاد شكلهم نظيف؟

توتَّرت أعصاب الأصدقاء في انتظار رد «عقلة»، ولكن الولد الشجاع كان عند حسن ظنهم وقال: لا … لم يحضر لي أحد حتى الآن …

قال الرجل ذو الصوت الخشن: إذا حضروا لك فلا تَقُل لهم شيئًا عن الدراجة «الرالي» … هل فهمت؟

لم يَسمع الأصدقاء ما قاله «عقلة» ولكنه عاد إليهم بعد أن أغلق الباب، وأشار إليهم أن يتبعوه … كانوا يقفون في دهليز ضيق، فساروا خلفه، وصعدوا بضع درجات ثم وجدوا أنفسهم في غرفة صغيرة نظيفة، وعلى فراش في طرف الغرفة جلست سيدة سألت بمجرد دخولهم: من معك يا «عقلة»؟

رد «عقلة»: إنهم أصدقاء يا أمي.

الأم: مَن مِن أصدقائك؟! … إنني أعرفهم جميعًا، ولكن دعني أحاول معرفتهم … ومدت يدها إليهم فقال «عقلة»: سلموا!

ومد «محب» يده فسلم عليها ثم «عاطف» ثم «تختخ»، وقالت السيدة: إنني لا أعرفهم وهم ليسوا من أبناء الحتة … وربما ليسوا من «بنها» كلها!

دُهش الأصدقاء وقال «عقلة»: إنَّهم أصدقاء «فريد»!

ردَّت السيدة في حنان: «فريد»؟!

عقلة: نعم، إنَّهم أصدقاء «فريد»، ولكنَّه ليس معهم!

كان المُغامرون الثلاثة مَذهُولين وهم يسمعون هذا الحوار، هذه السيدة تعرف «فريد» كيف؟!

أشار «عقلة» إلى كنَبة في صدر الحائط وقال: تفضَّلوا …

جلس الأصدقاء الثلاثة … وقالت السيدة: سأُعدُّ لكم الشاي!

قال «تختخ»: شكرًا لك يا عمَّة، لا داعي للشاي.

قالت السيدة وهي تقف وتتحسَّس ما حَولها: كيف؟ … هذا عيب! … إنَّكم ضيوفنا، مرحبًا بالضيوف …

وشهد الأصدقاء لدَهشتِهم الشديدة السيدة تَسير بثَبات إلى جانب من الغُرفة فيه مائدة قديمة … ثم تبدأ في إشعال وابور الجاز.

قال «عقلة»: مرحبًا بكم!

تختخ: أهلًا بك … أنت تَعرف «فريد»؟

عقلة: نعم … ماذا تُريدون منه؟

تختخ: نريد أن نُعيده إلى أسرته!

سكت «عقلة» قليلًا وتعلَّقت أنظار المغامرين الثلاثة بفمه في انتظار ما سيقوله … هل سيدلهم على مكانه؟! هل يُخفي الحقيقة كما فعل «صبحي»؟

ونظر إليهم «عقلة» مرة أخرى ثم بدأ يتكلم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤