معركة الليل

بعد الغداء، وبعد مجموعة أخرى من الأسئلة. أخذ المُغامرون الثلاثة ومعهم «عقلة» طريقهم إلى حيِّ «تورييل» وهو حيٌّ أنيق يَحفُل بالفيلات ذات الحدائق المزدهرة، ويحدُّه من أحد جوانبه نهر النيل فرع «دمياط»، قال «تختخ» موجهًا حديثه إلى «محب»: والآن كرِّر لنا وصف السيارة التي ركبها «طباظة»!

قال «محب»: سيارة ماركة «بيجو» بيضاء، أرقامها «٥٥٣٥» دقهلية!

عاطف: أي طراز من البيجو؟

مُحب: «بيجو ٥٠٤»!

تختخ: خطَّتنا البحث عن هذه السيارة … أغلب الظن أن «طباظة» يسكن قريبًا من البضاعة التي أشار إليها في حديثه مع الرجل، ولعلَّنا بالعثور على مكان «طباظة» نعثر على «فريد».

ونظر «تختخ» إلى ساعته وقال: سنلتقي عند الكوبري في السابعة مساءً.

وتفرق الأربعة داخل «تورييل» الهادئ، ومضى كلٌّ منهم ينظر إلى السيارات المارة أو الواقفة أمام الأبواب. كان الجو حارًّا وقد خلَتِ الشوارع من المارة، إلا قلة قليلة، وكانت أغلب السيارات تقف أمام أبواب الفيلات، أو داخل الجراجات، وكان على المُغامرين أن يغامروا أحيانًا بالاقتراب من هذه الجراجات. ولكن بحذر شديد، فأيُّ خطأ قد يُؤدي إلى كارثة.

وكان الحظ من نصيب «عاطف»؛ فقد بدأ السير في شارع عريض يشق قلب الحيِّ الهادئ وكان أمامه عشرات الشوارع الفرعية الصغيرة، ولكنه فضَّل السير إلى نهاية الشارع قبل أن يدخل الشوارع الجانبية، وفي نهاية الشارع قرب المزارع الواسعة شاهد فيلا ضخمة، لفت نظره وجود بعض الكلاب الشرسة تحميها. ودار «عاطف» حول الفيلا بعيدًا جدًّا … وفي الخلف شاهد ما كان يبحث عنه، السيارة البيجو البيضاء تقف أمام جراج ضخم يُشبه المخزن، وكان باب الجراج مواربًا، واقترب «عاطف» أكثر ونظر داخله، ولكن الجراج كان مظلمًا فلم يستطع مع ضوء الشمس الذي يقف فيه أن يرى شيئًا، واقترب أكثر ودخل من باب الجراج، وقبل أن يُدرك ما حدث، وجد يدًا تمتد إلى وجهه في لكمة هائلة سقط على إثرها أرضًا ثم سمع صوتًا غاضبًا يقول: ماذا تفعل هنا أيها المتشرد؟

وظهر رجل «غضب» يرتدي ثياب ميكانيكي ملوَّثة بالشحم والزيت، وكان بيده مفتاح ضخم رفعه في وجه «عاطف» الذي فر هاربًا.

اختار «عاطف» شجرة بعيدة من باب الجراج … ووقف يُراقب ما يحدث، كان هناك أشخاص يترددون على الجراج بين فترة وأخرى، وبعض السيارات تأتي وتذهب، وظهر «طباظة» مرةً واحدةً قرب الساعة السادسة، وغاب في الداخل نحو نصف ساعة ثم خرج وركب سيارته وانطلق.

غادر «عاطف» مكانه مُسرعًا … وسار بين المزارع حتى الكورنيش … ثم أسرع للقاء بقية المغامرين عند الكوبري … ووجدهم قد سبقوه إلى هناك وسرعان ما كان يروي لهم ما شاهده.

قال مُحب: ألم تر «فرید» مُطلقًا؟

عاطف: لا …

تختخ: ولكني متأكد أنه موجود في مكان ما من هذه الفيلا أو الجراج … فحديث «طباظة» عن نقله مع البضاعة يعني أنه في مكان قريب … ولعله يعمل في الجراج، بدليل بصماته المتسخة على الرسائل التي أرسلها.

تدخَّل «عقلة» في الحديث قائلًا: وماذا تفعلون الآن؟

تختخ: أولًا سنَدرُس المكان فإذا كان في إمكاننا دخول الجراج وإنقاذ «فريد» فعلنا ذلك، وإذا استطعنا أن نوصل له رسالة نخبره فيها أننا نريد أن نساعده فعلنا … أو نترك خطتنا للظروف.

وساروا على كورنيش النيل، والشمس تميل للمغيب، وكانت خطة «تختخ» في المراقبة تستدعي انتظار الظلام، فالتفُّوا بجوار بائع ترمس، وأخرج «محب» بعض القروش واشترى لكلٍّ منهم قرطاسًا … وفجأة قال «عقلة»: لماذا لا نُبلغ الشرطة؟

ردَّ «تختخ»: لقد فكرت في هذا … ولكن نبلغها بأي شيء؟ إننا لا نعرف ما هي البضاعة التي سيُرسلها «طباظة» وعصابته إلى «دمياط» … ولعلَّها بضاعة قانونية … ثانيًا نحن لا نَعرِف التُّهمة الموجَّهة إلى «فريد» والتي استطاعت العصابة أن تضطرَّه للبقاء معها حتى الآن … ولعلَّها تُهمة حقيقية فنضع الولد في موقفٍ حرج.

عقلة: إنني أستبعد أن تكون تهمة حقيقية، إن «فريد» لا يمكنه أن يرتكب جريمة من أي نوع.

مُحب: مَن يدري! لعلهم اضطرُّوه لارتكاب جريمة ما لا نعرفها، إن الأفضل هو مقابلة «فريد» والتفاهم معه!

هبط الظلام على «المنصورة» وبدأ الأصدقاء سيرهم، ووصلوا عن طريق المزارع إلى الفيلا الكبيرة، والجراج الضخم المُلحَق بها، ولم يكد «تختخ» يرى الجراج حتى قال في اهتمام: هل تُلاحِظُون هذه الأشجار؟

عاطف: المحيطة بالجراج؟

تختخ: طبعًا … ألم تَطرأ لكم فكرة؟

مُحب: تسلُّق الأشجار إلى سطح الجراج!

تختخ: لا … تَسلُّق الأشجار عندما تأتي سيارة النقل، ثمَّ الهبوط عليها!

عقلة: كلنا؟

تختخ: لا … أنا و«محب»، وستَبقيان هنا أنت و«عاطف»، فإذا لم نَعُد حتى الصباح فعليكما إخطار الشرطة في «المنصورة»، ثمَّ يتصل «عاطف» ﺑ «نوسة» و«لوزة» في المعادي لإخطار المفتش سامي!

عاطف: أين ننتظر وفي أي ساعة؟

تختخ: ستبقيان هنا بين المزارع لمُراقبة ما يمكن أن يدور في الفيلا والجراج وموعدكما الساعة الثامنة صباحًا … إذا لم نعد حتى تلك الساعة فتصرَّف فورًا!

ازداد الظلام كثافة ومضت الساعات حتى انتصف الليل، وفجأةً لمعَت أضواء سيارة قادمة في اتجاه «الجراج»، كانت سيارة نقل أثاث، وسرعان ما توقفت أمام «الجراج» وأطفأت أنوارها.

قال تختخ: سنَنتظر ونرى!

فُتح باب «الجراج» … وبدأ عدد من الرجال ينقلون إلى صندوق السيارة مجموعة من الأكياس والحقائب، ثم بعدها بدءوا في نقل بعض الأثاث إليها.

قال «تختخ»: البضاعة المقصودة في الطرود والحقائب، أما الأثاث فلِلتَّعمية … إن … ولكن قبل أن يتم جملته، شاهَدُوا رجلًا ضخمًا يقود ولدًا صغيرًا مُمزَّق الثياب إلى السيارة ويدفعه داخلها، ويغلق الباب وقال «عقلة» في انفعال: «فريد»!

أشار «تختخ» إلى «محب» فانطلَقا في الظلام، وكانت السيارة قد أغلقت بابها ووقف الرجال يتحدَّثون لحظات ثم دخلوا الفيلا ومعهم السائق … وجاءت فرصة «تختخ» و«محب» فتسلَّقا الشجرة المُرتفِعة كالقرود، ثم هبطا برفق على ظهر السيارة، وانبطحا بهدوء على ظهرها.

وشاهد «عاطف» و«عقلة» من مخبئهما وسط المزارع ما يحدث. وشاهَدا رجليْن يخرجان من الفيلا ويَركبان السيارة، ثم تحركت السيارة متَّخذة طريق المزارع المظلم دون أن ينتبه أحد إلى الولدَين اللذَين ناما على ظهرها.

سارت السيارة مسرعة، مُبتعدة عن الطرقات المطروقة، وكان واضحًا أنها تختار الطرق المظلمة حتى تغادر «المنصورة» … وكان ذلك لحسن حظِّ المغامرين.

بعد رُبع ساعة غادرت السيارة «المنصورة» وبدأت سيرها على طريق «المنصورة-دمياط» وهمس «محب» ﻟ «تختخ»: ماذا نفعل؟

تختخ: سأُحاول فتح باب الصندوق الخلفي.

مُحب: كيف؟

تختخ: ألم تلاحظ … إنه مُغلَق برافعة تبدأ من أعلى الصندوق إلى أسفله!

مُحب: إنَّ هذا مستحيل!

تختخ: سأُحاول.

وزحف «تختخ» تدريجيًّا حتى أصبح عند نهاية الصندوق، ثم مدَّ يده وأخذ يتحسس الرافعة، وطرفها العلوي يدخل في حلقة مُثبتة بخشب الصندوق. وعرف أن فتح الصندوق من هذه الناحية مستحيل … ولا بد من فتحه من الطرف الأسفل …

ولم يكن وزن «تختخ» يسمح له بالانزلاق على حافة الصندوق، فعاد زاحفًا إلى «محب» وشرح له المطلوب، وسرعان ما كان «محب» بجسده الرياضي القوي ينحدر كأنه عنكبوت على باب الصندوق الخلفي، وقد اعتمد بقدمَيه على حافة الصندوق، وتدلَّى إلى أسفل، وكان «تختخ» يُمسك بقدمَيه حتى لا يقع.

كانت السيارة تسير مسرعة، لا تهتم بالمطبات ولا بالأحجار، وكان وجه «محب» يرتطم بخشب الصندوق كلما نزلت السيارة في مطب حتى أحس أنه سيفقد وعيه، ولكنه ظلَّ يتحسَّس طرف الرافعة حتى وجدها … كان الطرف يدخل في حلقة، وثُبِّت بمسمارٍ كبيرٍ يدخل في الحلقة، وأخذ يحاول، ولكن المسمار كان محشورًا في الحلقة، لم ييئس «محب» برغم إحساسه بالدماء تندفع إلى رأسه وهو مُدلًّى مِن قدمَيه والخبط في رأسه يَزداد في كلِّ مطب. ولكنه ظلَّ يجذب المسمار حتى انتزعه، ودارت الرافعة، وحرَّك «محب» قدمه، فأخذ «تختخ» يَجذبه تدريجيًّا حتى صعد إلى فوق …

قال «محب» بإعياء: الباب مفتوح الآن!

تختخ: سأَعتمِد على قوَّتك مرةً أخرى … أريدك أن تفتح الباب ثم تتدلَّى وتقذف بنفسك داخل الصندوق!

مُحب: سأرتاح قليلًا … فإنَّني مُتعَب جدًّا!

وربض الصديقان فوق السيارة … وأخذ «محب» يهز رأسه حتى استعاد وعيه، ثم تدلى مرة أخرى وفتح الباب … ولكن حدث مع لم يكن مُتوقَّعًا … فقد انفتح الباب بعنف وخبط جانب السيارة بشدة … وخفضت السيارة من سرعتها على الفور … ونزَلَ الرجل الذي كان يجلس بجوار السائق ليرى ما حدث، ودار حول السيارة ووقف أمام الباب مدهوشًا، فقفز عليه «محب» وسقط على الأرض وارتطمَ رأسه بها … وغاب عن وعيه ونزل السائق الذي سمع صوت الارتطام وشَاهَد «محب» ولكن قبل أن يرفع يده بالمفتاح الضخم الذي كان يحمله، قفز «تختخ» بكل ثقله عليه، وكان السائق قويًّا، فاشتبكا في صراع عنيف … أنهاه «محب» عندما عثر على المفتاح في الظلام وهبط به في ضربة صاعقة على رأس السائق.

صاح «تختخ» وهو يمد رأسه داخل السيارة: «فريد»!

لم يرَ شيئًا، ولكن سمع حركة، وأدرك أن «فريد» موثوق القدمين واليدين ومكمَّم الفم، فقفز إلى الداخل، وعلى ضوء بطارية «محب» فكَّ وثاقه.

نزَل «فريد» في الظلام ينظر إلى «محب» و«تختخ» في دهشة فقال «تختخ»: إننا صديقان!

فريد: ماذا تُريدان مني؟

تختخ: ستعود معنا إلى «المعادي».

فريد: «المعادي»؟!

تختخ: نعم … نحن نعرف والدَيكَ وشقيقتك «ليلى».

مُحب: هيا بسرعة سأفرغ العجلات الأربع من الهواء!

وبعد دقائق قليلة، كان الثلاثة ينطلقون في الظلام عائدين إلى «المنصورة»، وكان «فريد» يسأل عن أسرته و«تختخ» يُجيب.

وبعد أن جروا فترة، شاهدوا ضوء سيارة نقل في طريقها إلى «المنصورة»، وسرعان ما تفاهموا مع السائق، وقفز الثلاثة إلى السيارة وانطلقت بهم إلى «المنصورة».

•••

في الساعة السابعة صباحًا كانت سيارة أجرة «المنصورة» تقترب من فيلا أسرة «فريد» وفيها خمسة أولاد في ملابس مُشرَّدين … كانوا «تختخ» و«عاطف» و«محب» و«عقلة» و«فريد»، وكانت «ليلى» تقف بين أزهارها ترويها، عندما شاهدت المُشرَّدِين الخمسة يدخلون الحديقة لم تعرفهم للوهلة الأولى، ولكن عندما اقتربوا منها سقط خرطوم المياه من يدها ثم صاحت في ذهول: «فريد» … «فريد»!

وعلى صوتها ظهر والدها ووالدتها في شرفة الفيلا، ثم اختفيا وظهرا ينزلان السلم مُسرعَين، وألقى «فريد» بنفسِه بين ذراعَي والدتِه التي انخرطت في البكاء.

قال «محب» لوالد «فريد»: أرجو أن تدفع للسائق أجرته فلم يبقَ معنا نقود.

ثم خرج المغامرون الثلاثة عائدين إلى منازلهم بعد أن تمسَّك «فريد» ببقاء «عقلة» معه.

•••

في هذا المساء السعيد، اجتمع المغامرون الخمسة على مائدة حافلة بالطعام في منزل أسرة «فريد» وروى «فريد» ما حدث له بعد أن ركب القطار من «بنها»؛ فقد تعرف برجل وعده بمساعدته، وعندما توجها إلى «دمياط» طلب منه الرجل أن يحمل له حقيبته، وفجأة هجم رجال الشرطة … واتضح أنها محشوَّة «مخدرات». وقال «فريد»: واستطعت الفرار أنا والرجل الذي أكَّد لي أن الشرطة تبحث عنِّي … وهكذا أصبحتُ أسير عصابة «طباظة» واختفيت في الجراج، أعمل في إصلاح السيارات ولا أستطيع مغادرته إلا ساعة واحدة كل يوم لألقي بالرسائل التي كنت أرسلها ﻟ «عقلة»!

ونظر «فريد» إلى «عقلة» قائلًا: إنني لن أنسى فضلك وشجاعتك.

قال «تختخ»: هل كانت البضاعة التي في سيارة النقل محظورًا تداولها؟

فريد: فعلًا.

تختخ: لقد استنتجت ذلك، وأبلغت المفتش «سامي» الذي اتَّصل بشرطة «المنصورة»، وتمَّ القبض على عصابة «طباظة»!

ليلى: إنني لا أعرف كيف أشكركم على ما فعلتم من أجلنا!

فريد: وأعلن أنني كنتُ مُخطئًا تمامًا فيما فعلت … لقد علمتني هذه التجربة أن الشجاعة وحدها ومواجهة الموقف هي الحل الصحيح لما يحدث لأي شخص.

ونظر الجميع إلى «تختخ» ليقول شيئًا، ولكنه كان مُنهمكًا تمامًا في الأكل، فنظر المغامرون بعضهم إلى بعض، ثم إلى «فريد» و«عقلة» وانفجر الجميع ضاحكين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤