حديث في الشارع

كانت خطة «تختخ» التي شرحها قبل أن يناموا بسيطةً، مَطلوب ملابس متَّسخة، قال «عقلة» إنه يُمكن الحصول عليها من تاجر ملابس مُستعمَلة يَسكُن بجوارهم، ثم يخرجون فُرادى، كل واحد وحده … ويَركبون وسائل مواصلات مُختلفة، على أن يَلتقُوا جميعًا على رصيف محطة «المنصورة» بين التاسعة والتاسعة والنصف.

وفي الخامسة صباحًا أيقظتهم أم «عقلة» وأعدَّت لهم الإفطار والشاي، وساعدها «عقلة» كالمعتاد في إخراج الخضار إلى السوق، ثم عاد ومعه الملابس المُستعمَلة وسرعان ما خرج «محب» أولًا، وبعد ربع ساعة «عاطف»، وبعد ربع ساعة أخرى «تختخ» ثم تبعهم «عقلة»، ركب «محب» أول قطار غادر «بنها»، وركب «عاطف» الأتوبيس إلى «طنطا» على أن يُغيِّر طريقه بعد ذلك إلى «المنصورة»، وركب «تختخ» تاكسيًا بالنفر، وركب «عقلة» القطار التالي إلى «المنصورة».

قبل التاسعة كان الأربعة قد التقَوا على رصيف محطة «المنصورة»، ثم نزلوا في ميدان المحطة المُزدحم، ولم يكن من يراهم يمكن أن يرى فيهم إلَّا أربعة من المشردين يبحثون عن لقمة يأكلونها.

كان ميدان المحطة مزدحمًا بسيارات الأجرة، فاتجه «تختخ» إلى أقرب سيارة وقد وضع بين أسنانه قطعة من القماش يلوكها بين أسنانه كأيِّ مُتشرِّد حقيقي، وشاهد ولدًا يقف بجوار السيارة يمسحها بعناية، فوضع يده على كتفه وتوقَّفَ الولد عن العمل ونظر إليه قائلًا: كفر الشيخ؟

رد «تختخ»: لا … إننا نسأل عن ورشة الأسطى «عجب».

زوى الولد ما بين حاجبيه وقال: «عجب» «عجب» … لا أعرف ورشة في «المنصورة» بهذا الاسم!

قال «تختخ» بثبات وهو يعرف جيدًا أنه لا «عجب» ولا غيره في «المنصورة»: لقد قالُوا لي إنها هنا قُرب المحطة!

ردَّ الولد: لا أظن! إنني أعرف الوِرَش التي في المنطقة كلها، فهنا في شارع سينما «ركس» القديمة تُوجد أقرب مجموعة وِرَش وليس فيها ورشة بهذا الاسم، وفي خلف شارع «الثورة» في منطقة «الحسينية» مجموعة أخرى … وفي نهاية شارع «العباسي» مجموعة ثالثة، وهذه أشهر الورش في «المنصورة»، وليس بينها جميعًا ورشة باسم «عجب».

شكر «تختخ» الولد والتفت إلى الأصدقاء … وكانوا جميعًا يعرفون أنه قام بخدعة صغيرة يعرفونها جميعًا، السؤال عن غير الموجود للحصول على الموجود، وقد حصلوا على أماكن تجمعات الورش في «المنصورة».

قال «تختخ»: «عقلة» مع «عاطف» عند سينما ركس … «محب» عند مجموعة الورش خلف شارع الثورة … أنا سأذهب إلى نهاية شارع «العباسي»، خذوا حذركم وإذا وجدتم «فريد» فلا تتحدثوا إليه مطلقًا … اعرفوا المكان فقط، وسنجتمع مرة أخرى.

ونظر «تختخ» حوله فأشار إلى مقهًى صغير في الميدان، عند هذا المقهى في الثانية بعد الظهر ولا يتأخَّر أحد.

اتجه الأصدقاء كلٌّ في طريقه، سار «محب» في شارع الثورة وهو يُكرِّر في ذهنه كلمة «الحسينية» حتى لا ينسى، وعندما وصل إلى منتصف الشارع سأل أحد المارة عن مكان «الحسينية» فأشار الرجل إلى أحد الشوارع الجانبية وقال: كل هذه المنطقة حي «الحسينية».

انحدر «محب» في الشارع الجانبي، كان يستخدم حواسه كلها في البحث عن الورش … فهو يستمع إلى كل ضوضاء … ويشم رائحة البنزين والشحم … وينظر إلى كل محل، ولم يَطُل به البحث كثيرًا؛ فقد قادته أذناه إلى ضجة تصدُر من طَرْقِ حديد، وسرعان ما وجد نفسه أمام مجموعة متتالية من ورش إصلاح وسمكرة ودهان السيارات … ودقَّ قلب «محب» هل يعثر على الولد الصغير الهارب؟! إنه يتمنى أن يرده إلى أسرته المفجوعة … ولكن هل يُوفق؟

أما «تختخ» فقد قطع شارع الثورة كله وسأل أحد المارة عن شارع «العباسي» فقال له إنه يتقاطع مع شارع «الثورة» في نهايته، وصل إلى هناك … وقرأ اسم لوكاندة «القاهرة» على لافتة، ثم شاهد باب مطعم أنيق، وبجواره عُلقت لافتة: «شارع العباسي» … كان شارعًا تجاريًّا مزدحمًا … أغلب المحلات التي فيه تبيع البقالة وأصناف الحبوب … وبعضُها يَبيع القطن والأثاث، ولم تكن هناك ورشة واحدة، وظلَّ يسير حتى وصل إلى نهاية الشارع، وسرعان ما لمح ما كان يبحث عنه … سلسلة من السيارات تقف للإصلاح.

وفي تلك الأثناء كان «عقلة» و«عاطف» قد دخلا في شارع سينما «ركس» وأخذا يَسألان هنا وهناك حتى وصلا إلى منطقة واسعة على جانبَيها مجموعة من الورش ومن محلات قطع الغيار.

•••

عندما اجتمع الأصدقاء على المقهى في الثانية، لم يكن عند أي واحد منهم شيء يستحق الذكر … كانوا جميعًا مُتعبين … فقد مشوا طويلًا … ولكن دون أن يصلوا إلى معلومة واحدة ذات قيمة، وقد اتَّضح هذا كله منذ اللحظة التي نظر كل منهم في وجه الآخر. كانت علامات الإخفاق واضحة عليهم جميعًا، وعندما ارتمى كل منهم على مقعده لم ينطق أحد بحرف واحد.

فجأة قال «تختخ»: تعالوا نتغدى!

نظر إليه «عاطف» ثم قال: لعلَّك لم تكن تبحث عن «فريد» بل تبحث عن أحسن مطاعم الكباب والكفتة في المدينة.

قال «محب» معلقًا: لم يَعُد معنا ما يكفي الكباب والكفتة … ولا حتى ربع كيلو، سنكون ضيوفًا على محلات الفول والطعمية بقية الرحلة التي لا نعرف متى ستنتهي.

قال «تختخ»: فول بالزيت الحار!

مُحب: بالزيت الفرنساوي!

تختخ: أمري إلى الله … هيا بنا!

ودخلوا مطعمًا قريبًا … وبعد أن أكل «تختخ» رغيفًا ببعض قطع المخلل بدأت ملامح وجهه تلين وقال: لا تيئسوا … سنعثر عليه!

عاطف: أشكُّ كثيرًا في استنتاجاتك حول أصابعه الملوَّثة على الرسالة، ربما ليسَت بسبب عملِه في ورشة سيارات.

تختخ: انتظر حتى نَتناول طبق الفول!

عاطف: هل طبق الفول هو الذي سيحلُّ المشكلة؟

تختخ: مَن يدري؟ بركات الفول!

ولم يكد «تختخ» ينطق بهذه الجملة حتى صاح «عقلة» الذي كان يجلس في مواجهة الباب: «طباظة»!

وانطلق هو و«عاطف» الذي كان يجلس بجواره خارجَين. وبعدها خرج «تختخ» وبقي «محب» ليدفع الحساب، وأشار «عقلة» إلى رجل طويل القامة يرتدي الملابس البلدية، ويُمسك بيده عصا … يسير وهو يتحدث مع شخص آخر أقصر منه.

همس «عقلة»: هذا هو «طباظة» … الرجل الطويل!

كان «تختخ» جائعًا، فقد غادر المطعم دون أن يتناول طبق الفول … ولكنه بعد لحظات نسي الفول والزيت … وتنبهت فيه كل حواس المغامر … فقد وضعت الصدفة في طريقه الرجل الوحيد الذي يمكن أن يدله على مكان «فريد» في هذه المدينة الواسعة.

كان «طباظة» يَمشِي واثقًا من نفسه، وأحيانًا يهز عصاه دون الاهتمام بما يمكن أن تفعله بالمارة … وظل يمشي وهو يُحدث الرجل القصير الذي بجواره، وقال «تختخ»: لنفترق … واجتماعنا إذا حدث شيء عند المقهى الذي كنا نجلس فيه.

وافترقوا … بقي «تختخ» و«محب» على الرصيف الذي يسير عليه «طباظة» وانتقل «عقلة» و«عاطف» إلى الرصيف الآخر حتى لا يقع بصرُ «طباظة» على «عقلة»؛ فمن المؤكد أنه يعرفه، وقد يلفت نظره وجوده في «المنصورة».

بعد أن وصل «طباظة» إلى مُنتصَف شارع «الثورة»، انحرف يمينًا، ثم دخل عمارة كبيرة … وتوقف الأصدقاء بعيدًا، ثم أشار «تختخ» لهم فتجمعوا بعيدًا عن العمارة بحيث تبقى تحت أنظارهم.

قال «تختخ»: إنها فرصتنا الوحيدة للوصول إلى «فريد»، لن نتركه أبدًا يغيب عن أبصارنا.

مُحب: وما هي خطتك؟

تختخ: سنقف بعيدًا عن العمارة، وسنتفرَّق على مسافات متساوية، فإذا خرج فسنمر به أنا ثم «محب» ثم «عاطف» ونحاول أن نستمع إلى الحديث الذي يدور بينه وبين الرجل الذي معه، وسيبقى «عقلة» دائمًا بعيدًا عنه حتى لا يراه.

مضت نصْف ساعة تقريبًا … ثم شاهد الأصدقاء «طباظة» ينزل ومعه شخص آخر … أخذ يمشي في شارع الثورة مرة أخرى … وتقدم «تختخ» حتى أصبح يسير في محاذاة الرجلين وسمع «طباظة» يقول: سننقل البضاعة كلها على «تورييل»، وفي الليل سوف تقوم السيارة بشحنها كلها إلى «دمياط»!

وردَّ الرجل الآخر بحديث لم يسمعه «تختخ»؛ فقد انحشر أحد المارة بينه وبين الرجلَين، وانحرف «تختخ» ووقف أمام أحد المحلات متظاهرًا أنه يتفرج على المعروضات، وتقدم «محب» فحل محله وسمع «طباظة» يقول: لا بد من التخلص من هذا الولد الليلة، لقد أصبح يعرف الكثير عنَّا، فليُشحن مع البضاعة.

قال الآخر: ولكنه لا يستطيع خيانتنا … إنه كما يتخيَّل مُطارَد من رجال الشرطة … رد «طباظة» بغلظة: لا دخل لك في هذه الترتيبات … سننقلُه إلى «دمياط» وسيقوم «أبو الشام» هناك بالتصرف معه.

وتوقف «طباظة» فجأة عند محطة بنزين السيارات التي تقع في نهاية شارع «الثورة» وأسرع أحد الرجال يَفتح له باب السيارة. حفظ «محب» على الفور ماركتها ورقمها ولونها وانطلقت السيارة مسرعة متَّجهة إلى الكورنيش.

وتوقف «محب» وانضم إليه بقية الأصدقاء، وروى لهم ما سمعه، وبالإضافة إلى ما سمعه «تختخ» أصبحت لديهم معلومات لا بأس بها عن مكان «طباظة».

قال «عاطف»: ماذا يعني ﺑ «تورييل» … إنه اسم أجنبي غريب!

رد «تختخ»: سنعرف معنى «تورييل» فورًا … لعله اسم عمارة معروفة في «المنصورة».

كانوا أمام محل حلواني، وبجواره مطعم صغير، ونظر «تختخ» إلى «محب» قائلًا: أظنُّك لا تمانع أن نتغدى الآن … فأمامنا عمل كثير!

هزَّ «محب» رأسه فدفع الأربعة إلى المطعم، وعندما حضر الجرسون أخرج «تختخ» من جيبه قرشًا أعطاه إيَّاه قائلًا: أريد بعض ماء الطرشي في كوب.

ابتسم الجرسون الصغير وهو يَمسَح المائدة سائلًا عن طلباتهم، فقال «تختخ»: بالمناسبة هل «تورييل» بعيدة عن هنا؟

رد الجرسون: أي مكان في «تورييل»؟

تختخ: هل هي كبيرة «تورييل» هذه؟

الجرسون: إنه أجمل حيٍّ في «المنصورة»!

نظر الأصدقاء بعضُهم إلى بعض … إنها ليست عمارة … إنه حي بأكمله … ولكن «تختخ» لم يقم ولم يتحرك … لقد قرَّر أن يتغدَّى أولًا … وسأل الجرسون: وأين «تورييل» هذا؟

رد الجرسون: عند نهاية الكورنيش قرب الكوبري القديم.

قال «تختخ»: هات إذن أربعة فول بالزيت، وطرشي، وعيش ساخن، وبعدها سنعرف ما هي حكاية «تورييل» هذه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤