فطر العفن الأسود

يعتبروني واحدًا من أهم أمراض المخازن التي تُصيب محاصيل الخضار والفاكهة، كالبصل والمشمش، والعنب والرمان، وثمار الفستق أو الفول السوداني أثناء تخزينها أو خلال تصديرها وشحنها لمسافات بعيدة؛ فالحرارة المرتفعة والرطوبة العالية داخل المخازن أو حاويات الشحن، تساعد على تكاثري وانتشار أبواغي التي تتحمل مدًى حراريًّا واسعًا من درجة التجمد حتى الدرجة خمسين مئوية، كما أُصيبُ هذه المحاصيل أثناء نموها في الحقل وتعرُّضها للجروح بفعل الحشرات أو الخدمات الزراعية، مؤديًا إلى تحلل أنسجتها وتعفُّنها.

يُحذر الأطباء المزارعين في حقولهم والأشخاص العاملين في المخازن من التعرُّض بكثرة لاستنشاق أبواغي لِما تسبِّبه لهم من أمراض ومشاكل في الجهاز التنفسي، ويعتبروني سببًا في الإصابة بداء الرشاشيات وسرطان الكبد والإجهاضات والنزف الدموي، ويعزون ذلك إلى مادة الأفلاتوكسين السامة التي أُفرزها على الثمار المُصابة. قد يكون ذلك صحيحًا بالنسبة للأشخاص الذين يكون جهاز المناعة لديهم ضعيفًا وفي حال كان الهواء الذي يتنفسونه ملوَّثًا لدرجة كبيرة بأبواغي تلك، ولكن في حقيقة الأمر فإن المسئول عن الأضرار التي تصيب جهازكم التنفسي هي فُطور أخرى من نفس النوع الذي أنتمي له وعددها أربعة أنواع؛ من فطريات الأسبرجلليس، من أهمها وأكثرها انتشارًا الفطر المُسمى أسبرجلليس فلافوس.

يقوم فطر الإسبرجيللوس فلافوس بإفراز مادة الأفلاتوكسين السامة في مرحلة ما قبل حصاد المحاصيل الزيتية التي يفضِّلها؛ مثل «الفول السوداني أو القطن أو محصول اللوز والذرة وغيرها من المحاصيل الأخرى التي تزرعونها»، وتستمر تحت الظروف المناسبة في المخزن وأثناء الشحن للتصدير حيث تكون رطوبة البذور مرتفعةً مع درجة حرارة مناسبة تتراوح بين ٣٠–٣٥ درجةً مئوية.

تلعب مركَّبات الأفلاتوكسين دورًا هامًّا في إحداث الأورام الخبيثة لديكم، كما تُصيب الكبد وتُحدث السرطان والضمور، والتليُّف، والالتهاب، والنزيف الداخلي في داخل جهازكم الهضمي، وتؤثِّر على نشاط الإنزيمات، وعلى تركيب الدم، وسرعة ترسيبه.

وخلاصة القول فإن هذه الأفلاتوكسينات الشديدة السُّمية، لا أُنتجها أنا وإنما يُنتجها فطر أسبرجلليس فلافوس، وسُم الأفلاتوكسين هذا خطير على صحتكم؛ إذ إن استهلاكه بكمية كبيرة يؤدِّي إلى الوفاة، أما استهلاكه بكمية أقل من الجرعة المُميتة فإنه يؤدي إلى السرطان.

وبالمقابل أنا صديق حميم للإنسان، وواحد من أهم الفطريات وأكثرها خدمةً للبشرية في هذا العصر؛ فمنذ أن لاحظ كيميائي الأغذية جيمس كوري في عام ١٩١٧م قدرتي على تحويل السكريات إلى حمض الليمون بكفاءة عالية خلال استهلاكي لها وعمليات التخمير التي أقوم بها، اتجهت نحوي أنظار العلماء، وازداد الاهتمام بي دراسةً وتربية وإكثارًا، فراحوا يقدِّمون لي أوساط السكر الغذائية الرخيصة الثمن كالتمور الرديئة الجودة ومخلَّفات صناعة السكر، ومخلَّفات العنب الغنية بالكربوهيدرات، فأتغذَّى عليها محوِّلًا إياها إلى آلاف الأطنان سنويًّا من الحمض العضوي الهام في حياتكم والمعروف لديكم بحمض الليمون أو ملح الليمون أو حمض الستريك والمشار إليه بالرمز (ي٣٣٠) على المعلَّبات وظروف الأغذية المحفوظة.

figure
إنتاج حمض الليمون بالتخمير المستمر.

الملح الحامض الذي أُنتجه لكم، احتلَّ مكانةً هامة في حياتكم اليومية، سواء داخل جسمكم من خلال الدورة المسماة دورة حمض الليمون أو دورة كريبس والتي يتم فيها سلسلة من التفاعلات الكيميائية لتحويل الكربوهيدرات والدهون وبعض الأحماض الأمينية إلى غاز ثاني أكسيد الكربون والماء وتوليد طاقة قابلة للاستهلاك، أو من خلال تواجده بشكل أو بآخر في صناعاتكم المختلفة.

ففي صناعة الغذاء تجدونه في كافة أنواع الأغذية، والعصائر، والمشروبات المُعلَّبة مُضافًا إليها كمادة حافظة طبيعية تطيل في مدة حفظها دون فساد، ومادة منكِّهة تُكسب أطعمتكم ومشروباتكم مذاقًا حامضيًّا، ونكهةً مميَّزة، ومظهرًا جميلًا، وملمسًا ناعمًا، من خلال دوره كعامل يمنع انفصال الدسَم في صناعة الآيس كريم، ويمنع تبلور السكروز في صناعة الكراميل والمربيات، ويساعد على التخثُّر في صناعة الجبن والألبان، ويطرِّي اللحوم ويُحسِّن رائحتها.

وفي صناعة المنظِّفات هو مذيب جيد للدهون والزيوت يُزيل البقع عن ملابسكم ويجعلها ناصعة البياض، ويُزيل الترسُّبات الكلسية عن أرضيات المطابخ والحمامات وأحواض الجلي والاستحمام والأدوات المنزلية المعدنية في بيوتكم فيُكسبها نظافةً ولمعانًا إضافةً إلى دوره كمطهِّر ومثبِّط لنمو وتكاثر بعض أنواع البكتيريا والميكروبات.

وكثيرة هي وظائفه في الصناعات الدوائية والصيدلانية، وصناعة النسيج، وصناعة الأصباغ، والأحبار، ودِباغة الجلود، وصناعة المرايا، وصناعات غيرها؛ وكل ذلك عائد إلى نشاطي على تلك المخلَّفات السكرية التي تُنتَج بكميات كبيرة وكانت تُترك لتذهب سدًى بصورة مخلَّفات لا فائدة منها، فأعدتها إليكم منتَجًا نافعًا مفيدًا في غذائكم وصناعاتكم.

وليس هذا فحسب، بل أُستخدم اليوم لإنتاج مجموعة متنوعة من الإنزيمات مثل أوكسيد الجلوكوز، وهو عنصر أساسي في أجهزة الاستشعار المستخدمة لقياس مستويات سكر الجلوكوز في الدم.

كما أُستخدم لإنتاج البكتيناز الذي يدخل في صناعة العصائر فيعمل على نقاء وصفاء سائل العصير وتحسين مظهره والمواد الخام الداخلة فيه، وهو مركَّب يحتوي على السيللوز، والهيميسللوز، والأميلاز.

يتحلَّل البكتين والسيللوز والهيميسييللوز والنشاء إلى سكريات أحادية عاملًا على تحسين القيمة الغذائية للعصائر.

كذلك تُضاف بودرة إنزيم الأكتيناز المستخرجة بواسطتي إلى الأعلاف لرفع قيمتها الغذائية وتحسين صحة إنتاج حيوانات المزرعة.

أنا ذلك الشحَّار الأسود الناعم الذي يلوِّث أيديكم عندما تُمسكون بصلةً مصابة؛ حيث أتوضَّع على قشرتها الخارجية أو على السطح الخارجي لحراشيفها، ذلك هو العفن الأسود الذي أسبِّبه.

وتلك هي أبواغي التي أنشرها في الهواء المحيط بكم في منازلكم، وغرف نومكم، وصفوف مدارسكم، وساحات ملاعبكم، وفي تربة الحقول والحدائق المختلفة، أتكاثر بواسطتها لضمان استمرار جنسي ونوعي.

وختامًا أصدقائي الأطفال، أنا الفطر النافع الضار، أُدعى بالعفن الأسود، والرشاشية السوداء، أسبرجلس نيجر، من الفطريات الرمية، أنتمي إلى الفطريات الخيطية، من نوع السوداء، جنس الرشاشيات، وينتهي نسبي إلى مملكة الفطريات، نطاق حقيقيات النوى.

figure
أبواغ فطر أسبرجلس نيجر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤