الأعمدة السوداء

هذه أبهج حفلة حضرتها أو خطبت فيها. لن أنسى كيف مشى ذلك الشيخ المثلج الشعر تسبقه دموعه نحو منبر ليلقي كلمته ويتقبل وسامه. كانت الحفلة في بناية الأونسكو والقاعة شبه ملأى، ومرح الحضور يعلن أننا في مهرجان. عفو القارئ إن اعترفت أنني خلال الحفلة كنت أزغرد في نفسي: «أكثر هذا الجمال من صنع يدي.» فلقد كانت تكريمًا للشاعر وديع بستاني، الذي ترجم من الهندية إلى العربية ملحمة «مهيرانا»، وطبعتها جمعية متخرجي الجامعة الأميركية يوم كنت رئيسها. من خطباء الحفلة تلك: سعيد عقل، وعبد الله العلايلي، وكمال جنبلاط، وفؤاد أفرام البستاني.

سألت المُحتفَى به حين لقيته لأول مرة: بماذا أناديك؟ أستاذ؟ لفظة لا تتناغم مع الشاعرية. وليس لي أن أدعوه باسمه عاريًا. أجاب أديب الملاحم الذي نحتفل به اليوم: «نادني يا عمي. أنت لا تدري أنني كنت صديقًا حميمًا لأبيك.»

فيا عمي، بل يا عمنا جميعًا، لا تحضرني عبارة أحييك بها أجمل من المثل اللاتيني: «الفضيلة تتوج رأس من يعبدها.» وأنت عبدت الفضيلة من زمن بعيد، فزانت رأسك بتاج ليست «المهابهاراتا» إلا جوهرة هندية جديدة تترصع فيه.

كثيرًا ما واكب الإنتاج الأدبي جهدًا عمليًّا فيه غمار. فكم وراء قصة من قصة، وخلف رواية من رواية!

وإن لهذه الملحمة ملحمة غير معروفة، كانت آخر صفحة فيها شاشة ظهر عليها مطران ودكتور وجريح ومجنون، وكبير المجانين، وكيلو من «النفتلين»، وخمسمائة متر ماء، وضيعة الدبية وعاليه وبتدين، وبالطبع بعقلين، وأربعة آلاف من متخرجي الجامعة الأميركية.

كان ذلك منذ سنتين حين شخصت إلى كاهن الشوف سيادة المطران بستاني منتدبًا لمهمة سياسية ازدوجت بمحاولة الحصول على خمسمائة متر ماء، تُضَاف إلى ألفي متر نالتها بلدتي بعقلين من كرسي المطرانية المارونية في بيت الدين.

وجلست إلى كاهن الشوف فأمر لي بكأس من النبيذ المعتق، نبيذ عتيق يرجع عهده إلى زمن ماضٍ سحيق، يوم كنا في الشوف دروزًا وكنا نصارى. وبدأنا الحديث عن الملاحم، وأنهيناه عن الملاحم. هكذا غرقت السياسة بخمسمائة متر ماء، وتبخر الماء قبل أن ينهمر، وخرجت متطوعًا لطبع ملحمة «المهابهاراتا.»

ثم كان اجتماع عاليه في بيت الدكتور جورج حنا، حضره أحد مجانين هذا البلد عزمي البحيري؛ صاحب «دار الأحد». أسميه بالمجنون؛ لأنه يفهم مهنته فنًّا ورسالةً فقط لا غير.

وأقبل فؤاد بستاني — ابن عمي وديع، ابن عمنا — حاملًا من «الدبية» جرابًا يخنقه حبل وخيطان. وفك الجراب وأفرغه في زاوية البيت، فتهاوت من الجراب ثلاث عشرة مخطوطة شعرية؛ ترجمات لكنوز الهند، حنطها «النفتلين» وانتشرت من النفتلين في الغرفة غيمة بيضاء أحرق فوحها أنوفنا، وتأجج في نفوسنا نقمةً وثورةً.

من ظلمة الجراب المخنوق تدحرجت مجهودات أربعين سنة. أين سيد هذا المجهود؟ أسير جريح الروح في «إسرائيل» ما صان حريته الناطقون باللغة التي أغناها، وما حرر مواطنوه أسر الحروف التي انحبست في مخطوطاته.

وتجسدت النقمة والثورة في إيجابية مشروع «المهابهاراتا»، وجاء ذلك العمل بعض واجبات جمعية متخرجي الجامعة الأميركية التي تزهو بأن وديع بستاني أحد أعضائها.

جمعية المتخرجين التي نشرت هذا الكتاب يترأسها اليوم أميل بستاني — ابن أخ عمي — وقد ظفر بالرئاسة لأسباب عديدة، أهمها أنني قاومت انتخابه بشدة، ولكنه أعلن فور فوزه أنه خلف خير سلف. وقلت يومئذ: ومعاذ الله أن أكون (صرحت): سأحتفظ بالجواب على هذا المديح حتى أرى أعمال الخلف. أما اليوم وقد ظهرت الأعمال — وإنجاز طبع «المهابهاراتا» أحدها — فإنني أعلن، لا أصرح، أن رئيس جمعية المتخرجين اليوم هو خير خلف لمن سلف، وأنه قد نال مني ثقتي بالإجماع، ومن غير خبط على الطاولات.

ذكرت فضيلة «عمنا» ولم أذكر مواهبه، مع أن ترجمته لرباعيات عمر الخيام هي رائعة عالمية، كما أن ترجمة سامي جريديني ﻟ «يوليوس قيصر» عن شكسبير هي رائعة عالمية نثرية.

ما تغنيت بالمواهب لأن النبوغ شيء تغرسه الحياة وتتعهده، ولكن الفضيلة تنظمه إنتاجًا صادقًا نافعًا.

قال رجل الساعة في الهند البانديت نهرو: «في الهند كل شيء مليح، وكل شيء قبيح، فاختر لنفسك ما يحلو.» في الهند المهاتما غاندي «أراد أن يمسح كل دمعة عن كل عين.» وفي الهند اليوم كبير تلامذة غاندي Bavay يبارز نفسه ويخاصمها ويلاكمها، ففيما هو يبشر بعقيدة معلمه غنديجي داعيًا إلى Ahimsa؛ أي اللاعنف، إذا به يقول: «إن ولادة حضارة جديدة يصحبها أبدًا اغتسال بدم.» في الهند مئات اللهجات والأديان واللغات والعلوم والخرافات والأوهام والحقائق، غير أن وديع بستاني نفذ عن قصد أو غير قصد نظريةً هنديةً اسمها Apurva، وهي تختصر كما شرحها الفيلسوف رادا كريشنان: «إن الأعمال تُسَخر من أجل إعطاء ثمار.» فقصد إلى الهند ليعمل، واضح الهدف، واضح التفكير، متسلحًا بماضي إنتاج يؤهله إلى محاولة إنتاج جديد. فبعد أن عمل بهدوء واتزان ومواظبة ودراسة وتفهم وتعمق عشرًا، عشرين، ثلاثين، أربعين سنة، ظهر على الناس بالثمار التي جناها ونقدرها ونستطيبها.

هذه اللفتات نحو الهند وأميركا وأوروبا وسواها هي من خلجات عيوننا، وفي سياق تقاليدنا؛ فنحن أمة لا تغلق نوافذ بلادها، ولكننا ما سرَّحنا الطرف مرةً عبر حدودنا إلا ارتد ليكشف عن أن كنوزنا ومناهل قوتنا هي فينا، في نفوسنا لا في سواها.

ففي عالم الملحمة، نجد الشائع المعروف أن الملاحم الموجودة هي إغريقية وهندوية، والحقيقة أن أقدم الملاحم وأعظمها هي ملاحمنا. ملحمة ما بين النهرين «جلقامش» التي تروي — في شاعرية تتألق — قصة تحضير الإنسان، وتناقش في فلسفة مولدة سر الوصول إلى الحياة الأبدية، منتهيةً بأسطورة الطوفان، وقصة «أدابا»؛ إنساننا الذي كاد يظفر بالحياة الأبدية، وأسطورة التكوين والخليقة «أينومآليش» وملاحم رأس شمرا، وفيها ملحمة الملك «كارت»، وملحمة الملك «دانل»، وملحمة الصراع بين بعل ويم، ملحمة الصراع بين بعل وموط، وأساطير اليسار وعشتار في صور وجبيل. ويحسن بكل منا أن يتمتع بروائع الصور التي ظهرت في عدد ك ٢ عام ١٩٥١ من مجلة الأبحاث الجغرافية، في مقال عنوانه «نور ما خبا»، بقلم العلامة سبيرز. وليس هذا العلَّامة بالبحَّاثة الوحيد الذي يثبت أن ملاحمنا هي أقدم ملاحم الدنيا وأعظمها، وأن ملاحم الإغريق كالإلياذة أُخِذت عنا، بل هنالك جمع من العلماء يؤيد سبيرز أقتصر على ذكر خمسة منهم:

شار، إدوار، دورم، ألن، كاردنر، كامبل تامسن، فون أبنهايم.

وأذكر أني استمعت إلى العلامة كلودشيفر يلقي محاضرةً في الملاحم سنة ١٩٥٠، معلنًا كما اتضح من حفريات رأس شمرا وملاحمها أن أمتنا كانت أول أمة قالت بالتوحيد.

أية فائدة من التفاخر بماضينا؟ من أساطيرنا أن امرأة تطلعت إلى خلفها فاستحالت عمودًا أسود. كثيرون منا تجمدوا عواميد محدقين بالماضي فاسفنكسوا. نحن إن تلفتنا إلى الماضي فلنتزود للمستقبل. وإذا آمنا في غدنا فلأننا نخلق في يومنا؛ ففي الشهور المقبلة ستطلع على دنيا الأدب ملحمة شعت من براعة أحد شعراء نهضتنا الفتى «أدونيس». اسمحوا لي ما دمنا في جو هندوي أن أقرأ منها أبياتًا تشير إلى الهند:

نَحْنُ وَالهِنْدُ خَافِقَانِ … فَفِي الشَّمْسِ
دُرُوبٌ مَرَّتْ عَلَيْهَا خُطَانَا
ضَمَّنَا فِي القَدِيمِ تَوْقٌ إِلَى السِّرِّ …
إِلَى أَنْ نَرَى الإِلَهَ عَيَانَا
هُوَ فِينَا حُبُّ عَمِيقٌ وَفَيْضٌ
وَهُوَ أَقْوَى مِنَ القَدِيمِ الآنَا
آمَنَ العَقْلُ أَنَّ لُبْنَانَ رَوَّى
ضَمَأَ النَّاسِ فِكْرَةً وَلِسَانَا
بَحْرُنَا البَحْرُ … كُلُّ لَفْتَةِ جِيدٍ
سُرِقَتْ عَنْ شُطُوطِهِ الأُرْجُوَانَا
سَائِلُوهُ فَمَوْسِمُ الفِكْرِ فِي عَيْنَيْهِ
مَا زَالَ حَافِلًا رَيَّانَا
بَحْرُنَا البَحْرُ … لَمَّتِ الأَرْضَ كَفَّيْهِ
وَمَدَّتْ أَمْوَاجُهُ أَجْفَانَا
فَرَّ مِنْ شَطِّهِ الصَّغِيرِ فَقَدْ صَارَتْ
حُدُودُ الدُّنْيَا لَهُ شُطْآنَا
حَمَلَتْنَا خُضْرُ النُّجُومِ وَشَكَتْنَا
عَلَى كُلِّ مَشْرِقٍ مَهْرَجَانَا
لَمْ نُحَدِّدْ لُبْنَانَ فِكْرًا وَحُبًّا
إِنَّ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لُبْنَانَا

يسألنا إخوان لنا: ما هذه النقمة تغمر نفوسكم، واللهب يتطاير من عيونكم وكلماتكم وأعمالكم؟ على ماذا أنتم ناقمون؟ ماذا تريدون؟ الجواب نعطيه هنا ونعطيه الآن:

نحن نرى «الدبية» في كل ضيعة، وفي كل مواطن نرى وديع بستاني. نحن نرى الحروف الحبيسة. نحن ننشق رائحة «النفتلين». إن الأعمدة السوداء ما تزال تعترض طريقنا. نحن نرى ونتحسس الحبل والخيطان الظاهرة والخفية الملتفة على أعناق مواطنينا الخانقة كنوز أمتنا. نريد أن نبتك الحبل والخيطان كي تنطلق قوى الخير وقوى الحق والجمال.

هذه مهمتنا في الحياة، ولا نستطيع تنفيذها إلا إذا بقيت نفوسنا موارةً بتحرق من يفهم أمسه، ويُخْلق في يومه، فهو مؤمن بغده. بعض هذه الحفلة هو غد ليوم بيت الدين، ولنا في كل يوم حفلة هي غد لوعد قطعناه:

فَيَا يَوْمَنَا إِلَى غَدٍ
«يَا غَدًا يُؤَثِّرُ»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤