الفصل الأول

مدخل إلى نظرية التعقيد والتفكير المنظومي١

Introduction to Complexity Theory and Systems Thinking

«بدون تغيير أنماط تفكيرنا، لن نتمكَّن من حل المشكلات التي نُوجدها بنمط تفكيرنا الحالي.»

آينشتاين (Cabrera, 2006)
علَّمَتنا الأساطير، والفلسفة، وعلوم القرن السابع عشر، والثامن عشر، والتاسع عشر، مُكلَّلةً بقوانين ميكانيك نيوتن، أن العالم يسير بانضباطٍ عالي الدقة في مكانٍ وزمانٍ مطلَقَين. وكما يبدو من ظاهر حركة الكواكب والنجوم، وتوالي الليل والنهار، والفعل ورَدِّ الفعل، بل هو يعمل كالساعة المتقنة. غير أن ظهور النظرية النسبية بتأكيد تغيُّر الزمان والمكان وتفسير الجاذبية المرتبط بها في مطلع القرن العشرين وفيزياء الكَم (Quantum physics) وما كشفَته من تقلُّب الأشياء وعدم الدقَّة واحتماليات الحقيقة لا ثباتها وما أحدثَته من تطبيقاتٍ تكنولوجيةٍ متعاظمة، كشفَت لنا أن ما نراه وندركه هو مزيجٌ من النظام والفوضى، مَر ويمُر بتاريخٍ متعرِّجٍ من التعقيد. بدأ من الصفر (النقطة المُفرَدة في الانفجار الكبير) وصولًا إلى أعدادٍ هائلةٍ من الجُسَيمات والمادة، وكمياتٍ أعظم بكثيرٍ من الطاقة والمعلومات، والأعظم منها من المادة المظلمة والطاقة المظلمة.
عند تفحُّص الطبيعة من ناحية المكان (الأبعاد؛ الأطوال والحجوم)، ثمَّة الأبعاد التي يتعامل بها الإنسان والأحياء الأخرى، وتكون بحدود ملمترات إلى سنتمترات، وأمتار وكيلومترات، والتي تُسمَّى أحيانا بالعالم الوسَطي (Meso World). وثمَّة أبعادٌ مهولةٌ تتمثل بحدود الكون المرئي، وتصل إلى ١٠٢٥م (متر) تنتشر فيها مليارات المجرَّات، التي تتألَّف من مليارات النجوم وأعدادٍ أكبر من الكواكبِ والكُويكِبات. وهذه المسافات تُقاس عادةً بالسنة الضوئية كوحدة قياس، والتي تبلغ ٩ × ١٠١٥م. هذا المجال من الكون مع الحيِّز الذي يتعامل به الإنسان يُسمَّى بالعالم الكبير (Macro World). في المقابل ثمَّة العالم الصغير (Micro World) الذي يبدأ بالميكرومتر (مكم = ١ / ١٠٠٠ملم) نزولًا إلى النانومتر (١ / ١٠٠٠مكم أو ١ × ١٠−٩م) وما دونه. وفي العالَم الصغير يمكن تمييز مستويَين من الأبعاد؛ الأبعاد النانوية (Nano Dimensions) التي تنحصر بين ١ و١٠٠ نانومتر (ن م) والأبعاد الذرية التي تُقاس بالأنكستروم (١ / ١٠ن م) وما دون ذلك. المواد في العالم الصغير (النانوي) يمكن أن تُظهِر صفاتٍ تختلفُ كثيرًا عما تُظهِره في العالم الكبير بسبب المساحة السطحية العالية نسبة إلى الحجم؛ فالمواد غير المُوصلَة للكهرباء يمكن أن تصبح مُوصلَة له، كما أن بعضها يتوهَّج بدرجاتِ حرارةٍ أقل كثيرًا عما هو في العالم الكبير، أو تُظهِر خواصَّ مغناطيسيةً جديدة واختلافًا في درجة الذوبان أو التفاعلات الكيميائية وغير ذلك. ولهذه الأبعاد أهمية كبيرة جدًا؛ حيث تفسِّر جزئيًّا الخواصَّ والفعاليات الغريبة التي تُظهِرها المواد والخلايا الحية؛ كون أجزائها الفعَّالة الرئيسة ذات أبعادٍ نانوية. كما أن سلوك المادة في العالم الصغير الذي تحكُمه بشكلٍ واضحٍ قوانينُ ميكانيك الكَم، يُظهِر الحالات الفريدة المتمثِّلة بازدواجية الوجود كأجسامٍ وموجاتٍ في نفس الوقت، وظاهرة التراكُب الكمومي (Superposition) حيث تكُون الجُسَيمات في اللحظة المعيَّنة في أي مكانٍ حسب احتمالياتها، وحالة الاختراق (Tunnelling) حيث تخترق الجُسَيمات حواجز الطاقة دون ارتقائها. وظاهرة التشابُك (Entanglement) بين الجُسَيمات التي تُبدي ترابطًا سلوكيًّا بغَض النظر عن المسافة الفاصلة بينها. هذه الخواص تظهَر بفعل ما يُعرف بالتماسك (Coherence) بينما لا تبدو هذه القوانينُ واضحةً في العالم الكبير، الذي تحكُمه قوانين ميكانيك نيوتن والنسبية، بسبب ظاهرة فك التماسُك (Decoherence).
غير أن الأجسام والنُّظُم في العالم الكبير (رغم كِبَر حجمها) تتألَّف بدَورها من مكوِّناتٍ ونُظمٍ تقع في أبعاد العالم الصغير (إلكترونات وبروتونات وذرَّات وجُزيئات)؛ ما يجعل من ظواهر ميكانيك الكَم تعمل في العالم الكبير أيضًا في بعض مظاهرها على الأقل (Abbott et al., 2008). وهذا ما يدفع الفيزيائيين لإيجاد نظريةٍ موحَّدة (نظرية كل شيء) والتي تُفسِّر سلوك المادة والطاقة والمعلومات. لقد تَوصَّل الفيزيائيون حسب Turok (2015) إلى معادلةٍ شاملةٍ يُقال عنها: إنها تشمل الفيزياء كلها.
مع ذلك فجهود العلماء لا تتوقَّف من أجل إيجاد نظريةٍ شاملةٍ تتضمَّن نظرية الأوتار (String Theory) أيضًا التي تم توحيد نُسخِها المختلفة في نظرية M. كذلك محاولة توحيد النسبية مع ميكانيك الكَم في نظرية الانبثاق (Emergency Theory) من قِبَل فريق Klee Irwin (2018). مع ذلك، وبسبب محدودية حواسِّنا التي تُمكِّننا من تصوُّر وفهم الحقيقة كما نبَّه إليها الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانْت سنة ١٧٨١م في كتابه «نقد العقل المحض». واختلاف معرفتنا بالأشياء حسب الأدوات والتقنيات التي نستخدمها في كشفها؛ كالتلسكوبات والمجاهر … إلخ. والتي تتطوَّر باستمرار، والزمن المتأخر دائمًا لإدراكنا بالشيء لتأخُّر وصول الإشارة من الشيء إلى الدماغ، وعملية المعالجة فيه، لا يُمكِننا الوصول إلى الحقائق النهائية أبدًا، لكننا بالبحث نقترب منها أكثر دائمًا. وهكذا لا تُوجد نظرية «كل شيء» وإنما تُوجد آخر نظريةٍ متطورة؛ فالمعرفة متجدِّدة دائمًا حسب Marcelo (2014) وآخرين.

بيَّنَت الأبحاث والدراسات في شتى فروع العلم في العقود الأخيرة، عدم كفاية فهم الظواهر المختلفة، خصوصًا المعقَّدة منها؛ كالطقس، والزلازل، والنظم البيئية للأحياء، وعمل الدماغ البشري، وحركة المجتمعات، وتقلُّبات الأسواق، وعمل الجينات، وغيرها، على أسس المنهج التبسيطي الاختزالي وكذلك المنهج الآلي الحتمي، وضرورة أن تكون الدراسات للنُّظم الكلية كما هي في الواقع، بكل تقلُّباتها واحتمالات نتائجها. كما بيَّنَت أهمية تضافُر العلوم المختلفة؛ كالرياضيات، والحاسوب، والفيزياء، والكيمياء، وعلوم الحياة، والعلوم الاجتماعية، والاقتصاد وغيرها في تناوُل الظاهرة. حصَل هذا بعد عقودٍ من التفارُق والتطوُّر المنفرد لكل علمٍ على حِدَة، باعتماده المنهج التبسيطي الاختزالي بتفكيك الظاهرة المعقَّدة إلى أجزائها المكوِّنة، والذي كان ضروريًّا في المراحل السابقة على مدى ٣٠٠ سنة، وأدَّى إلى بلوغ كلٍّ منها مستوياتٍ رفيعةً من تراكُم المعلومات والمعطيات، والكشف عن القوانين التي تحكُم مكوِّناتها ومجالات دراستها.

ظهَرَت نتائج هذا التوجُّه الجديد في العقود الأخيرة من القرن العشرين، بنشوء علوم بيولوجيا النُّظم (Systems Biology) والمجموع الجيني (Genomics) والمجموع البروتيني (Proteomics) والمجموع الأيضي (Metaboleomics) في البيولوجيا، والتقنية النانوية (Nanotechnology) وعلم التعقيد (Complexity Science) والتفكير المنظومي (Systems Thinking) على المستوى العام. كما نشأَت مراكزُ أبحاثٍ متخصِّصة مثل Santa Fe Institute وNew England Complex Systems Institute وThe Complex Systems Network of Excellence في الولايات المتحدة؛ تضُم باحثين ذوي رؤًى بمختلف التخصُّصات، للإجابة عن الأسئلة الكبرى التي تهمُّ البشرية؛ كنشوء، وتطوُّر، ومصير الكون والحياة. وكان مُحِقًّا عالم الفيزياء الكبير ستيفن هاوكنك حين أعلن أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن التعقيد (MacKay, 2008).

(١) نظرية التعقيد Complexity theory

أنا الأول، وأنا الآخر.
أنا البغي، وأنا القدِّيسة.
أنا الزوجة، وأنا العذراء.
أنا العاقر وكثرٌ هم أبنائي.
أنا في عرسٍ كبيرٍ ولم أتخذ زوجًا.
أنا القابلة ولم أُنجِب أحدًا.
وأنا سلوةُ أتعابِ حملي.
أنا العروس، وأنا العريس.
وزوجي من أنجبَني.
أنا أم أبي، وأخت زوجي،
وهو من نسلي.
عشتار (فراس السواح، ٢٠٠٢م)

«الغيوم ليست كروية، والجبال ليست مخاريط، والشواطئ ليست دوائر، والقلف ليس بأملس، كما أن البرق لا يسير بخطوطٍ مستقيمة.»

Benoît Mandelbrot (Gleiser, 2014)

(١-١) التعقيد Complexity

حسب المفهوم القاموسي، فإن المعقَّد يتكوَّن من أجزاءٍ مترابطةٍ أو متناسجة Bar-Yam (1997). وحسب فكرة كولموكروف؛ فإن مقياس تحديد تعقيد منظومةٍ معيَّنة، ينطلق من افتراضِ أنَّ لكل تركيبٍ معيَّن ثمَّة حجمٌ أدنى من خوارزمية (برنامج حاسوبي) تصف ذلك التركيب وكل تفاصيله. ومقياس حجم هذه الخوارزمية حسب لغة الوصف العامة سيكون عدد البايتات (البايت = ٨ بت) التي تتكوَّن منها. غير أن من الصعب أن لم يكن مستحيلًا تحديد الحجم الأدنى للخوارزمية بالضبط، وهو ما يُعرف بنظرية عدم الاكتمال لكايتين. مع ذلك، ثمَّة من يستخدم فكرة كولوموكروف بشكلٍ تقريبي (Mayer, 2020).
التوصيف الأكثر قبولًا هو أن التعقيد حالةٌ تقع بين النظام والفوضى؛ فالمنظومات المعقَّدة ليست منتظمة وقابلة للتنبؤ كحالة ثبات الجُزيئات في البلورة، ولا هي عشوائية أو شواشية كحركة جُزيئات الغاز. إنها تُظهِر مزيجًا من الحالتَين؛ فهي قابلة للتنبؤ إلى حدٍّ ما في بعض الوجوه وعصية على التنبؤ في وجوهٍ أخرى. الوضع الوسَطي يوازن بين التصلُّب والهيجان، ويُعرف ﺑ «حافة الشواش». أن التوازُن القلِق هذا مطلوبٌ لأغراض التكيف والتنظيم الذاتي والحياة للأنظمة المعقَّدة التي تنحو تلقائيًّا باتجاه حافة الشواش. وتُظهِر المنظومات المعقَّدة حالة التمايُز بين مكوِّناتها التي تكون كثيرةً في الغالب والترابُط بين المكونات من خلال علاقات التآثر بينها؛ أي الاستقلالية مع شيء من الاعتمادية. إن مكوِّنات المنظومة المعقَّدة هي في الواقع عوامل (Agents) كونها هي ذاتها منظوماتٍ مفردةً ضمن المنظومة المعقدة وتتصرف استجابة للأحداث التي تؤثِّر فيها؛ فالبشر هم عوامل في منظومة المجتمع المعقدة، الخلايا عوامل في منظومة النسيج، وجُزيئات البروتين عوامل في منظومة الخلية الحية، والأحماضُ الأمينية عوامل في منظومة البروتين، وذرَّات الكاربون والنتروجين والهيدروجين والأوكسجين عوامل في منظومة الحامض الأميني، وكل ذرة من تلك العناصر هي منظومةٌ تتألف من بروتونات وإلكترونات وهكذا.
ويُنظر لعوامل المنظومة المعقَّدة ضمنيًّا على أنها ذات أهداف؛ فأفعالها تصُب في مجرى تعظيم أهليَّتها، نفعها، أو تفضيلاتها الفردية. وفي حالة عدم تمييز هدفٍ معيَّن لها؛ فإن نشاطها سيخضع لمنطق السبب-التأثير أو الشرط-الفعل (إذا-فإن). وبسبب الصِّلات التي تربط عوامل المنظومة ببعضها، فإن الفعل الذي يُحدِثه أحد العوامل (تأثير موضعي) سيقدح تأثيراتٍ إضافيةً لواحد، أو أكثر من العوامل المجاورة في البداية، ثم الأخرى البعيدة في المنظومة، وهكذا تحصُل سلاسل من الأحداث يمكن أن تشمل المنظومة كلَّها (تأثير عام) (Heylighen et al., 2008).
مع ذلك وكما يرى الفيزيائي Perez-Mercader (2020) فإن التعقيد على السطح هو انعكاسٌ لبساطةٍ عميقةٍ جدًّا.

عواملُ نشوء التعقيد متعدِّدة وهي تتضمَّن:

(١-٢) الوحدة والتنوع Unity and Diversity

وَحْدة الوجود ترجع إلى أن كل شيء نشأ من المجال الكُمومي (Quantum field). والأخير هو بحرٌ مُتلاطِم من نسيج المكان والزمان (الزمكان) عند التوسُّع السريع للكَون بعد الانفجار العظيم. كما أن جميع الجُسَيمات الأولية التي تكوَّنَت من المجال الكُمومي، وكذلك الذرَّات التي كوَّنَتها وتُكوِّنها وكل المواد التي نعرفها في الطبيعة هي من حيث البنية طاقةٌ مكثفة. وهكذا فإن الطاقة والمادة هما جوهرٌ واحد. وهذا ما أكَّدَته معادلة آينشتاين الشهيرة:
الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء
والتي تعني تحوُّل أحدهما إلى الآخر، وهو ما يحصُل في توليد طاقة الشموس، والذي يجعل الحياة ممكنةً على الأرض من خلال استغلال طاقة ضوء الشمس، وما جرى تطبيقه عمليا في القنابل الذرية والهيدروجينية، ويجري استخدامه في توليد الطاقة الكهربائية في المفاعلات النووية، كذلك تحلُّل المواد المشعَّة. من ناحيةٍ أخرى فإن من أهم المميزات الوجودية التي أكَّدَتها فيزياء الكم هي التجزُّؤية أو التفرُّدية (Discretness) لكافة مُكوِّنات الطبيعة بدءًا من الطاقة؛ حيث تُوجد بشكل كَماتٍ (Quanta) صغيرةٍ وليست ككلٍّ مستمر، إلى الجُسَيمات تحت الذرية (كواركات، فوتونات، بروتونات، إلكترونات … إلخ.) إلى المعلومات (Information) ووَحْدتها المكوِّنة البت (Bit). والحال ينطبق على الأجسام المكوَّنة من تجمُّع ذرات وجزيئات؛ أي جميع ما نعرفه من أجسام في الطبيعة. ومن المعروف جيدًا أن الأجسام التي تبدو كأنها كتلةٌ واحدةٌ متماسكة (الهواء، الماء، الصخور، النباتات، الحيوانات، الكواكب والنجوم) هي في الواقع تجمُّعات لجزيئات، وذرات، وإلكترونات، وبروتونات، كلٌّ يحتفظ بفردانيته، وإن ارتبط بالمكوِّنات المماثلة أو المختلفة بقصوًى أو أواصر كيميائية.
ويمكن القول إن التفرُّدية أوجدَت الأعداد في الطبيعة أو الحاجة لمنطق الأعداد الرياضية. التفرُّدية مكَّنَت من تحقيق ظواهرَ وجوديةٍ أساسية؛ التماثُل، والتضاد، والتشابُه، والاختلاف بين الطاقات والجُسَيمات والذرَّات والتكوينات الناتجة عنها. التضاد يتمثَّل في أن أي جُسَيمٍ أو جسمٍ تم أو يتم تكوينه يترافق بتكوين جسيمٍ أو جسمٍ مضادٍّ له، وتصادمُهما يؤدِّي إلى فَنائهما، وتكوين فوتونات (هوكنج. ٢٠٠٦). والطاقة الكهرومغناطيسية موجبة، بينما طاقة الجاذبية سالبة، والإلكترون ذو الشحنة السالبة له جسمٌ مضادٌّ هو البوزترون ذو الشحنة الموجبة، وهكذا. ويمكن أن تتضادَّ الجسيمات المتجاورة من حيث الشحنة الكهربائية؛ فبعضها مشحون بشحنةٍ سالبة (إلكترونات) وأخرى بشحنةٍ موجبة (بروتونات). وحتى على مستوى الذرات، فالذرة التي تكتسب إلكترونًا تصبح شحنتها سالبة (أيون سالب) والتي تفقد إلكترونًا تصبح شحنتها موجبة (أيون موجب). ويمكن أن يتضاد استقطاب الفوتونات إلى أعلى أو إلى أسفل، كذلك البَرم المغزلي (Spin) للإلكترون يمكن أن يكون مع أو عكس عقرب الساعة. كذلك تضادُّ لفَّ الإلكترونات أو استقطاب الفوتونات المتشابكة  (Entangled).

وكقاعدةٍ عامةٍ لا يمكن فهم الكثير من الأشياء والظواهر إلا بضدها، أو نقيضها (ضوء-ظلام، حار-بارد، موجب-سالب، مفترس-فريسة، نظام-فوضى … إلخ.).

أمَّا الجُسَيمات من النوع نفسه فتكون متماثلة. والأمر ينطبق على تماثُل الذرَّات والجُزيئات من النوع نفسه (فذرَّات الحديد متشابهة وجُزيئات الهيدروجين متشابهة) وبالتالي الأجسام المكوَّنة منها تكون متشابهة أيضًا.

يمكن اعتبار التضاد والتماثُل حالتَين وصفيتين (Qualitative) والمنطقة بينهما يُعبَّر عنها بالاختلاف والتشابُه. وهما صفتان كميتان (Quantitative) متلازمتان. حيث يمكن اعتبار التضاد أقصى درجات الاختلاف، والتماثل أقصى درجات التشابه؛ فبينما يحتوي أو يظهر المختلفان قليلًا من التشابه، يحتوي المتشابهان قليلًا من الاختلاف، ولا يمكن المقارنة إلا بوجودهما معًا. هذه الخصائص الأساسية للأشياء في الطبيعة هي مصدر الوحدة والتنوع الهائل فيها؛ فجميع الأحياء تتشابه وتختلف مع بعضها في الوقت نفسه، كذلك كل مكوِّنات الطبيعة غير الحية تُظهِر الخاصية نفسها لا بل إن الأحياء كلها تتشابه وتختلف مع المواد والتكوينات غير الحية؛ كونها جميعًا مؤلَّفة من ذرات عناصر متشابهة، لكنها بتجمُّعاتٍ جُزيئية وترتيباتٍ مختلفة.

وكقاعدةٍ عامة، فإن كل الموجودات في الطبيعة تحمل بذاتها صفتَي التشابُه والاختلاف في الوقت نفسه، وهي مصدرٌ مهمٌّ لنشوء التعقيد.

(١-٣) الحركة والتغيُّر Motion and Change

كل شيء في الكون يتحرك (Tyson et al., 2000) ولا يُوجد سُكونٌ في الطبيعة (Schiller, 2016). والحركة تكون نسبية؛ أي إن حركة الشيء تكون نسبة إلى شيءٍ آخر. وإذا كان تعريف الحركة المنسجم مع البديهة هو تغيُّر موقع الشيء في المكان مع الزمن، فإن التعريف الأدق والأشمل هو تغيُّر حالة الأشياء (Schiller, 2011) أو كما عبَّر عنها الفيلسوف الإغريقي هيرقليطس (٤٨٠–٣٥٠ق.م.) «إنك لن تعبُر النهر مرتَين». وللأهمية الكونية العظمى للحركة، فقد درس الباحث الألماني Christoph Schiller الحركة في كتابٍ من ستة أجزاء (٢٤٨٥ صفحة) يحمل عنوان «جبل الحركة Motion Mountain» مفاده أن الحركة هي الملاحظة الأكثر أساسية عن الطبيعة، وأن أي شيءٍ يحصُل في العالم هو نوع من الحركة. ثمَّة أنواعٌ مختلفة من الحركة مثل الحركة الزاويَّة حيث يتحرَّك الشيء حول محوره (دوران الأرض حول نفسها) أو محورٍ خارجي (دوران الأرض حول الشمس)، أو حركةٍ خطية حيث تكون الحركة بخطٍّ مستقيم (حركة كرة البليارد)، وحركةٍ عشوائية (حركة جُزيئات الغازات والسوائل) وحركةٍ دورية (البندول، عضلات القلب) وحركةٍ موضعية (حركة الأطراف في الإنسان أو أغصان الشجرة) وغيرها.
ما هو الشيء الذي يسبِّب أو يمكِّن من الحركة ومن يوجِّهها؟ حسب Lloyd (2006) فإن الطاقة هي التي تمكِّن الشيء من الحركة (فهي القدرة على إنجاز شغل) والمعلومات (Information) هي التي تُوجِّه سلوكه في ظل قوانين الطبيعة. وهكذا فإن الحركة هي مفتاح التغيُّر، وما يُرافِقها من تبادُل وتحوُّل للمعلومات عَبْر التصادُم والتآثُر ما بين الأشياء ومعالجة المعلومات، وما ينتج عنها من حالاتٍ جديدة.

مع الانفجار العظيم كانت الطاقة متجانسةً بشكل أشعة جاما، وثمَّة القليل من المعلومات لوصفها بسبب عدم التميُّز. ومع تمدُّد الكون (حركة) خلال الأجزاء القليلة جدًّا من الثانية من الانفجار العظيم، تكوَّنَت قُوى الطبيعة الأربعة؛ القوة النووية الضعيفة، والقوة النووية القوية، والكهرومغناطيسية، والجاذبية. ثم تكوَّنَت البروتونات والنيوترونات من الكواركات (تايسون وكولدسمث، ٢٠١٢). بعدها تكوَّنَت نوى الذرَّات ثم ذرَّات العناصر الأخف؛ الهيدروجين (٩٠٪) والهيليوم، ونُدرة من الليثيوم، والديوتيريوم والتريتيوم.

تَرافَق تكوينُ القُوى الأربعة والجُسَيمات الأولية والذرَّات بزيادةٍ هائلةٍ للمعلومات. تَبِع ذلك تكثُّف للمادة (حركة)؛ حيث نشأَت المجرَّات والنجوم، بينما تكوَّنَت العناصر الأثقل؛ كربون، نتروجين، أوكسجين … إلخ، في قلب النجوم الكبيرة، بسبب تفاعلات الاندماج النووي، ثم انتشرَت مع انفجار النجوم في مستعراتٍ كبرى (Supernova)؛ ليتكون الغُبار ما بين النجوم، والذي تتكوَّن منه نجومٌ (شموس) جديدةٌ مع كواكبها وأقمارها على الكواكب، ومنها كوكب الأرض. مكَّنَت الطاقة الحرة الوافرة وانخفاض درجات الحرارة لمستوياتٍ مناسبة من تكوين مركَّباتٍ عضوية مختلفة التعقيد، والتي تُوِّجَت بنشوء الأشكال الأولية للمادة الحية (Lloyd, 2006). وما كان لهذه الأخيرة أن تتطوَّر إلى الأحياء البدائية والراقية لولا الاختلاف في المادة الوراثية، والذي نتج عن الطفرات والتكاثُر الجنسي. والطفرات تتضمن عمليات حذف أو حشر أو استبدال للقواعد النووية الأربعة (كوانين، أدنين، سايتوسين، وثيامين) من أو في جُزيئة DNA الأصلية، بينما يعتمد الاختلاف في التكاثُر الجنسي على عملية العبور للقِطَع الكروموسومية. وكلتا العمليتَين تتطلَّبان فعل الحركة.

إن الحركة والتغيير شرطان لا بد منهما لنشوء التعقيد؛ فالتعقيد يتطلَّب تأثُّر وتفاعُل العوامل المكوِّنة للمنظومة، ما يمكِّن من نشوء علاقات وتراكيبَ جديدة، تغيِّر وتزيد من المعلومات التي تحملها المنظومة.

(١-٤) المُكوِّنات والعلاقات Components and Relations

سبق وأن ذكَرنا أن كل الأشياء في الطبيعة تتألَّف من مكوِّناتٍ قد تكون متشابهة أو مختلفة. ولا بد لكل مُكوِّنٍ من مكونات الطبيعة أن يتأثَّر ويؤثَّر، بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالمكوِّنات الأخرى، وبقيمٍ مختلفةٍ تتناسَب وطبيعة كل مكوِّن. الشيء بذاته (خواصه) مهم؛ حيث سيُشكِّل الجزء. كما أن علاقته بالأشياء الأخرى لا تقل أهمية، وستُسهِم في تشكيل الكل؛ فكل جسمٍ مهما كان كبيرًا أو صغيرًا، يتبادل تأثير الجاذبية مع الأجسام الأخرى. كما يتعرَّض كل جسمٍ لوابلٍ متواصلٍ من الإشعاعات والجُسَيمات والمجالات الكهرومغناطيسية الصادرة عن أجسام أو مجالات أخرى؛ ففي الثانية الواحدة تتخلَّل أجسامنا ترليوناتٌ من النيترينوات المنبعثة من الشمس. وتتعرَّض جميع الأجسام للتصادُم أو الاحتكاك مع أجسامٍ أخرى؛ مما يجعلها عُرضةً لتغيُّر تركيبها وحركتها على الدوام. وعلى العموم تتواجد جميع الأجسام كمنظوماتٍ (Systems) لتجمُّعاتٍ ذريةٍ أو جُزيئية نتيجة لروابط تجمع مكوِّناتها، بل إن الذرات والجُزيئات الحرة ذاتها تشكِّل منظوماتٍ بشكل معادن (بلورات) أو غازات أو سوائل. وفي كل منظومة ترتبط عناصرها المكوِّنة بعلاقاتٍ مميزة تزيد من تعقيدها. كما ترتبط المنظومات مع المحيط، ويمكن أن تتبادل الطاقة والمعلومات معه، وتخضع للانتخاب الطبيعي في تشكُّلها وتطوُّرها (Heylighen, 2018). وغالبًا ما تكون العلاقات بين الأشياء في الطبيعة بشكل شبكاتٍ تنشأ عن تأثير المكوِّن من خلال الفردية والحرية والتأثُّر مع المكوِّنات الأخرى عَبْر الخضوع لقواعد التأثُّر. على مستوى الكائنات الحية ثمَّة اتصالاتٌ خلَويةٌ داخلية وما بين الخلايا المتجاورة سواء كانت بشكل أحياءٍ مفردة الخلية (بكتيريا، خمائر) أو متعدِّدة الخلايا (نباتات، حيوانات) تُنظِّم فعالياتها وعلاقاتها مع البيئة. كما تنشأ روابطُ مهمَّة بين أفراد المجتمعات النباتية والحيوانية والبشرية حيث تلعب أدوارًا هامة في تشكيل سلوكها كمجموعاتٍ متميزة وعلاقاتٍ متبادلة فيما بينها ككل، ومع البيئة حيث تشكِّل الأنظمة البيئية والنظام الحيوي ككل. وتُظهِر المجتمعات البشرية علاقاتٍ اجتماعية، اقتصادية، ثقافية مُتنوِّعة، ومختلفة التعقيد على المستويات المحلية والعالمية. وكقاعدةٍ عامة كلما زادت أو تعمَّقَت العلاقات والروابط بين مكوِّنات المنظومة، وقل التمايُز بين المكوِّنات، زاد النظام (قلَّت الفوضى) كمثال تحوُّل الماء إلى جليد؛ مسيرة شعبية سلمية، في حين أن زيادة تمايُز المكوِّنات مع قلة الروابط بينها تؤدِّي إلى زيادة الفوضى كمثال تحوُّل الماء إلى بخار، وقمع المسيرة الشعبية باستخدام العنف. كما أن زيادة تنوُّع وأعداد المكوِّنات وزيادة العلاقات بينها يزيد من تعقيد المنظومة.

(١-٥) اللاخطية Nonlinearity

اللاخطية هي الوصف الرياضي للظواهر التي لا تتناسب فيها الأسباب والنتائج، أو لا تتماشى فيها المُخرَجات مع المُدخَلات. وتفسِّر اللاخطية التغيُّرات في العوامل مع الزمن. اللاخطية يمكن أن تُفضي إلى عدم الدقَّة، وغير المتوقَّع والشواش (Chaos) والتعقيد، وعكس البداهة التي تكون خطية. في الطبيعة تُوجد علاقاتٌ خطيةٌ؛ مثل حركة البندول البسيط، السقوط الحر للأشياء، حركة الكواكب، علاقة المبيعات والأرباح. أما العلاقات اللاخطية فهي التي تَسِم معظم الظواهر في الطبيعة؛ كتغيُّر شكل الأميبا، والمُناخ، والأعاصير، وعمل أسواق الأوراق المالية، والحركات الاجتماعية، والتقلُّبات السياسية، والفن التجريدي، وحسب. Schiller (2011) فإن اللاخطية يمكن أن تُفسِّر عدم الانسجام، كما يمكن أن تؤدِّي إلى تأثيراتٍ أقوى. وفي بعض النُّظم يمكن ملاحظة تحوُّل العلاقات الخطية إلى علاقاتٍ لا خطية أو العكس، لتفاعُل المتغيِّرات نفسها؛ كعلاقة سرعة التفاعلات الكيميائية، ودرجة الحرارة؛ حيث تزيد بعلاقةٍ خطية ثم تتحوَّل إلى علاقةٍ لا خطية بعد تخطي عتبةٍ معيَّنة من درجات الحرارة العالية. كذلك منحنى نمو البكتيريا حيث يكون لا خطيًّا، لكن جزءًا مهمًّا منه يكون خطيًّا (طور الثبات).

إن مبعث اللاخطية يكمُن في تأثُّر واعتمادية مكوِّنات المنظومة المعقدة على بعضها، وكذلك في احتمالية الحقيقة كما أكَّدَتها فيزياء الكم؛ فالحقيقة المتحقِّقة ليست حتمية التحديد سلفًا، لكنها تكون حيث يكون واحد من العديد من المُمكِنات، التي تتناسب مع احتمالاتها التي تحدِّدها قوانين الطبيعة؛ فمرورك يوميًّا في هذا الطريق، الذي تزينه الأشجار العالية من جانبَيه، لا يُعرِّضُك لخطر سقوط شجرة أو غصنٍ على رأسك. وهو الحال الذي يتحقَّق في أغلب الأوقات؛ لأن احتماليَّته أكبر بكثيرٍ من احتمال سقوط الشجرة أو الغصن. لكن مثل هذا الاحتمال الأخير والنادر قد يحصُل مع ذلك، ولا يُمكِنك الجزم بعدم إمكانية حصوله. نسبة ظهور الصورة أو الكتابة للعملة المعدنية عند رميها حسب العلاقة الخطية هي ٥٠٪، لكن في مثل هذه التجارب قد تحصل على نسبٍ أخرى، مع أن نسبة ٥٠٪ هي الأرجح لو تم تجريب رمياتٍ كثيرةٍ جدًّا. في حالاتٍ أخرى فإن أحداثًا معيَّنة تحصُل من خلال الصدفة (الحظ) فقط؛ كتلقيح النطَف للبيضة ونشوء الجنين؛ حيث إن من يُحقِّق الفعل هو واحدٌ من عشرات الآلاف أو الملايين، وكذلك الفوز بجوائز اليانصيب المتحقِّق هو الاحتمال الضعيف جدًّا (واحد من ملايين). هذه الأحداث اللاخطية تتصف بعدم القدرة على التنبُّؤ بها.

العامل الآخر هو حساسية النُّظُم الطبيعية للأوضاع الابتدائية، حيث وبسبب طبيعة العوامل المكونة ذاتها؛ فإن التغيرات البسيطة يمكن أن تؤدِّي إلى تغيُّرات مهمة مع الزمن. وللتعبير عن هذه الحالة شاع استخدام ما يُعرف بتأثير الفراشة (Butterfly Effect) الذي يقول بأن رفرفة جناح فَراشة فوق بكين يُمكِن أن يتحوَّل بعد زمنٍ إلى إعصارٍ فوق نيويورك. أو كما تعبِّر عنه أغنيةٌ فولكلوريةٌ أمريكية حسب (غليك، ١٩٨٧):
بسبب مسمار، سقطَت حدوة حصان.
بسبب حدوةٍ تعثَّر الحصان.
وبسبب حصانٍ سقط فارس.
وبسبب فارسٍ خسرتُ معركة.
وبسبب معركة فقدتُ مملكة.

أغلب الأعاصير تبدأ بارتفاعٍ بسيطٍ في درجة حرارة مياه البحر أو المحيط في منطقةٍ معيَّنة، يؤدي إلى سخونة الهواء وخلخلة الضغط ونشوء الريح وهكذا. تصلُّب الشرايين يبدأ بخدشٍ بسيطٍ أو التهاب في بطانة الشريان، لتترسَّب عليه بعض مُكوِّنات الدم وجُزيئات الكوليسترول والتي يزداد سُمكُها مع الوقت، ويُمكِن أن تسبِّب موت المريض نتيجةً لانسداد الشريان بجلطةٍ دمويةٍ فجائية.

(١-٦) المعلومات ونشوء التعقيد Information and origin of complexity

حسب Lloyd (2006) فإن المعلومة هي الاختيار بين بديلَين؛ مثل ٠–١؛ حار-بارد؛ موجب-سالب، وهكذا. وكل متقابلَين اثنَين يكوِّنان بتًا (Bit) واحدًا، والأربعة تنتج اثنَين من البِتات، وهكذا. والبِت هو أصغر قيمة للمعلومات، ويمثِّل وحدة المعلومات. كل جُسَيمٍ أو ذرةٍ أو جُزيئةٍ أو جسم يُسجِّل معلومات (المعلومات هنا تتمثَّل بالشحنة مثلًا سالبة-موجبة أو مشحونة-متعادلة، البرم مع عقرب الساعة-عكس عقرب الساعة … إلخ). أيُّ تصادُمٍ ما بين هذه المكوِّنات وغيرها وأي تغيُّرٍ حركي في الكون بغَض النظر عن حجمه، يُعالِج هذه المعلومات بطريقةٍ منهجية، تمثِّل عملية حوسَبة. وعملية الحوسَبة تتضمَّن استخدام عملياتٍ منطقية (Logic Operations) مثل AND وNOT وCOPY وOR تقوم بتحويل البِتات بطرقٍ بسيطةٍ محددة وبوابات منطقية (Logic gates) بسيطة وقليلة تنشأ عنها حيث تُعالج المعلومات المدخَلة (مُدخَلات) إلى معلوماتٍ خارجة (مُخرَجات). وتنشأ عن تشكيلاتٍ من البوابات المنطقية دوائرُ منطقية (Logic Circuit) تقوم بتحويلاتٍ أكثر تعقيدًا للمعلومات المُدخَلة. ما يفعله الحاسوب الاعتيادي هو إعمال البوابات المنطقية للبِتات تدريجيًّا في برامجَ يُحدِّدها المبرمج. والبرنامج هو نَسَقٌ معيَّن من البِتات تُخبِر الكومبيوتر ماذا يعمل. وحيث إن المواد والطاقة والمعلومات في الكون تخضع لقوانينِ ميكانيك الكَم، فإن الكون يمثِّل كومبيوترًا كموميًّا، والبِتات تكون بشكل بِتاتٍ كموميةٍ أو كيوبت (Qubit) وهذا يمتاز عن البِت الذي يُستخدَم في الحاسوب الرقمي الاعتيادي (الذي يكون حالةً من حالتَين ٠ أو ١) بأن يكون ٠ أو ١ أو ٠ و١ في نفس الوقت نتيجةَ ظاهرة التراكُب (Superposition) ما يجعلُه بإمكاناتٍ حاسوبيةٍ فائقة. ونتيجةَ التقلُّبات والتحوُّلات العشوائية للبِتات في الطبيعة، والتي تقوم بها الجُسَيمات والذرات والجُزَيئات والأجسام المتصادمة والمتأثِّرة باستمرار، والتي أغلبها يُنتِج خربشاتٍ أو أخطاءً عشوائية، لكن بعضها يُنتِج برامجَ قصيرةً أدَّى تراكُمها وتداخُلها على مدى ملايين ومليارات السنين إلى كل التعقيد الذي نراه اليوم. ويُرجِع الباحث Lloyd (2006) هذا التعقيدَ الرائعَ في الكون إلى ثوراتِ معالجةِ معلوماتٍ كبرى، تمثَّلَت أوَّلها بالانفجار العظيم، ثم نشوء المادة الحية، واختراع الجنس، وتطوُّر الدماغ ثم اللغة والكتابة والحساب. ولكل ثورةٍ معلوماتيةٍ كبرى تقنيتُها التي بُنيَت على تقنية الثورات المعلوماتية التي سبقَتها.

ثمَّة من يميِّز مكوِّنات الطبيعة إلى أربعةِ مستوياتٍ عامة من التعقيد:

المستوى الأول وهو الأقل تعقيدًا، يتمثَّل بالطاقة والقوى الأساسية الأربعة (الكهرومغناطيسية، النووية الضعيفة، والنووية القوية، والجاذبية) والجُسَيمات الأوَّلية تحت الذرِّية (كواركات، إلكترونات … إلخ.) والذرات والمواد بحالاتها الأربعة (الصلبة، والسائلة، والغازية، والبلازما) وحركتها. ولكونها الأبسط فإن تراكيبها وسلوكها يمكن فهمه بمنطقٍ رياضي دقيق، وقوانين ميكانيك نيوتن والنسبية التي تعمل في العالم الكبير المرئي (ملمترات، أمتار، كيلومترات/ثانية، دقيقة، ساعة، يوم، سنين) وميكانيك الكَم التي تعمل في العالم الصغير غير المرئي (ميكرومتر، نانومتر، بيكومتر …/أجزاء الثانية، … فمتوثانية) المستندة إلى الاحتمالات وعدم الدقة. العلم الذي يدرُس هذا المستوى من التعقيد هو الفيزياء.

المستوى الثاني يتمثَّل بتفاعُل الذرات والجُزيئات للعناصر الطبيعية، وعلاقاتها الطاقيَّة، وتكوين المركَّبات بدرجات تعقيدها المختلفة بما فيها البوليمرات (الجُزَيئات الضخمة) ذات النشاط الحيوي. ومع أن هذا المستوى هو أكثر تعقيدًا من المستوى الأول، إلا أنه يخضع في الكثير من جوانب دراسته للمنطق الرياضي ويُعبَّر عنه بمعادلات وقوانين، إلا أن الحيود يكون أكبر من المستوى الأول، خاصة في الكيمياء الحيوية التي تدرُس الجُزيئات العضوية الضخمة؛ كالبروتينات والإنزيمات والأحماض النووية وكيمياء النانو. العلم الذي يدرُس هذا المستوى من التعقيد هو الكيمياء.

المستوى الثالث يشتمل على المواد والكائنات الحية والتي تتضمن موادَّ وتراكيبَ عضوية معقدة جدًّا، وذات تنظيمٍ خاص، وتراكيب نانوية الأبعاد، وفعالياتٍ مميزة لا تُظهِرها المواد غير الحية، تتمثَّل من بين أمورٍ أخرى بالقدرة على التحسُّس والتكاثُر والتغايُر والتطوُّر وحفظ النوع. وتُوِّج تطوُّر الأحياء بظهور الإنسان العاقل (Homo sapiens) الذي يتصف بوعي الذات وامتلاك اللغة والقدرة على التفكير والتعلُّم والابتكار واستخدام الآلة. إن أجسام معظم الأحياء تقع ضمن أبعاد العالم الكبير، إلا أن تراكيبها الدقيقة الفعَّالة (الخلية وأجزاءها) تقع ضمن أبعاد العالم الصغير؛ وعليه فإنها تخضع لقوانين الفيزياء التقليدية، وفيزياء الكم والكيمياء، وكذلك البيولوجيا. وبسبب المستوى العالي من التعقيد ليس من السهل التعبير عن الظواهر البيولوجية، بالقوانين والمعادلات الرياضية، لوجود درجاتِ حريةٍ عاليةٍ للمتغيرات؛ وبالتالي تتركَّز القوانين والمعالجات والمعادلات الرياضية في مجال البيولوجيا التخليقية (Synthetic Biology) والبيولوجيا النظرية (Theoritical Biology) والبيولوجيا الرقمية (Digital Biology) وهي فروعٌ بيولوجيةٌ صاعدة، والوراثة والفسيولوجيا والبيئة. بينما يشيع استخدام الإحصاء والحوسَبة في جميع فروع البيولوجيا خصوصًا علم الحياة الجُزيئي، وتقسيم الأحياء. العلم الذي يدرس هذا المستوى من التعقيد هو البيولوجيا أو علم الحياة.
المستوى الرابع وهو الأكثر تعقيدًا يتمثل بالمستوى الاجتماعي الذي يتألَّف من أعدادٍ كبيرة من البشر، وكل فردٍ فيه يمِّثل أعقدَ وأرقى الكائنات في الطبيعة التي نعرفها الآن. ويُمكِن القول إن الكيان الاجتماعي هو تجمُّعٌ عضويٌّ سائب لعددٍ قليلٍ أو كثير من الأفراد تشُدُّه علاقاتٌ واتصالاتٌ مباشرة وغير مباشرة، تُشبِه بحدودٍ معينة تجمُّع خلايا الكائن الحي أو تُشكِّل ما يعرف بالكائن الحي العُلْوي (Metaorganism). يتأثَّر سلوك الإنسان بالوراثة والبيئة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية ومستوى التحضُّر. وللعادات والتقاليد والمعتقدات الدينية والمشاعر القومية أدوار في التأثير على السلوك، حسب مستوى التسامُح أو التعصُّب فيها. ويزداد تعقيد السلوك البشري مع زيادة عدد الأفراد وتنوُّع وتشابُك علاقاتهم من العائلة إلى المجتمع المحلي ومجتمع الدولة والمجتمع الإنساني. في هذا المستوى من التعقيد يصعُب التعبير عن الظواهر بقوانينَ رياضية مع وجود بعض القوانين الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والحقوقية المرنة بينما يُستخدم الإحصاء والحوسَبة في فهمها. هذا المستوى هو مجال علوم المجتمع والاقتصاد والتاريخ والقانون، إضافة إلى الآداب والفنون.
يُفيد هذا التقسيم لمستويات التعقيد في إلقاء الضوء مُبكِّرًا، لكشف الملامح الكلية للنماذج التي تُدرَس في نظرية التعقيد. ومن الضروري التأكيد على تداخُل المستويات الأربعة المذكورة؛ فالمستوى الأول من التعقيد متضمَّن في المستوى الثاني، وتداخُلُهما شرطٌ أساسي لتكوين المستوى الثالث، والمستوى الأخير لا يتم دون المستوى الثالث. وحسب Heylighen (2018) فإن مكوِّنات الطبيعة علائقية؛ أي إنها جوهريًّا معتمدةٌ الواحدةُ على الأخرى، ومترابطة، وكل عنصرٍ أو مكوِّنٍ في الطبيعة يُوجد فقط بالعلاقة مع العنصر الآخر، وشبكة العلاقات التي تنشأ بهذه الطريقة هي الأساس لتكوين التنظيمات المعقَّدة.
ويميِّز Kauffman (2019) البيولوجيا والموادَّ الحية عن الفيزياء والمواد غير الحية كون الأخيرة تكون أركودية (Ergodic) أي إنها تستكشف جميع فضاءات الحالة للمنظومة؛ وبالتالي تكون درجات تعقيدها محدودة؛ كمثال الغاز المحصور في وعاءٍ جُزيئاته تستكشف كافة فضاءات الحالة ضمن فترةٍ زمنيةٍ معينة. وكذلك الكواكب التي تدُور حول شموسها، وهكذا. لكن المنظومات الحية غير أركودية؛ وبالتالي لا يمكنها استكشاف جميع فضاءات الحالة ضمن زمن وجودها؛ وبالتالي درجة تعقيدها تكون مفتوحةً غير محدودة. الكون من خلال الفيزياء كوَّن الذرَّات بكل الأنواع الممكنة لينتج ١٠٠ نوعٍ فقط من عناصر الجدول الدوري. كما كوَّن بواسطة الكيمياء آلاف أو عشرات آلاف المركَّبات الكيميائية غير الأحيائية خلال أكثر من ١٠ مليارات سنة، دون أن يُنتِج التعقيدات التي كوَّنها بواسطة البيولوجيا في فترة أقل من ٤ مليارات سنة. لنأخذ البروتين كمثال؛ البروتين كما هو معروفٌ يتألَّف من سلسلةٍ قد تطول أو تقصر من الأحماض الأمينية المرتبطة التي عدد أنواعها ٢٠. البروتينات النمذجية في جسم الإنسان تكون مؤلَّفة من ٣٠٠ حامضٍ أميني. لو اخذنا بروتينًا مؤلَّفًا من ٢٠٠ حامضٍ أميني، فإن عدد أنواع البروتينات المختلفة الممكن تكوُّنها سيكون ٢٠٢٠٠ أو ٢٠٢٦٠ وهو رقمٌ فوقُ فلكي. بدون البيولوجيا، لو أن الكون ومنذ نشوئه حاول تكوين هذا العدد من البروتينات وخلال عمره كله ١٣٫٧ مليار سنة أو ١٠١٧ ثانية من عدد الذرات في الكون والبالغة ١٠٨٠ ومع كل دقة من زمن بلانك البالغة ١٠−٤٣ من الثانية (وهو أقل زمن يُمكِّن من إنجاز شغل) فانه يحتاج ١٠٣٩ مرةً بعمر الكون؛ وعليه ومن خلال البيولوجيا لا حدود للتعقيد الذي يمكن أن يصلَه الكون.

وهكذا فإن كل شيءٍ أو ظاهرةٍ في الطبيعة تتسم بهذه الدرجة أو تلك من التعقيد، كما أن جميع النُّظم المعقَّدة تُظهِر سمات وآلياتِ عملٍ متشابهة. هذا قاد إلى نشوء نظرية أو علم التعقيد الذي يمثِّل جهدًا مُضنِيًا لفهمِ ما يدور فينا وما حولنا، بدءًا من المكوِّنات تحت الذرِّية إلى الذرات والجُزيئات والكائنات الحية والكواكب والنجوم، بل الكون كله، مستخدمين مُجمَل المعرفة البشرية والأبحاث العلمية بكافَّة فروعها.

(١-٧) التفكير المنظومي Systems Thinking

fig2
شكل ١-١: جسمٌ ملموسٌ مثل قطعة من الملح يمثل منظومة تتألَّف من بلوراتٍ كلٌّ منها يمثِّل منظومة، وبدَورها تتألَّف من منظوماتٍ عديدة؛ هي أيونات الكلور والصوديوم. وكلٌّ منها يحتوي في مركزه على منظوماتِ النوى الذرِّية التي تتألَّف من منظومات البروتونات والإلكترونات، وكلٌّ منهما منظومةٌ تتألَّف من ثلاثة كواركات.
هي طريقة التفكير التي تنظُر لمعظم الأشياء في الطبيعة الحية وغير الحية على أنها منظوماتٌ متداخلة، منظومةٌ صغرى داخل منظومةٍ أكبر، داخل منظومةٍ أكبر، داخل منظومةٍ أكبر (شكل ١-١) وهكذا إلى أن تصل إلى المنظومة الأكبر وهي الكون بأكمله. وعند تعامُلنا مع أي جسمٍ أو ظاهرةٍ طبيعية، فنحن نتعامل مع منظومةٍ تقع ضمن تراتُبيةٍ هرميةٍ تصاعدية (زيادة في التعقيد) فتكون المنظومة هذه منظومةً صغرى (Subsystem). كمثال الإنسان كفردٍ يمثِّل منظومةً صغرى ضمن منظومةٍ عليا (Supersystem) هي العائلة ثم منظومةٍ أعلى هي المجتمع وهكذا. أو أنها تكون على رأسِ تراتُبيةٍ هرميةٍ تنازُلية فتكون منظومةً عليا تتألَّف من مراتبَ من عددٍ من المنظومات الصغرى، كمثال اللغة منظومة عليا تتألَّف من منظوماتٍ صغرى هي الجمل، وهذه تتألَّف من منظوماتٍ صغرى هي الكلمات، وهذه تتألَّف من منظوماتٍ صغرى هي الحروف. أدنى المنظومات الصغرى هي تلك التي لا تتمكَّن عواملها المكوِّنة من النشاط المستقل (Johnson IV et al., 2013). وعلى الرغم من التنوُّع الهائل في أنواع المنظومات، فإنها تشترك في سماتِ تركيبها وآلياتِ عملها؛ ما يُمكِّن من دراستها وتكوين نظرةٍ علميةٍ عامة لما يدور من حولنا.

(١-٨) المنظومة System

المنظومة هي كلٌّ موحَّدٌ مؤلَّف من مكوِّناتٍ مترابطةٍ مُتبادلة التأثير (متأثِّرة) تُوجد في بيئةٍ تكون مفصولةً عنها بواسطة حاجز يفرقها أيضًا عن غيرها من المنظومات، ويُكسِبها هويتها الخاصة. مكوِّنات المنظومة تكون كثيرةً في الغالب، متشابهة أو متباينة، ولا يُمكِن تقسيمها إلى أجزاءٍ مستقلة، وليس لأي مكوِّنٍ فيها تأثيرٌ مستقلٌّ على كل المكوِّنات. المكوِّنات يُمكِن أن تكون ذات طبيعةٍ مختلفة؛ ذرَّات، جُزيئات، خلايا، ترانسيسترات، خلايا عصبية، ناس، شركات، رموز، مفاهيم … إلخ. العلاقة تمثِّل التأثير الذي يُحدِثه أحد المكوِّنات على سلوك المكوِّن الآخر (Heylighen, 2018). اللافت في المنظومة هو أن الكل أكبر من حاصل الجمع البسيط لمكوِّناتها، وهو ما أكَّده مُنظِّر التفكير المنظومي Bertalanffy (1972) في أن مقولة الفيلسوف الإغريقي أرسطو «الكل أكبر من مجموع أجزائه» تمثِّل حجر الأساس لمفهوم المنظومة؛ فبلورة مِلح الطعام NaCl كمنظومةٍ طعمُها مالح تتألَّف من الصوديوم، وهو فلزٌّ قلويٌّ والكلور وهو لا فلز (غازٌ سام)؛ حيث ليس لأيٍّ منهما الطعم المالح لبلورة الملح الذي هو المنظومة. الأجزاء المعزولة للسيارة لا تتمكَّن من أداء عملها كوسيلة نقل، ولا تتمكَّن أعضاء جسم الكائن الحي المعزولة من الحياة دون ارتباطاتها لتكون منظومةً كاملة.
يؤدِّي التأثُّر (Interaction) ما بين مكوِّنات المنظومة إلى حصول ظاهرة الانبثاق (Emergence) وهي صفاتٌ أو أفعالٌ تسِم المنظومة ككل؛ كالطعم المالح والنقل المُوجه والحياة في الأمثلة المذكورة. سيتم مناقشة موضوع الانبثاق لاحقًا.
يمكن اعتبار المنظومة شبكة، كل مكوِّن فيها يمثِّل عقدة، والتأثيرات المتبادلة بين المكوِّنات تمثِّل العلاقات أو الصِّلات كما في الشكل ١-٢.
fig3
شكل ١-٢: شبكة المُكوِّنات المرتبطة بعلاقات.
ومع أهمية المكوِّنات في تشكيل المنظومة، فإن وجودها دون علاقاتٍ متبادلة فيما بينها لا تُشكِّل منظومة بل مجموعة (Set). وأية مجموعة يُمكِن وصفها بمكوِّناتها المؤلَّفة منها، وبذلك يُعبَّر عنها بمجموع مكوِّناتها. وتتميَّز المجاميع غير المنظومية بارتفاع الإنتروبي (Entropy) (وهو مقياسٌ لدرجة القلَق وقلَّة المعلومات والتفكُّك) وانعدام الطاقة الحرة القابلة للاستغلال، والتي تمكَّن من أداء شغلٍ وليس لها تركيبٌ ملحوظ. كمثال كَومة الرمل لا تُشكِّل منظومة؛ حيث تغيب العلاقات بين حبَّات الرمل المكوِّنة لها. كذلك عُلبة الأدوات الميكانيكية لا تشكِّل منظومة؛ فكلُّ أداةٍ فيها يمكن أن تؤدِّي عملها دون الحاجة إلى الأخرى.
تختلف المنظومات من حيث درجة تعقيدها وعلاقاتها بالمحيط أو البيئة وفعالياتها. يمكن تقسيم المنظومات إلى:
  • المنظومات المعزولة: هي المنظومات التي لا تتبادل الموادَّ والطاقة والمعلومات مع المحيط الخارجي أو البيئة (شكل ١-٣). لا تُوجد منظوماتٌ معزولة في الطبيعة، والمنظومة المعزولة الوحيدة هي الكون بأكمله.
  • المنظومات المُغلَقة: هي المنظومات التي لا تتبادل الموادَّ لكنها يمكن أن تتبادل الطاقة والمعلومات مع المحيط (شكل ١-٣). تتحدَّد الحالة النهائية للمنظومة المُغلَقة بواسطة شروطها الأولية. وتتجه المنظومات المغلَقة جميعها نحو حالة من التوازُن والإنتروبي الأقصى. كمثال، الحاضنة الحرارية (الترمس)، أو غازٍ محصور في وعاءٍ محكَم.
  • المنظومات المفتوحة: هي المنظومات التي تتبادل المادة والطاقة والمعلومات مع البيئة وتستخدم تبادُل الطاقة لديمومة تركيبها. كل الأنظمة الحية بضِمنها المنظومات المعقَّدة المتكيِّفة هي منظوماتٌ مفتوحة (شكل ١-٣). ولكن ليس كل منظومةٍ مفتوحة هي معقَّدة ومتكيِّفة (كمثال الشمعةِ المُشتعِلة تمثِّل منظومةً مفتوحةً غير معقدة وغير متكيِّفة).
fig4
شكل ١-٣: أنواع المنظومات وعلاقاتها مع البيئة.

(١-٩) المنظومات المعقَّدة المتكيِّفة Complex Adaptive Systems

يمكن اعتبار المنظومة المعقَّدة المتكيِّفة منظومة متعدِّدة العوامل (Multi Agents System) تتبادل التأثير مع غيرها من المنظومات أو مع البيئة. العامل هنا هو المكوِّن الواحد في المنظومة والذي هو بدَوره عادةً ما يكون منظومةً بذاته أيضًا. كما أن العوامل في المنظومة تكون غير قابلةٍ للتجزُّؤ، وتُؤثِّر في ديناميكية المنظومة (Kaisler & Madey, 2009).
تتبادل المنظومة المواد والطاقة والمعلومات مع البيئة والتي تمثِّل المُدخَلات (Input) في حين أن ما يصدُر عن المنظومة من هذه الموارد أو التأثيرات يمثِّل المُخرَجات (Output). عندما تكون مُخرجَاتُ منظومةٍ ما أو بعض منها مدخلاتٍ لمنظومةٍ أخرى ستحصُل علاقةٌ متبادلة بين المنظومتَين. وعند ارتباط عددٍ من المنظومات على أساس المُدخَلات والمُخرَجات بشكلٍ متماسكٍ ستُشكل منظومة عليا (Supersystem) تضُم المنظومات المشتركة التي ستمثِّل بدورها منظوماتٍ صغرى  (Subsystems) (Heylighen et al., 2007). كمثال الخلية الحية للأحياء الراقية: تضُم الخلية عددًا من العُضَيَّات مثل النواة (واحدة عادة) التي تحتوي على معظم اﻟ DNA حيث المعلومات الوراثية، والميتاكوندريا (عديدة) حيث تُنتِج معظم الطاقة بشكل جزيئات ATP، والرايبوسومات (كثيرة جدًّا) حيث تُنتِج البروتينات إضافةً إلى عددٍ من العُضَيَّات الأخرى المهمة لا نذكُرها للاختصار. كل العُضَيَّات موجودة في محلولٍ مائي، غَروي، كثيف، هو السايتوبلازم الذي يحتوي الكثير جدًّا من المواد المختلفة بضمنها؛ بروتينات، وسكريات، ودهون، ومركَّباتٌ متنوعة كثيرة جدًّا، ومحاطٌ بغشاءٍ يفصل الخلية عن الخلايا المجاورة أو عن البيئة. لكي تقوم الرايبوسومات بدورها، فإنها تستلم المعلومات الخاصة بإنتاج البروتين من النواة بشكل جُزيئات RNA، وتستلم الأحماض الأمينية التي سيتكوَّن منها البروتين الجديد، محمولةً على نوعٍ آخر من جُزيئات RNA من السايتوبلازم، كما تحتاج إلى الطاقة التي تحصُل عليها من الميتاكوندريا والسايتوبلازم. تنتج الرايبوسومات البروتينات التي ستذهب إلى السايتوبلازم لمعالجتها ونقلها إلى العُضيَّات أو الأجزاء التي تحتاجها. من جهتها تحتاج الميتاكوندريا إلى سكرياتٍ ودهونٍ تُعالج جزئيًّا في السايتوبلازم لكي تُنتِج الطاقة بشكل جُزيئات ATP. الطاقة التي تنتجها الميتاكوندريا تذهب إلى النواة والرايبوسومات وغيرها من العضيات في السايتوبلازم لإتمام عملها. وهكذا تكون مُخرَجات النواة مُدخَلات للرايبوسومات، ومُخرَجات الرايبوسومات مُدخَلات للنواة والسايتوبلازم، ومُخرَجات السايتوبلازم مُدخَلات للميتاكوندريا، ومُخرَجات الميتاكوندريا مُدخَلات للنواة والرايبوسومات والسايتوبلازم. وهكذا تمثِّل الخلية المنظومة العليا، وكل عُضَيٍّ يمثل منظومةً تحتية. في مَرتبةٍ أعلى، ستمثِّل خلايا الكبد منظوماتٍ تحتية لنسيج الكبد وتراكيب أوعيةٍ دموية وقنواتٍ صفراوية، هذه بمجموعها ستُشكِّل منظومة عليا هي الكبد كعضو، وهكذا القلب والدماغ وجميع أعضاء الجسم كلٌّ منها سيمثِّل منظومةً عليا بالنسبة للخلايا والأنسجة التي يتألَّف منها والتي تمثِّل منظوماتٍ تحتية. وفي مرتبةٍ أعلى، ستُشكِّل الأعضاء كلها منظومة عليا هي الجسم، بينما تمثِّل الأعضاء منظوماتٍ تحتية. ويمكن الانتقال إلى مرتبة أعلى؛ حيث يمثِّل جسم الفرد ونشاطه الكامل منظومةً تحتية لمنظومةٍ عليا هي المجتمع. وينطبق الحال على التجمُّعات الحيوانية والنباتية وكل الأحياء الأخرى حيث تُشكِّل منظوماتٍ تحتية تتبادل المُدخَلات والمُخرَجات لتُشكِّل منظومةً عليا هي مجموع الكائنات الحية (Biosphere). كذلك الأقمار مع الكوكب التي تدور حوله تمِّثل منظومةً صغرى، الكواكب وأقمارها التي تدور حول شمسها ستكوِّن منظومةً أعلى هي المجموعة الشمسية، ومليارات المجاميع الشمسية ستمثِّل منظوماتٍ صغرى تشكِّل منظومةً عليا هي المَجرَّة، ومليارات المجرَّات ستشكِّل المنظومة الأعلى وهي الكون.
هل للعوامل أو المنظومات التحتية هدف؟ الجواب نعم؛ فلكل عاملٍ أو منظومةٍ تحتية ميلٌ أو هدفُ تحقيقِ الممكنات، بغَض النظر عن درجة تعقيده حيًّا كان أم غير حي. يتم تحقيق الميول أو الأهداف من خلال التجربة والخطأ والتي ستُنتِج تغيُّراتٍ تخضع للانتخاب الطبيعي، الذي سيحدِّد الحالة الممكنة التي هي أكثر أهلية، مثلما تستكشف الجُسَيمات جميع المواضع المحتملة دائمًا حسب ميكانيكا الكم (Turok, 2018)؛ فالشحناتُ الكهربائية المختلفة تميل تلقائيًّا للاقتراب من بعضها بينما تنفر من مثيلاتها، والجُزيئات المُستقطِبة مثل جُزيئات الماء تميل للارتباط مع الجُزيئات المُستقطِبة (مثل جزيئات الماء الأخرى والسكريات والأملاح)، كما تفعل الجُزيئات غير المُستقطِبة مثل جُزيئات الدهون الشيءَ نفسَه مع الجُزيئات غير المُستقطِبة (مثل الهكسان والكلوروفورم)، والأقطاب المغناطيسية المتشابهة تتنافر والمختلفة تتجاذب. ذرَّات العناصر اللافلزية مثل الهيدروجين (H) والأوكسجين (O) والنتروجين (N) وغيرها تتفاعل تلقائيًّا مع مثيلاتها، لتكوين جُزيئاتٍ ثنائية الذرة H2 وO2 وN2 على التوالي. كذلك جميع التفاعُلات الكيميائية التلقائية، مثل تفاعُل الهيدروجين والأوكسجين، لتكوين جُزيئات الماء، تحصُل لميل الذرات والجزيئات للوصول إلى مستوًى منخفضٍ من الطاقة الحرة. وجميع الأجسام غير الحية الأخرى، مثل دقائق التربة أو الصخور، تسعى إذا ما حُرِّكَت بقوةٍ خارجية من مواقعها للبحث باستمرار عن موقعٍ يخفض طاقتَها الموضعية (الكامنة)، مثلما تتدحرج الصخرة أو ينحدر ماء الشلال من أعلى الجبل إلى الوادي. أما الكائنات الحية كلُّها من أبسطها إلى أرقاها لها هدفٌ بيولوجيٌّ أساسي مشترك، هو البقاء حيةً عَبْر زيادة الأهلية في البيئة. هذا الهدف البيولوجي الذي يتضمَّن درجاتٍ مختلفةً من الوعي الذي هو انبثاقٌ ظهَر بسبب الطبيعة الخاصة والتنظيم والتعقيد العاليَين للتركيب الكيميائي للكائنات الحية، والذي لا يظهر في المواد غير الحية بسبب انخفاض مستوى التعقيد.
المنظومات الصغرى تتمتَّع باستقلالية، وقد تتعارض ميولها أو أهدافها الذاتية وليس لها هدفٌ عامٌّ أو مشترك، هذا يُجبِر المنظومات المختلفة على التكيُّف مع الضغوط والتأثيرات التي تتعرَّض لها من المنظومات الصغرى الأخرى. كما أنها تتعرَّض لمحدِّداتٍ تفرضها عليها المنظومة العليا. كمثالٍ قد يرغب الطير المُفرَد أو الفرد من الماشية باعتبار كلٍّ منها منظومةً صغرى بالطيران أو المسير بأي اتجاه، لكن حينما يكون كلٌّ منهما جزءًا من سِربٍ أو قطيع؛ أي جزءًا من منظومةٍ عليا، فإنه سيخضع لقواعدَ محدَّدة ولكن بسيطة، كأن يطير أو يسير مع الاتجاه العام للقريبين منه، وأن يتفادى التصادُم مع الأقربين حيث ينبثق نوعٌ من النظام. وجميع الأنظمة المائية في العالم؛ الأنهار، الشلالات، البحيرات، البحار والمحيطات مع كل تنوُّعها وعظمتها وجمالها، فإنها تخضع لقاعدةٍ بسيطةٍ واحدة وهي أن الماء يبحث عن موضعٍ يحقق الطاقة الكامنة الأقل (Kaisler & Madey, 2009).

(١-١٠) التنظيم الذاتي والتجميع الذاتي

Self-Organization and Self-Assembly

كم نندهش حينما نتأمل زهرةً جميلةً معقَّدة كزهرة الأوركيد، أو فراشةً مطرَّزةً بالألوان! مثلما نُعجَب بالعمارات الشاهقة أو تفحُّص تركيب الساعة. وحيث إننا نعرف أن العمارة أو الساعة من تصميم مهندسين فلا بد أن تكون الأزهار والفراشات، بل كل شيء لا يصمِّمه ويصنعه الإنسان، من تدبير قوةٍ خارجيةٍ خارقة. هذا ليس حال العامة فقط، بل حتى المتعلمين بمختلف مستويات التعليم؛ كونه ينسجم مع البداهة أولًا، ويتماشى مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن الإنتروبي (الفوضى) للمنظومة تزداد دائمًا؛ أي إن أية منظومة تتجه نحو التفكُّك والانحلال، وكذلك نمط التفكير على أسس الفيزياء التقليدية الذي يُفضي إلى مبدأ السبب والنتيجة المحتَّمة.

غير أن نظرية التعقيد والتفكير المنظومي تفسِّر الظواهر الطبيعية على أساس التنظيم الذاتي، والتجميع الذاتي والانبثاق؛ فعند تفحُّص المؤشِّرات العيانية (الكبيرة) فقط لمنظومةٍ ما، سيكون ثمَّة عدم يقينٍ مناسب حول التفاصيل الدقيقة لهيئة أو ترتيب المنظومة. التخمين الأفضل سيكون بإعطاء كل حالةٍ ممكنة الاحتمالية نفسها دون القدرة على تعيين أيٍّ منها؛ كونها الحالة المتحقِّقة بسبب ارتباط الإنتروبي مع عدم اليقين. لكنَّ عمليتَي التنظيم الذاتي والتجميع الذاتي اللتَين تُولِّدان التركيب في المنظومة، سيخفضان عدم اليقين حيث لا تبقى الحالات الدقيقة متساوية الاحتمالية؛ فبعضها يتحقق والبعض الآخر لا، وبذلك يخفض عدد الاحتمالات (الإنتروبي). غير أن تكوين التركيب في المنظومة يقتضي زيادة الإنتروبي بإنتاج الحرارة لمعادلة تخفيض عدم اليقين. وهكذا يتضح ترافُق الإنتروبي مع المعلومات والتركيب الناشئ للمنظومة. القول بالتنظيم الذاتي والتجميع الذاتي يرجعُ إلى كون التركيبِ الذي يُحدِثانه في المنظومة لا يُفرَض من قِبَل مصدرٍ خارجي للمعلومات؛ حيث إن التأثير الخارجي لا يكون كافيًا لتفسير حالة النظام الذي يظهر في المنظومة. الفرق بين التنظيم الذاتي والتجميع الذاتي يرجع إلى آليات الديناميكا الحرارية لهما (Halley et al., 2008; Grisogono, 2017)؛ فالتجميع الذاتي يحصُل تلقائيًّا؛ كون الحالة التي تكون فيها المكوِّنات غير مرتبطة مع بعضها أعلى طاقيًّا من حالة التجميع لهم؛ فهي عملية «محرِّرة للطاقة». أمثلة ذلك تشمل تجميع الوحدات الفردية المكوِّنة للبوليمرات وتكوين البلورات في المحاليل فوق المشبعة. وهكذا يكون التجميع الذاتي عمليةً تنحو ولا تحتاج إلى دعمٍ لاستمرارها سوى توافُر جُزيئات المكوِّن أو المكوِّنات لتجميعها. هذه العملية ستُحرِّر الطاقة بشكل حرارةٍ منتجة إنتروبيًّا، يعادل المعلومات التي أوجدها التجميع الذاتي.
أما التنظيم الذاتي فهو عملية ليست في حالة توازُن، وتتميز بثباتِ نمط الترتيب الحاصل نتيجة تأثُّر مكوِّنات المنظومة، وتتطلب الضخَّ المستمر للطاقة (عملية ماصة للطاقة) وكذلك المواد المطلوبة لاستمرارها. وهكذا؛ فعند حصول انخفاضٍ مهم أو انقطاعٍ للطاقة، ستنهار حالة التنظيم الذاتي (Howard, 2010; Grisogono, 2017)؛ وعليه، فإن التنظيم الذاتي يُعرَّف على أنه التكوُّن التلقائي لنمطٍ عامٍّ متماسكٍ من خلال التأثُّرات المحلية لمكوِّنات المنظومة. كلُّ منظومةٍ معقَّدةٍ متكيِّفة تنحو لأن تتخذ تركيبًا عامًّا تلقائيًّا ينتُج عن تآثُر عواملها المكوِّنة. كما أن التلقائية حسب (Heylighen, 2008) تعني عدم وجود عاملٍ داخليٍّ أو خارجي يسيطر على هذه العملية؛ حيث يمكن الاستغناء عنه أو استبدال أيِّ عاملٍ مُفرَد من المنظومة الكبيرة بما يكفي، دون الإضرار بتركيبها. هذا الأمر يجعل المنظومة قويةً ومقاومةً للتقلُّبات. هي لم تُصمَّم من الخارج مثل المكائن أو غير ذلك مما يصنعه الإنسان، ولا يمكن تحديد شكل المنظومة من خلال خواصِّ عناصرها، مثلما لا يمكن التنبُّؤ بنوع البناء من مجرد معرفة خواصِّ الطابوق (Cleveland, 1994).
تنحو المنظومة الديناميكية دائمًا، بغَض النظَر عن نوعها أو مكوِّناتها، الوصول إلى حالة التوازُن أو ما يُطلَق عليه الجاذب (Attractor). الجاذب هو النقطة أو المحور الذي يندفع إليه الشيء، مثل حركة البندول؛ فعند تحريك الجسم المعلَّق من نقطة سكونه فإنه سيبتعد عن موقعه الأصلي ثم يعود إليه ويغادره ويرجع بالاتجاه الآخر، ويبقى يُكرِّر هذه الحركة بفعل الاستمرارية إلى أن يستقر في موقعه الأصلي الذي يمثِّل الجاذب. كذلك ترسيب العوالق في محلولٍ بواسطة جهاز الطرد المركزي؛ حيث ستترسَّب العوالق في قعر الأنبوب، حيث يكون الجاذب، في حالة التوازن هذه تكون الأجزاء المختلفة للمنظومة متكيِّفة تكافليًّا. وكلما زادت العشوائية المؤثِّرة في المنظومة، أسرعَت في الوصول إلى الجاذب وتحقيق التنظيم الذاتي بزيادة النظام. وحسب De Wolf & Holvoet (2005) التنظيم الذاتي يتطلَّب الموازنة بين النظام (Order) والشواش (Chaos) والوصول إلى حافة الشواش حيث يتمتَّع بالمرونة المناسبة. هنا يمكن اعتبار الحالة السائلة للماء مثلًا تمثِّل حافة الشواش لجزيئات الماء؛ حيث المزيد من النظام يقود إلى الانجماد (الجليد) بينما المزيد من الشواش يقود إلى حالة الفوضى (البخار). في النظم السياسية، الديمقراطية تمثِّل حافة الشواش؛ حيث إن المبالغة في النظام تقود إلى الدكتاتورية، بينما الحرية المُنفلِتة (مزيد من الشواش) تؤدِّي إلى الفوضى. وفي الاقتصاد، يمثِّل اقتصاد السوق حافة الشواش بينما يمثِّل الاقتصاد الموجَّه مركزيًّا والاقتصاد غير المتبلور طرفَي المبالغة بالنظام أو الفوضى على التوالي.
تبدأ عملية التشكُّل من خلال التأثُّر الموضعي بين عوامل المنظومة بينما تكون العوامل البعيدة غير معنية أو مستقلة عن بعضها. لكن التأثير سينتقل تدريجيًّا إلى تلك المناطق مع الوقت بسبب ترابُطها مع جميع عوامل المنظومة، وبسبب التبادُل المعقَّد لعمليات التغذية العكسية الموجبة (تكبير التأثير) والسالبة (تخفيض التأثير) يصعُب التنبؤ بالتأثير البعيد الذي يمكن أن يبدو عشوائيًّا في البداية. وهكذا لا تكون حصيلة التأثُّرات محدَّدةً مسبقًا لكنها يمكن أن تُظهِر تفضيلاتٍ أو وضعياتٍ على حساب أخرى. ويمكن أن تُنتخب الحالات التي هي أكثر أهليةً من غيرها إما من قِبَل البيئة مباشرة أو من قِبَل العوامل التي سبق أن تكيَّفَت مع البيئة. الآلية الأساسية للتنظيم الذاتي هي التغايُر الذي يستكشف مناطقَ مختلفةً من فضاء الحالة (State Space) وفضاءُ الحالة هو حاصل الضرب الديكارتي لفضاءات الحالة لكل مكوِّنات المنظومة (أو كل الحالات الممكنة) حتى يدخُل في جاذب. هذا الأمر سيمنع التغيُّرات خارج الجاذب وبذلك يقيِّد حرية عوامل المنظومة بالتصرُّف المستقل. وإذا كان نمط أو هيئة أو تركيب المنظومة يتطلَّب طاقةً حرة يحصل عليها من البيئة أو يُحرِّرها من موادَّ مخزونةٍ داخليًّا أصلها البيئة أيضًا، فإنه سيخفض الإنتروبي للمنظومة، ويُصدِر مزيدًا من الإنتروبي بشكل حرارة إلى البيئة. وبذلك فهو يتماشى مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية؛ فالكائنات الحية كمنظوماتٍ معقَّدةٍ مفتوحة تعتمد طاقة الفوتونات في ضوء الشمس في عملية التركيب الضوئي (البكتيريا الخضراء المزرقة والطحالب والنباتات) أو الأحياء المتغذِّية على النباتات لبناء مركباتٍ خازنة للطاقة (سكريات، دهون) تستخدمها كمصدرٍ داخلي للطاقة الحرة عند الحاجة. بناء المركَّبات المعقَّدة لغرض النمو يتطلَّب عكس ما يفرضه القانون الثاني للديناميكا الحرارية بزيادة التحلُّل (الإنتروبي). لكن تخفيض الإنتروبي الداخلي سيتم تعويضه بتصدير المزيد من الإنتروبي إلى البيئة الخارجية بشكل حرارة وغازات وفضلات.
إن عملية تكوين الأنماط (التراكيب) في المنظومة وإدامتها وتطوُّرها تتطلَّب إنجاز شغل. هذا يتم من خلال ما يُعرف بدورات الديناميكا الحرارية، التي تحصل في المنظومة وتقودها من حالة إلى حالةٍ تالية ليعود إلى الحالة الأولى لكن مع تحقيق شغل؛ إما من قِبَل المنظومة على البيئة أو العكس. وهكذا يمكن أن تستمر الدورة مرةً بعد أخرى مع إنجاز الشغل من خلال استغلال الطاقة الحرة المُستحصَلة من البيئة وتصدير الإنتروبي إليها. كمثال على ذلك، حصول التحفيز الذاتي لتفاعلاتٍ كيميائيةٍ معيَّنة (شكل ١-٤) والدورات الأيضية في الخلايا، وتكوُّن ذرات العناصر والجُزيئات، ونشوء الأشكال البدائية للحياة، وتكوُّن النجوم والمجرَّات وبقاؤها وتحوُّلها.
fig5
شكل ١-٤: تفاعُل كيميائي.
fig6
شكل ١-٥: سفيان الكثبان الرملية (أعلى يمين) والتشقُّقات الطينية وتموُّجات جِلد سمكة الأرنب، وتخطيطات الزبرا والتفافات أوراق رأس اللهانة وزخرفة حبة طلع نبات Forsythia والجسم الثمَري لفِطر الموريل وعش النمل الأبيض وتفرُّعات دماغ القط (أسفل يسار).
الخلية الحية تعتمد في تركيبها وفعالياتها على عمليات التنظيم الذاتي والتجميع الذاتي؛ تركيب وتفكيك مكوِّنات الفايروسات ضمن دورة حياتها المتكرِّرة، والرايبوسومات (مصانع البروتين الخلوية) تنتظم ذاتيًّا حيث إنها تتألَّف أساسًا من عدد من جُزيئات RNA والبروتين بشكل وحدةٍ صغيرة ووحدةٍ كبيرة، تكونان منفصلتَين، وتتحدان لتتخذ تركيبًا فعَّالًا لإنتاج البروتين بمصادفتها لجُزيئة mRNA وبعد الانتهاء من بناء البروتين تُعاوِد التفكُّك. وهكذا جهاز كولجي العُضَي الذي يُعالِج البروتينات، ويتألَّف من عدد من الأكياس والحويصلات المرتَّبة ينتظم ذاتيًّا (Schuberth et al., 2015)، الأُنيبيبات الدقيقة التي تشكِّل الهيكل الخلَوي وتقوم بالنقل ومعالجة المعلومات تتجمَّع ذاتيًّا (Dumond, 2012)، الحويصلات الناقلة، عمل الجينات، مضاعفة جُزيئات DNA، تكوين البروتينات وجُزيئات RNA، الانقسام النووي والانقسام الخلَوي، تشكُّل جزيئات البروتين؛ حيث يكون الشكل الأوَّلي للبروتين عند تكوُّنه خيطيًّا، ثم يتخذ الشكل الثانوي بهيئةٍ صفائحية أو لولبية، ثم الشكل الثالثي الثلاثي الأبعاد من الأشكال السابقة، أو الشكل الرابعي عندما يندمج اثنان أو أكثر من جُزيئات البروتين. تحصُل هذه التحوُّلات تلقائيًّا من خلال وجود شحناتٍ موجبة وسالبة على جُزيئات الأحماض الأمينية المختلفة المكوِّنة للبروتين. كذلك وجود مناطقَ مُحبة للماء، وأخرى كارهة للماء؛ حيث تنشأ أواصرُ هيدروجينية، والتفاعُل بين بعض السلاسل الجانبية المُكَونة. ومن الأمثلة الأخرى للتنظيم الذاتي: مستعمرات البكتيريا العالية الكثافة، وتكوين الأغشية الحيوية (Cho et al., 2007)، عمل الجهاز العصبي في الإنسان والحيوانات الراقية المؤلَّف من ملايين الخلايا العصبية المترابطة (Yufik et al., 2017)، عمل الجهاز المناعي الذي يضُم ملايين الخلايا المختلفة التي تعمل معًا ضد الجراثيم، تطوُّر الجنين (Shahbazi et al., 2016)، السوق الذي يُلبِّي حاجات ملايين المشترين والبائعين البالغة التنوُّع والتغيُّر المستمرَّين، الإنترنت الذي يتألَّف من زريليونات المليارات من بِتات المعلومات في الثانية الواحدة. اللغة كمثال منظومةٍ عالية التنظيم والتركيب وتتألَّف من حروف وكلمات برموزٍ صوتية ومكتوبة، وهي ذاتية التنظيم تبدأ بسيطة وتنمو وتتعقَّد مع الوقت وتتطوَّر وتتفاعَل مع اللغات الأخرى. ويمكن أن تفشل في مواجهة التحديات فتضمحل، أو تنقرض كما تنقرض الكائنات الحية. اللغة لم تنشأ بجهد فردٍ أو قوةٍ خارجية. إنها منتوجٌ ذاتي للمنظومة البشرية في إقليم أو منطقةٍ جغرافية أفرزَتها شبكة العلاقات ما بين الأفراد وبينهم كمنظومة والبيئة التي يعيشون فيها.
ومن أمثلة التجميع الذاتي تكوُّن الشكل المخروطي لكومة الرمل عند الصب التدريجي لحبات الرمل في نقطةٍ معينة، تكوين الكثبان الرملية وسفيان الرمال المتموِّجة في الصحراء بسبب الرياح، وكذلك أشكال الهندسة الكسرية (Fractals) التي تظهر في الشكل المتكرِّر على أبعادٍ مختلفة، والتي تخضع لمعادلاتٍ بسيطة مثل: Y= X2 + C حيث إن Y تساوي دالة X وX هو العامل المتغير، وC عددٌ ثابت. كما في تشقُّقات الطين المغمور بعد جفافه، تشكُّل ضفاف الأنهار وسواحل البُحيرات والبحار والزخارف المميزة في جلود حيوانات الحمار الوحشي والنمور والقطط وبعض الأسماك، وكذلك أشكال زهرة القرنبيط وترتيب أوراق اللهانة (شكل ١-٥) وحبوب عبَّاد الشمس وتفرُّع الأشجار والخيوط الفطرية والأوعية الدموية وغيرها.

(١-١١) الانبثاق Emergence

نتيجة التنظيم الذاتي، وتشكُّل التركيب الناتج عن تأثُّر العوامل المكوِّنة للمنظومة، تنشأ ديناميكيةٌ وظيفيةٌ كُلية للمنظومة تتصف بالتماسُك والقوة والتآزُر والتناظُر. هذه الأنماط (Patterns) والوظائف الجديدة على المنظومة تنشأ عن تأثُّر الكل وليس عن أيٍّ من العوامل المنفردة، وتؤكِّد مقولة أن الكل أكبر من مجموع أجزائه المكوِّنة. والنمَط هو تكوينٌ أو تشكيلٌ أو فاعلية لم تكُن موجودةً مسبقًا قبل تأثُّر مُكوِّنات المنظومة كما تظهَر في الشكل ١-٦ وتفاعُل بيلوسوف-زابوتينسكي (BZ reaction) حيث إن تفاعُل مادتَين يؤدي إلى ظهور تشكيلاتٍ مختلفةٍ دورية تُسمَّى الأنماط.
fig7
شكل ١-٦: أنماطٌ مختلفة يُظهِرها تفاعُل مادتَين كيميائيتَين حيث يظهر نمطٌ بشكلِ خيوط (A) وآخر بشكلِ بُقَع (B) وثالث بشكلِ كرات (C). عن: Hazen (2009).
كمثال، الماء في الحالة السائلة له قدرةٌ على البلَل أو على إذابة الكثير من المركَّبات الكيميائية، وهي حالاتُ انبثاقٍ ناتجة عن التنظيم التلقائي لجُزيئاته، بينما لا تتمكَّن مُكوِّناته (جزيئاته) المُفرَدَة من ذلك كما في بخار الماء؛ حيث تفتقد الجُزيئات للتنظيم الذاتي المتماسك، وتتصرَّف كلُّ جُزيئة بمفردها بحركةٍ عشوائية، أو عند تجمُّعها بهيئة بلوراتٍ مقيَّدةٍ عالية التنظيم كما في الجليد. منظَّمات المجتمع المدني والنقابات هي منظوماتٌ تتألَّف من أفرادٍ تنبثق عنها أنشطة وفعالياتٌ لا يمكن تحقيقها بالجمع البسيط للأنشطة الفردية لأعضائها. ظاهرة الحياة هي انبثاقٌ يتمثل بتبادُل المواد والطاقة والمعلومات مع المحيط وفعاليات التنفُّس والنمو والتكاثر وغيرها في منظومة الخلية الحية، أو الكائن الحي والتي تحصل سوية، بينما لا يتمكن أي مكوِّن لوحده فيهما من تحقيقها. الإدراك والعقل والفكر هي انبثاقاتٌ لنشاط شبكة الخلايا العصبية للدماغ، ولا يمكن تفسيرها على أساس الجمع البسيط لأنشطة الخلايا العصبية المنعزلة. القطعة الموسيقية هي انبثاقٌ يُظهِر الإيقاع والأنغام والانسجام (الهرموني) لمنظومة الآلات الموسيقية المتزامنة، ولا يمكن تحقيقُه بالنُّوتات المُفرَدة أو العزف الانفرادي المستقل للآلات الموسيقية. والانبثاق يتجسَّد بأنماطٍ تُنتِجها المنظومة وتكون منفصلةً عن المادة الفيزيائية المنتجة لها؛ فالوعي والتفكير أنماطٌ معلوماتيةٌ منفصلة عن الدماغ مثلما أن المعلومات التي نتحصَّل عليها من العمليات الحاسوبية تكون منفصلة عن الحاسوب كمنظومةٍ فيزيائية. وحسب Tegmark (2014) فإن ذلك مُشابِه للموجة الناتجة عن رمي حجر في الماء؛ فالموجة لها طولٌ وتردُّد وسرعة ومعادلاتٌ تُوصِّفها، وهي منفصلة عن جُزيئات الماء التي تحقَّقَت فيها.
الانبثاق كما التنظيم الذاتي ينشأ بتراتُبٍ تصاعُدي، أو ما يُعرف بالقاع صعودًا (Bottoms-Up) أي بنشاط العوامل أو المنظومات التحتية الذي ينتقل ويؤثِّر في نشاط المنظومات الأعلى فالأعلى، حتى يشمل المنظومة العليا التي سينبثق عنها نمطٌ أو فعاليةٌ أو وظيفةٌ تآزريةٌ جديدة بينما تحتفظ المنظومات التحتية باستقلالياتها الذاتية ضمن التكامُل الذي يشمل جميع المنظومات. التفاعُل التآزري سيكون مصدرًا مهمًّا للقيمة المضافة التي يتسِم بها الانبثاق؛ فعند تفاعُل ذرتَين أو جُزيئتَين فإن منظومة الإلكترونات وهي منظومةٌ تحتية ضمن منظومة الذرَّة أو الجُزيئة العلويتَين مَن يقوم بالتفاعل بينما يحصل انبثاق وهو حالةٌ جديدةٌ يشمل الذرتَين أو الجُزيئتَين، وتحتفظ المنظومات التحتية الأخرى (نواتا الذرتَين أو ذرات الجزيئتَين) باستقلالها الذاتي. النبات عندما يتفاعل مع الضوء فإن البلاستيدات الخضراء (وهي منظومةٌ تحتية ضمن منظومة الخلية) هي مَن يقوم بهذه الوظيفة، وامتصاص الماء والأملاح تقوم به خلايا الجُذر، وهي منظومةٌ تحتية أخرى، لكن جميع الخلايا الأخرى في المنظومة العليا (النبات) ستتعامل مع نشاط الخلايا الخضراء وخلايا الجُذر، وينبثق نشاطٌ حيويٌّ مُنوَّع يتمثَّل بديمومة النمو والأنشطة الحيوية الأخرى لمنظومة النبات ككل. الجهاز المناعي كمنظومةٍ عليا في مقاومة الجسم للمسبِّبات المرضية يتكوَّن من منظوماتٍ تحتيةٍ مختلفة، كلٌّ منها يتألَّف من ملايين الخلايا كالخلايا البلعمية والخلايا المتعادلة والخلايا اللمفاوية، كما تُنتج منظومة متنوِّعة من جُزيئات الأجسام المضادة (الكلوبيولينات). يقوم أفراد كلِّ منظومةٍ بعملٍ مختلفٍ مضادٍّ للجراثيم يُتوَّج بتآزُر عملِ هذه المنظومات بانبثاق حالة المناعة تجاه الممرض.
من العوامل المؤسسة للانبثاق فعل ظاهرتَين متناقضتَين هما التفاضُل (Differentiation) والتكامُل (Integration). التفاضُل هو التمايُز الذي يمكِّن من وجود وعمل المنظومات التحتية بمستوياتها المختلفة بينما يُوفِّر التكامُل الفعل التآزُري للمنظومات التحتية بتراتبياتها الهرمية الذي يفضي إلى الانبثاق. ومع أن هذه المفاهيم فعَّالة في جميع أشكال الانبثاق إلا أنها تتوضَّح بجلاء في بعض الأمثلة مثل انبثاق أعشاش النمل؛ فمُستعمَرات النمل تضُم ملايين الأفراد غير المتمايزين مظهريًّا وفسلجيًّا وبمستوى ذكاءٍ فرديٍّ منخفض؛ فحسب أحد الباحثين لا تتمكن الأعداد القليلة (حتى ٥٠٠ نملة) من النمل المحارب من التصرُّف الذكي بالبحث عن الغذاء وتستمر في الدوران حول نفسها حتى تستهلك طاقتها وتَهلِك. لكن الآلاف أو الملايين منها والتي ستُشكِّل منظومةً تتصرف بسلوكٍ ذكي، وتنقسم إلى منظوماتٍ تحتية يقوم كلٌّ منها بعملٍ معيَّن كالبحث عن الغذاء أو الحراسة أو بناء العش. هذه الأنشطة المختلفة تتآزر وتتكامل مؤدِّية إلى انبثاقِ عُشٍّ بهيئة بناءٍ معماريٍّ بارتفاعات وتشكيلاتٍ مختلفةٍ يحتوي على أنفاق ومداخل ومخارج، يشمل المستعمرة كلها دون وجود مُوجِّهٍ لها كالملكة مثلًا؛ فهذه تقتصر مهمتها على وضع البيض.
يُمكِن للانبثاق أن يُفسِّر ظواهر تبدو معقَّدةً للغاية كالتشكُّل المظهري (Morphogenesis) في الأحياء وتطوُّر الجنين من خليةٍ واحدةٍ إلى مجموعة خلايا غيرِ متمايزة إلى التكوُّن التدريجي للأعضاء واكتمال تكوُّن الجنين. قدَّم Turing (1952) معالجةً نظريةً لهذا الموضوع، وبيَّن أن هذه التغيُّرات تنبثق من خلال آليةٍ واحدة؛ هي الزيادة الموضعية لتفاعُلٍ (تنشيط موضعي) يُتبع بتثبيطٍ طويل المدى لهذا التفاعُل. مثلًا من خلال فعل الجينات والهرمونات ثم الإنزيمات يمكن أن يحصُل تفاعُل في عددٍ محدودٍ من الخلايا يؤدِّي إلى زيادة جهدها الأزموزي، وهذا يؤدِّي إلى توسُّعها ثم يتوقَّف التفاعُل بعد ذلك كاسرًا التناظُر الموجود سابقًا؛ ليُنتِج تشكيلًا جديدًا. أو تنشيط تفاعُلات «موت الخلايا المبرمج» (Apoptosis) في عددٍ محدودٍ من الخلايا مما يؤدِّي إلى موتها وتحلُّلها، ثم يتوقَّف التفاعُل بعد ذلك محدثًا تجويفًا مستدامًا في أنسجة الجنين كما في القلب أو الكُلى أو غير ذلك. أما تشكُّل الأعضاء المختلفة للجنين فيحدُث من خلال برامجِ تشغيلِ وتثبيطِ مجاميعَ جينيةٍ متسلسلة، تؤدِّي إلى تمايُز خطوطٍ خلَويةٍ رئيسة. بعدها تفعل برامجُ مماثلةٌ على جيناتٍ مختلفةٍ تؤدِّي إلى تمايزاتٍ خلويةٍ أكثر تخصُّصًا، وهكذا تنشأ الأنسجة والأعضاء المختلفة. من المؤكَّد أن مثل هذه الأحداث تحصُل بتفاصيلَ كثيرةٍ جدًّا ومتداخلة تشترك فيها جُزيئاتٌ إشاريةٌ تستلمها بروتيناتٌ مُستقبِلة، وتنتقل بواسطة سلاسل من البروتينات لتصل إلى الجينات، وهنا تعمل آلياتٌ مختلفة تشترك فيها بروتينات وجُزيئات RNA ورايبوسومات، لتُنتِج بروتيناتٍ جديدة تلعب أدوارًا في التمايُز والتخصُّص الخلَوي. علمًا ثمَّة أنواعٌ مختلفة جدًّا من التشكُّل المظهري وبدرجاتٍ مختلفةٍ من التعقيد تتناسَب وتعقُّد الكائن الحي.

(١-١٢) التغذية العكسية Feedback

يُمكِن تعريف التغذية العكسية على أنها عمليةٌ يعود التأثير فيها إلى (أو يؤثِّر في) مُسبِّبه. أو أن مخرجاتِ منظومةٍ ما تُعاوِد الدخول مباشرة أو من خلال منظومةٍ وسطية أو أكثر، إلى المنظومة نفسها، وبذلك تلعب تلقائيًّا دَور السبب (Heylighen, 2018). كمثال، المناخ يؤثِّر تأثيرًا مباشرًا على الغطاء النباتي للأرض من خلال الضوء والغازات ودرجة الحرارة والرطوبة. في المقابل يؤثر الغطاء النباتي في المُناخ من خلال تخفيض الضوء المُنعكِس وتقليل الحرارة المُنعكِسة من سطح الأرض، وزيادة الرطوبة من خلال النتح، وزيادة تركيز الأوكسجين وتخفيض تركيز ثاني أوكسيد الكاربون من خلال عملية التركيب الضوئي؛ وبالتالي يخفضُ من ظاهرة الاحتباس الحراري.

ثمَّة نوعان أساسيَّان من التغذية العكسية:

(أ) التغذية العكسية الموجبة Positive Feedback

وفيها يقوم السبب بتعظيم نفسه، أو تستمر المنظومة بأداء العمل الذي تقوم به، ما يؤدي إلى معدلاتِ نموٍّ عالية في المُخرَجات قد تقود إلى الشواش. وهكذا تُعتبَر التغذية العكسية الموجبة مصدرًا مهمًّا لنمو وتغيُّر المنظومة (نمو أسي، تذبذب، شواش). كما أن التغذية العكسية الموجبة تمثِّل الأساس لظاهرة الاعتماد الحسَّاس على الشروط الأولية، ومظهرًا للَّاخطية في المنظومة حيث تُنتِج تأثيراتٍ كبيرةً من مسبباتٍ صغيرة. إن التغذية العكسية الموجبة تتمثَّل في العلاقة التالية بين متغيِّرَين مثل A وB؛ فالزيادة في قيمة أو نشاط العامل A تؤدي إلى زيادة في قيمة أو نشاط العامل B، والزيادة في B تؤدي إلى زيادة في A وهكذا. كمثال، التفاعل الكيميائي المولِّد للحرارة، حصول التفاعُل يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة، هذا العامل بدوره سيزيد من سرعة التفاعل وهكذا. إذا لم يتم التخلُّص من الحرارة الناتجة من التفاعل، فستنفجر المنظومة (فوضى). تفاعُل الاندماج النووي لنوى ذرات الهيدروجين وتكوين الهليوم في قلب الشمس؛ فما إن يبدأ تفاعُل كهذا بوصول درجة الحرارة إلى مقادير عالية جدًّا؛ نتيجة ضغط كتلة الهيدروجين الضخمة جدًّا، حتى تنتُج عن التفاعُل طاقةٌ عالية بشكل حرارة وضوء. وهذه بدورها ستُمكِّن من استمرار التفاعُل لحين نفاذ الهيدروجين. عملية نُضْج الثمار (الموز مثلًا) تتم بحلقة تغذيةٍ عكسيةٍ موجبة؛ فنضج ثمرةٍ واحدةٍ سيؤدي إلى إطلاقها لغاز الإثيلين الذي يعمل كهرمون سيُحفِّز نضج الثمار المجاورة التي استلمَت الغاز. وهذه بدَورها ستنضُج وتُنتِج المزيد من غاز الإثيلين، وتنضج مزيدٌ من الثمار، وهكذا. ظاهرة الطلق أثناء الولادة تقدِّم مثالًا للتغذية العكسية الموجبة؛ حيث إن تقلُّصات الرحم تحفِّز إنتاج هرمون Oxytocin وهذا الهرمون بدَوره يزيد من تقلُّصات الرحم وهكذا لحين الولادة. ومن الأمثلة النموذجية لتوضيح التغذية العكسية الموجبة، ظاهرة انتشار الأمراض المعدية في النبات والحيوان والإنسان؛ فالإصابات الفايروسية، البكتيرية أو الفطرية تبدأ بوحدةٍ واحدةٍ أو عددٍ قليلٍ من الوحدات التكاثُرية لهذه الميكروبات (السبب) حيث تصيب خليةً واحدةً أو عددًا قليلًا من خلايا العائل الحسَّاس للإصابة (التأثير). مع الوقت تتكاثر أعداد المسبِّب المرضي لتصيب خلايا جديدة. استمرار تكاثُر المسبِّب المرضي يؤدي إلى زيادة الإصابات الجديدة، وهذه ستؤدي إلى زياداتٍ هائلةٍ في أعداد الميكروبات. وهكذا يُمكِن أن تُصاب معظم خلايا العائل، ثم تنتشر منه لتُصيب أعدادًا أكبر من الأفراد، وبذلك يحصُل الوباء، وهو حالةٌ شواشيةٌ مدمِّرة بالنسبة للأحياء.

(ب) التغذية العكسية السالبة Negative Feedback

وهي آليةٌ لا خطية، تخفضُ فعل الأسباب الكبيرة إلى تأثيراتٍ صغيرة، وهذه تؤدِّي على العموم إلى حالة التوازُن المُستقِر بسبب عكس أي انحرافٍ عن حالة التوازن، وإعادة المنظومة إليها. حالة التوازن هذه يمكن اعتبارُها «هدفًا» ضمنيًّا تسعى المنظومة دائمًا للرجوع إليه (Heylighen, 2018). كمثال، المحافظة على درجة حرارة الغرفة باستخدام مولِّد حرارة (Heater) مرتبط بمثبِّت حرارة (Thermostat)؛ فعند نزول درجة حرارة الغرفة عن قيمةٍ محدَّدةٍ في مثبِّت الحرارة، هذه المعلومة ستجعل مثبِّت الحرارة يشغِّل مولِّد الحرارة، وبذلك ترتفع درجة حرارة الغرفة إلى المستوى المطلوب المحدَّد في مثبِّت الحرارة. عند ذلك تعمل هذه المعلومة على إيقاف عمل مولِّد الحرارة بواسطة مثبِّت الحرارة وهكذا. مثالٌ آخر، التفاعل الكيميائي المذكور سابقًا في الشكل ١-٤ حيث إن سَيْر التفاعُل بين المواد المتفاعِلة نحو اليمين بتغذيةٍ عكسيةٍ موجبة، يعكس بتغذيةٍ عكسيةٍ سالبة بتفاعل المواد الناتجة لإعادة تكوين المواد المتفاعلة ووصول المنظومة إلى حالة التوازن. كذلك العلاقة بين العرض والطلب في الاقتصاد؛ فزيادة المنتوج يؤدي إلى زيادة العرض، وهذا بتغذيةٍ عكسيةٍ سالبة يؤدي إلى انخفاض السعر. واستمرار انخفاض السعر عن حدٍّ حرجٍ معيَّن، سيؤدي من خلال تغذيةٍ عكسيةٍ موجبة إلى خفض الإنتاج ومن ثَم قلة العرض. والحالة الأخيرة عَبْر التغذية العكسية السالبة ستقود إلى ارتفاع السعر، والوصول إلى حالة التوازن بين العرض والطلب. وفي البيولوجيا، تلعب التغذية العكسية دورًا مهمًّا للغاية من أجل تحقيق حالة التوازُن الديناميكي (Homeostasis) في جميع الفعاليَّات والأنشطة الحيوية لجميع الكائنات الحية؛ فمعظم إن لم تكن كافَّة التفاعُلات والعمليات الحيوية تُظهِر حالتَين متناقضتَين متلازمتَين هما: التنشيط أو الزيادة عَبْر التغذية العكسية الموجبة، والتثبيط أو التخفيض من خلال التغذية العكسية السالبة. الأولى تتمثَّل بزيادة التعبير الجيني (تشغيل الجينات) بتكوين موادَّ مطلوبة أو زيادة النمو أو زيادة التكاثر … إلخ. استمرار هذه الحالة ستقود إلى تراكُم يفوق الحاجة، ويستنفد خزين الموارد الجُزيئية والطاقة، ويقود إلى التضخُّم والأمراض السرطانية؛ أي باتجاه الشواش. والثانية تتمثَّل بتثبيط التعبير الجيني (إيقاف عمل الجينات) الذي يحفِّزه تراكُم منتجات التغذية العكسية الموجبة؛ وبالتالي تدفع باتجاه ضبط الانحراف عن حالة التوازن الديناميكي والرجوع إليها.

وهكذا تُعتبَر آلياتُ التغذية العكسية الموجبة والسالبة من العوامل المهمة في التنظيم الذاتي والانبثاق وتطور وديمومة المنظومات.

من كل ما تقدم نخلُص إلى أن كل ما نراه من تنوُّع وتعقيد في الطبيعة، ينبع من حقائقَ وجوديةٍ أساسيةٍ تتلخص بالوحدة والتباين، بالحركة والتأثُّر، بالتنظيم الذاتي والانبثاق التلقائي للتراكيب والأنماط والفعاليات والألوان والموسيقى، بتعقُّد المعلومات من خلال تقلُّباتها ومعالجاتها من كل مكوِّنات الكون المترابطة بمنظوماتٍ متداخلة، لتُنتِج برامج تتعقَّد باستمرار في حاسوب الكون الكمومي؛ الذي يعمل وَفْق قوانينَ فيزيائيةٍ بسيطة وقليلة، يمكن أن تُكتب على قميص.

١  سبق أن نُشر هذا الفصل كمقالٍ للمؤلِّف في موقع الحوار المتمدن، عدد ٦١٤٤، في ١٣ / ٢ / ٢٠١٩م، وأُعيد هنا مع بعض التغيير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤