الفصل الخامس عشر

ميكانيك الكم ونشوء الحياة

Quantum Mechanics and Origin of Life

«لا يُوجد سببٌ مُقنِعٌ يجعلنا نعتقد بنشوء الحياة لأسبابٍ غير طبيعية.»

Robert Hazen (2012)
نشوء الحياة ونشوء الكون من أهم المواضيع التي شغلَت الإنسانية منذ تبلور الوعي، وارتبطَت بحالة تطوُّره. نسجَت آلاف الأساطير التي كانت محاولاتٍ مضنية لإيجاد إجاباتٍ مقنعة ومطمئنة، كما قدَّمَت الأديان إجاباتها التي ارتكزَت إلى قدرة الخالق التي تقول للشيء كن فيكون. وحاولَت الفلسفة إيجاد الإجابات من خلال البرهنة العقلية الخالصة، وقدَّمَت تصوراتٍ مختلفة عن نشوء الكون والحياة. حصل ذلك على امتداد آلاف السنين في أزمانٍ لم تكن العلوم قد وُلدَت بعدُ. وقبل أن نخطو في طريق البحث عن نشوء الحياة لا بد أن نعرف عن ماذا نبحث بالضبط (Hordijk, 2013).

(١) ما هي الحياة؟ What Is Life?

يعرض Domingo (2020) عددًا من التعاريف للحياة: فالحياة حسب Schrӧdinger (1944) هي صفة المنظومة التي تنتزع إنتروبي سالبًا من البيئة، وتصدِّر لها الإنتروبي (لتُحافِظ على الترتيب أو النظام وتؤخِّر التحلُّل إلى التوازُن الديناميكي الحراري). وحسب Kauffman (1993) فإن الحياة صفةٌ متوقَّعة ذاتية التنظيم لبوليمرات محفِّزة. وحسب Yarus (2010) فإن الحياة تورَث مع تغيير، وإن التضاعُف هو استراتيجية البقاء الفيزيائية الكيميائية الأخيرة. بينما يعتبر المعهد الفلكي لناسا (NASA Astrobiology Institute) الحياة كمنظومةٍ كيميائيةٍ محفوظة ذاتيًّا، وتتمَّكن من التطوُّر الداروني. ويعرِّف Demetrius (2013) الكائنات الحية على أنها منظوماتٌ أيضيةٌ قادرة على التضاعُف، مؤلَّفة من جُزيئات وخلايا معرَّضة للتغيُّرات التلقائية في التركيب والوظيفة بسبب الطفرات. وحسب Breaker (2015) أن الحياة عمليةٌ كيميائيةٌ ذاتية الديمومة تتمكَّن من التضاعُف والتطوُّر.

والتعريف الذي نقدِّمه هنا يمكن أن يشمل جوهر التعاريف المذكورة: الحياة ظاهرةٌ منبثقةٌ عن منظوماتٍ عضويةٍ معقَّدة عاليةٍ التنظيم مفتوحة، ومتكيِّفة تتمكَّن من استغلال وتحويل وتبادُل الطاقة والمادة، والمعلومات مع البيئة بطريقةٍ تخفض فيها الإنتروبي من خلال تصديره إلى البيئة، ومعالجة المعلومات وتحقيق التوازن الداخلي بعيدًا عن حالة التوازن مع البيئة وتحقيق التكاثُر والتطور. هذه المنظومات التي تُسمَّى بالكائنات الحية تُظهِر تركيبًا فريدًا يتميز بكونه يتألَّف بالأساس من موادَّ عضويةٍ كمركَّبات كربونيَّة، هي الأكثر تعقيدًا في الطبيعة التي نعرفها وبتنظيمٍ خاصٍّ وتُظهِر فعاليات معينة؛ كالاستجابة للمؤثِّرات والنمو والتكاثُر والتغايُر وحفظ النوع. يمكن أن تُوجد بعض هذه الفعاليات بصورةٍ منعزلة في بعض المنظومات غير الحية، لكن لا يمكن أن تظهر بشكلٍ متكامل في أية منظومةٍ غير حية.

تُظهِر المنظوماتُ الحية تنوعًا هائلًا مقارنةً بالأشياء أو المنظومات غير الحية؛ فالمعادن على الأرض والتي تتشكَّل من تفاعُل بعض العناصر حوالي ٥٤٠٠ نوعٍ فقط، بينما يبلغ عدد المركبات العضوية حسب Beilstein database ٩,٨ ملايين وحسب Ruddigkeit et al., (2012) يُوجد ١٦٦ مليارًا من الجُزيئات العضوية الصغيرة. أما عدد أنواع الحيوانات فيبلغ ١٢٧٠٧٨٥ والنباتات ٣٦٦٤٦٥ والفطريات ١٤٦١٦٧ والطحالب ٢١٢٣٦ والحيوانات الابتدائية ٢٥٦٥ والبكتيريا ٩٩٨٣ والأركيا ٣٧٧ والفايروسات ٣١٨٦ (Catalogue of Life, 2020). هذه هي الأنواع المدروسة فقط. ويقدِّر بعض الباحثين عدد أنواع الأحياء بأكثر من ترليون نوع، ويُسجَّل سنويًّا ١٧٠٠٠ نوعٍ جديد. كما أن عدد أنواع الكائنات الحية الحالية لا يتجاوز ٠,١٪ فقط من عدد الأنواع المنقرضة.

(٢) التنوُّع الأحيائي Biodivesity

يمكن أن يكون الأساس الذي تستند إليه ظاهرة التنوُّع في الأحياء إلى عواملَ من أهمها عنصر الكاربون، الذي يشكِّل معظم الجُزيئات (مع استثناء الماء) التي يتكوَّن منها جسم الكائن الحي ويُظهِر مميزاتٍ سنأتي على ذكرها، ووجود الماء كوسطٍ للتفاعلات وكمادةٍ متفاعلة، ويتمتَّع الماء أيضًا بمزايا فريدة، وتنوُّع البروتينات غير المحدود تقريبًا وتغايُر الأحماض النووية وعمل الإنزيمات، إضافةً إلى عمل ميكانيك الكَم في معالجة كل الاحتمالات سوية.

(٢-١) عنصر الكاربون

هذا العنصر رباعيُّ التكافؤ، ذرَّتُه تمتلك ٤ إلكتروناتٍ غير مشدودة بقوة وتتمكَّن من التفاعُل عَبْر تكوين أواصرَ تساهميةٍ مع إلكترونات العناصر الأخرى؛ كالهيدروجين والأوكسجين والنتروجين وغيرها لتكوين المركبات العضوية. كما تتمكَّن ذرة الكاربون من تكوين أواصرَ مع ذرات كاربونٍ أخرى (C–C) وكذلك تكوين أواصرَ مزدوجةٍ كما في الكاربونايل (C=O) وثلاثية كما في النايترايل (C≡N)؛ ما يمكِّن من تكوين مركَّباتٍ ذات سلاسلَ مختلفةِ الطول والتشكُّل. على عكس ذلك فإن عنصر السيلكون (Si) الذي هو رباعي التكافؤ أيضًا لا يتمكَّن من تكوين أواصر Si–Si. السيلكون يتمكَّن من التفاعل مع عددٍ قليلٍ من العناصر؛ مثل الأوكسجين؛ حيث تتكون السيليكات التي يتألَّف منها الرمل. هذا يفسِّر عدم إمكانية أن يعوِّض السيلكون عنصر الكاربون في تكوين مركبات الكائنات الحية، علمًا أنه يُوجد بكمياتِ تفوق عنصر الكاربون ﺑ «٢٠٠» ضعف في قشرة الأرض. كذلك يُماثِله في هذا السلوك التفاعُلي عنصر الجرمانيوم (Ge) الذي هو رباعي التكافؤ أيضًا لكنه يُوجد بكمياتٍ أقل بكثير من عُنصرَي السيليكون والكاربون (Whittet, 2017).

(٢-٢) الماء

الماء أوفَر المركَّبات على كوكب الأرض، ويشكِّل النسبة الأكبر من الوزن الطري لجميع الأحياء. وإن الحياة التي نعرفُها مرتبطة بالماء ارتباطًا وثيقًا. ترجع الصفات العديدة والمتفردة للماء إلى طبيعة جُزيئة الماء وتركيبها الفراغي، وتوزُّع الشحنات عليها؛ فجُزيئات الماء مُستقطِبة ما يعظِّم قدرتها العالية على إذابة الكثير من المواد الكيميائية. وينشأ عن ذلك ظواهر التماسُك والتلاصُق لجُزيئات الماء؛ ما يمكِّن من جريان السوائل في أجسام الكائنات الحية. كما أن جُزيئات الماء تدمص على الجزيئات الكبيرة غير الذائبة وتحوطُها؛ ما يجعلها تشكِّل محاليلَ غرويةً، كما هو حال سايتوبلازم الخلايا الحية، وتُمكِّن من نقل الكثير من الجُزيئات. كما أنها تُحيط الأيونات أيضًا. ويمكِّن ماء التميؤ على البروتينات والأحماض النووية من اتخاذها للأشكال الثلاثية الأبعاد اللازمة لفعاليتها. وإن وجود الماء المرتبط بالجُزيئات الأخرى يجعلها على اتصالٍ مع غيرها عَبْر جُزيئات الماء. كما أن قدرة جُزيئات الماء على تكوين أواصرَ هيدروجينية فيما بينها يجعلها في وضعيةٍ سائلةٍ على مدًى واسعٍ من درجات الحرارة، ليكون وسطًا مستمرًّا للتفاعلات الكيميائية. وهذه الصفة أيضًا تجعل الماء ذا حرارةٍ نوعيةٍ عالية، تلعب دورًا مهمًّا في الحفاظ على درجة حرارة الكائن الحي؛ حيث يعمل الماء كمُلطِّفٍ حراري. ويدخل الماء كمادةٍ متفاعلةٍ في الكثير من التفاعُلات الكيميائية؛ كتفاعلات التحلُّل المائي والتحلُّل بواسطة الفوتونات لتحرير الإلكترونات والبروتونات في التركيب الضوئي وفي تفاعلات التنفُّس وغيرها. وللخاصية الفريدة لانخفاض كثافة الجليد عن الماء السائل دَورٌ غاية في الأهمية؛ حيث تعمل طبقة الجليد كعازلٍ حراريٍّ للمياه تحتها، وتمكِّن من بقاء الأحياء المائية في البيئات الشديدة البرودة. ويمكِّن الوجود الكبير للماء في الخلايا من اتخاذها للشكل الفعَّال المناسب، ويمكِّن من التوزُّع الفراغي والتموضُع المناسب لأجزائها المختلفة. كما أن الوجود الكبير للماء يمكِّن من حصول الحركة البراونية والأزموزية وتبادل الجُزيئات المختلفة بين الخلايا وبينها والبيئة. وتعمل جزيئات الماء كمُحوِّل طاقة. ومع أن الماء يمكن أن يمتَص الطاقة ويبُث معظمها كحرارة، إلا أن قسمًا مهمًّا منها يكون بشكلٍ يُمكِن استغلالُه لإنجاز شغل. وحسب مفهوم الإنتروبي السالب، هذا النوع من الشغل يُفضِي إلى خلق النظام وفصل الشحنات (Madl & Egot-Lemaire, 2015). وحسب Chaplin (2001) فإن الماء يلعب دورًا مركزيًّا في تنوُّع العمليات البيولوجية.

(٢-٣) البروتينات

عدَد البروتينات المحتَمل تكوُّنها نظريًّا إذا كان أيُّ تشكيلٍ من الأحماض الأمينية العشرين في الطبيعة متساويَ التحقُّق، سيساوي ٢٠١٠٠ أو ١٫٣ × ١٠١٣٠ في بروتيناتٍ تتألف من ١٠٠ حامضٍ أميني، وهذا رقم يفوق كثيرًا عدد الذرات في الكون. وعدَد البروتينات المؤلَّفة من ٧ أحماضٍ أمينية يبلُغ (= ٢٠٧) أو ١٫٣ × ١٠٩ (Otaki et al., 2005). وحيث إن الخلية تكون نتيجة التشفير الجيني ١٠٠٠٠٠ نوعٍ من البروتينات، فإن التحوير ما بعد الترجمة يرفع العدد إلى ١٠٠٠٠٠٠ نوع. وتدخُل البروتينات في علاقاتٍ تركيبيةٍ ووظيفية مع العناصر المعدنية والسكَّريات والدهون والأحماض النووية. هذه الأرقام والفعاليات تُبيِّن جانبًا من الأسس التي تفسِّر التنوُّع الهائل في المواد العضوية، وأنواع الأحياء.

(٢-٤) الإنزيمات

الإنزيمات تختصر زمن التفاعلات الكيميائية من ساعاتٍ أو أيامٍ أو سنين أو آلاف السنين، إلى أجزاءٍ صغيرة جدًّا من الثانية أو ثوانٍ ودقائق، وفي درجات الحرارة الفسلجية، والتي بدونها تتطلَّب درجاتِ حرارةٍ عالية جدًّا. هذا سيُمكِّن من حصول الكثير من التفاعلات الكيميائية والتي توفِّر إمكانات بناء مركَّباتٍ جديدةٍ ومتنوعة جدًّا، والتي يتطلَّبها التنوُّع الأحيائي.

(٢-٥) تغايُر الأحماض النووية

في الفرد الواحد وفي الآهلة والنوع يتعرَّض الحامض النووي DNA للعديد من التغيُّرات التي تشمل الطفرات المختلفة، وتغيُّر الكروماتين، وتغيُّر عدد أو تركيب الكروموسومات، وفقدان جينات أو اكتساب جيناتٍ جديدة، ومضاعفة أجزاءٍ من اﻟ DNA وغيرها. هذه التغيُّرات التي تحدُث بسبب عوامل البيئة أو عواملَ بيولوجيةٍ تؤدي إلى حصول تغايُراتٍ وراثيةٍ تخضع للانتخاب الطبيعي، وهي مصدرٌ مهمٌّ للتغايُر في الأحياء.

(٢-٦) ميكانيك الكَم

ويمكِّن ميكانيك الكم من عمل الإنزيمات وحصول الطفرات بواسطة الاختراق الكمومي، واستحصال الطاقة، كما تم ذكره في موضوع التركيب الضوئي والتنفس بواسطة التراكُب والتشابُك، ويمكِّن من كل الاحتمالات المُمكِنة للتفاعُلات الكيميائية.

(٣) نظريات نشوء الحياة Theories of Origin of Life

الكائنات الحية تخضع كما هو كل شيء في الكون، إلى مبدأ الوحدة والتبايُن (انظر الفصل الأول)؛ فعلى الرغم من التبايُن أو التنوُّع الهائل للكائنات الحية من حيث الحجم والكتلة والشكل واللون ودرجة التعقيد، فإنها تشترك جميعا بخواصَّ تركيبيةٍ ووظيفيةٍ معينة. وكما أن المجرَّات والنجوم والكواكب التي يتكوَّن منها الكونُ المرئي متنوِّعة، تُظهِر التبايُن من حيث الحجم والكتلة والتشكُّلات، إلا أنها تُظهِر وحدةً في أساس التركيب والنشوء والتحوُّل. وحيث إن ملاحظة تباعُد المجرات المتسارع الذي اكتشفه إدوين هابل (Edwin Hubble) سنة ١٩٢٩م، قاد إلى الإجابة على السؤال الكبير عن نشوء الكون وتبلوُر نظرية الانفجار العظيم. لكن الجواب عن السؤال الكبير الآخر عن نشوء الأحياء، ما زال لم يكتمل بعدُ. مع ذلك ثمَّة مشتركٌ أساس بين الحالتَين، وهو التغيُّر مع الزمن أو التطوُّر، والذي نجده في تباعُد الأنواع وراثيًّا عن بعضها هو المفتاح المشترك الذي يمكن أن يقود إلى الحل عَبْر البحث عن الأصل المشترك أو أصل الحياة مثلما أوصل اكتشاف هابل لأصل نشوء الكون من النقطة المنفردة.
النظرة المتفحِّصة إلى الأحياء تُظهِر وجود مشتركٍ تركيبيٍّ بين جميع الأحياء؛ كونها تتألَّف من منظومةٍ متكاملةٍ هي الخلية، وثمَّة تدرُّج في درجة التعقيد؛ فثمَّة مجاميعُ من الأحياء تتألَّف من خلايا مفردةٍ بسيطة التركيب؛ حيث لا تمتلك عُضيَّاتٍ خلوية؛ مثل النواة والميتاكوندريا وأجسام كولجي والبلاستيدات وغيرها. هذه الأحياء تتمثَّل بالأحياء البدائية النواة؛ البكتيريا والأركيا. والمجاميع الأخرى من الأحياء والتي تُسمَّى بالأحياء الحقيقية النواة خلاياها أكثر تعقيدًا وتطورًا؛ حيث تمتلك عُضيَّاتٍ خلويةً ويُمكِن أن تكون أحاديةَ الخلية أو بمجاميعَ متشابهةٍ من الخلايا المتجمِّعة، أو عديدةَ الخلايا صغيرةً لا تُرى بالعين المجرَّدة ولا تمتلك أنسجة، إلى الكبيرة المؤلَّفة من أنسجة وتزن مئات الكيلوغرامات أو الأطنان؛ كالنخيل والأشجار والحيتان. لكن حين البحث عن أزمان ظهور هذه المجاميع المختلفة من الأحياء نجد تفاوتًا كبيرًا؛ فحسب المعطيات الجيولوجية وتحليل الافتراق الجُزيئي للنمو التطوُّري للأركيا، يمكن أن تكون الحياة قد بدأَت قبل ٤٫١–٤٫٢ مليار سنة (Kitadai & Maruyama, 2018).
وحسب الباحثين فإن الحياة تتضمَّن الوظائف الثلاثة التالية: (١) التحاوز (Compartmentalization) ويتضمَّن تجميع المكوِّنات وتمييزها عن البيئة. (٢) التضاعُف ويتمثَّل في معالجة ونقل المعلومات الوراثية إلى الذرية. (٣) الأيض ويشتمل على الحصول على الطاقة والمواد والبقاء بعيدًا عن حالة التوازن الحراري. هذه الوظائف تتم بواسطة بوليمراتٍ حيوية؛ فالتحاوز يتم بواسطة الشحوم الفوسفاتية، وهي تتألَّف من أحماضٍ دهنيةٍ مؤسترة بجُزيئةِ فوسفات الكليسرول. والتضاعُف يتم بواسطة جُزيئات DNA وRNA المؤلَّفة من نكليوتيداتٍ مترابطة، والتي بدَورها تتألَّف من جُزيئة سكَّرٍ خماسيٍّ مع جُزيئة فوسفات وقاعدةٍ نووية. والأيض يُنجز بواسطة البروتينات، وهي بوليمرات من جُزيئات الأحماض الأمينية (شكل ١٥-١). إن هذه المكوِّنات يُفترَض أن تكون قد تكوَّنَت وتبلمرَت بدايتها بطرقٍ غير أحيائية.
fig161
شكل ١٥-١: التراكيب، المكوِّنات والمسارات التخليقية غير الأحيائية للجُزيئات البيولوجية الضخمة والتي تقوم بوظائف الحياة الأساسية الثلاثة (التضاعُف والتحاوُز والأيض). عن: Kitadai & Maruyama (2018).
إن أول محاولةٍ علميةٍ زائفة لتفسير نشوء الحياة، كانت نظرية النشوء التلقائي (Spontanous generation) التي قالت بنشوء المادة الحية والكائنات الحية بصورةٍ تلقائيةٍ ومفاجئة من موادَّ غيرِ حية. ومن تجاربها «العلمية» هي نشوء الديدان والحشرات من عصير المواد السكَّرية أثناء عمل الخل، أو ظهور فأر في غرفة لم يكن فيها سوى خبز مثلًا وغير ذلك. سادت هذه النظرية لمئات السنين.
ومع ولادة العلوم الحديثة في أواسط القرن السادس عشر عمل العديد من الباحثين وعلى مدى عشرات السنين، إلى تفنيدِ ودحضِ نظرية النشوء التلقائي ومن بين أبرزهم Francesco Redi سنة ١٦٦٨م، وLazzaro Spallanzani سنة ١٧٦٥م. وفي سنة ١٨٠٦م عمل Berzelius ببلورة علم الكيمياء العضوية وإطلاقه ما عُرف بالمبدأ المركزي في الكيمياء والقائل «إن تكوين المركَّبات العضوية من المركبات اللاعضوية لا يمكن أن يتم خارج الكائنات الحية.» وتكلَّلَت أعمال هؤلاء العلماء بتجاربِ لويس باستور سنة ١٨٦١م، التي لا تقبل الشك بتسخين (تعقيم) مرقٍ مُغذٍّ في دورق غليان ذي نهايةٍ مُعوجَّة يسمح بخروج الغازات دون دخولها من الخارج، ولم تتكوَّن أية أحياءٍ داخل الدورق مهما ترُكَت بعد غليانها. تجاربُ باستور صارت تقنيةً تُستخدم حتى الوقت الحاضر في تعقيم المواد الغذائية؛ والتي تُعرف بالبسترة التي اشتُق مصطلحها من اسم هذا العالم الفذ. قادت تجارب باستور إلى ظهور المبدأ المركزي في البيولوجيا وهو «أن الحياة تنشأ من الحياة» والتي طُوِّرَت واستمرَّت حتى الوقت الحاضر فيما يُعرف بنظرية الخلية، والتي تقول بنشوء الخلية من خليةٍ سابقةٍ لها.

(٣-١) نشوء المواد العضوية Origin of Organic Matter

تجارب الكيميائي الفرنسي المعروف لوفازيه، والتي دفع حياته ثمنًا لها، أثبتَت أن أجسام الأحياء تتألَّف من العناصر الكيميائية ذاتها التي تتشكَّل منها المواد غير الحية. ونجاح عددٍ من الباحثين في تكوين مركَّباتٍ عضويةٍ من مركَّباتٍ لا عضوية مهَّد لبحث مسألة نشوء المادة الحية من موادَّ غيرِ حية؛ فقد حضَّر F. Wӧhler سنة ١٨٢٨م، اليوريا CO(NH2)2 من سيانايت الأمونيوم NH4OCN دون الحاجة إلى كُلْية الحيوان حسب تعبيره. كان عمل Wӧhler أوَّل تحضيرٍ لمركَّبٍ عضويٍّ من مركَّبات لا عضوية، وأشَّر للتقدُّم الكبير في الكيمياء العضوية التي لعبَت دورًا مفتاحيًّا في فهم البيولوجيا. وحُضِّر حامضُ الخليك Ch3COOH من ثاني كبريتيد الكاربون CS2 من قِبل H. Kolbe سنة ١٨٤٥م. وفي سنة ١٨٥٠م تمكَّن Adolph Strecker من تخليق الحامض الأميني Alanine من مزيج الأستالديهايد والأمونيا وسيانيد الهيدروجين. وتم تحضير عددٍ من الهيدروكاربونات من قِبل D. Mendeleev سنة ١٨٧٧م، والعديد من المركَّبات العضوية من قِبل M. Berthelot في النصف الثاني من القرن العشرين. كما قام عددٌ من الباحثين؛ مثل Walther Lӧb وOskar Baudish بتخليق أحماضٍ أمينيةٍ بتعريض فورمامايد (CHO-NH2) رطب للتفريغ الكهربائي والأشعة فوق البنفسجية (Lazcano, 2010). قاد ذلك إلى بروزِ أفكارٍ لا ترى فرقًا جوهريًّا في التركيب الكيميائي بين المواد العضوية والمواد اللاعضوية، وأن المواد العضوية يمكن أن تنشأ من تفاعل مواد لا عضوية، كما أن الكائنات الحية تتكوَّن من العناصر الكيميائية نفسها التي تتكوَّن منها المواد غير الحية. وهكذا صارت الكيمياء العضوية تُعرف بكيمياء مركَّبات الكاربون (Domingo, 2020).
تلك الجهود كانت بمثابة ضياءِ فجرِ ما صار يُعرف اليوم بكيمياءِ ما قبل الحياة (Prebiotic chemistry). غير أن الباحثين حينها لم يكونوا مهتمين بكيفية بدء الحياة على الأرض أو تخليق المركَّبات العضوية في ظروف المناخ البدائية؛ فقد كانوا يعتقدون أن الأحياء الأوائل كانت ذاتيةَ التغذية شبيهةً بالنباتات، ولم يكن تكوين المركَّبات العضوية من المركَّبات اللاعضوية متطلبًا أساسيًّا لظهور الحياة.
سنة ١٨٥٩م، ظهر كتاب أصل الأنواع (On the origin of species) أو بصيغته الكاملة: «حول أصل الأنواع بواسطة الانتخاب الطبيعي أو حفظ السلالات المفضَّلة في الصراع من أجل البقاء» لجارلس دارون، وكان أول أطروحةٍ علميةٍ مستندة إلى الملاحظات والقياسات والتجارب تفسِّر التنوع الأحيائي على أساس التغيُّر ودور الطبيعة في انتخاب الأنواع الأكثر أهليةً للتكيُّف مع البيئة المتغيِّرة. ورجَّح دارون أن تكون الحياة قد نشأَت في بركةٍ صغيرةٍ حارة. كما أوضح أن الأحياء نشأَت من أصلٍ مشترك، وحصلَت الاختلافات عَبْر عملية تفرُّعٍ تطوري. هذه الفكرة الخلَّاقة لدارون ستكون الحجَر الأساس لعلم الحياة، بل ستكون منهج تفكيرٍ لتفسير تطوُّر الكون من خلال الداروِنية العامة (Universal Darwinism) والداروِنية الكمومية (Quantum Darwinism).
وفي سنة ١٨٧١م، تبنَّى Lord Kelvin فكرةَ ورود الحياة إلى الأرض من الفضاء بهيئةِ حيوةٍ كونية (Cozmozoa) والتي طُوِّرَت فيما بعدُ إلى ما صار يُعرف بالبذرة الكونية (Pansperma). وهذه الفكرة مبنيةٌ على عدم قدرة ملاحظة نشوء الحياة على الأرض؛ وبالتالي إمكانية نشوئها في مكانٍ آخرَ في الكون، ووصولها إلى الأرض بواسطة نيزك، وتمكُّنها من التكاثُر على الأرض. إن هذه النظرية حتى وإن لم تكن مستحيلةً فإنها لا تفسِّر كيفية نشوء الحياة من عناصرَ غيرِ حية.
توالت محاولاتُ تحديد الأشكال الأولى للحياة على الأرض، فتم اقتراح البروتوبلازم الأوَّلي ثم الإنزيم وكذلك الجين. سنة ١٩١٧م اكتشَف Felix D’Herelle «مادة» تتضاعف ذاتيًّا وتمر عَبْر المرشِّحات وتتمكَّن من مهاجمة وتحليل البكتيريا العصوية. فيما بعدُ شُخِّصَت هذه على أنها فايروساتٌ بكتيرية (Bacteriophages) وافتُرضَت على أنها جسيماتٌ تحت مجهرية يمكن أن تكون كائناتٍ بدائية. لكن أنضج فرضيةٍ كانت قد بُلوِرَت من قِبل الباحث الروسي أوبارين Alexander Ivanovich Oparin والباحث الإنكليزي هالدن J. B. S. Haldane كلٌّ على انفراد. هذه الفرضية انطلقَت من نظرية التطوُّر لدارون؛ حيث افترضا أن جو الأرض البدائي كان غنيًّا بالهيدروجين والميثان وبخار الماء، وعند تعرُّضه للبرق وللإشعاع الشمسي أو حرارة البراكين تكوَّنَت مركَّباتٌ كاربونيةٌ بسيطة. مع الزمن تراكمَت هذه المركَّبات في المحيط القديم لتكون حَساءً عضويًا مخففًا ظل يُرجُّ في الماء على ملايين السنين لحين تكوُّن تشكيلاتٍ من جزيئاتٍ قادرةٍ على مضاعفة نفسها، وتطوَّرَت عَبْر الانتخاب الطبيعي. إن أفكار أوبارين عرضَها في كتابٍ عنوانه أصل الحياة سنة ١٩٢٣م، وتبنَّى سنة ١٩٢٤م فكرة نشوء الحياة من بروتوبلازم أوَّلي، لكنه افترض حصولَ عملياتِ تكوينِ مركَّباتٍ عضويةٍ من موادَّ لا عضوية بتكرارٍ وعلى مدةٍ زمنيةٍ طويلة أدَّت إلى تراكُم ما صار يُعرف بالحَساء البدائي (Primitive soup). وحسب أوبارين فإن الكائنات الحية البدائية نشأَت في بيئةٍ لا هوائية (خالية من الأوكسجين) حيث كانت تسود الأرض ولا بد أن تكون بكتيريا غيرية التغذية (تعتمد على المواد العضوية). ومن العوامل التي يمكن أن تدعَم فرضية أوبارين هو امكانية تراكُم المواد العضوية، بسبب الجو المختزل الذي لا يفكِّك هذه المواد وغياب الأحياء التي يمكن أن تُحلِّلها. وكان أوبارين من المتحمسين لفكرة التطوُّر الداروني. واعتقد J. B. S. Haldane (١٩٢٩م) أن الفايروسات ربما تكون مثَّلَت مرحلةً وسطيةً في الانتقال من الحَساء البدائي إلى الخلايا الغيرية التغذية الأولى. هذه العملية برأيه ربما استغرقَت ملايين السنين. وأصدر أوبارين كتابًا ثانيًا عن أصل الحياة سنة ١٩٣٨م، برؤيةٍ أكثر تكاملًا، مُشدِّدًا على دور القُطيرات الصغيرة في الحَساء البدائي، والتي تحمل شحناتٍ مختلفة ويمكن أن تحتجز مركَّباتٍ عضوية.
بعد ١٠ سنوات من ظهور كتاب أوبارين الثاني، حاول Melvin Calvin محاكاة الطبيعة الأولية للأرض في تخليق المركَّبات العضوية باستخدام مصادر إشعاعٍ عالية الطاقة لمحاليل ثاني أوكسيد الكاربون، وتمكَّن من الحصول على حامض الفورميك فقط، وإن كان بتراكيزَ عالية. في تلك الأوقات ظهر Harold C. Urey الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء لاكتشافه الديتيريوم نظير الهيدروجين وذي النظرة الإنسانية اليسارية، والذي كان يعتقد أن جو الأرض البدائي كان يتألَّف من الميثان والأمونيا بدل ثاني أوكسيد الكاربون والنتروجين. وسنة ١٩٥١م ألقى Urey سيمنارًا عن نشوء النظام الشمسي، مشيرًا إلى أن الجو عالي الاختزالية للأرض كان مهمًّا لنشوء الحياة. وفي كتابه الكواكب (The Planets) الصادر سنة ١٩٥٢م، أورَد افتراضًا بأن لو كان نصف الكاربون السطحي الحالي متوفرًا بشكل مركباتٍ عضويةٍ ذائبة و١٠٪ فقط من ماء المحيطات الحالية موجود على سطح الأرض البدائية، حينها ستكون المحيطات محتوية على ١٠٪ تقريبًا محلول مركَّباتٍ عضوية، وسيكون ظرفًا مناسبًا لنشوء الحياة.
لقد حفَّزَت أفكار Urey الخرِّيج الحديث Stanley L. Miller، وبعد فترة ليست بعيدةً اقترح على أستاذه Urey أن يُجري تجربةً لاختبار فرضية أوبارين باستخدام جهازٍ يحاكي فيه جو الأرض البدائي، وطاقة البرق (شكل ١٥-٢). تضمَّنَت التجربة مزيجًا من عناصر الهيدروجين والأوكسجين والنتروجين والكاربون بشكل غاز الهيدروجين والأمونيا والميثان والماء الذي يمثل المحيط، وهي تشكِّل مزيجًا مختزلًا، وزوَّدها بمصدر طاقةٍ بما يُحاكي البرقَ عن طريق التفريغ الكهربائي، كما أوصل الماء في البداية إلى درجة الغليان لينتج بخار الماء. بعد أسبوعٍ تكوَّن مزيجٌ من بعض الأحماض الأمينية؛ مثل الكلايسين بنسبة ٢٪، والألينين بنسبة ١٪ من كاربون الميثان، إضافة إلى كميات قليلة من حوالي ٢٥ حامضًا أمينيًّا، وعددٍ من الأحماض العضوية. وتكوَّنَت الكثير من المركَّبات الكاربونية المعقَّدة بشكل موادَّ قطرانية ما يمكن أن يعرقل تكوين الببتيدات والبروتينات من الأحماض الأمينية والسكَّريات والأحماض النووية تحت ظروف التجربة.
fig162
شكل ١٥-٢: رسمٌ تخطيطيٌّ لتجربة Miller–Urey حيث تم تحضير أحماضٍ أمينيةٍ وغيرها من المركَّبات العضوية بطريقةٍ غيرِ أحيائية (بغياب كائناتٍ حية). تمَّ تعريض مزيجٍ من غازات الهيدروجين والأمونيا والميثان مع الماء في جهازٍ مغلَق، وعرَّضَه لمدة أسبوع للتفريغ الكهربائي الممثِّل للبَرق. عن: YassineMrabet, Wikimedia Commons.
إن تجربة Miller-Urey كانت رائدة، وأول محاولةٍ علميةٍ رصينة لاختبار فرضية أوبارين عن إمكانية نشوء الحياة عَبْر تكوين المواد العضوية وتعقُّدها، ونشوء المنظومات الأولية القادرة على الأيض والتكاثر، وإن لم تنتُج مثل هذه المنظومات في التجربة. بالتأكيد زمن التجربة يمثِّل لحظةً خاطفةً مقارنةً مع الزمن الطويل الذي ربما استغرق ملايين السنين في عملية النشوء الطبيعي، كما أن محاكاة ظروف نشوء الحياة الطبيعية مختزلة جدًّا؛ حيث لم يكن بالإمكان توفير تفاصيلَ كثيرة قد تكون ضرورية لتفاعلات نشوء الحياة. مع ذلك، ألهمَت التجربةُ الكثيرَ من الباحثين، لاختبار موادَّ وظروفٍ مختلفة، واستمرَّت المحاولات حتى الوقت الحاضر بكشف أدوار موادَّ وظروفٍ جديدة دون الوصول إلى منظومة أوبارين (Miller, 1984; Kalson et al., 2017; Glavin et al., 2020; Ghoshal et al., 2020).

(٣-٢) نشوء الجُزيئات الحيوية Origin of Biomolecules

لكن ما هي الإمكانات المتوفِّرة في الأرض وجوِّها البدائي لنشوء المركَّبات والجُزيئات الداعمة للحياة بطريقةٍ لا أحيائية؟ أي دون وجود أحياءٍ تكوِّنها. يستعرض الباحثان Kitadai & Maruyama (2018) أهميةَ وخواصَّ وطُرقَ تكوُّن العناصر والمركَّبات الكيميائية الأساسية لتكوين الأشكال الأولى للحياة في المختبر، وفي أجواء الأرض البدائية ومصادرها الفضائية.

(أ) النتروجين

النتروجين من العناصر الرئيسة التي تدخُل في تركيب الجُزيئات ذات النشاط البيولوجي، وتشمل البروتينات والأحماض النووية. ويمثِّل النتروجين العنصر الأكبر في مكوِّنات الهواء كما يُوجد في المياه. لكن هذا العنصر بصيغته الشائعة الغازية N2، عنصرٌ خاملٌ كيميائيًّا، بسبب الآصرة الثلاثية القوية التي تربط ذرَّتَيه في الجُزيئة N≡N. ومن أجل أن يكون له دورٌ بيولوجيٌّ يتوجَّب تنشيطه من خلال تحويله إلى أيونات أمونيوم NH4+ أو نترات NO3. هذا يعتمد على حالة الأكسدة للجو، فإذا كان الجو معتدل الأكسدة، مؤلَّفًا أساسًا من ثاني أوكسيد الكاربون والنتروجين، فإن العوامل الجيوكيميائية ستكون غاز أول أكسيد النتروجين؛ والذي يتحوَّل فيما بعدُ إلى نترات NO3 ونتريت NO2 ومن ثم تُختزل إلى أمونيوم NH4+. إضافةً إلى ذلك يمكن أن تتكوَّن أشكال النتروجين المختزلة بفعل عواملَ جيولوجيةٍ وكيميائيةٍ مختلفة. كما يمكن أن تكون المصادر الفضائية موردًا لمثل هذه المركَّبات. لكن Ebisuzaki & Maruyama (2017) وMaruyama et al., (2019) يعتقدون أن كسر الآصرة الثلاثية بين ذرَّتَي النتروجين، يمكن أن يكون قد تم بواسطة الأشعة المؤيِّنة غير الحرارية، والتي كانت تصدُر عن المفاعل النووي الطبيعي المكوَّن من عنصر اليورانيوم المشعِّ خلال العهد الجهنَّمي (Hadean Eon) قُبيل نشوء الحياة. هذا الإشعاع النووي يؤدي إلى تفكيك جُزيئة النتروجين والماء وثاني أوكسيد الكاربون؛ ما يسمح بتكوين المركَّبات العضوية المختلفة التي تكوِّن اللبنات الأساسية للحياة.

(ب) الفسفور

الفسفور عنصرٌ أساسيٌّ في تركيب وعمل الجزيئات الحيوية؛ كالأحماض النووية والشحوم الفوسفاتية والمساعدات الإنزيمية مثل NADPH والجُزيئات الخازنة للطاقة مثل ATP وغيرها. الفسفور هو العنصر الحادي عشر من حيث الوفرة في الأرض ويُوجد في الصخور بشكلٍ أساسٍ بهيئة أورثوفوسفات تام الأكسدة. يُعتبَر الفسفور من العناصر المحدِّدة لنمو الأحياء بسبب أن الأورثوفوسفات قليلةُ الذوبان. بينما الفوسفايت يكون أكثر ذوبانًا، وأكثر نشاطًا كيميائيًّا، وتكوين مركَّباتٍ عضويةٍ فوسفاتية. إن آلية تكوين الفوسفايت تتم من خلال اختزال الفوسفات بتأثير البَرْق، وتعرية المعادن الفوسفايدية. وتُورِّد الكويكباتُ والنيازكُ هذه المعادن لسطح الأرض. وفي أجواء الأرض البدائية حيث وفرة الميثان والهيدروجين، يمكن أن تكون قد تكوَّنَت كمياتٌ مهمةٌ من الأشكال المختزلة من الفسفور.

(ﺟ) الأحماض الأمينية

الأحماض الأمينية هي الوحدات البنائية للبروتينات، وعدد من الببتيدات ذات الأهمية البيولوجية الكبرى. والصيغة الفعَّالة بيولوجيًّا هي الأحماض الأمينية .
في المُختبَر وفي جوٍّ عالي الاختزالية كما ذُكِر أعلاه في تجربة Miller-Urey تم تكوينُ عددٍ قليلٍ من الأحماض الأمينية، لكن في تجاربَ حديثةٍ لإعادة تحليل مستخلَص التجربة تم كشفُ وجود ٢٣ حامضًا أمينيًّا. التخليق الأفضل للأحماض الأمينية يتم من خلال تحوير تفاعُل Strecker الذي يبدأ من تكوين HCN والألديهايد من الطَّور الغازي ثم تكثيفهما مع الأمونيا لتكوين a-aminonitriles في المحلول المائي. بعد ذلك يتم التحليل المائي لمجموعة النايترايل إلى مجموعة الكاربوكسيل لتكوين الأحماض الأمينية. تم كشف وجود أكثر من ٨٠ نوعًا من الأحماض الأمينية في متبقِّيات الشهب والنيازك الساقطة على الأرض من الفضاء. من بين هذه، ثمَّة ١٢ من الأحماض الأمينية المكوِّنة للبروتينات. إن احتمالية تكوين الأحماض الأمينية في المنظومات المائية الحرارية القديمة بتراكيزَ مهمةٍ تدعَم تطوُّر أشكال الحياة الأولى ضعيفة.

(د) الببتيدات

تكوين الببتيدات من الأحماض الأمينية يتطلَّب إزالة جُزيئات الماء من مجاميع الأمين والكاربوكسيل للأحماض الأمينية المتفاعلة:

وهكذا فإن تخليق الببتيدات في الماء غير مناسبٍ من حيث الحركية والديناميكا الحرارية.

أفضل نتائجَ لتكوينِ الببتيدات الطويلة كانت في تجاربِ محاكاة البراكين المائية الحرارية. يلعب المركَّب كاربونيل سلفايد COS والذي ينتُج من تفاعل أول أوكسيد الكاربون CO وكبريتيد الهيدروجين H2S دورًا مهمًّا. يتفاعل COS مع مجموعة الأمين لحامضٍ أميني ليُكوِّن ثيوكاربونات، وهذا سيُنتِج -amino acid Ncarboxyanhydride وهذا يتفاعل مع حامضٍ أمينيٍّ آخر ليُكوِّن ببتيدًا ثنائيًّا. كما يلعب COS دورًا مهمًّا في تكوين القواعد النووية. وهكذا يبدو أن العلاقة المعروفة في الوقت الحاضر بين الإنزيمات البروتينية وتضاعُف DNA/RNA ربما تعود إلى التطوُّر المتوازي في تكوين هذه المركَّبات عند نشوء الحياة.
درس Rousseau et al., (2020) تكوينُ الأواصرِ الببتيدية بين جُزيئات الحامض الأميني -alanine في ظروف الفضاء الخارجي؛ فقد تم تعريض تجمُّعاتٍ جُزيئيةٍ من الحامض الأميني لصدماتٍ بأيونات الهيليوم (جسيمات ألفَا) واطئة الطاقة بما يحاكي الرياح الشمسية، وتكوَّنَت ببتيدات بإزاحة جُزيئات الماء بضمنها ببتيداتٌ رباعية.

(ﻫ) سكَّر الرايبوز

هذا السكَّر هو الجُزيئة المركزية في النكليوتيدة التي تؤلِّف جُزيئات RNA والرايبوز منقوص الأوكسجين يؤلِّف نكليوتيدات DNA. وهو سكَّرٌ خماسيُّ الكاربون يحتوي على مجموعة ألديهايد، ويُوجد في المحلول المائي بعدة صيغ؛ أهمها بيولوجيًّا -D-furanose .
تكوين سكَّر الرايبوز لا أحيائيًّا يمكن أن يكون من خلال تفاعُلات بلمرة للفورمالديهايد Formaldehyde (H2CO). لكن ثمَّة العديد من المشكلات تتعرَّض لها هذه العملية، مما يقلِّل من فُرص كونها هي المصدر لسكَّر الرايبوز في نشوء الحياة. وهكذا اتجهَت الأنظار إلى دور المحفِّزات في تكوين هذا السكَّر في ظروف الأرض البدائية، وكان المرشَّح الأقوى هو البورات . ويمكن أن تلعب الببتيدات دورًا في ترجيح شكل D- على شكل L-. كما يمكن أن تكون بلورات بعض المعادن فعَّالةً في هذه المسألة، كما سيرِد ذِكره فيما بعدُ.

(و) القواعد النووية

القواعد النووية الأساسية تضم مجموعتَين هما: البيورينات (Purines) وتتألَّف الجُزيئة من حلقتَين مزدوجتَين، ومنها الأدنين (A)، والكوانين (G)، وكذلك البريميدينات (Pyrimidines) التي تتألَّف من حلقةٍ واحدة، ومنها السايتوسين (C)، والثيامين (T)، وكذلك اليوراسيل (U) (شكل ١٥-٣). القاعدتان النوويتان الأخيرتان شديدتا الشبه من بعضهما؛ حيث يكون الاختلاف فقط في أن U يفتقد مجموعة 5’methyl. القواعد النووية A وT وG وC تُوجد في اﻟ DNA، أما في اﻟ RNA فتُوجد ذات القواعد النووية عدا T حيث يُستبدل ﺑ U. يمكن أن تحتوي جزيئة اﻟ DNA بالإضافة إلى القواعد النووية الأربعة المذكورة على عشرات القواعد النووية المحوَّرة.
fig163
شكل ١٥-٣: تركيب القاعد النووية الأولية في جُزيئات DNA وRNA.
أول تحضير للأدنين تم سنة ١٩٦٠م، من قِبل Oro عن طريق تسخين NH4CN المركَّز في ١٠٠م° لبضعة أيام وبتركيز ٠٫٥٪ من تركيز NH4CN. وفي تجربة مماثلة تم تحضير G من المركَّب ذاته وبتسخين لدرجة ٨٠م° لمدة ٢٤ ساعة، ولكن بتركيزٍ أقل بكثيرٍ من تركيز A. هذه العملية تبدأ ببلمرة HCN. لكن هذه التفاعلات لا تُنتِج بريميدينات؛ بينما يمكن أن تنتج البريميدينات من منظومة Cyanoacetaldehyd-guanidine. ويمكن أن تتكون البيورينات والبريميدينات بتسخين الفورمامايد بدرجة ١٠٠–١٦٠م° بوجود محفِّزاتٍ معدنية. تراكُم وبقاء هذه المركَّبات يتطلَّب بيئةً مختزلةً وذاتَ تركيزٍ عالٍ من HCN ومشتقاته. المصادر الفضائية تُظهِر وجود A وG وU ولكن بتراكيزَ ضئيلة، وهكذا لا تُرجِّح أن تكون مصدر هذه المركَّبات عند ظهور الحياة، مع ذلك فإنها تشير إلى إمكانية تكوُّنها تحت ظروفٍ جيوكيميائيةٍ معينة.

(ز) الأحماض الدهنية

الخلية الحية تُحاط بغشاءٍ دهنيٍّ يعمل كإطارٍ فاصلٍ بين الخلية والوسط الذي تعيش فيه، وهو غشاءٌ انتخابيُّ النفاذية حيث يسمح بمرور الجُزيئات الصغيرة غير المشحونة، ويُعيق مرور الجُزيئات الأخرى. كما يمكِّن من انقسام الخلية عند نموها، ويكوِّن جهد غشاءٍ كهربائي يُسهِم في تكوين جُزيئات ATP. الخلايا الحالية غشاؤها يتألف من طبقتَين من الدهون الفوسفاتية، والتي تُظهِر جهةً خارجيةً مستقطبةً محبةً للماء، وجهةً داخليةً غير مستقطبةٍ كارهةً للماء. لكنها تحتوي على العديد من البروتينات التي تنظِّم دخول وخروج الأيونات وجُزيئات الماء والجُزيئات المشحونة. هذه التركيبة لغشاء الخلية بتعقيدها الكبير، لا تصلح أن تكون الغشاء الدهني الذي أحاط بالخلايا البدائية، وإنما يمكن أن يكون مؤلَّفًا من أحماضٍ دهنيةٍ مزدوجة الحب للماء والكراهية للماء. ويمكن لهذه الأحماض الدهنية تحت ظروفٍ معينة، أن تتفاعل مع الكليسرول والفوسفات، لتتطور إلى دهونٍ فوسفاتية. من غير الواضح كيفية تُكوَّن هذه الأحماض الدهنية، لكنها يمكن أن تكون من مصادرَ أرضيةٍ أو فضائية.
في تجربةِ محاكاةِ ظروفِ تكوُّن جليد الغيوم الجزيئية لغازاتٍ ما بين النجوم أثناء تكوُّن الكواكب وسقوطها على الأرض بشكل مذنَّباتٍ ونيازكَ ثلجية، وباستخدام غازات بخار الماء، الكحول المثيلي، الأمونيا، وأول أوكسيد الكاربون بنسبة ١٠٠:٥٠:١:١ باستخدام التبريد والأشعة فوق البنفسجية على التوالي وجد Dworkin et al., (2001) تكوُّن مركَّباتٍ معقَّدة تمتلك حب وكراهية الماء مناسبة لنشوء الحياة، بما فيها القدرة على التنظيم الذاتي بشكل تراكيبَ حوصلية. استخدم Brea et al., (2014) الربط الكيميائي المحلي Native chemical (ligation) المستخدم في تخليق الأحماض النووية والبروتينات، للتكوين السريع للدهون الفوسفاتية من أسترات الثيول. هذه الدهون الفوسفاتية تتشكَّل تلقائيًّا بهيئة حوصلات يمكن أن تنمو إلى قُطر بضعة ميكرومترات. وتمكَّن Hardy et al. (2015) من تصميم وتخليق أغشيةٍ اصطناعية؛ تتكوَّن من طبقتَين من الدهون الفوسفاتية تحتوي على محفِّزاتٍ ذاتية التضاعُف، مخلَّقة تتمكَّن من إدامة تكوين الغشاء. المحفِّزات تتمكَّن من تكوين الدهون الفوسفاتية التريوزولية ومحفِّزات التريوزول القصيرة السلسلة المرتبطة بالغشاء من موادَّ أوليةٍ بسيطة. هذه الأغشية المكوِّنة للحوصلات تُمكِّن من نمو الحوصلات.

(ﺣ) النكليوتيدات

إن تكوين النكليوتيدات التي تكوِّن جُزيئات DNA وRNA، ربما يكون الأصعب في كيمياء ما قبل الحياة. وترجع الصعوبة في التكوين غير الأحيائي لهذه المركَّبات إلى أن الوحدات البنائية لها، وهي الرايبوز أو الرايبوز المنقوص الأوكسجين والقواعد النووية والفوسفات يجب أن تكون في المواقع المناسبة من حيث الترتيب الفراغي في تشكيل النكليوتيدة؛ فأولًا ينبغي أن يكون الرايبوز في الوسط المائي بصيغة -D-furanose وهي أصلًا تكون بنسبةٍ قليلةٍ من بين الصيغ الحلقية والمفتوحة الأخرى. والقواعد النووية البيورينية يجب أن تستخدم ذرة النتروجين رقم ٩ في الجُزيئة، بينما البريميدينات يجب أن تستخدم ذرة النتروجين رقم ١ في الجُزيئة لتكوين أصرة C-N مع ذرة الكاربون رقم ١ في الرايبوز. كما أن التسخين البسيط للرايبوز والقواعد النووية يؤدي إلى تكوين العديد من الآيزوميرات.
ومع نجاح العديد من التجارب المختلفة في محاكاة تخليق النكليوتيدات، إلا أن الحصول عليها يؤدي إلى تكوين مزائجَ معقَّدة يكون فيها المركَّب المطلوب، جزءًا صغيرًا فقط. إلا إذا كانت الظروف المختلفة البدائية وتقلُّباتها قد تمكَّنَت من التغلُّب على العديد من المشاكل التي تعتري تكوينها، كما تُظهِر تجاربُ المحاكاة المختبَرية. وفي تجاربَ متأخرةٍ تمكَّن باحثون من تخليق نكليوتيدات بريميدينية ليس من الرايبوز والقواعد النووية، وإنما من مركَّباتٍ أبسط؛ مثل Glycolaldehyde وGlyceraldehyde وCyanamide وCyanoacetylene والفوسفات. هذه الطريقة يمكن أن تتخلَّص من العديد من المشاكل التي تعترض تكوين النكليوتيدات مباشرةً من الرايبوز والقواعد النووية.

(ط) سلاسل النكليوتيدات الصغيرة

إن بلمرة النكليوتيدات في الماء غير مناسبةٍ من الناحية الحركية والديناميكا الحرارية. وهكذا صار البديل هو البلمرة من خلال التسخين الجاف للنكليوتيدات في درجاتِ حرارةٍ عاليةٍ أكثر من ١٠٠م° والمزج مع عواملَ عضويةٍ منشِّطة؛ مثل السيانامايد والكاربودايامايد الذائبة في الماء. لكن هذه المحاولات لم تفلح إلا في تكوين نكليوتيداتٍ ثنائيةٍ بكمياتٍ مقبولة.

تم تحقيق نجاحٍ جيدٍ باستخدام النيوكليوسيد 50-phosporimidazolides بوجود الأيونات و حيث تم الحصول على نكليوتيدات في المحلول المائي مؤلَّفة من ١٦ وحدة و١٧ وحدة وبنسبة ٩٠٪. يمكن الحصول على المركَّب النيوكليوسيد 50-phosporimidazolides من الأميدازولات ونيوكليوسيد ٥٠ متعدد الفوسفات في ظروفٍ جافة، والتي يُعتقَد بوجودها في ظروف الأرض البدائية. البوليمرات المكوَّنة من وحداتٍ منشطة، تُنتِج مزيجًا عشوائيًّا من ٢٠–٥٠، ٣٠–٥٠ و٥٠–٥٠ آصرة منها البوليمرات ٣٠–٥٠ آصرة ذات أهميةٍ بيولوجية. وجد بعض الباحثين طبقات من الدهون تُعجِّل بقوة بلمرة 50-mononucleoside phosphates (AMP وUMP) خلال دوراتٍ من إضافة الماء وإزالة الماء. تم تحضير بوليمرات مؤلَّفة من ٢٥–١٠٠ نكليويدة مع ٣٠–٥٠ و٢٠–٥٠ آصرةً عشوائية. إن تكوين حُويصلات من الأحماض الدهنية يُحفز بواسطة Montmorillonite وتتمكَّن الحُويصلات من الإحاطة بدقائقَ طينيةٍ مدمصة لسلاسلَ نيوكليوتيدية. حيث إن هذه الحالة يمكن أن تكون ٣٠–٥٠ من الأواصر الفوسفاتية الثنائية الأسترة، فإن البلمرة على Montmorillonite ومن ثَم حصرها ضمن حويصلاتٍ غشائية يمكن أن توفِّر سلاسلَ قصيرةً من النكليوتيدات بأطوال وترتيبٍ جُزيئيٍّ مناسب لبدء منظومةٍ قادرةٍ على التضاعُف.

(٣-٣) دَور الديناميكا الحرارية في نشوء الأشكال الأولى للحياة

Role of Thermodynamics in Origin of Primitive Living Forms
الحياة نشأَت على الأرض بعد حوالي مليار سنة من تكوُّن الكوكب؛ حين برَدَ ووصلَت درجة الحرارة حوالي ١٠٠مº. والبيئات المرشَّحة لنشوء الحياة هي البُحيرات الضحلة الحارة حسب تصوُّر جارلس دارون، أو البرك الطينية البركانية على السطح أو الدخانيات المائية الحرارية في أعماق المحيطات حسب الكثير من الباحثين. في جميع الحالات العوامل الفاعلة في هذه البيئات تتمثَّل بالرواسب الطينية والصخور وما تحتويه من معادن والماء والحرارة وضوء الشمس وغازات النتروجين وأكاسيد الكاربون والميثان على السطح، بينما يُوجد إضافةً إلى ذلك الضغطُ العالي في أعماق المحيطات.
وحسب England (2013) فإن الديناميكا الحرارية تدفع باتجاه نشوء وديمومة الأشكال الحية من حيث قدرة بعض التجمُّعات الجُزيئية العضوية وتحت ظروفٍ مناسبةٍ على قنص الطاقة بفاعليةٍ أكبر وتبديد جزءٍ منها بشكل حرارة تماشيًا مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية؛ فهناك طرقٌ كثيرةٌ يمكن فيها للطاقة أن تتبدَّد، لكن طرق تركُّزها أقل كثيرًا. وهكذا ينشأ التعقيد في المادة الحية عن طريق تخفيض الإنتروبي فيها وتصديره إلى البيئة. إنها تفعل ذلك كونَها منظوماتٍ معقَّدةً مفتوحةً بعيدة عن حالة التوازن، ولو كانت منظوماتٍ مغلقةً فإن نشوء جُزيئاتٍ معقَّدةٍ لا يلبث أن يتفكَّك بتفاعُلاتٍ عكسية، لتحصُل حالة التوازن ويزداد الإنتروبي. وباشتقاق معادلاتٍ رياضيةٍ بيَّن الباحث أن تضاعُف الجُزيئات الوراثية مثل اﻟ DNA وكذلك انقسام الخلايا (خلايا البكتيريا)، هو جزءٌ مهمٌّ من عملية تخفيض الإنتروبي. إن هاتَين العمليتَين غير عكسيتَين؛ فالخلية يمكن أن تنقسم إلى خليتَين لكن لا يمكن للخليتَين الوليدتيَن من أن تتحدا لتكوين خليةٍ واحدة. وقد بيَّن باحثون حصول حالة التضاعُف في المنظومات غير الحية أيضًا؛ فقد ذكَر Marcus et al., (2013) تكاثُر الدوَّامات في السوائل المضطربة تلقائيًّا، وبصورٍ دائميةٍ بتأثير الطاقة من السائل المحيط الهائج. وكذلك قدَّم Zeravcica & Brenner (2014) نماذجَ نظرية ومحاكاة لكراتٍ مجهريةٍ موسمة بلواصقَ تتمكَّن من التضاعُف الذاتي عن طريق تبديد الطاقة بربط الكرات القريبة؛ حيث تكوِّن تجمُّعاتٍ متماثلة ثمانية الأوجه بمساعدة محفِّز من كرتَين. هذه الحالات في النماذج غير الحية تدعم نظرية England في تفسير تضاعُف الخلايا الحية؛ فعملية تخفيض الإنتروبي يمكن أن تتم بفقدان الحرارة والمواد الزائدة من ناحية وتكوين موادَّ معقَّدةٍ جديدةٍ منخفضة الإنتروبي، والتي تؤدي إلى النمو وكذلك انقسام الخلية الذي يمكن أن يكون عاملًا مهمًّا في تخفيض الإنتروبي. وينبغي ملاحظة أن نمو المنظومة الحية (الخلية) يؤدي إلى زيادة الجهد الأزموزي ودخول مزيد من جُزيئات الماء، وحصول ضغط امتلاءٍ يُنتِج زيادة الحجم الذي يحفِّز على الانقسام. وهكذا فإن تخفيض الإنتروبي بتكوين موادَّ جديدةٍ (حصول النمو) وانقسام الخلية يتم بفعل الديناميكا الحرارية ومحافظة الخلية على حالة البقاء بعيدًا عن حالة التوازن. وفي تقديري، فإن هذه الفكرة تقدِّم تفسيرًا فيزيائيًّا أساسيًّا لعملية تضاعُف منظومات التفاعُل والخلايا. وحسب Adamski et al., (2020)، فإن المنظومات الحية تُعاني عمليات التضاعُف والتحلُّل المتكرِّرة وغير المتعاكسة كونَها منظوماتٍ بعيدةً عن حالة التوازن. هذه العمليات تسير بواسطة الإدخال المستمر للمواد والطاقة؛ ما يؤدي إلى حصول حالةٍ حركيةٍ مستمرة بعيدة عن حالة التوازن.
تتميَّز المنظومة المفتوحة البعيدة عن حالة التوازن، بقدرتها على تصحيح الأخطاء. والأخطاء هنا يُقصَد بها كل ما يمكن أن يسبِّب ضررًا في ديمومة الفعاليات الحيوية للمنظومة البيولوجية؛ كزيادة الإنتروبي وضوضاء البيئة التي يمكن أن تسبِّب فك التماسُك الكمومي لبعض العمليات الحيوية. هذه الخاصية التي تُميِّز المنظومات الحية تتوضَّح عند موت المنظومة حيث تفشل في التخلُّص من الإنتروبي، ويبدأ التحلُّل خلال ساعات (Briegel & Popescu, 2014).
إن نشوء الأشكال الأولى للحياة تطلَّب حسب Hazen (2012) إنجاز أربعِ مراحلِ انبثاقٍ متتالية؛ انبثاق الجُزيئات الحيوية، وانبثاق منظومات الجُزيئات الحيوية بترتيبٍ خاص، وانبثاق منظوماتٍ جُزيئيةٍ متضاعفة، وانبثاق الانتخاب الطبيعي.

(أ) انبثاق الجزيئات الحيوية

لكي تتكوَّن جزيئاتٌ حيوية (Biomolecules) مثل السكَّريات البسيطة التي تكوِّن الكاربوهيدرات المعقَّدة أو تدخُل في بناء وحدات الأحماض النووية والأحماض الأمينية، وهي الوحدات المكوِّنة للبروتينات والأحماض الدهنية التي تكوِّن الشحوم، والقواعد النووية التي تدخُل في بناء الأحماض النووية وغيرها، لا بُد من حصول التعقيد؛ أي تكوين مثل هذه المركَّبات التي هي بدرجاتِ تعقيدٍ مختلفةٍ نشأَت من مركَّباتٍ أبسط؛ مثل H2، Co2، Co، H2o، N2 إلخ. التعقيد يعني زيادة المعلومات التي تمتلكها الجُزيئات. لا يمكن تكوين التعقيد (الغنى في المعلومات) في منظومةٍ صغيرةٍ جدًّا (وحدة الخلية البدائية) حيث تتجمَّع فيها معلوماتٌ هائلةٌ من البيئة، ما لم تكن البيئة المحيطة معقدة؛ حيث ستُولِّد ضغطًا انتخابيًّا لتحقيق ذلك. كيف يتبدى التعقيد في البيئة: التدرج (في درجات الحرارة والمكوِّنات والتراكيز) وتوالي الدورات (حار-بارد، رطب-جاف، ضوء-ظلمة، مد-جزر) والتدفُّقات (تدفُّق السوائل من مكان من البيئة إلى آخر وتدوير المواد) والسطوح البينية (سطوح معدنية ملامسة للماء، سطوح الماء الملامسة للهواء وسطوح دقائق الغبار الملامسة للهواء الجوي)، ثم التعقيد الكيميائي الذي تكون قد وفَّرَته كيمياء التربة، الذي يتضمن مئات العناصر المعدنية الكبرى والصغرى. تكوين المركَّبات الكيميائية في ظروف كهذه سهلة، وتكون بأعدادٍ هائلةٍ لكنها غير مميزة. والتجارب المختبرية المحاكية لظروف نشوء الحياة، بيَّنَت كم من المركَّبات العضوية الممكن تكوُّنها.
إن أبسط المنظومات البيولوجية الأولية التي تتميَّز بالقدرة على التضاعُف تتألَّف كما هو متصوَّر، من وسطٍ مائيٍّ يحتوي على موادَّ قابلةٍ للتفاعُل، وتفاعُلاتٍ كيميائية ذاتية التضاعُف محاطةٍ بغشاء يفصلها عن الوسط المحيط. لكن كيف يمكن أن تنشأ مركَّباتٌ متزايدةُ التعقيد في المحلول المحتوي على الكثير من المركَّبات الكيميائية المختلفة. المعروف أن المنظومة المعزولة المحتوية على جزيئاتٍ مختلفةٍ وهي تخضع لقوانين الديناميكا الحرارية، لن تسمح بتكوينِ أيةِ تراكيبَ معقَّدة مستقرة؛ بسبب التصادم المتواصل من الجُزيئات المختلفة؛ حيث تنتهي المنظومة إلى حالة التوازن الذي يترافق مع إنتروبي أقصى. لكن لو حصلَت هذه المنظومة على مصدرٍ خارجي للطاقة يُبقيها بعيدًا عن حالة التوازُن، يُمكِن للمركَّبات الأعقد أن تتشكَّل وتبقى دون أن تتفتَّت بفعل التصادُمات الناتجة عن الحركة العشوائية لجُزيئات الوسط (Kaplan, 2016). وتتصف المنظومة الحية بالتحولات المستمرة لمكوِّناتها المِجهَرية الفيزيائية والكيميائية، وبذلك فإن المنظومات البيولوجية هي في الغالب الأعم ذات طبيعةٍ بعيدةٍ عن حالة التوازن مع البيئة (Viand et al., 2020; Adamski et al., 2020).
في المنظومات البيولوجية المتطورة الحالية، تحفِّز التفاعلات الكيميائية التي تشكِّل الأيض بواسطة إنزيماتٍ عاليةِ التطور. والإنزيم كما أشرنا في الفصل السابع، يتألَّف من بروتين وعاملٍ مساعد (Cofactor). لكن العديد من التفاعُلات البيولوجية يمكن أن تحفَّز بواسطة عناصر لا عضوية بمفردها. كما أن العديد من الإنزيمات الحديثة ما زالت تستخدم العناصر اللاعضوية كعواملَ مساعدة. وهكذا يمكن القول إن هذه العناصر اللاعضوية قد لعبَت دَور المحفِّز للتفاعلات الكيميائية في بداية نشوء الحياة وهي متوفرةٌ في تلك الظروف. ومع الإقرار بأن القدرة التحفيزية لهذه العناصر اللاعضوية، هي أقل بكثيرٍ مما تقوم به الإنزيمات، لكنها بالتأكيد كانت أفضل من حصول التفاعلات تلقائيًّا ببطء دون تحفيز. إضافةً إلى ذلك، فإن العناصر المعدنية يمكن أن تحفِّز عدة تفاعلات مختلفة؛ فهي أقل خصوصية مقارنة بالإنزيمات. وهكذا فإن مجموعات التحفيز الذاتي الأولية يمكن أن تكون قد نشأَت باستخدام العناصر المعدنية كمحفِّزاتٍ لتفاعُلاتها الكيميائية. هذا ربما فتح المجال أمام تكوين مركَّباتٍ عضويةٍ معقدة أكثر قدرةً تحفيزية أو أن بعضها استخدم العناصر المعدنية كعوامل مساعدة زاد من كفاءتها وخصوصيتها، وهكذا مرَّت العملية بسلسلةٍ من التعقيد والتطوُّر وصولًا إلى ما يُشبِه شبكات الأيض الحديثة (Hordijk & Steel, 2018).
يرى باحثون ثمَّة ثلاثةَ خطوطٍ بحثيةٍ تشير إلى أن الضغط العالي يمكن أن يكون قد لعب دَورًا مؤثِّرًا في نشوء الحياة؛ اكتشاف الحياة الكثيفة في بيئات الضغوط العالية؛ بما فيها أعماق المحيطات، والدخانيات المائية الحرارية، والصخور القشرية، وزراعة الأحياء الدقيقة تحت ظروف الضغوط العالية، تبين وجود أحياء متحملة للضغط (Barotolerent) وأخرى محبة للضغط (Barophilic)، وتجارب تحضير المركَّبات العضوية تحت الظروف المائية الحرارية والضغط العالي، تكشف عن آليات تفاعلاتٍ غزيرةٍ غير متوقَّعة تتكوَّن عنها الكثير من الجُزيئات الحيوية المهمة. هذا ما تم كشفه في تجارب Hazen et al., (2002) في المختبر في درجات حرارة بين ١٥٠-٣٠٠مº وضغط بين ٥٠ إلى ٥٠٠ ميغا باسكال، وهي الظروف الشائعة للبيئات المذكورة أعلاه. يعزي الباحثون ذلك من بين أمورٍ أخرى إلى أن النقطة الحرجة للماء هي ٣٧٤مº وضغط ٢٢٫١ ميغا باسكال، وفي مثل الظروف التي أُجريَت التجارب فيها ينخفض كثيرًا ثابت العزل الكهربائي للماء، بينما تزداد النواتج الأيونية. هذا يؤدي إلى تغيير الخواص الفيزيائية للماء ويؤثر كثيرًا على خواصه الكيميائية أيضًا. وفي سيناريو نشوء الحياة في الدخانيات المائية الحرارية، والتي يتبناها العديد من الباحثين، تلعب الغازات CO2 وN2 وH2 دورًا أساسيًّا، والتي استمرت الأحياء ذاتية التغذية اللاهوائية باستخدامها حتى الآن. في تلك الظروف يوفر تفاعل الأكسدة-الاختزال لجزيئات H2-CO2 مصدرًا ثابتًا للطاقة، ومدخلاتٍ بنائيةً كون حالة التوازن تقع على جانبِ مركَّبات الكاربون المختزلة. وهكذا وفَّرَت وتوفِّر هذه البيئات الظروف التي تشجِّع تخطي حالة التوازن على مدى حقبٍ جيولوجية، والاقتراب من حالة التوازن يؤدي إلى إنتاج مركَّباتٍ كاربونيةٍ مختزلة. هذه التفاعُلات تحصُل تلقائيًّا طالما توفَّرَت المحفِّزات والظروف الاختزالية. المشترك في هذه التفاعُلات أنها تتم حتى في المختبَر دون الحاجة إلى إنزيمات؛ ما يرشِّحها لتكون من بدايات نشوء الأيض الأحيائي. هذه التفاعُلات تشكِّل لبَّ أيض الكاربون والطاقة في البكتيريا والأركيا المولِّدة للخلات (Acetogens) والمولِّدة للميثان (Methanogens) (Preiner et al., 2019).

(ب) انبثاق منظومات الجُزيئات الحيوية بترتيبٍ خاص

على الرغم من إمكانية تكوُّن عشرات آلاف الأنواع من المركَّبات الكيميائية، فإن الحياة غاية في الانتخابية والحساسية. في حين تُوجد في الطبيعة ملايين أنواع المركَّبات العضوية الصغيرة، فإن الكائنات الحية ومنها البكتيريا E. coli تستخدم ٥٠٠ نوعٍ فقط من المركَّبات العضوية الصغيرة. كيف تتم هذه الانتخابية؟ حسب Hazen (2012) ذلك يتم من خلال آليتَين؛ التنظيم الذاتي  (Self organization) والتحفيز بواسطة المعادن.
fig164
شكل ١٥-٤: رسمٌ تخطيطيٌّ للتكوُّن التلقائي لغشاءٍ دهنيٍّ بطبقتَين من خلال تجاذب رءوس جُزيئات المواد الدهنية للماء بتوجُّهها نحو الخارج (الوسط المائي) ونفور ذيول الجُزيئات الكارهة للماء وتوجُّهها نحو الداخل.
التنظيم الذاتي (راجع الفصل الأول) هو النمط أو الأنماط أو التراكيب التي تنشأ نتيجة تآثُر مكوِّنات المنظومة. يتبدَّى التنظيم الذاتي مثلًا في ترتيب جُزيئات الدهون التي هي ثنائية الميل للماء والكراهية للماء وبذلك ستتنظم ذاتيًّا، لتُشكِّل غشاءً دهنيًّا من طبقتَين (شكل ١٥-٤) والذي سيحتضن مكوِّنات الخلية البدائية.
التحفيز بواسطة المعادن يتم من خلال تمكين وتسريع التفاعلات الكيميائية، وكذلك حل مشكلة الآيزوميرية المرآتية للمركَّبات الكيميائية (انظر الفصل العاشر)؛ فثمَّة مركَّبات مثل السكَّريات والأحماض الأمينية وغيرها تتكوَّن من نوعَين من الآيزوميرات للمركَّب، والتي هي صورةُ مرآةٍ للأخرى ويُرمز لها ﺑ L- وD- وتكون ذات خواصَّ وسلوكٍ تفاعليٍّ مختلف. والأحياء تستخدم السكَّريات بالشكل الآيزوميري D- فقط، بينما تستخدم الأحماض الأمينية التي هي بالشكل الآيزوميري L- فقط. هناك العديد من المعادن التي تحفِّز التفاعُلات الكيميائية مثل الزنك والنحاس والمنغنيز وغيرها. كما تلعب بلورات بعض المعادن مثل الكلسايت (كاربونات الكالسيوم) وبلورات الكوارتز دور المجمِّع لنوعٍ معيَّن من الآيزوميرات كأن تكون سكريات D- مثل D-Ribose أو L- مثل L-amino acids عن طريق التركيب اللولبي لسطوح مختلفة للبلوراتِ بطريقةٍ معينة يسمح بادمصاص مركَّبات L- دون D- أو بالعكس. وهكذا يمكِن أن تتوفَّر في مواقعَ معيَّنةٍ بلوراتٌ معدنيةٌ تسمح بمراكمة الآيزومير D- وفي مواقع أخرى بلورات تسمح بمراكمة الآيزومير L-. هذا يُساهِم مساهمةً كبرى في توفير أنواعٍ معينة من الآيزومرات المطلوبة بيولوجيًّا دون غيرها، وهو أمرٌ مهمٌّ جدًّا في تمكين انتخابية التراكيب البيولوجية، وأيض السكَّريات والأحماض الأمينية خاصة.

(ﺟ) انبثاق الدورات الجُزيئية المتضاعفة

fig165
شكل ١٥-٥: الآلية المبسطة لتفاعل formose في تكوين السكَّريات. عن: Kopetzki & Antonietti (2011).
يفترض Wächtershäuser (1988) أن الأشكال الأولى للحياة لم تكن خلويةً وتفتقد الانقسام، لكنها تنمو. وهذه الأشكال البدائية للحياة لا تمتلك إنزيمات، ولا آلية ترجمة (تكوين بروتينات) لكنها تمتلك أيضًا محفزًا ذاتيًّا، وقدرةً على التطور. هذه الأشكال الحية ذاتية التغذية؛ حيث تعتمد على الطاقة الاختزالية لتثبيت الكاربون، بتحويل أيونات الحديدوز (Fe++) وكبريتيد الهيدروجين (H2S) إلى معدن بايرايت (FeS2). وهذه تنمو بشكل طبقةٍ مفردةٍ من مادةٍ عضويةٍ سالبة الشحنة على سطوحٍ معدنية موجبة الشحنة، مثل البايرايت التي تشكِّل سطحًا بينيًّا مع الماء الحار. وحسب الباحث فإن قوانين الديناميكا الحرارية، تشجِّع على مزيدٍ من تعقيد المواد العضوية على السطوح بخلاف التفاعُلات في المحاليل المائية.
ويؤكِّد E. Szathmáry على دَور تفاعُل formose في تكوين السكَّريات المختلفة من الفورمالديهايد، باعتباره متضاعفًا ذاتي التحفيز، ذا طابعٍ وراثيٍّ محدود، ساهم في تكوين الأشكال الأولى للحياة. بينما يُقِر Kopetzki & Antonietti (2011) بعمل تفاعُل formose في تكوين السكَّريات المختلفة من الفورمالديهايد (شكل ١٥-٥) تحت الظروف المائية الحرارية (٢٠٠مº) كالتي سادت في العهد الجهنَّمي قبل نشوء الحياة، إلا أنه يقلِّل من دَوره في نشوء الحياة بسبب سرعة تحلُّل السكريات الناتجة. غير أن هذه النقيصة ربما وجدَت حلًّا من خلال عملية الادمصاص على السطوح المعدنية.
ويُبرِز Morowitz et al., (2000) أهمية دَورة حامض الستريك (دورة TCA أو دورة كريبز) الاختزالية (شكل ١٥-٦) كونَها تمثِّل لُبَّ شبكات الأيض الحيوي غير المحفَّزة بإنزيمات في جميع الأحياء، بما فيها الأشكال الأولى للحياة. مصدر الكاربون هنا هو جُزيئات CO2 ومصدر الطاقة هو تفاعلات الأكسدة-الاختزال بين جُزيئات الدورة الإحدى عشرة. هذه الشبكة الأيضية ذاتية التحفيز؛ حيث يمكن لكل مركَّبٍ فيها أن يكوِّن ذاته، كما في ملخص التفاعل التالي:
fig166
شكل ١٥-٦: دورة حامض الستريك الاختزالية (reductive Citric Acid Cycle). عن: Morowitz et al. (2000).
يعتبر الكثير من الباحثين أن مسار Acetyl CoA هو من أقدم المسارات الأيضية؛ حيث يتم فيه تثبيت الكاربون اعتمادًا على إلكترونات الهيدروجين بوجود الخليط المعدني أوارويت (Ni3Fe) في الدخانيات المائية الحرارية دون الحاجة إلى إنزيمات. ينتج عن المسار تكوين الفورمات والخلات والبايروفات من جُزيئات ثاني أوكسيد الكاربون والهيدروجين. هذا المسار ما زال مستخدمًا من قِبل الأركيا الذاتية التغذية؛ مثل مولِّدات الخلات (Acetogens) ومولِّدات الميثان (Methanogens) لكن بوساطة ١٠ إنزيمات ومساعداتٍ إنزيمية. هذا المسار يتألَّف من تفاعُلات محرِّرة للطاقة  (Exergonic) لذا فهو يجري تلقائيًّا بتحفيز العوامل المعدنية، التي تنشِّط الهيدروجين وثاني أوكسيد الكاربون. والخاصية المهمة التي يتميَّز بها هذا المسار أيضًا، هو أنه المسار الوحيد من بين المسارات الستة المثبتة لثاني أوكسيد الكاربون الموجودة في الأحياء، الذي يولِّد جُزيئات ATP بينما المسارات الخمسة الأخرى تحتاج إلى ضخ جُزيئات ATP. وحيث إن التفاعلات الكيموحيوية البدائية يُفترَض أن تكون محرِّرة للطاقة، فهذا يعزِّز بقوة فكرة أن مسار Acetyl CoA هو مسارٌ بدائي. وفي هذا المسار، حيث يتفرد بوجود مركَّبٍ وسطي هو أول أوكسيد الكاربون؛ حيث تتكوَّن أحماض كاربوكسيلية (الخلات) من الكاربونيلات (أسيتيل)، بينما المسارات الخمسة الأخرى تختزل ثاني أوكسيد الكاربون إلى كاربونيلات، لتحصُل على أحماضٍ كاربوكسيلية باستهلاك طاقةٍ مضافة (Martin, 2020).
الذاتي الحركة الكيميائي (Chemoton) الأبسط المُفترَض من قِبل Gánti (2003) يتألف من ثلاث تحت-نظم كيميائيةٍ مترابطة؛ هي أيضٌ ذاتي التحفيز، وجُزيئةٌ حاملة للمعلومات الوراثية، وغشاء. وهذه المنظومة حسب الباحث قابلة للتضاعُف الذاتي، وتبدو كأنها منظومةٌ حيةٌ صغرى.
ثمَّة ما يُعرف بنظرية التحفيز الذاتي الانعكاسي، والناتج عن غذاء (Reflexively Autocatalytic and Food-generated)، اختصارًا RAF. وتفترض أن مجموعةً من التفاعلات الكيميائية تُشكِّل RAF إذا كان (١) كل تفاعل في المجموعة يحفَّز بواسطة جُزيئةٍ واحدةٍ على الأقل متضمَّنة في المجموعة. (٢) كل جزيئة ضمن هذه المجموعة يمكن أن تنتُج من مجموعة جزيئاتٍ غذائيةٍ صغيرة. وهكذا فإن مجاميع RAF يمكن أن تنبثق بسهولةٍ من مجموعة من التفاعلات الكيميائية، وهي تتألَّف دائمًا من مجاميعَ RAF أصغر ما يُشير إلى قابليتها على التطوُّر (Liua & Sumpter, 2018; Hordijk et al., 2019).

الذي تم عرضه هو مجموعة من مساراتٍ أيضية، ذاتية التحفيز، غير إنزيمية متضاعفة، يمكن أن تكون قد ساهمَت في نشوء الأشكال الحية الأولى.

(د) انبثاق الانتخاب الطبيعي

حينما تنشأ منظومة تفاعلات كيميائية أو مسارات أيضية ذاتية التحفيز، متضاعفة، أو جزيئات معلومات وراثية مثل: RNA أو DNA، فيما بعدُ سيعمل الانتخاب الطبيعي بصورةٍ تلقائيةٍ على ترجيح الصيغ الأكثر أهلية. هذا يحصُل بسبب التغيُّرات التي تطرأ على المنظومات أو المسارات الأيضية أو الجُزيئات الوراثية نتيجة الأخطاء، وحينها ينتخب المسار أو الجُزيئة الأكفأ لإتمام المسار الأيضي.

وهكذا تكون قوانين الديناميكا الحرارية، خاصة القانون الثاني للديناميكا الحرارية، قد لعبَت دورًا أساسيًّا في تشكُّل الجُزيئات الحية، وتسيير التفاعلات الكيميائية وتضاعُف المنظومات الحيوية وديمومتها.

وحسب Hazen (2012) فإن أفضل فهمٍ لنشوء الحياة على الأرض يتم من خلال تتابُع انبثاق أحداثٍ كيميائية، كل واحدٍ منها يضيف درجةً من التركيب والتعقيد للحالة البيولوجية البدائية. ومع عدم امتلاكنا لكل التفاصيل، إلا أنه لا يُوجد سببٌ مقنعٌ يجعلنا نعتقد أن تكون الحياة قد نشأَت لأسبابٍ غيرِ طبيعية.

(٣-٤) عالم اﻟ RNA RNA World

الخلية الحالية باعتبارها منظومةً معقدةً قادرة على التضاعُف، تعتمد في ذلك بالأساس على جُزيئات DNA التي تحفَظ وتنقلُ المعلومات الوراثية وجُزيئات RNA التي تُترجِم تلك المعلومات إلى بروتينات، والأخيرة تدخُل في تركيب معظم مكوِّنات الخلية ووظائفها، بما فيها تكوين المركَّبات المختلفة وتحوُّلات الطاقة. ومن البعيد عن الواقع أن تكون منظومة DNA/RNA بروتين قد ظهرَت بصورةٍ عشوائيةٍ من مزيج من الأحماض الأمينية والنكليوتيدات التي تكوَّنَت لا أحيائيًّا في ظروف الأرض البدائية، وهذا ما أشار به العديد من الباحثين (Kitadai & Maruyama, 2018; McFadden & Al-Khalili, 2014).
في أجواء كَشْف تركيب اﻟ DNA سنة ١٩٥٣م، من قِبل واتسن وكريك وآلية عملها، توجَّه التركيز على الجين باعتباره التركيب الأساس لعمل المتضاعف البدائي، خاصةً من قِبل Hermann J. Muller. وصار الجدل ما إذا كان الأيض أولًا أو الحامض النووي أولًا. وانتبه عددٌ من العلماء إلى أهمية اﻟ RNA الجزيئة الشديدة القرب من اﻟ DNA؛ حيث إن الخلايا الحية تحتوي على جُزيئات RNA أكثر بكثير من جُزيئات DNA، كما كشفَت آليات تكوين البروتينات الدَّور الكبير الذي تلعبه جُزيئاتُ RNA فيها.
سنة ١٩٨٢م، أثبَت Kruger et al. الفاعلية الإنزيمية لجُزيئات RNA من خلايا الحيوان الابتدائي المهدَّب Tetrahymena. وافترض Woese (1967) وOrgel (1968) وCrick (1968) كلٌّ على انفرادٍ أن اﻟ RNA تعمل كإنزيم وحاملٍ للمعلومات الوراثية. واعتمد Woese & Fox (1977) وحدات RNA الرايبوسومي الصغيرة (rRNA) كمَعلمٍ لتحديد المجاميع التطوُّرية الثلاثة؛ البكتيريا والأركيا والأحياء الحقيقية النواة. وحيث إن تلك الجزيئات ليست إنزيماتٍ لكنها تمتلك نشاطًا إنزيميًّا حيث يمكنُها كسرُ وتكوينُ أواصرَ تساهمية، فقد أطلقوا عليها اسم رايبوزايم (Ribozyme).
يُورِد Kun et al., (2015) أهمية جُزيئات RNA كما نعرفها في الوقت الحاضر، ليس فقط كنشاطٍ إنزيمي ونقل المعلومات الوراثية، وإنما دورها في التعبير الجيني من خلال mRNA وtRNA وrRNA حيث يمكن اعتبار الرايبوسوم ﮐ «جُزيئة RNA ضخمة». وهناك العديد من جُزيئات RNA المنظِّمة للتعبير الجيني؛ مثل.
RNA الميكروي (microRNA) وRNA الصغير (sRNA) وRNA غير المُشفر الطويل (lncRNA) والكثير من الأنواع الأخرى التي تُعرف بالمفاتيح الرايبوية (Riboswitches)، وهي جُزيئات RNA رابطة لبعض الجُزيئات الفعَّالة؛ مثل ATP وFMN وغيرها (Cochrane & Strobel, 2008). كما أن العديد من المساعدات الإنزيمية (Coenzymes)؛ مثل NAD وNADP وFAD وcoenzyme A وS-adenozyl-methionin و3’-Phosphoadenosine-5’-phosphosulfate وATP تحتوي على جزءٍ نكليوتيدي. وحسب هؤلاء الباحثين فإن نشاط هذه المساعدات الإنزيمية لا يعتمد على الأدنين، لكن الأخير يُستخدَم ﮐ «مقبض» للرايبوزايم قبل ظهور عالَم الإنزيمات. وبيَّن Lorsch & Szostak (1994) ظهور أو تطوُّر رايبوزايماتٍ جديدة في جُزيئات RNA خارج الجسم الحي ذات نشاط Polynucleotide kinase. واستنادًا إلى القدرة الإنزيمية لجُزيئات RNA فقد رأى Gilbert (1986) إمكانية أن يقوم الرايبوزايم بنسخ نفسه من المصادر الجُزيئية وجُزيئة RNA تُستخدم كقالب، وبذلك لا تكون ثمَّة حاجةٌ للإنزيم الناسخ في بداية التطوُّر. وإن قدرة الإنترونات (Introns) وهي تتابُع نكليوتيدات غير مشفر للبروتين على الاندماج في شريط RNA والانفصال عنه ذاتيًّا، مكَّنَت هذه الإنترونات على حمل إكسون (Exon) وهو تتابُع نكليوتيدات مشفر للبروتين بين اثنَين منها حين انفصالهما معًا من شريط RNA، ثم عند اندماجهما مع شريط RNA آخر فإنهما يقومان بحشر الإكسون الذي بينهما. وبذلك تقوم الإنترونات بإيجاد ينقولٍ أو جينٍ قافز (Transposon) من الإكسونات المنقولة بواسطتها. هذه الخاصية زوَّدَت اﻟ RNA بوسيلةٍ تطوُّرية رئيسة؛ هي بمثابة إعادة اختلاطٍ وراثي (Genetic recombination) لتكوين تشكيلاتٍ جينيةٍ جديدة. وعن طريق الأخطاء أثناء تضاعُف اﻟ RNA تحصُل الطفرات التي تُسهِم بإيجاد متغايراتٍ تقود إلى التطوُّر الداروني. إن الجينات القافزة تقوم بما يقوم به الجنس حين تنتقل من كيانٍ متضاعفٍ إلى آخر، إضافةً إلى إعادة الاختلاط الوراثي الذي يؤمِّن التطور، ثم باستخدام الرايبوزايم للمساعدات الإنزيمية NAD وFMN تم تطوير الكفاءة الإنزيمية للرايبوزايم. وفي مرحلةٍ لاحقة، بدأَت جُزيئات RNA بتخليق البروتينات عن طريق استخدام بعض جُزيئات RNA كوسيطٍ يربط الأحماض الأمينية المنشطة على جُزيئات RNA كقالب، كما هي تعمل في لب الرايبوسوم. البروتينات المُنتَجة بواسطة الرايبوسومات صارت تقوم بتسيير التفاعلات الكيميائية كما تفعل الرايبوزايمات ولكن بكفاءةٍ أفضلَ وأسرع؛ وبالتالي سادت في مجال التفاعلات الكيميائية لاحقًا. وفي زمنٍ لاحقٍ ظهرَت إلى الوجود جُزيئات DNA كحاملٍ وناقلٍ للمعلومات الوراثية من جُزيئات RNA الوراثية، ربما عن طريق النسخ العكسي (Reverse transcription). وبعد نشوء جُزيئة اﻟ DNA الثنائية الشريط وهي كيميائيًّا أكثر استقرارًا من RNA وبالتالي أكثر حفظًا للمعلومات الوراثية بشكلٍ خطِّي، وتُوفِّر قدرةً على تصحيح الأخطاء من خلال وجود الشريط الثاني للمقارنة، بقيَت مسألة حصول الطفرات وإعادة الاختلاط الوراثي محفوظة. وهكذا صارت واستمرَّت جُزيئات RNA تلعب دور الوسيط المهم للغاية في التعبير الجيني حتى الوقت الحاضر، وإن احتفظَت ببعض الأنشطة الإنزيمية؛ كما في جُزيئات الرايبوزايمات وجُزيئات RNA الرايبوسومي (rRNA). إن أثَر هذه العملية الباقي حتى الوقت الحاضر يتمثَّل بوجود الإنترونات والإكسونات في شريط اﻟ DNA الموروث عن اﻟ RNA القديم. ومن الأمور الداعمة لفرضية عالم اﻟ RNA هو اكتشاف أعدادٍ متزايدةٍ من الرايبوزايمات في الأحياء المنقرضة. وإن مركز Peptidyl transferase الرايبوسومي وهو الموقع النشط لتكوين الآصرة الببتيدية في الرايبوسوم يتألَّف بالكامل من RNA. كذلك تكوَّن مدًى واسعٌ من الرايبوزايمات الجديدة خارج الجسم الحي بضمنها جُزيئاتُ RNA فعَّالة محضَّرة، وبعض النسخ المحسَّنة من الرايبوزايمات الطبيعية. كذلك فإن ظهور جُزيئات RNA قبل جُزيئات DNA يكون مُقنِعًا من خلال تخليق النكليوتيدات deoxyribonucleotides (الوحدات البنائية ﻟﻠ DNA) من ribonucleotides (الوحدات البنائية ﻟﻠ RNA) القريبة باختزال ذرة الكاربون رقم ٢ في جُزيئة السكَّر بدل التخليق من جديدٍ لمصدرٍ يحتوي على الرايبوز اللاأوكسجيني (Kitadai & Maruyama, 2018).
إن اعتبار عالَم اﻟ RNA هو الحالة الكيموحيوية الأولية على الأرض، يفترض حسب Ogel (2004) تقسيم مسألة نشوء الحياة إلى عددٍ من المسائل الفرعية: (١) التخليق غير الإنزيمي للنكليوتيدات. (٢) البلمرة غير الإنزيمية للنكليوتيدات لتكوين تتابُعات RNA عشوائية. (٣) النسخ أو التضاعُف غير الإنزيمي أو كليهما ﻟﻠ RNA. (٤) انبثاق مجموعة محفِّزات RNA فعَّالة من خلال الانتخاب الطبيعي، والتي يمكن أن تؤمِّن نموًّا أُسيًّا في بيئةِ ما قبل الحياة. ويعتقد الباحث أن المعادن الطينية حفَّزَت تكوين أشرطة اﻟ RNA وتكوين الشريط المزدوج ﻟﻠ RNA لا إنزيميًّا، تم من خلال النسخ القالبي للشريط المُفرَد.
مسألة تخليق النكليوتيدات بدرجةٍ كافيةٍ من النقاوة لتمكين تخليق RNA في حقبةِ ما قبل الحياة، لا يمكن تحقيقُها باستخدام الكيمياء المعروفة حاليًّا. هذا دفَع بعض الباحثين لاستكشاف إمكانية تكوُّن بوليمراتٍ وراثيةٍ بديلة. ويتوفَّر عددٌ كبيرٌ من التراكيب الثنائية الشريط بهياكل تختلف كثيرًا عن RNA، لكن قواعدها ترتبط حسب قاعدة واتسن- كريك. ويمكن أن تكون مُكوِّناتها سهلةَ التخليق مقارنةً بنكليوتيدات اﻟ RNA. كما أن من الممكن أن تكون ثمَّة تراكيبُ ازدواج أبسط بكثيرٍ من RNA من حيث إن وحداتها المكوِّنة يمكن أن تُخلَّق بسهولةٍ أكبر بكثير. من هذه جُزيئة TNA (Threose Nucleic Acid). بينما يفترض Kim et al., (2020) أن البوليمرات الوراثية البدائية كانت تتابُعاتٍ عشوائيةً غير اعتيادية من النكليوتيدات الصغيرة تكوَّنَت بدون قالب بلمرة، وهذا قاد إلى تكوين RNA.

(٤) الخلية الأوَّلية The Protocell

«ما إن امتلكَت الحياةُ الأوليةُ القدرةَ على التضاعُف والتغايُر، حتى خرجَت الجنِّية من الزجاجة.»

Lloyd (2009)
fig167
شكل ١٥-٧: صورة بالمِجهر المؤلِّق (Fluorescence microscope) لحوصلاتٍ مكوَّنةٍ من myristoleic acid (MA) وglycerol monomyristoleate (GMM) وdodecane بنسبة ٢: ١: ٠٫٣ تحتوي على رايبوزايم رأس المطرقة (Hammerhead ribozyme) بوجود ٣ مليمول MgCl2 قبل البثق. تم صبغ الأغشية ﺑ Rhodamine 6G لرؤيتها في (A) epifluorescence أو (B) laser scanning confocal microscopy. تظهر الصور من مناظيرَ مختلفة. عن: Chen et al., (2005).
نشوء الخلايا الأولى من عناصر الأرض المبكِّرة، والذي تم قبل حوالي ٤ مليارات سنة، لا بد أن يكون قد تم تدريجيًّا (Xavier et al., 2020). إن نشوء جُزيئات اﻟ RNA القادرة على حمل المعلومات الوراثية والنشاط الإنزيمي بصيغة الرايبوزايم لا يقدِّم حلًّا كاملًا لمنظومةٍ متضاعفة (Replicon) إلا إذا أُحيطَت هذه الجُزيئات بغشاءٍ يُحافِظ على المحتويات، ويمكِّن من عملية تبادُل المواد مع المحيط والتكاثُر، وبالتالي التطوُّر الداروِني. بيَّن Chen et al., (2004) أن إحاطة جُزيئات RNA بأغشيةِ أحماضٍ دهنيةٍ تمثِّل خلايا أولية؛ فهذه التشكيلة ستُوجِد ضغطًا أزموزيًّا من خلال التركيز العالي لجُزيئات RNA ما يؤدِّي إلى أخذ مزيدٍ من الأحماض الدهنية إلى الغشاء المشدود، ونمو الحوصلة أو الخلية الأولية على حساب الحوصلات المجاورة المحتوية على RNA وضغطٍ أزموزيٍّ أقل. غير أن الحوصلات المنتفخة أزموزيًّا تنحو لتكوين كراتٍ مستقرَّة يصعُب انقسامها. وللتغلُّب على هذه المشكلة قام Chen et al., (2005) باستخدام مزيجٍ من Myristoleic acid وأسترة من الكليسرول لتكوين الحوصلات حيث تتحمل أيونات المغنسيوم. وهكذا صار رايبوزايم رأس المطرقة (Hammerhead ribozyme) في الحوصلات المحتوية على أيونات المغنسيوم نشطًا ومنقسمًا ذاتيًّا (شكل ١٥-٧). بعد ذلك بيَّن باحثون وبعيدًا عن الضغط الأزموزي، أن وجود كمياتٍ قليلةٍ من الشحوم الفوسفاتية أو ببتيداتٍ ثنائيةٍ محفِّزة كارهة للماء، يمكن أن يؤدي إلى نموٍّ تنافُسيٍّ لحوصلات الأحماض الدهنية. كما أن تخليق الببتيدات المحفِّزة يجري بكفاءةٍ أكثر في الحوصلات مما في المحلول؛ ما يشجِّع المنافسة (Adamala & Szostak, 2013a; Budin & Szostak, 2011). المشكلة مع نموذج الأحماض الدهنية كمكوِّن للخلية الأولية هي عدم ثبات الأحماض الدهنية بوجود الوضعية الأيونية الضرورية لتضاعُف اﻟ RNA؛ فتضاعُف اﻟ RNA يتطلَّب تراكيزَ عاليةً من أيونات المغنسيوم، في حين أن هذه الأيونات تؤدِّي إلى تكتُّل وترسيب حوصلات الأحماض الدهنية. تم التغلُّب على هذه المشكلة بتوفيرِ حامضِ الستريك الذي يخلبُ أيونات المغنسيوم بحيث يخفض كثيرًا ترسيبَ الأحماضِ الدهنية، بينما لا يتأثَّر تضاعُف اﻟ RNA إلا قليلًا (Adamala & Szostak, 2013b). ومن المعروف الدَّور الذي يلعبه حامض الستريك في أيض الكاربون (دورة كريبز) في الخلايا الحديثة، والذي ربما نشأ عن مثل هذا التآزُر في الأدوار المبكِّرة لنشوء الحياة كما سبق ذكره. مثل هذا النموذج يمكن أن يكون إحدى الحالات التي أدَّت إلى تكوُّن الخلايا الأولية، والتي طُوِّرَت عَبْر الطفرات في جُزيئات RNA وقدرتها على تكوين الببتيدات والأحماض الدهنية الخاصة بها، وكذلك القدرة الإنزيمية لخوض طريق المنافسة والتطوُّر.
وفي محاكاةٍ لظروف الشقوق المائية الحرارية في مياه بركٍ بركانية، والتي يمكن أن تكون قد شَهدَت تكوُّن المركَّبات الدهنية التي أدَّت إلى نشوء الحوصلات أو الأغشية للخلايا البدائية، قام Milshteyn et al., (2018) ببحث إمكانية تكوُّن حوصلاتٍ مستقرة من مركَّباتٍ مزدوجةِ الميل للماء والدهون متمثلة بأحماضٍ دهنيةٍ أحادية مجموعة الكاربوكسيل ذات ١٠ و١٢ ذرة كاربون لوحدها أو ممزوجة مع كليسيريداتٍ أحادية. تَم استخدام ماء البِرَك البركانية وماء البحر للمقارنة. أظهَرَت النتائجُ أن الأحماض الدهنية النقية يمكن أن تكون حوصلاتٍ غشائية في مياه البِرَك، لكن مع حامض الدوديكونيك وglycerol monododecanoate كانت أقل حساسيةً للحرارة وتجمَّعَت في أغشيةٍ مستقرة نسبيًّا في ظروف pH حامضية وقاعدية. كما تمكَّنَت هذه الحوصلات من احتواء أحماضٍ نووية وصبغة البايرانين. لكن لم يتمكَّن أيٌّ من الأحماض الدهنية المزدوجة الميل للماء والدهون من تكوين الحوصلات في ماء البحر بسبب الأيونية العالية، التي تمزِّق الأغشية. مؤخرًا، بيَّن Cornell et al. (2019) أن ارتباط الأحماضِ الأمينيةِ الموجودة قبل الحياة وغير المعدَّلة؛ مثل السيرين والكلايسين بالأغشية الدهنية، حفظَت ثبات هذه الأغشية بحوصلاتٍ بقطر ١٠مكم وبوجود الأيونات الثنائية؛ مثل Mg++ وكذلك ملح الطعام. هذا يحُل مسألةَ ثباتِ أغشيةِ الخلايا البدائية بوجود الأيونات، والتي هي مطلوبة لعمل جُزيئات RNA. كما أن ترافُق الأحماض الأمينية مع أغشية هذه الخلايا يُمكِن أن يكون مصدرًا لتكوين الببتيدات والبروتينات.

(٥) نشوء الفايروسات ودورها في التطوُّر

Origin of Viruses And Their Role In Evolution
حسب Domingo (2020) يُمكِن وضع النظريات التي تبحث في أصل الفايروسات في مجموعتَين؛ الأولى تقول بنشوء الفايروسات قبل وجود الخلايا، والثانية ترى أنها نشأَت عن الخلايا الحية. ويمكن عرضُ النظريات المختلفة كما يلي:

(٥-١) الفايروسات كمُتبقِّياتٍ لموادَّ وراثيةٍ بدائية

حسب هذه النظرية فإن فايروسات أو تحت-فايروسات RNA وبسبب محدودية تعقيدها الوراثي، يمكن أن تكون قد انحدرَت من متضاعفات (RNA replicons) RNA سبقَت نشوء الخلايا البدائية، واعتُبرَت من قِبل بعض الباحثين أشكالًا أوليةً للحياة (Moelling & Broecker, 2019). النشوء المستقل للفايروسات عن الخلايا يمكن أن ينطلِق من وجود بروتيناتٍ فايروسية لا تُوجد شبيهاتها في خلايا الوقت الحاضر. كما تُوجد التفافاتٌ بروتينيةٌ خاصة في بعض فايروسات DNA الكبيرة، وفايروسات RNA أحادية وثنائية الشريط، التي تصيب الأحياء الحقيقية النواة، بالإضافة إلى حجم الجينوم الفايروسي وتركيبه (حيث لا يُوجد غير الفايروسات كائنات حية جينومها يتألَّف من RNA) يمكن أن تشكِّل ذاتًا فايروسية أصيلة. وهكذا يرى عددٌ من الباحثين أن الفايروسات هي من بقايا عالم اﻟ RNA. إن عناصر RNA الوراثية في الوقت الحاضر كالرايبوزايمات والفايرويدات ونوكليوتيدات RNA بأطوال ١٦٥–٤٣٠ نكليوتيد الذاتية التضاعف، والفايروسات التابعة من نوع hepatitis delta virus (HDV) المعاقة والمعتمدة على فايروس التهاب الكبد الفايروسي hepatitis B virus (HBV) في إكمال دورة حياتها يمكن أن تكون من (الآثار) الحية للعناصر الوراثية البدائية؛ فهي تشفر لمستضدٍّ واحدٍ وتُظهِر نشاطًا رايبوزايميًّا (Flores et al., 2012; Fallot et al., 2012; Durzyńska & Goździcka-Józefiak, 2015). ويبدو أن HDV ناتجة عن الربط بين RNA شبيهة بالفايرويد ومنطقة mRNA مشفرة، وبذلك فقد تكون المصادر لتقسيم جينوم الأحياء الحقيقية النواة الحديثة إلى تتابُعاتٍ مشفرة (إكسونات) وتتابُعاتٍ بينية غير مشفرة (إنترونات). وهكذا فإنها تعكس العمليات التي حصلَت مع RNA القديمة حيث انتُخبَت لقابليتها على التضاعُف وتضمينها جزءًا مشفرًا للبروتين بالارتباط مع جُزيئات RNA أخرى. وهذا ربما مثَّل خطوةً تطوريةً باتجاه تكوين جينوم RNA أو DNA أكثر تعقيدًا. وهنا يمكن أن يأتي دور الإنزيم الذي نسخ عكسيًّا اﻟ RNA إلى DNA ونشوء فايروسات DNA وجينوم اﻟ DNA الأكثر تعقيدًا.

(٥-٢) الفايروسات نتيجة لتطوُّرٍ ميكروبيٍّ ارتدادي

هذه النظرية على عكس سابقتها تفترض أن عالم الخلايا هو مصدر الفايروسات. الخلايا المُنشِئة للفايروسات يمكن أن تكون خلايا ذاتيةَ التغذية، أو خلايا بسيطةً متطفلة على خلايا أكثر تطورًا، ومرَّت بتغيُّراتٍ اختزالية حوَّلَتها إلى فايروسات. هذا ربما تَم من خلال فقدان جيناتٍ جعلها تمتلك جينات تمكِّن من التضاعُف، بينما تفتقد للجينات المسئولة عن تكوين البروتينات واستخراج الطاقة. ويمكن أن تكون الفايروسات الضخمة من عائلة Mimiviridae مثالًا للحالة الوسطية بين الخلايا والفايروسات؛ فهذه الفايروسات مثل Tupanvirus بحجمها الكبير الذي يقع ضمن أبعاد حجوم البكتيريا (١٫٢–٢٫٥مكم) وجينوم كبير من DNA مزدوج الشريط يبلغ ١٫٤٤–١٫٥١ ميغا ق يشفر ﻟ ١٢٧٦–١٤٢٥ بروتين وتمتلك جهاز ترجمة يتألَّف من ٧٠ tRNA و٢٠ aminoacyl-tRNA synthetases (aaRS) و١١ بروتينًا مساعدًا لكل خطوات الترجمة وبروتينات مرتبطة بتنضيج tRNA/mRNA وتحويرات بروتين الرايبوسوم، إضافة إلى شبهٍ كبيرٍ بمناطق الإنترونات في جينات 18 S rRNA. في مثل هذه المجموعة من جينات الترجمة للفايروس، يبقى الرايبوسوم هو الوحيد المفقود (Abrahão et al., 2018). وتَم كشفُ وجود جينَين يشتركان في عمليات التخمُّر في أحد فايروسات Mimivirus؛ التي تصيب الطحالب يشفران لإنزيمات Pyruvate formate-lyase وPyruvate formase-lyase (Steward & Schvarcz, 2018). كما تحتوي فايروسات tupanvirus على إنزيم Citrate synthase وهو من إنزيمات دورة كريبز الأساسية في تفاعُلات التنفس (Rodrigues et al., 2019).
القدرة العالية على الانتشار الذي تتميَّز به الفايروسات، ربما كانت صفةً إيجابيةً تَم انتخابها خلال التطوُّر، وهذه الصفة لا تقتصر على الفايروسات فقط؛ فثمَّة بكتيريا وطفيليات وفطريات يمكن أن تنتشر بوسائلَ مختلفةٍ بما فيها الحشرات. إن احتمالية نشوء فايروسات RNA من خلايا عَبْر الاختزال يواجه مشكلة ندرة تخليق RNA بالاعتماد على.RNAو هنا يمكن أن يكون فايروس كهذا نشأ من «أحياء RNA خلوية» منقرضة، أو أن تضاعُف هذه الفايروسات اشتُق من DNApolymerase خلوي.

(٥-٣) تحرير الفايروسات كوحداتٍ ذات استقلالٍ ذاتي

حسب هذا السيناريو، تكون الفايروسات قد نشأَت من خلايا DNA أو RNA لها القدرة على التضاعُف مع مرحلة خارج الخلايا. هذا يمكن أن يكون قد تحقَّق من خلال هروب جزء من جينوم الخلية، والتضاعُف كطفيلي في خلايا حية. والقدرة على التضاعُف قد تكون من خلية المنشأ أو تَم اكتسابها خارجيًّا. ويمكن أن يكون انتخاب هذه الآلية لفائدتها للخلايا في النقل الأفقي للجينات، وتأمين تضاعُف الفايروس.

(٥-٤) الفايروسات كعناصر لتطوُّر متوازٍ طويل

حسب هذه النظرية تكون الفايروسات بقِدم الخلايا، وتطوَّرا جنبًا إلى جنب وربما مع الأشكال ما قبل الخلايا، واشتركَا في بعض التراكيب؛ فالمادة الوراثية وعموم البروتينات وطريقة عملها فيها الكثير من التشابه. كما أن التخصُّص العوائلي والاستقطابية في إصابة أنواعٍ معيَّنة من الخلايا دون غيرها، تشي بوجود هذا التطوُّر المتوازي. وقد تمثِّل الفايروسات الضخمة من مجموعات Mimiviridae والتي تم ذكرها أعلاه، وهي تقترب تركيبيًّا من الخلايا، ووجود فايروساتٍ صغيرة هي العاثيات الفايروسية (Virophage) متطفِّلة على وحدات تضاعُف الفايروس (معامل الفايروس Viral factories) داخل الخلية العائلة والتي اعتبَرها Oliveira et al., (2019) صراعًا على السيادة جانبًا من حالة التطوُّر المتوازي.
ويعتقد الباحثان Broecker & Moelling (2019a)، أن الحياة الأولى التي بدأَت على الأرض بشكلِ أصغرِ كائنٍ متضاعفٍ ذاتيًّا، ذي نشاطٍ تحفيزي، وهو الرايبوزايم، والذي يتألَّف من RNA حلقي غير مشفَّر ومعلوماته تستند إلى التركيب فقط. وتؤشِّر الرايبوسومات إلى أنها سبقَت الأحياء البدائية النواة؛ كونها ماكنة صناعة البروتين في جميع الأحياء ومحفوظًا نادر الطفرات. ويمكن أن تكون الفايروسات وبالأخص ما يشبه الفايرويدات هي الأشكال الأولى للحياة، كما اقترح بعض الباحثين (Moelling & Broecker 2019b)؛ فهذه يمكن أن تكون قد بدأَت كتراكيبَ بسيطةٍ متضاعفة ذاتيًّا، ومع نشوء الأشكال الخلوية الأولى فقدَت جيناتٍ لتصبح طفيلياتٍ خلويةً مجبرة؛ ففقدان الجينات حالةٌ شائعة، وتم توضيحه خارج الجسم الحي بما يُعرف ﺑ «عفريت سبيجلمان Spiegelman’s Monster» حيث تم فقدان فاجٍ بكتيري طويل التشفير لجيناته متحولًا إلى RNA غير مشفَّر (ncRNA) صغير جدًّا، سريع التضاعُف بوجود RNA polymerase ونكليوتيداتٍ حرة وأملاحٍ خلال ٧٤ جيلًا (Spiegelman et al., 1965). وهكذا تم مبادلة الجينات بسرعة التضاعُف. كما أن الركتسيا والميتاكوندريا والبلاستيدات هي أمثلةٌ حية لمثل هذه الحالات. إن أنواع RNA غير المشفَّرة والعديد منها فايروسية المنشأ تمثِّل ٩٨٪ من جينوم اللبائن، بينما تمثِّل الجينات المشفَّرة ٢٪ فقط من الجينوم، وهذا يشير إلى أهمية الفايروسات في نشوء وتطوُّر الحياة.

(٥-٥) نشوء الفايروسات من حوصلات

يمكن تصوُّر أن مجاميع الخلايا الأولية كانت تفتقد لجدار أو غشاءٍ خلوي، مما يسمح بانتقال المواد الوراثية والأيضية والسوائل بينها والمحيط. ويُعتقَد أن أول أشكال حدود الخلايا الأولية تركيبٌ دهني بشكل حوصلةٍ يفصل بين داخل وخارج الخلية الأوَّلية، يحتوي على جزيئاتٍ ضخمةٍ قابلة للتضاعُف. تطوَّر غشاء الحوصلة باتجاه احتوائه على مركَّباتٍ مزدوجة الألفة، يزيد من استقراره الحراري ونفاذيَّته وتحمُّله للأيونات الثنائية التكافؤ. وهكذا صارت تنتخب الحوصلات التي لها قدرة على التبرعُم، والتي تحتوي المادة الوراثية القادرة على التضاعُف مع الجُزيئات الأيضية. أما حوصلات الفايروسات الأولية فأصبحَت مع الوقت غيرَ ضرورية للخلايا الأولية، بل صارت الفايروسات الأولية طفيلياتٍ تستنزف الخلايا الأولية. ومع نشوء خلايا أوليةٍ ذات أغشيةٍ دهنية صارت الفايروسات الأولية تدفَع باتجاه انتخاب خلايا أوَّلية تحتوي على مركَّبات الببتيدوكلايكان على أغشيتها، لتمنع دخول الفايروسات الأوَّلية. وهكذا بدأ «سباق التسلح» بين الخلايا الأولية والفايروسات الأولية الذي استمر حتى الوقت الحاضر. والفائدة الرئيسة التي استمرَّت الفايروسات الأوَّلية وحتى فايروسات اليوم في توفيرها، هي النقل الأفقي للجينات بين الأحياء، والذي ساهم في زيادة تنوُّعها بشكلٍ كبير.

(٦) دور ميكانيك الكَم في نشوء الحياة

Role of quantum mechanics in origin of life

مما تقدَّم يمكننا الخروج بالاستنتاجات التالية:

  • (١)

    ربما تكون الفايروسات هي الكائنات الحية الأبسط تركيبًا ووظيفة، لكنها لا تتمكَّن من إظهار خواصِّها الحية إلا داخل خلايا حية؛ وعليه فهي لا تصلُح أن تكون الشكل الأوَّل للحياة القادر على التكاثُر الذاتي.

  • (٢)
    أبسط كائنٍ حي معروف في الوقت الحاضر يتألَّف من خليةٍ واحدة وهي خلية البكتيريا. وبساطة خلية البكتيريا تأتي من خلال مقارنتها مع الأحياء الأخرى المتعدِّدة الخلايا والغاية في التعقيد، مع ذلك فإن خلية البكتيريا ذاتها عالية التعقيد أيضًا؛ فهي تمتلك جدارَ خلية متعدِّد المكوِّنات وغشاءً خلويًّا يتألف من طبقتَي دهون وبروتينات، وتحتوي على كروموسوم بآلاف الجينات، كما تحتوي على آلاف الرايبوسومات والإنزيمات. والأنواع الأبسط من البكتيريا هي المايكوبلازما التي تكون أصغر حجمًا (بقطر ٠٫٣مكم) وتفتقد لجدار الخلية (شكل ١٥-٨) وتعيش طفيليةً داخل خلايا حية لحاجتها إلى الكوليسترول وبعض البروتينات الضرورية للنمو، كما أن بعضها يفتقد للإنزيمات اللازمة في المسارات التنفُّسية. مع ذلك فهي تمتلك جُزيئة DNA بعدد جيناتٍ يصل إلى ٥٠٠ تُشفر لمثلها من البروتينات. وبذلك فهي أيضًا يصعُب أن تكون الخلية البدائية التي أظهَرَت الحياة.
    fig168
    شكل ١٥-٨: رسمٌ تخطيطيٌّ لتركيب خلية المايكوبلازما.
  • (٣)
    ربما تكون المسارات الأيضية الذاتية التحفيز المتضاعفة؛ مثل مسار Acetyl CoA وFormos وCitric Acid Cycle وكيماتون وRAF قد مثَّلَت الأشكال الأكثر بدائيةً لنشوء الحياة قبل الخلوية. كما يتوجَّب الأخذ بعين الاعتبار أن سِر الحياة لا يكمُن في تعقيد المادة البيولوجية، وإنما في قُدرتها على معالجة المعلومات والتضاعُف (Davis, 2008).
  • (٤)
    يبقى نموذج الخلية البدائية التي سبق تقديمه Chen et al., 2004; 2005; Adamala & Szostak, (2013a; Budin & Szostak, 2011) والمؤلَّف من جزيئة رايبوزايم مع مكوِّناتٍ محاطةٍ بغشاءٍ دهنيٍّ يحتوي على ببتيدات يمكن أن يكون الأقربَ إلى المُتضاعف الأوَّلي عند نشوء الحياة.

الآن يبرز السؤال الأكبر: هل أن نشوء المتضاعف الأوَّلي الذي تطوَّر إلى الخلية الأولية تَم بالصدفة؟ الجواب سيظهر من خلال المناقشة التالية، إذا استبعدنا بالطبع البديل المنطقي المستند إلى التفكير الميكانيكي التقليدي وهو وجود صانع لهذه الأحداث؛ لأنه بكل بساطة يقع خارج نطاق العلم.

إذن ما هي الصدفة؟ إنها موضوعٌ شغل الفلاسفة واحتار العقل البشري باستيعابه وهو موضوعٌ أساسي في الرياضيات. وكان المفكر المصري المعروف محمود أمين العالم، قد نشَر كتاب «فلسفة المصادفة» سنة ١٩٦٩م، وهو أطروحة الماجستير له، ناقش فيه الموضوع من جوانبه المختلفة بما فيها دور ميكانيك الكم. خلاصة رأيه أن المصادفة هي أحد الاحتمالات المتحقِّقة، أو التي يمكن أن تتحقَّق من بين عددٍ كبيرٍ من الاحتمالات الأكثر ترجيحًا للتحقُّق في الواقع؛ أي إن احتمالية تحقُّق «الصدفة» نادر أو نادرٌ جدًّا عادة، مع ذلك فإنه ممكن الوقوع. وكما نعرف من تجربة الشق المزدوج أن الجُسيم العابر من الشق يمكن أن يقع على نقاطٍ عديدةٍ على الشاشة لكن وقوعه سيكون متناسبًا مع أرجحية الاحتمال. لكن دور الديناميكا الحرارية في تسييرِ التفاعلات الكيميائية البدائية، ودفعِ المنظومة البيولوجية إلى التضاعُف أو الانقسام يُبعِد عامل الصدفة تمامًا. وعندما يختبر عددًا هائلًا من الاحتمالات وفي بيئاتٍ مختلفة وعلى مدى ملايين السنين، فإن تحقُّق الحالة النادرة لا تكون صدفة؛ فقد تم تجريب (كل) الاحتمالات كما سنرى فيما يأتي.

لنأخذ مثال البرِكة أو البرِكة الطينية أو الشقوق الصخرية المائية الحرارية في الينابيع البركانية، وقيعان المحيطات (أشكال ١٥-٩ و١٥-١٠ و١٥-١١) والتي غالبًا ما ترشَّح على أنها يمكن أن تكون موطن نشوء الأشكال الأولى للحياة، وهي منظوماتٌ من ماء وعناصرَ عديدةٍ ومركباتٍ مختلفة لا عضوية وعضوية لا أحيائية.
fig169
شكل ١٥-٩: من أقدَم شكلٍ للحياة المشخصة في الطبقات الصخرية لبُحيرة Thetis في غرب أستراليا، وهي نمواتٌ طحلبية تعود إلى ٣٫٥ مليارات سنة. عن: Bernhard Richter/Dreamstime.
العديد من الدراسات تُرجِّح أن تكون الحياة الأولى قد نشأَت في مثل هذه البيئات التي بعضها أعلى من مستوى سطح البحر، والتي نشأَت قبل ٤ مليارات سنة نتيجة الانفجارات البركانية؛ فمياه هذه البيئات تكوَّنَت نتيجة الأمطار؛ مما يجعلها ذات تراكيزَ ملحيةٍ أقل من مياه المحيطات. كما أنها تتميَّز بمحدودية كميات المياه فيها؛ مما يجعلها مؤهلةً لأن تجمع وتركِّز المركَّبات العضوية التي تُخفف جدًّا في مياه المحيطات، وتحول دون تراكُمها (Milshteyn et al., 2018). وهكذا ففي أية منظومةٍ متعددة المكوِّنات وهذه المكوِّنات تتحرك بصورةٍ عشوائية، فثمَّة احتمالاتٌ قائمة أن يصطدم أي مكوِّنٍ فيها بأي مكوِّنٍ آخر في زمنٍ مفتوح. ومع الزمن تتغيَّر تشكيلات الظروف البيئية من درجات الحرارة والرطوبة والضغط وتراكيز المواد. وكذلك التأثيرات الكونية المتمثلة بالمذنَّبات والنيازك، والتي كانت تسقط على الأرض بمعدَّلاتٍ وكمياتٍ أعلى بكثير مما يحصل الآن، مع ما تحمله من موادَّ بما فيها المواد العضوية والحرارة الهائلة التي تُحدِثها، وكذلك الإشعاعات الكونية بما فيها الأشعة فوق البنفسجية. كما تدخُل في صُلب العمليات طبيعةُ التركيب الذري والجُزيئي للعناصر، والجُزيئات، والشحنات، والاستقطابية، والطاقة الحرة، وعامل التنظيم الذاتي (Self organization)؛ كل هذا وغيره سيُنتِج المركَّبات المختلفة، التي تَم استعراض العديد منها في تجارب المحاكاة التي تم ذِكْرها. وأعقد مركَّب له أهميةٌ كبرى في تشكيل الخلية الأولية، هي جُزيئات RNA القادرة على حفظ المعلومات الوراثية، والنشاط الإنزيمي؛ أي جزيئات الرايبوزايم. الملاحظة المؤكَّدة أن جميع تجارب محاكاة ظروف الأرض البدائية في المُختبَر منذ تجربة Miller-Urey في بداية خمسينيات القرن العشرين حتى الوقت الحاضر، لم تنجح في تكوين منظومةٍ متضاعفةٍ أولية. وإن نجحَت بعض التجارب في تكوين أحماضٍ أمينية، وقواعدَ نووية، وسكَّريات بما فيها سكر الرايبوز، وأحماضٍ دهنية تتمكَّن من التشكُّل الذاتي بشكل غشاءٍ دهني، إلا أن هذه التجارب تتم عادةً بتهيئة ظروفٍ مناسبةٍ مع تخليص النواتج المرغوبة من المركَّبات العَرَضية التي لولا ذلك لأعاقت تكوينها. إن تكوين مركَّباتٍ معقَّدة ذات ترتيبٍ خاص مثل جُزيئات RNA يتطلب ربط إحدى القواعد النووية وهي أربعة؛ الأدنين والسايتوسين والكوانين واليوراسيل مع جُزيئة سكر الرايبوز، وربط الرايبوز من الناحية الأخرى مع مجموعة فوسفات لتشكيل النكليوتيدة، وهي اللبنة الأساسية التي يجب أن تتكرَّر مع تغيُّر القاعدة النووية لبناء جُزيئة اﻟ RNA. كما أن ارتباط القاعدة النووية البيورينية (أدنين أو كوانين) يجب أن يكون بين الذرة ٩ من القاعدة النووية مع ذرة الكاربون رقم واحد في جُزيئة السكر، وأن ترتبط مجموعة الفوسفات مع ذرة الكاربون رقم خمسة في جُزيئة السكر. والنكليوتيدة التالية يجب أن ترتبط مع النكليوتيدة السابقة مع ذرة الكاربون الثالثة. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى ولغرض تضاعُف جُزيئة اﻟ RNA المؤلَّفة من عددٍ غيرِ قليل من النكليوتيدات يتوجَّب استخدامُ شريط RNA كقالب وانتخاب النكليوتيدات الصحيحة بالضبط لبناء الشريط الجديد. هذه المحدِّدات العديدة تجري عَبْر انتخاب المكوِّنات المذكورة من وسط الحَسَاء البدائي والذي يعجُّ كما هو متوقَّع بمثل المواد المطلوبة والكثير غيرها. من الصعب جدًّا أن تحصُل مثل هذه العملية من خلال الصدفة؛ فهذه مثل أن تطلب من مجموعةٍ كبيرة من القرود التي كل واحدٍ منها مجهَّز بطابعة، ويضغَط على أزرارها بشكلٍ عشوائيٍّ طبعًا، أن ينجح أحدهم في كتابة مسرحية هاملت لشكسبير مهما استمروا في ذلك، كما ذكر Lloyd (2006) في حالةٍ مماثلة.
fig170
شكل ١٥-١٠: بركانٌ طينيٌّ حديث في تايلاند يمكن أن تكون أشكال الحياة الأولى قد نشأَت في مثل هذه البيئة. عن: Michael C. Rygel via Wikipedia Commons.
fig171
شكل ١٥-١١: الشقوق الصخرية في أعماق المحيطات والمُولِّدة لتدفُّق غازاتٍ حارة. عن: Universal History Archive/UIG, via Getty Images.
قام McFadden & Al-Khalili (2014) بتتبُّع الاحتمالات اللازمة لتخليق جُزيئات RNA في وسط الحَسَاء البدائي؛ فحسب الكيميائي الاسكتلندي Graham Cairns-Smith ثمَّة ١٤٠ خطوةً تلزم لتحضير قاعدةٍ نووية من مركَّباتٍ عضويةٍ يرجَّح أن تكون موجودة في الحَسَاء البدائي. وفي كل خطوة ثمَّة ٦ تفاعلاتٍ محتملة يتوجَّب تجنُّبها. وهكذا يمكن تصوُّر أن التفاعُل الكيميائي المطلوب يمثِّل أحد وجوه زهر الطاولة الستة، الذي سيُحقِّق التفاعل المطلوب في كل خطوة؛ وعليه يتوجَّب رمي الزهر للحصول على الوجه المطلوب ١٤٠ مرة. وبذلك ستكون الاحتمالية الصحيحة ١ من ٦١٤٠ أو ١٠١٠٩ تقريبًا. هذا يستدعي أن يكون في الحَسَاء البدائي في بداية التفاعل هذا العدد من الجزيئات، لتحصُل على جُزيئة RNA بطريق الصدفة. غير أن هذا العدد يتجاوز بكثير عدد الذرات في الكون البالغة ١٠٨٠. إذن من غير الممكن بناءُ قاعدةٍ نوويةٍ بهذا الكَم المهول من الجُزيئات. ولو تَم بناء قواعدَ نوويةٍ بطريقةٍ غيرِ معروفة، ينبغي أن تكون هذه القواعدُ بترتيبٍ معيَّن في شريط اﻟ RNA الذي هو بطول ما لا يقل عن ١٠٠ قاعدة نووية، لتتكوَّن جُزيئة رايبوزايم؛ وعليه في كل موقع قاعدةٍ نوويةٍ ينبغي الاختيار بين واحدة من أربعِ قواعد (A,U,G,C). وهكذا سيكون ٤١٠٠ طرقٍ محتملةٍ لربط القواعد النووية المضبوطة في جُزيئة الرايبوزايم. هذا يعني استخدام ١٠٥٠كغم من المادة، وهذا يفوق كتلة مجرَّتنا؛ درب التبانة، التي تبلغ ١٠٤٢كغم؛ وبناءً على ما تقدَّم لا يمكن الاعتماد على الصُّدفة وحدها كتفسيرٍ لتكوُّن الرايبوزايم. وحسب الباحثين McFadden & Al-Khalili (2014) قد تكون ثمَّة ترليونات المُتضاعِفات المحتملَة الممكن تكوُّنها لشريط RNA من ١٠٠ قاعدة نووية. وقد تكون اﻟ RNA المتضاعفة شائعةً وقتها؛ حيث وجود مليون جُزيئة كان كافيًا لتكوُّنها. لكن رغم كل الجهود العلمية لتكوين جُزيئة RNA قادرة على التضاعُف لم تُفلِح. ولم يتمَّ العثور في الطبيعة خارج الخلايا على مثلها. لكن هل تم ذلك بواسطة متضاعفٍ أوَّليٍّ أبسط بكثيرٍ من الخلية في ذلك الزمن السحيق؟ يجيب الباحثان بالتأكيد نعم، ولكن من غير الواضح كيف. وعلى الرغم من التقدُّم الصناعي والعلمي، لم يتم إنتاجُ أية ماكنةٍ تتمكَّن من نسخ نفسها، علمًا أن هذا كان الهدف الأسمى الذي وضعه مؤسس التقنية النانوية K. Eric Drexler سنة ١٩٨٦م، منطلقًا من أفكار الفيزيائي الفذ Richard Feynman ومقولته الشهيرة: «الشيء الذي لا أستطيع عملَه فإنني لم أفهمه.» لكنِ الباحثان McFadden & Al-Khalili (2014) يطرحان مسألة نشوء الفايروسات الرقمية، وهي برامجُ قصيرةٌ نسبيًّا، وتتمكَّن من التضاعُف. ولماذا لم يتم نشوءُها تلقائيًّا من كَمِّ المعلومات الهائل في الإنترنت، والذي يبلغ زليونات المليارات من البِتات في الثانية، وهي بحدودٍ معيَّنة مشابهةٌ لنشوء متضاعفٍ جُزيئي في كمٍّ كبيرٍ من جُزيئات الحَسَاء البدائي؛ فإلى الآن لم ينشأ أي فايروس رقمي تلقائيًّا، بينما يتم ذلك من قِبل أفراد ذوي مهارةٍ جيدةٍ ببرامج الحواسيب الرقمية. وكمثال الفايروس الرقمي المعروف Tinba مؤلَّف من ٢٠٠٠٠ بايت أو ١٦٠٠٠٠ بت، هذا يعني وجود احتمال ١ من ٢١٦٠٠٠٠ أن ينشأ هذا الفايروس بالصدفة. وهذا احتمال كما هو واضحٌ غاية في الندرة، ويفسِّر عدم إمكانية نشوئه بالصدفة وحدها. وهكذا يظهر أن نشوء المتضاعف الأوَّلي بالصدفة، أمرٌ مستَبعَد جدًّا، ولكن هذه الحسابات والاستنتاجات تدور في إطار العالَم التقليدي. ماذا لو بحثنا المسألة من واقع ميكانيك الكَم الذي يحكُم حركة الجُسيمات والذرات والجُزيئات وهو على حال المتضاعف الأوَّلي المفترض بشكل جُزيئات الرايبوزايم. وجُزيئة اﻟ RNA هذه تتألَّف من ذراتٍ مترابطةٍ من خلال الأواصر الكيميائية التي تعتمد على الإلكترونات والبروتونات. بعض هذه البروتونات والإلكترونات غير شديدة الارتباط، ويمكن أن تنتقل بين الذرَّات المرتبطة كما تطرَّقنا إلى ذلك في عمل الإنزيمات، وتركيب جُزيئات الحامض النووي. هذه الجُسيمات على خلاف الحالة التقليدية يمكن أن تعبُر حاجز الطاقة، وتنتقل من ذرة إلى أخرى مؤديةً إلى تغيُّراتٍ تركيبيةٍ ووظيفية في الجُزيئة، وهي في الحالة الكمومية. لكن هذه الحالة تتطلَّب أن تكون الجُسيمات في حالة تماسُكٍ كمومي، والذي سرعان ما تنهار إلى الحالة التقليدية (حيث تصبح جزءًا من الواقع) عند فك التماسُك الكمومي، ولكن في هذه الحالة تكون قد صارت في وضعيةٍ مختلفةٍ عن حالتها الأصلية. وتبدأ عمليةُ تماسكٍ جديدة وقدرة على الانتقال للجُسيمات ومن ثَم انهيارها لحالةٍ تقليديةٍ جديدة وهكذا. في كل حالة فكِّ تماسُك، يمكن أن تكون الذرات قد ترتَّبَت على نحوٍ مختلف. وهكذا يمكن أن تتمكَّن الجُزيئة من البحث عن احتمالاتٍ مختلفة قد يكون أحدها هو القدرة على التضاعُف. مع ذلك، فهذا يتطلب كما رأينا أعلاه، البحث في احتمالاتٍ هائلة، والتي من بينها احتمالٌ نادر؛ هو أن تكون بترتيبٍ ذريٍّ يُكسِبها القدرة على التضاعُف. مثلًا يفترض الباحثان McFadden & Al-Khalili (2014) وجود ٦٤ إلكترونًا وبروتونًا قابلين لتغيير مواقعهم بين الذرات عَبْر عملية التسرُّب الكمومي؛ كأن يكون الواحد منهم على هذا الجانب أو ذاك من حاجز الطاقة. هذا يعني أن الاحتمال المطلوب وهو التركيب الذري الذي يمكِّن الجُزيئة من التضاعُف، سيُساوي ١ من ٢٦٤ وهو احتمالٌ نادرٌ جدًّا يذكِّرنا بمثال الأمير الصيني مع مخترع لعبة الشطرنج. لكننا هنا لا نعامل المسألة بمفهومٍ تقليدي، وإنما بمفهومٍ كمومي. يعني وكأننا نتعامل مع حاسوبٍ كمومي ﺑ ٦٤ كيوبت (انظر الفصل الرابع عشر). هذا سيمكِّن من بحث كل الاحتمالات في نفس الوقت، وبالتالي سيُسرِّع جدًّا من العثور على ذلك الاحتمال الضئيل مع الوقت، الذي كان قد امتد ملايين السنين وأماكن ومكوِّنات وظروفٍ شديدة التغايُر. وعند الانهيار على تلك الحالة، والتي ستتحوَّل إلى الحالة التقليدية (العادية) بفَك التماسُك، تكون قد تكوَّنَت الجُزيئة القادرة على التضاعُف. وما إن يكون المتضاعف الأوَّلي قد تكوَّن، حتى يبدأ عمل التطوُّر الداروِني نتيجة التغيُّرات التي ستنشأ أثناء التضاعُف، ويبدأ مسلسل التطوُّر ونشوء الحياة.
وبطريقةٍ مماثلةٍ فإن نشوء الإنزيمات لا بد أن مر بسلسلةٍ طويلةٍ من التعقيد بدءًا من تكوين ببتيد ثنائي إلى ببتيد ثلاثي وهكذا. بالتأكيد كلما زاد عدد الأحماض الأمينية في الببتيد المتعدد، زادت خياراتُ أو احتمالاتُ ارتباطاتها المختلفة. لكن عمل ميكانيك الكَم وبخاصة ظاهرةُ التراكُب ستُمكِّن من تجريب كل الاحتمالات في وقتٍ واحد، مما يختزل كثيرًا الزمن اللازم للوصول إلى تشكيلة الببتيد المتعدِّد، الذي يُظهِر نشاطًا إنزيميًّا. غير أن تحقُّق الظاهرة الكمومية كما سبق ذكره في مواقعَ عديدة، يتطلَّب حصول التماسُك الكمومي والذي يشترط عدم الاتصال مع البيئة. هذا الشرط يمكن أن يتحقَّق من خلال الحجم الصغير جدًّا للمتضاعف الأوَّلي أو الخلية البدائية التي تستضيف الببتيد المتعدِّد. وعند إضافة حامضٍ أميني إلى سلسلة الببتيد المتعدد ستنهار الحالة الكمومية في هذه التشكيلة. وطالما بقيَت سلسلة الببتيد المتعدِّد كجُزيئةٍ مفردة، يمكن أن تدخُل في حالة التماسك الكمومي من جديد، وتنهار الحالة الكمومية بعد اتصالها بحامضٍ أمينيٍّ جديد وربطه بالجُزيئة وهكذا. كما أن الببتيدات في أطوالٍ مختلفة (قبل أن تصبح بروتينًا) يمكن أن يُظهِر بعضها نشاطًا إنزيميًّا ليصبح إنزيمًا أوليًّا (Protoenzyme). هذا ما يعمله الباحثون روتينيًّا من خلال تجريب ملايين التشكيلات من الببتيدات في البحث عن ببتيدٍ ذي نشاطٍ إنزيمي، والذي يمكن أن يُوجَد في بعضها ضمن مليون ببتيد. حالة إضافات الأحماض الأمينية الجديدة يمكن أن تستمر لحين الوصول إلى حالةٍ غيرِ قابلةٍ للانعكاس، وتُصبِح حالةً تقليديةً بهيئة إنزيمٍ أوَّلي أو إنزيم. هذه الحالة تكون عندما يتمكَّن هذا الإنزيم من مضاعفة نفسه؛ ومن ثم يخضع للتطوُّر الداروِني (McFadden, 2000).
هكذا يكون ميكانيك الكم ومن خلال ظواهر التماسُك والتراكُب والتسرُّب والتشابُك قد سرَّع بمقاييسَ هائلةٍ من البحث عن كل الاحتمالات، كما لاحظنا ذلك في عمل الإنزيمات وتضاعُف اﻟ DNA وانتقال الفوتونات في التركيب الضوئي وغيرها. وحسب Lloyd (2006) فإن كل التعقيد الذي نراه في أنفسنا وما حولنا من مجرَّات ونجوم وأحياء، هو نتاجُ البحث الكمومي للجُسيمات والذرات والجُزيئات في كونٍ هو حاسوبٌ كمومي. السؤال الملح الذي يمكن أن يبرُز هنا: لماذا لم تُفلِح التجارب المختبرية العديدة جدًّا والجارية منذ خمسينيات القرن العشرين في إيجاد متضاعفٍ أوَّلي مع أن ميكانيك الكم يبقى هو الحاكم للجُسيمات والذرات والجُزيئات المتفاعلة؟ الجواب هو أن ذلك يعود إلى عدم توافُق المكوِّنات والظروف والزمن الكافي للحصول على النتيجة المطلوبة، وأعتقد أن مزيدًا من المعرفة والتجارب وتجارب المحاكاة باستخدام الحاسوب الكمومي المرتقَب، يمكن أن تُقرِّب المسافة باستمرار نحو ذلك الهدف.
يعتقد Davies (2004) أن من غير الممكن صناعة الحياة من بعض الوصفات الكيميائية في أنبوبة الاختبار. لكن سيتم أخيرًا صنع الحياة اصطناعيًّا كناتجٍ عَرَضي لمعالجات المعلومات الكمومية والتقنية النانوية، وليس الكيمياء العضوية.
مع ذلك، تمكَّن فريق من الباحثين Ottelé et al., (2020) من العثور على متضاعفٍ ذاتي (شكل ١٥-١٢) ويظهر نشاط أيضي بتفاعل أدول قَهقَرى (retro-aldol reaction) وشطر مجاميع fluorenylmethoxycarbonyl والتحول الأخير يسلِّط تغذيةً عكسيةً موجبة على التضاعُف (أيض أول Protometabolism)؛ فهذا المتضاعف الذاتي والذاتي التنظيم، لا يتمكَّن من تحفيز تكوين ذاته فحسب، وإنما تحويلات كيميائية أخرى تختلف طبيعتُها عن تفاعُل تضاعُفه. إن المتضاعف الذاتي يتمكَّن من تكوين جُزيئات تقود إلى تكوين وحدات بناء المتضاعف، وبذلك يُسرِّع عملية التضاعُف. وهذه العملية تؤشِّر إلى بداية الأيض. وهكذا يخلُص الباحثون إلى أن التضاعُف والأيض وهما عمليتان مفتاحيتان في نشوء الحياة، يمكن أن تتكاملا ذاتيًّا، وتؤشِّرا إلى إمكانية خلق شكلٍ مختزلٍ من الحياة.
fig172
شكل ١٥-١٢: التركيب الجُزيئي للوحدات البنائية للمتضاعف الذاتي المتكوِّن من لب جُزيئة بنزينٍ ثنائية الثيول (benzene-1,3-dithiol) (اللون البرتقالي) وسلسلة ببتيدية (اللون الأزرق). عن: Ottelé et al., (2020).

كلمةٌ أخيرة: إن التاريخ الطويل جدًّا لنشوء الكون وتطوُّر الحياة، تؤكِّد حقيقةً أساسيةً هي أن ما نُشاهِده من نجوم وكواكب وكائناتٍ حيةٍ غاية في التعقيد والتنوُّع، نتج عن فعل الطبيعة الذي شَهِد أعدادًا هائلةً من سلاسل التجريب بكل الاحتمالات الممكنة، الذي من سماته العميقة عدم الدقة في أحداثٍ كبرى أدَّت إلى كسر التناضُر (نشوء المادة من الطاقة والتغاير الوراثي بواسطة الطفرات). وكذلك البطء الشديد؛ فبعد مئات آلاف السنين تكوَّنَت الذرات الخفيفة وبعد ملايين السنين تكوَّنَت الجُزيئات، وبعد مليارات السنين أنتجَت الحياة، وانتظرت ملياراتٍ أخرى ليظهر الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤