عقلة يتحدث

قال «عقلة»: لقد قضى «فريد» في هذه الغرفة ليلتَيْن!

وازدادت دهشة المغامرين الثلاثة، ولكن «تختخ» سارع يقول: أُفضِّل أن تقول لنا القصة كاملة … أقصد أن تبدأ من أول لحظةٍ التقَيت فيها ﺑ «فريد».

فكَّر «عقلة» لحظات ثم قال: كان ذلك منذ ثلاثة شُهور تقريبًا … أي في شهر فبراير وكانت ليلة مُمطرة، عندما شاهدتُ ولدًا يَجلس في «بوفيه» المحطة وحيدًا وقد اتَّسخ حذاؤه وسِرواله وهو يَتناول كوبًا من الشاي الساخن … ويقضم «ساندوتشًا» … اقتربت منه وعرضت عليه أن أمسح حذاءه فوافق، وجلست فنظفتُ أطراف السروال، والحذاء.

وسكت «عقلة» لحظات ثم قال: ولاحظتُ أنه متعب جدًّا … والساعة قد اقتربت من العاشرة ليلًا، وأنا بحكم عملي أقابل كثيرًا من الغرباء المسافرين في المحطة، فلم ألتفت كثيرًا لوجود هذا الغريب في «البوفيه».

عندما انتهيت من تنظيف السروال والحذاء وبدأتُ أقوم، لاحظت أنه يُريد أن يتحدث معي، ولكنه مُتردِّد … فقلت له: لم يبقَ من القطارات العائدة إلى القاهرة إلا قطار واحد سيَصِل بعد دقائق، هل أنت مسافر إلى القاهرة؟

ردَّ بأنه قادم من القاهرة على دراجة، أو قد قابل مصاعب كثيرة في الطريق نظرًا لاستمرار تساقط المطر والوحول التي غطت الطريق بين «القاهرة» و«بنها» … وقد أدهشني هذا … فسألته عن سبب حضوره بهذه الطريقة، ولكنه لم يُجب، وسألته عن المكان الذي سيقضي فيه ليلته، فقال أنه سيقضيها جالسًا في «البوفيه» وكان ذلك مُستحيلًا نظرًا للبرد الشديد في تلك الليلة، وعلامات الإجهاد الواضحة عليه.

وعرضت عليه أن يأتيَ لقضاء الليل عندي، ولكنه رفض … كما رفض أيضًا الذهاب إلى فندق، وأصر على البقاء في «البوفيه» حتى الصباح، وظَللتُ أَعمل حتى قرب منتصف الليل، ثم مررتُ به مرة أخرى وقال لي إنه سيخرج معي لإحضار دراجته من الخارج، فقد تركها بجوار المحطة بعد أن أغلق قفلها … خرجنا معًا … وحدث ما لم يكن متوقَّعًا، فقد اختفت الدراجة!

وسكت «عقلة» لحظات، وبدا على الأصدقاء الاهتمام الشديد، وقال «محب»: استمر!

قال «عقلة»: كانت لحظة مؤلمة جدًّا بالنسبة له، وبرغم أن المطر كان ما يزال يسقط ويبلل وجهَينا، فإنني متأكد أنه كان يبكي، وأن دموعه كانت أكثر من قطرات المطر.

وبدت ملامح الألم على وجه «عقلة» ثم استمر يقول: لم يكن هناك شخص واحد في تلك اللحظة، وعرضت عليه أن نذهب لإخطار الشرطة، ولكنه رفض تمامًا، ولا أدري لماذا رفض.

قال «تختخ»: نحن نعرف؛ فقد كان يخشى أن يُعيدَه رجال الشرطة إلى منزله …

عاد «عقلة» يقول: ومرة أخرى عرضت عليه أن يأتي معي إلى منزلي، ووافَق تحت إلحاحي، وجاء معي إلى هذه الغرفة التي نجلس فيها، وقضى الليلة عندي، وتحدثنا طويلًا وقلت له إنني سأحاول أن أعرف الذي سرق الدراجة.

ونادت أم «عقلة» ابنها فأسرع يأتي بأكواب الشاي، ووزعها على الأصدقاء، وقال «محب»: وبعدها؟

عقلة: وفي الصباح خرجت معه وظللنا نطوف بالشوارع على أمل أن نراها … ولكن لم نَصِل إلى شيء حتى هبط الظلام مرةً أخرى، وجاء لقضاء الليل عندي، وفي اليوم التالي استطعت بواسطة بعض الأولاد الذين أعرفهم من تتبُّع أثر الدراجة، وعلمتُ أن سارقها لصٌّ خطير يُدعى «طباظة» وهو رجل لا يتورع عن عمل أي شيء، ويقود عصابة قوية للسرقة، ومرةً أخرى عرضت على «فريد» أن نبلغ الشرطة ولكنه رفض، ورجاني ألا أذكر رجال الشرطة مرة أخرى، ثم طلب مني ورقًا وقلمًا وجلس فكتب رسالة، وذهبنا معًا لإرسالها واخترت صندوق البريد الذي في المحطة لإرسال الرسالة … وبينما نحن في المحطة بعد أن وضعنا الرسالة في صندوق البريد، إذا بي أشاهد اللص «طباظة» يركب أحد القطارات! وأشرت إليه وقلت ﻟ «فريد» إنه «طباظة» وهنا حدث شيء عجيب … لقد تركني «فريد» وانطلق مسرعًا وقفز في القطار الذي بدأ يتحرَّك.

وسكت «عقلة» لحظات وبدا عليه الضيق: ولم أستطع أن ألحق به؛ فقد انطلق القطار بسرعة قبل أن أقرر أن أتبع «فريد».

تختخ: كان القطار متجهًا إلى «القاهرة»؟

عقلة: لا … كان القطار قادمًا من «القاهرة» في طريقه إلى «المنصورة» و«دمياط».

تختخ: وبعد ذلك؟

عقلة: كان «فريد» قد أعطاني «الكاميرا» لأحملها له حتى يُلقيَ الرسالة، وظلَّت «الكاميرا» معي حتى الآن … وما زالت معي، وسأحضرها لكم!

تختخ: لا داعي لهذا الآن … المهم، هل اتصل بك «فريد» بعد ذلك؟

عقلة: نعم … أرسل لي خمس رسائل … ولكنه لم يَذكر عنوانه مطلقًا.

تختخ: هل أستطيع الاطلاع على هذه الرسائل؟

عقلة: طبعًا!

وأحضر «عقلة» حقيبة صغيرة، فتحها فإذا هي حافلة بالكتب المدرسية، وسأله «عاطف»: هل تذهب إلى المدرسة يا «عقلة»؟

عقلة: نعم … في الفترة المسائية … ففي الصباح أساعد والدتي في بيع الخضراوات وفي المساء أذهب إلى المدرسة، وفي الليل أذهب لمَسحِ الأحذية!

وأخرج «عقلة» الرسائل ملفوفة في ورقة ومربوطة بدوبارة، وقدمها إلى «تختخ» الذي أمسكها باهتمام، وأخذ ينظر إلى الأختام التي عليها، ثم قال: رسالة واحدة من «دمياط» وأربع رسائل من «المنصورة»!

مُحب: آخر رسالة؟

فحص «تختخ» الرسائل بدقة ثم قال: من «المنصورة» من عشرين يومًا تقريبًا!

وبين رشفات الشاي اللذيذ الذي صنعته والدة «عقلة» أخذ «تختخ» يقرأ سريعًا الرسائل الخمس … وكان «عاطف» و«محب» يُراقبانه ويلمحان ما يبدو على وجهه من انفعالات … وكان من الواضح أنه منفعل جدًّا.

عندما انتهى «تختخ» من قراءة الخطابات قال بانفعال شديد: حكاية لا تُصدق! لقد انطلَق «فريد» وراء «طباظة» دون وعي، ودون أن يدري ماذا يفعل، وبدلًا من أن يستردَّ الدراجة كما كان يأمل، سرقته العصابة هو الآخر!

مُحب: سرقته؟

تختخ: ليس بمعنى السرقة بالضبط … ولكنهم دبَّروا له كارثة لا يمكن الخروج منها.

عاطف: إنني لا أفهم شيئًا!

مُحب: من الأفضل أن تُطلعنا على الرسائل لنُكوِّن فكرة واضحة!

وأخذ «محب» رسالة، وعندما قرأها سلَّمها إلى «عاطف» وانهمك «تختخ» في الحديث مع «عقلة».

سأله «تختخ»: ألم تظهر الدراجة بعد ذلك؟

عقلة: لقد تبعت آثارها بعد سفر «فريد» واستطعت أن أعرف من «صبحي» أن «طباظة» باعها للأسطى كرم الذي يَعمل عنده «صبحي»، وقد دهنها بلونٍ آخر واستخدمها للإيجار في محله.

تختخ: هذا يوضح خوف «صبحي» من أن يتحدَّث عن الدراجة … ولكن لماذا لم تُبلغ الشرطة بعد ذلك؟

عقلة: وفاءً بوعدي ﻟ «فريد»، لقد طلَب منِّي عدم ذكر أي شيء لرجال الشرطة وقد وفَّيتُ بوعدي.

تختخ: ألم يظهر «طباظة» بعد ذلك؟

عقلة: إنه يظهر ويختفي دون أن يعرف أحد، ويغير ملابسه وأماكن إقامته.

تختخ: هل يُطارد رجال الشرطة «طباظة»؟

عقلة: لا … لقد كان مقبوضًا عليه، وعندما أُفرج عنه افتتح محلًّا لبيع قطع غيار السيارات، ولكن هذا المحل ليس إلا ستارًا يُدير من خلفه عصابتَه … وهو لا يرتكب السرقات بنفسه، إن أعوانه من الرجال والصِّبيان يقومون بهذا!

تختخ: صبيان؟

عقلة: نعم، إنهم يَسرقون قطع الغيار من السيارات، وينشلون في القطارات المزدحمة، وأشياء أُخرى كثيرة، ولا بدَّ أن أحدهم هو الذي سرق الدراجة.

تختخ: ولكنها كانت مُقفلة!

ابتسم «عقلة» لأول مرة قائلًا: إنهم يفتحون أحدث أنواع السيارات … فهل يعجزون عن فتح دراجة؟!

نظر «تختخ» إلى ساعته وكانت قد تجاوزت مُنتصَف الليل بقليل، وكان «محب» و«عاطف» قد انتهيا من قراءة الرسائل الخمس فقال «تختخ» وهو يقف: شكرًا لك يا «عقلة» إنك صديق كريم وشجاع.

عقلة: إلى أين تذهبون؟

تختخ: إلى فندق لقضاء الليل، وسنُسافر غدًا صباحًا إلى المنصورة!

عقلة: لا تذهبوا إلى أيِّ فندق … إن عصابة «طباظة» قد تكون في انتظاركم بعد أن عرفوا أنكم تبحثُون عن الدراجة، وفي الوقت نفسه عندي متَّسع لكم فنحن في الصيف، وأيُّ مكان يصلح للنوم!

مُحب: شُكرًا لك، ولكن …

وسمعوا صوت السيدة تقول: مرحبًا بكم عندنا، سننام أنا و«عقلة» في غرفة الخضار وهناك قش كثير نظيف يَصلح للنوم، وسنترك لكم الغرفة والسرير والكنبة يكفيان لنومكم.

وقبل أن يعترض المغامرون الثلاثة مرةً أخرى … انسحبت السيدة إلى غرفة الخضار الملحقة بالتي يجلسون فيها … ولاحظ الأصدقاء أنها تركت لهم عشاءً مكونًا من الجُبن والبطيخ والبيض … وقال «عقلة»: لقمة معًا، حتى تكون قد أكلنا مع بعضنا عيشًا وملحًا.

تأثر المغامرون الثلاثة تأثُّرًا شديدًا بكرم الضيافة، وجلسوا يتناولون عشاءهم، ودون تردد قال «محب»: إنه أشهى طعام تناولته في حياتي!

واحمرَّ وجه «عقلة» لهذا الإطراء … وبعد الانتهاء من العشاء أسرع «عقلة» إلى غرفة الخضار ولكن «تختخ» قال له: أرجو أن تَنتظِر، فسوف نشترك معًا في مناقشة ما سنفعله، وسكت «تختخ» لحظات ثم قال: من الواضح أن عصابة «طباظة» كانت تُراقب «فريد» بعد أن سرقوا دراجته، ولما لم يُبلغ الشرطة أدركوا أنه لسببٍ ما لا يريد أن يظهر أمام رجال الشرطة … وهكذا … كما يقول في رسائله دسوا عليه شخصًا في القطار تظاهر بالطيبة أمامه والرغبة في المساعدة، وصدَّقه «فريد» وروى له قصة الدراجة وما عرفه عن عصابة «طباظة»، وهكذا سافر «فريد» إلى دمياط مع الرجل، وكان «طباظة» في القطار نفسه.

وتناول «تختخ» قطعة من البطيخ ثم ازدردها في استمتاع وقال: وفي «دمياط» استطاعت العصابة أن تُورِّطه في تهمة لا ندري ما هي؛ فهو لم يفسرها، ولكن يتضح من رسائله أنه تعس وبائس.

قال «عقلة» مُعلقًا: وهذا سبب ضيقي الشديد ورغبتي في معاونتكم.

ومضى «تختخ» يقول: ومن رسالته الأخيرة يتضح أنه يحاول إنقاذ نفسه، ولا يستطيع بسبب الورطة التي وقع فيها، ولهذا سافر إلى «المنصورة»، ولكن ألم تُلاحظوا شيئًا على الرسائل؟!

عقلة: أي ملاحظات؟

مُحب: لاحظت أن الرسائل الأخيرة فيها آثار اتِّساخ، مثل الزيت أو الشحم!

تختخ: تمامًا، إنَّ «فريد» يَشتغِل في مكان به شحم وزيوت. فإذا عدنا إلى هواياته، فمعنى ذلك أنه يعمل في ورشة لإصلاح السيارات.

عقلة: متى تُسافرون؟ إنني أريد أن أسافر معكم!

تختخ: إنَّ هذا يَقتضي وضع خطة … فقد نكون الآن مُراقَبين من العصابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤