الفصل الثاني

ميكانيك الكم

Quantum mechanics

«عندما تعمل الطبيعة فإنها لا تعلم كيفية معرفتنا بها، وقوانينا العلمية في تفسيرها.»

«نحن من يتعلَّم من الطبيعة، ولا يُمكِنُنا فرضُ قوانينَ عليها كنا قد تعلَّمناها منها.»

(Tarlacı & Pregnolato, 2015)

في مقابلةٍ تلفزيونية مع الباحث المصري اللامع أحمد زويل، الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء، سألَته مقدِّمة البرنامج عن ميكانيك الكَم وصعوبته المعروفة عنه. أجاب الأستاذ زويل بأنه وخلال دراسته في الولايات المتحدة، كان يتوجَّب عليه اجتيازُ الامتحان بميكانيك الكم. وهو كان قد سمع أيضًا بصعوبته التي كان الطلاب كثيرًا ما يكرِّرونها. قال: قرَّرتُ أن أُكرِّس كل جهدي لفهم الموضوع واجتياز الامتحان وهو من التحديات الأساسية. قال: فهمتُ الموضوع جيدًّا، ونجحتُ في الامتحان، وحصلتُ على أعلى درجة. لكن لو تطلبين مني الآن أن أَشرحَه لكِ فأنا لا أستطيع. ويُذكر عن اثنَين من أبرز علماء ميكانيك الكم؛ نيلز بور، وريتشارد فينمان، قولهما: «إن من يقول إني فهمتُ ميكانيك الكم ولم يُصَب بالدوار، فإنه لم يفهم ميكانيك الكم.» هذا عمَّق عندي الرغبة في معرفة علمٍ أساس لديَّ معلوماتٌ قليلةٌ عنه. ومن المحفزات أيضًا كان اطلاعي المتزايد على التقنية النانوية الصاعدة في تسعينيات القرن العشرين، والتطبيقات المتنوِّعة لميكانيك الكَم في الحياة العصرية.

بالتأكيد أن ميكانيك الكم هو من أصعب مواضيع الفيزياء؛ لأنه يدرُس المواد وهي في حالتها الجُسيمية أو الذرية أو الجُزيئية؛ وهي حالات لا نتحسَّسها كما نتحسَّس الأجسام الكبيرة التي درسناها في الفيزياء التقليدية. علاوةً على غرابة الظواهر الكمومية التي تبدو مناقضةً للبديهة التي بنَينا أفكارنا على أساسها، ولكن بالنسبة لمتخصِّص البيولوجي أو بالحقيقة لمتخصِّصي العلوم الأخرى بل وحتى لغير المتخصصين، يكون الاطلاع على الظواهر الكمومية غايةً في الأهمية من أجل استكمال رؤيةٍ علميةٍ للكون والحياة؛ لأنها منبعُ كلِّ شيء؛ وعليه فإنني حاولتُ فهم الظواهر الكمومية للحد الذي تُمكِّنني أدواتي المعرفية، وكان تركيزي على النتائج والمناقشة والاستنتاج وليس الخوض في الاشتقاقات. والذي شجَّعني كثيرًا في هذا الاتجاه، هو الاطلاع الواسع والعميق الذي يُظهِره علماء الفيزياء والكيمياء والرياضيات والجيولوجي لمواضيع علوم الحياة ومواكبتهم لأدق التفاصيل البيولوجية. كما أن التغيُّر في استراتيجيات البحث العلمي من انعزال وتباعُد العلوم سابقًا إلى التقارُب والتداخُل وتشكيل فرق البحث المشتركة ومراكز البحوث المتعدِّدة الاختصاص، أمرٌ محفِّز لمعرفة تخصُّصٍ بعيدٍ ولكن مُشوِّق كميكانيك الكم. والأمر الأكثر دفعًا كان اطلاعي وإعجابي الشديد بمواضيع البيولوجيا الكمومية؛ التي وجدتُها صاعدةً وتتكامَل باستمرار.

ميكانيك الكَم أحد أعمق النظريات في العلم؛ فهو يصف الحقائق الغريبة لعالم الذرات والجُسَيمات تحت الذَّرِّية والتي تحكُمها الاحتمالات وليس الكميَّات المعروفة، وأفضى إلى الاختراقات الكبرى في تقنيات العصر الحديث (Simpson, 2018).
مع بداية القرن العشرين، وعند دراسته لما يُعرَف بإشعاع الجسم الأسود، وهو الإشعاع الذي يصدُر عن الجسمِ الصُّلبِ عند تسخينه، بيَّن ماكس بلانك (Max Planck) أن هذا الطيف ينتُج عن الطبيعة التجزُّؤية أو الفردانية لمستويات الطاقة بشكل كمَّاتٍ (Quanta)؛ فزيادة الطاقة الحرارية للجسم تؤدي إلى تذبذُب ذرات الجسم وإلكتروناتها. هذه الإلكترونات المتسارعة حسب معادلات ماكسويل ستشع طاقةً كهرومغناطيسيةً (ضوءًا). وكلما زاد التسخين، زاد تذبذُب الذرَّات، وزاد تردُّد الأشعَّة الضوئية الصادرة.

وسنة ١٩٠٥م أثبت آينشتاين أن الضوء هو سيل من الكمَّات، التي هي الفوتونات، وهذه عندما تصدم المادة تحرِّر الإلكترونات التي تكتسب كمَّاتِ الطاقة المحمولة بالفوتونات، والتي يمكن حسابها من العلاقة العامة:

حيث يشير n إلى مستويات الطاقة وf هي التردُّدات المميزة للتذبذُبات الداخلية وh هو ثابت بلانك. هذا أدى إلى تحوُّلٍ ثوريٍّ في الفيزياء بالافتراق عن ميكانيك نيوتن، واعتماد دالَّة الموجة لوصف ميكانيك الكم. وُضعَت معادلات أروين شرودنجر (Erwin Schrödinger) سنة ١٩٢٦م (للحالة غير النسبية) وباول ديراك (Paul Dirac) سنة ١٩٢٨م (وتتماشى مع النسبية الخاصة) لتطور دالَّة الموجة لوصف حركة الجُسيمات الأولية والذرات. حسب ميكانيك الكم فإن للأشياء مَظهرًا مَوجيًّا، ومَظهرًا جُسيميًّا فيما يُعرف بازدواجية الموجة-الجُسَيم. تُظهِر دالَّة المَوجة أن تحديد موقع الجسيم في الفضاء هو احتمالي، كما يمكن لدوالِّ الموجة أن تحيد وتتداخل معًا في حالة تراكُب،  (Superposition) ما يعني أن الجُسَيمات الكمومية تُوجد في حالات ومواقعَ متعدِّدة في المكان في الوقت نفسه. وعند إجراء الملاحظة أو القياس يتم التجسُّد بحالةٍ واحدة، وتنتهي حالة التراكُب الكمومي إلى حالةٍ تقليديةٍ في عملية تُعرَف بانهيار دالَّة المَوجَة أو فك التماسُك الكمومي  (Decoherence).
خاصيةٌ أخرى في ميكانيك الكم تُعرف بمبدأ عدم الدقة أو عدم اليقين (Uncertainty principle) الذي وضَعه ورنر هايزنبرغ (Werner Heisenberg) سنة ١٩٢٧م، والذي ينُص على عدم إمكانية الدقة عند إجراء عمليتَي قياس متتاليتَين لزوجٍ من المتغايرات المتتامَّة؛ فمثلًا لا يمكن تحديد موقع الجُسَيم وسرعته بدقة في الوقت نفسه، بينما يمكن تحديدُ أحد الخواصِّ بدقة دون الأخرى.
أظهر تطوُّر البحث في ميكانيك الكم أن مظاهره لا تقتصر على الجُسيمات دون الذَّرية، وإنما تمتد إلى منظوماتٍ متشكِّلة منها كالذرَّات والجُزيئات. وهكذا تصبح المنظومة المؤلَّفة من عدة جسيماتٍ لها دالةٌ مَوجيةٌ واحدة، تصف سلوكها الكلي وليست دوالَّ منفردة لكل مكوِّنٍ منها. هذا سيُنتِج ما يُعرف بالتماسُك الكمومي (Quantum coherence). وهنا ستفقد المكوِّنات الفردية ذاتياتها وتعمل المنظومة ككلٍّ واحد. وما إن تكون الجُسيمات أو مكوِّنات المنظومة في حالة تماسُكٍ كمومي، حتى تبقى مترابطةً فيزيائيًّا حتى بوجود الفواصل المكانية بينها. وهذا يفضي إلى أن عمليات المراقبة أو القياس لأحد المكوِّنات ستؤدي إلى انهيار دالَّة المَوجَة للمنظومة كلها، وستتأثَّر جميع المكوِّنات فورًا بغَض النظر عن موقعها في المكان. هذا التأثُّر عن بُعدٍ يُشار إليه بالتشابك الكمومي  (Quantum entanglement) غير الموضعي. عندما تتأثَّر مثل هذه المنظومة مع البيئة بطريقة ديناميكا حراريةٍ غيرِ متعاكسة، يحصُل فكُّ التماسُك (Decoherence). هذا يؤدِّي إلى أن المكوِّنات المختلفة للمنظومة والتي كانت في حالة تراكُبٍ كموميٍّ تفقد القدرة على التداخُل فيما بينها. وهكذا فإن إجراء التجارب الكمومية في مختبرات الفيزياء ومن موقع الحرص على إبقاء التماسُك الكمومي، تتم في درجاتِ حرارةٍ منخفضةٍ جدًّا، تقترب من الصفر المطلَق، وفي أجهزةٍ مفرَّغةٍ من الهواء، ومعزولة جيدًّا، لغرض استبعاد حصول فك التماسُك. لكن السلوك الإجمالي للمنظومات المتعددة المكوِّنات بيَّن إمكانية تحقُّق ظواهر ميكانيك الكَم في الأشياء الكبيرة؛ مثل البلورات والمغانط الحديدية وفي درجة حرارة الغرفة.

لقد امتد ميكانيك الكم بنجاح ليشمل المركَّبات والتفاعُلات الكيميائية وينشأ علم كيمياء الكَم. وتجلَّى هذا في الفهم الأفضل للأواصر الكيميائية خاصة التساهمية؛ التي هي مشاركة إلكترونات. وبالطبع ليست الكيمياء الحيوية بعيدة عن هذا المجال؛ حيث تلعب التفاعُلات الكيميائية ونشوء وتفكُّك الأواصر الكيميائية في المركَّبات العضوية، كما هو الحال في المركَّبات اللاعضوية.

بل إن التجارب المتكرِّرة بيَّنَت أن المنظومات المتعددة المكوِّنات وفي أوساطٍ مكتظةٍ بالجُزيئات مثل المنظومات البيولوجية، يمكن أن تُظهِر تجليات ميكانيك الكَم، وإن كان ذلك يتعرض للنقد والجدل حتى الآن (Hameroff et al., 2014).
حسب Sia et al., (2014) فإن ميكانيك الكَم يقدِّم النظرية الأصح مقارنةً بالنظريات التقليدية السابقة، التي تفسِّر سلوك المادة والطاقة. وإن الافتراق بين السلوك التقليدي والسلوك الكمومي يتوضَّح أكثر على المستوى المِجهَري.
يستند ميكانيك الكَم على أربعةِ مفاهيمَ أساسية: (١) جميع الأشياء في الكَون (من الجسيم المفرَد إلى الإنسان وحتى المجرَّة) يمكن وصفها جيدًا بمساعدة دالَّة المَوجَة الكمومية. (٢) وجود وسيلةٍ تُمكِّننا من تطوير دوالِّ الموجة هذه في الزمن هي معادلة شرودنجر. (٣) إن الكميات الفيزيائية المفتاحية بضمنها الطاقة والعزم الزاوي تتبدَّى بوحداتٍ فردانيةٍ هي الكمَّات  (Quanta). (٤) في لحظة الملاحظة أو القياس يقدِّم الشيء نتيجةً معيَّنةً حيث «تنهار دالَّة الموجة»، عندها لن تبقى ثمَّة حاجةٌ لدالَّة الموجة الاحتمالية لوصف المنظومة. تلك النتيجة تصبح حقيقةً تقليديةً متحققة.
بناءً على ما تقدَّم، فإن الوصف الاحتمالي للكون يتضمَّن: (أ) تتصرَّف المادة والطاقة إما بشكلٍ موجيٍّ أو بشكلٍ جسيمي، اعتمادًا على نوع الملاحظة. (ب) إن بعض خواص الشيء لا يمكن معرفتها بدقةٍ محدَّدة في اللحظة نفسها مثل معرفة موقع وعزم الجُسيم. هذا ما يُعرف بمبدأ «عدم الدقة» لهايزنبرج. (ﺟ) في اللحظة نفسها، يمكن أن تكون الأشياء في أكثر من حالةٍ واحدةٍ وهو ما يُعرف بالتراكُب الكمومي (Quantum superposition). لكن هذه ستزول فَور ملاحظة المنظومة أو إجراء القياس عليها.

لماذا تسلُك الأشياء سلوكًا مزدوجًا؟ السلوك العادي (التقليدي) المألوف في العالم الكبير (المستوى الذي نتعامل به كالتفاحة والكرسي والكرة … إلخ.) والسلوك الكمومي في العالم الصغير (مستوى الجسيمات والذرات والجزيئات). السبب هو أن الموادَّ الصُّلبة والسائلة (بما فيها الغازية) ومنها المواد التي نتعامل بها في محيطنا، تتألَّف من جُزيئاتٍ وذرَّات وجُسيمات، وهي تتحرك بفعل الحرارة بشكلٍ عشوائي. هذه العشوائية ستُدمِّر السلوك الموجي الذي تمتلكه هذه المكوِّنات (إذا ما تُركَت دون تشويش) والذي بدونه لا تتمكن من السلوك الكمومي (ظواهر التراكُب والتسرُّب والتشابُك). كمثال، عند رمي حجر في بُحيرةٍ ساكنةٍ ستتشكَّل موجاتٌ منتظمةٌ لها أطوالٌ موجيةٌ وتردُّدات وسرع وتأخذ بالاتساع. لكن في موضع اصطدامِ ماء الشلال بماء البُحيرة ستنشأ موجاتٌ كثيرة يُلغي بعضها بعضًا، ويُشوِّش بعضها بعضًا، ويضيع التماسُك الملحوظ في المثال السابق. هذا يحصل أيضًا عند المراقبة أو القياس لنفس السبب، وكذلك عند التآثُر مع البيئة بطريقةٍ غير متعاكسةٍ من ناحية الديناميكية الحرارية. العملية هنا مُكافِئة لفقدان المنظومة للمعلومات إلى البيئة.

من خواص ميكانيك الكم التي تؤدي إلى نشوء التعقيد هي التجزُّؤية (Discreteness) والاحتمالية (Probability).
التجزُّؤية تفرض أن تكون المنظومة (من أصغرها إلى الكون بأَكملِه) رقمية (Digital) وبالتالي فإنها ستكون بمثابة معالجِ معلوماتٍ على المستوى المِجهَري حيث تقلب البِتات. معالجة المعلومات تتم من خلال برامج التقلُّبات الكمومية العشوائية. المعلومة تنشأ كما مَرَّ ذِكْره، نتيجة التقابل بين حالتَين؛ موجب-سالب. ٠-١، مشحون-متعادل … إلخ. وكل عنصر من هذه يسجل بِتًا واحدًا من المعلومات. من بين الجُسَيمات الأولية التي يتكوَّن منها الكون ثمَّة عددٌ قليلٌ منها كالإلكترونات والبروتونات والنيوترونات والفوتونات تبقى لفتراتٍ طويلة. التآثر بين هذه الجُسَيمات في مدًى طاقيٍّ معيَّن سيؤدِّي إلى نشوء تعقيد بشكل عناصرَ أوَّلية، وهذه بدَورِها تتفاعل فيما بينها لتُنتِج جزيئاتٍ وموادَّ مختلفةً بدرجات تعقيدٍ متزايدة، وصولًا إلى التعقيد الأعلى الذي يتمثَّل بالمواد المظهرة للحياة.
على الرغم من أن العديد من عمليات ميكانيك الكم هي خطية و حتمية (Deterministic)، إلا أن بعضها تكون احتماليةً ويتم تحقُّق أحد الاحتمالات في الواقع التقليدي عند الملاحظة أو القياس أو الاتصال بالبيئة من خلال عملية فك التماسُك. وهكذا يرفدُ ميكانيك الكَم الواقع التقليدي بمعلوماتٍ عشوائيةٍ باستمرار؛ وعليه فإن التقلُّبات الكمومية وهذه المعلومات العشوائية هي مصدرُ التغايُر الذي هو أساسُ التطوُّر (Lloyd, 2008).

(١) الظواهر الكمومية Quantum phenomena

(١-١) ازدواجية الموجة-الجُسيم Wave-Particle Duality

الجسم، أي جسم، سواء كان جسم إنسان أو حصوة أو دقائق غبار أو جُزيئات أو ذرَّات أو جسيماتٍ تحت ذرِّية كالفوتونات أو الإلكترونات … إلخ. تتميَّز بكثافتها وتحرُّكها كوحداتٍ مركزة. أما الموجات كموجات الضوء والصوت أو أمواج البحر وغيرها فتكون منتشرة ويميَّز فيها طولُها وتردُّدها وسرعتُها. إنها نمط (Pattern) ينتج عن اهتزاز الجسم أو الجُزيئات أو المكوِّنات الذرية (Tegmark, 2017).
لقد اعتقد الإغريق أن الضوء جُسيمي، لكن تفسير تجارب نيوتن في البصريات في القرن السابع عشر استدعى أن يكون الضوء موجيًّا، واستمر هذا الاعتقاد مع ماكسويل الذي اعتبر كل الظواهر الإلكترومغناطيسية بأنها موجاتٌ ضوئية. مع نهاية القرن التاسع عشر لم يكن أمام ماكس بلانك في تفسيره لظاهرة إشعاع الجسم الأسود إلا افتراض أن يكون الضوء مؤلَّفًا من جُسيمات، سمَّاها بالفوتونات، وأن طاقتها تتناسب مع تردُّد موجاتها. وحسب ماكس بلانك فإن كل فوتون يحمل كميةً من الطاقة هي «الكم Quantum». وهكذا نشأت فكرة ازدواجية الموجة-الجسيم؛ فالموجة مرتبطة بالجسيم، والجُسيم تصاحبه موجة. الجُسيم يُوجد في الغالب حيث تكون الموجة كبيرةً (Lloyd, 2006).

(أ) تجربة الشق المزدوج Double-Slit Experiment

fig8
شكل ٢-١: تجربة الشقِّ المزدوج باستخدام الإلكترونات.
fig9
شكل ٢-٢: تداخُل الموجات البنَّاء والهدَّام.
fig10
شكل ٢-٣: تسليط أجسامٍ كبيرةٍ نسبيًّا مثل الرصاصات على حاجز ذي شقٍّ واحدٍ (يسار) أو شقَّين (يمين).
على الرغم من بساطة هذه التجربة فإنها تكشف الطبيعة الموجية للجُسيمات والأجسام الصغيرة. وحسب الفيزيائي المعروف Richard Feynman فإن تجربة الشق المزدوج تحتوي على كل غرائب ميكانيك الكم (Feynman et al., 1965).
تتم التجربة بتسليط ضوءٍ أحادي اللون (Monochromatic)، لتجنُّب تداخُل موجات بأطوالٍ موجيةٍ مختلفة، تُشوِّش التجربة كما هو حال الضوء الأبيض من مصدر على حاجزٍ يحتوي على شقَّين ضيقَين، يتم التحكُّم مسبقًا بعرضهما والمسافة الفاصلة بينهما. الضوء الذي سيخترق الشقَّين سيقع على شاشةٍ حساسةٍ للضوء، تقع خلف الحاجز بمسافةٍ مناسبة. عند مرور الفوتونات من كلا الشقَّين ستتكوَّن على الشاشة حزمٌ متبادلةٌ مضيئة، وداكنةٌ مختلفة الكثافات (شكل ٢-١). الحزم المضيئة تنشأ بسبب وقوع الفوتونات عليها، والحزم الداكنة دلالة على عدم وقوع الفوتونات على هذه المناطق من الشاشة. والسبب هنا يعود إلى تداخُل الموجات المارَّة من الشق الأيسر مع تلك المارَّة من الشق الأيمن، فإذا تطابقَت قمة الموجة وقعرُها من أحد الشقَّين مع قمة الموجة وقعرها من الشق الآخر، تكبرُ الموجة لحصول ما يُعرف بالتداخُل البنَّاء للموجتَين، وستكون الفوتونات موجودةً فيها وتكون نقطة سقوطها مضيئة. أما إذا تطابقَت قمة الموجة من أحد الشقَّين مع قعر الموجة من الشق الآخر، فسيحصل تداخُلٌ هدَّامٌ وستُلغي الموجتَان بعضهما ولا تتكوَّن موجة (شكل ٢-٢) وبذا لا تُوجد فوتونات وتكون قبالتها على الشاشة مظلمة. وإذا تم غلق أحد الشقَّين، فستظهر حزمةٌ واحدة بسبب عدم وجود تداخُل. وهكذا يتطلَّب التداخُل عبور الضوء من الشقَّين في نفس الوقت. هذه النتائج تنسجم مع البديهة التي نعرفها عن الفوتونات؛ كونها تسلك سلوك الجُسيم والموجة.
ماذا لو أجرينا التجربة بقذف أجسامٍ كبيرةٍ نسبيًّا كالرصاصات؟ فإذا أُطلقَت الرصاصات بوجود شقٍّ واحدٍ مفتوح، فإنها ستصطدم في الشاشة في منطقةٍ مقابلةٍ للشق المفتوح فقط. كما في الشكل ٢-٣ يسار. وإذا أُطلقَت الرصاصات بوجود الشقَّين مفتوحَين، فستصطدم الرصاصات بالشاشة في منطقتَين كلٌّ منهما مقابل أحد الشقَّين، دون حصول تداخُل كما هو متوقَّع؛ ما يؤكِّد أن الرصاصات لا تكون خلال مسيرها موجات (شكل ٢-٣ يمين).
الآن نُعيد التجربة بقذف إلكترونات بوجود شقٍّ واحدٍ مفتوح، ستظهر على الشاشة حزمةٌ واحدةٌ تُدلِّل على أن الإلكترونات سلكَت سلوك الرصاصات كجُسيماتٍ وليس كموجات، كما في الشكل ٢-٣ يسار. وعند تكرار التجربة بوجود الشقَّين مفتوحَين، سنحصُل على حزمٍ مضيئةٍ وحزمٍ داكنةٍ متبادلة كما في الشكل ٢-٣ ما يشير إلى أن الإلكترونات سلكَت سلوك الموجات حيث حصل التداخُل. الحالة الأخيرة تحصُل حتى لو تم قذف الإلكترونات بشكلٍ فرديٍّ (إلكترون واحد في كل مرة) مع وجود الشقَّين مفتوحَين؛ هذا يعني أن الإلكترون الواحد يمُر من خلال الشقَّين في نفس الوقت؛ هذه التجربة تُثبِت أن الإلكترونات يمكن أن تسلُك سلوكَ الجُسيمات وسلوكَ الموجات.

(١-٢) التماسُك وفكُّ التماسُك Coherence and Decoherence

لو أُعيدَت التجربة الأخيرة مع مراقبة مرور الإلكترونات من أحد الشقَّين المفتوحَين بوضع جهازٍ يتحسَّس الإلكترون، عند مروره من الشق الأيمن مثلًا. في هذه الحالة سيمُر كل إلكترونٍ إما من الشق الأيمن أو الشق الأيسر، وليس من الشقَّين في الوقت نفسه. وهكذا لن يحصُل تداخُل، وتُشكِّل الإلكترونات على الشاشة حزمتَين مضيئتَين فقط كلٌّ مقابل أحد الشقَّين. هنا سلكَت الإلكترونات سلوكَ الجسيمات أو السلوك التقليدي العادي. لو تَمَّ تكرار التجربة ولكن مع إيقاف تشغيل جهاز تحسُّس الإلكترونات، ستكون الإلكترونات حزمًا مضيئةً وداكنةً متبادلة هذه المرة، بسلوكها سلوكًا موجيًّا. في المرحلة الأولى عملية تحسُّس الجهاز لعبور الإلكترون من الشق تُشوِّش موجة الإلكترون وتُؤدي إلى (انهيارها) أو مركزتها، فتظهر بحالةٍ تقليديةٍ واحدة (متموضعة). التشويش هنا ينشأ من خلال مشاركة الجهاز معلومات الإلكترون. هذا الأمر لا يتعلَّق بحجم جهاز التحسُّس؛ حيث إن اصطدام الإلكترون حتى مع فوتون أو ذرة أو أي شيءٍ آخر صغيرًا كان أم كبيرًا، سيؤدي إلى تشويش دالَّة الموجة وانهيارها، ويحصل ما يُعرف بفَكِّ التماسُك. يمكن أن تُظهِر البروتونات والذرات والتكوينات الصغيرة مثل الجزيئات كما هي اﻟ Buckyballs وهي جزيئاتٌ نانوية مؤلَّفة من ٦٠ ذرة كاربون، السلوكَ الجُسيمي الموجي المزدوج. لكن مع زيادة كبر الأشياء تصعُب هذه العملية؛ حيث إنها لم تنجح مع البكتيريا التي تكبر اﻟ Buckyballs بمائة مرة؛ لهذا السبب تُجرى تجربة الشق المزدوج في جوٍّ مفرَّغ من الهواء. وللسبب ذاته لا تتمكَّن الأجسام الكبيرة كالحيوانات أو الإنسان من التواجُد في أكثر من مكان في الوقت نفسه؛ فلكونها مؤلَّفة من عددٍ هائلٍ من الذرَّات، وفي بيئةٍ تعجُّ بأعدادٍ أكبرَ من الذرات، سيحصُل تشويشٌ كبيرٌ يؤدي إلى انهيار موجات الجسم فورًا؛ وبالتالي سيتَمركَز في حالةٍ واحدةٍ أو مكانٍ واحدٍ وهو الحالة التقليدية (Lloyd, 2006).
التماسُك الكُمومي (Quantum coherence) هو ترابُط الأشياء شبه الموجيَّة، وهو كمِّيةٌ احتماليةٌ مكثَّفة محفوظة (Dannenberg, 2008). والتماسُك هو ما يحفظ علاقاتِ الطور الحسَّاسة بين مختلف مكوِّنات دالَّة الموجة. وحسب Briegel & Popescu (2014) فإن الحالة الكمومية تبدأ بالتماسُك.
fig11
شكل ٢-٤: الموجات في زمنٍ معيَّنٍ وكدالَّة للمسافة. (a) عديدة اللون (Polychromatic)، ضوءٌ غير متماسكٍ يتضمَّن بضعةَ أطوالٍ موجية. (b) ضوءٌ أحادي اللون (Monochromatic) يتألَّف من موجاتٍ عشوائية الطور؛ زمانيًّا متماسكة لكن مكانيًّا غير متماسكة (طول قليل التماسُك). (c) ضوءُ الليزر؛ متماسكٌ مكانيًّا وزمانيًّا وطولٌ عالي التماسُك. عن Madl & Egot-Lemaire (2015).
التماسُك يشير إلى ثبات أو توقُّع طَور الموجة، أو فرق طورٍ ثابتٍ بين موجتَين مع الوقت. والموجات تكون في الطَّور إذا كانت قممُها وقيعانُها تتطابق على مكانٍ وزمانٍ معيَّن. وهكذا تكون الموجاتُ متماسكةً إذا كان لها التردُّد نفسه وفرق طورٍ ثابت. وكمثالٍ بارزٍ ضوء الليزر الذي يُظهِر التماسُك المكاني والزماني كما في الشكل ٢-٤. ولكن حتى الضوء المتعدِّد اللون يمكن أن يكون متماسكًا إذا كانت التردُّدات المختلفة مقترنةً حيث تُظهِر درجةَ حريةٍ واحدة (Madl & Egot-Lemaire 2015).
غير أن تآثُر المنظومة الكمومية مع البيئة سيفُك تماسُك دالَّة الموجة مؤديًا إلى انهيارها؛ فضوضاء البيئة تشوِّش أطوار المنظومة الكمومية. وما إن يُفَك تماسُك المنظومة الكمومية حتى يتصرَّف كمنظومةٍ تقليدية (Davis, 2008).
إن ما يُميِّز العالم التقليدي عن الحالة الكمومية هو الوجود الموضوعي؛ فالحالات التقليدية والتي نتعامل معها في الحياة اليومية يمكن إيجادها عن طريق القياس دون تشويشها بسبب عملية الملاحظة أو القياس. على عكس ذلك، فإن محاولة اكتشاف الحالة الكمومية عن طريق القياس سيؤدي إلى انهيارها؛ وبالتالي انهيار الحالة الكمومية للمنظومة المتماسكة والتي ستتصرف أو تُظهِر الحالة التقليدية (العادية) وستكون الحالة بعد القياس هي ما وجدَه المراقب، والتي غالبًا ما لا تكون هي ذاتها قبل عملية القياس (Ollivier, et al., 2004).

إن تحقُّق الظواهر الكمومية في المنظومة يتطلب أن يكون زمن تحقيق التماسُك لها أقصر من زمن تحقيق فك التماسُك؛ كأن يكون زمن تحقيقِ التماسُك بمقياس الفمتوثانية أو البيكوثانية، وزمن تحقيقِ فك التماسُك بالنانوثانية أو الميكروثانية أو أكثر.

العوامل المحدِّدة لزمنِ فك التماسُك حسب معادلة زوريك هي: (١) الكتلة أو عدد الجُسيمات في المنظومة المتماسكة كموميًّا؛ فكلما زادت الكتلة أو عدد الجُسيمات، يقصُر زمنُ فكِّ التماسُك أو يعجل حصول فكِّ التماسُك. إن زمن فك التماسُك يقصُر مع مربَّع الكتلة، فإذا زادت كتلة الجسم ١٠ أضعاف، قصر زمنُ فكِّ التماسُك ١٠٠ مرة، وإذا زاد مليون مرة، قصر زمن فك التماسك ترليون مرة. هذا يفسر عدم إمكانية تحسُّس الظواهر الكمومية في الأجسام الكبيرة، التي نتعامل معها يوميًّا. (٢) الإزاحة بين الحالات الكمومية؛ فكلما كبرَت المسافة بين المواقع المتبادلة للجُسيمات، قصر زمنُ فك التماسُك. (٣) درجة الحرارة؛ فكلما زادت درجة الحرارة، قصر زمنُ فك التماسُك. (٤) المرونة؛ فكلما زادت صلابة المنظومة، طالت فترة تماسُكِها، وزاد زمن فك التماسُك، والعكس صحيح. هذه العوامل تحصُل في المنظومات البسيطة جدًّا. أما في المنظومات الكبيرة ومنها الكائنات الحية، فإن التماسُك الكمومي يمكن أن يحصُل على مستوى الجُسيمات والذرَّات والتراكيب النانوية فيها كما سيتضح في الفصول القادمة.

(١-٣) التراكُب Superposition

التراكُب والاحتمالية هما مبدآن أساسيان في ميكانيك الكم. والتراكُب يعني إمكانية جمع أيِّ حالتَين كموميتَين أو أكثر لتنتُج حالةٌ كمومية، أو أن الحالة الكمومية يمكن أن تكون مجموع حالتَين كموميتَين أو أكثر.

هنا تقوم الجُسيمات بعمل شيئَين أو أكثر (مئات أو ملايين) في الوقت نفسه. هذا يمكِّن المنظومة الكمومية من إنجاز أعمالٍ خارقةٍ مقارنةً بالمنظومة التقليدية. هذه الظاهرة مكَّنَت من ظهور التعقيد الذي نراه في مواد الكون؛ فمن مادةٍ بسيطةٍ كانت تملأ الكون في بدايات تكوُّنه بشكل ذرات الهيدروجين فقط إلى نشوء عنصر الهيليوم (تتألف نواته من بروتونَين ونيترونَين) إلى العناصر المتدرِّجة في التعقيد كالكاربون والأوكسجين والكبريت، ومعظم عناصر الجدول الدوري التي يتألَّف منها الكون الحالي.

حسب ميكانيكا الكم، فإن وجود عدة بروتونات (موجبة الشحنة) في النواة يقتضي تحوُّل بعضها إلى نيوترونات (متعادلة الشحنة)، كما أن وجودَ مزيدٍ من النيوترونات يحتِّم تحوُّل بعضها إلى بروتونات؛ بحيث يكون عدد البروتونات مساويًا تقريبًا لعدد النيوترونات، والتي ستُشكِّل الوزن الذري حيث الإلكترونات واطئة الكتلة ويمكن إهمالها. من المعروف أن العامل الحاسم الذي يحدِّد طبيعة العنصر (خواصه الكيميائية) هو عدد البروتونات وبالتالي عدد الإلكترونات المساوي له (العدد الذري). وإذا كان للعنصر العدد الذري نفسه ولكن الوزن الذري مختلف، كأن تكون النواة تحتوي على نيوترون واحد أو أكثر زيادة عن عدد البروتونات، فهذه ستكون نظائر (Isotopes) للعنصر. للبروتون والنيترون نمطان مختلفان من البَرم المغزلي (Spin) الذي يمكِّنهما من الترابُط معًا. يُشبِّهُهما McFadden & AlKhalili (2014) برقصة الفالس الحميمية البطيئة، ورقصة الوينغ السريعة. الشيء الذي يمكِّنهما من الارتباط هو قيامهما بكلا النوعَين المختلفَين من البرم في الوقت نفسه، من خلال ظاهرة التراكُب، بدون هذه الظاهرة لا يمكن للبروتونات والنيوترونات من الالتصاق معًا في النواة. أمثلةٌ أخرى تشمل وجود الجُسيم في أكثر من مكانٍ في نفس الوقت، واتخاذ المعلومة لقيمٍ مختلفةٍ في نفس الوقت كما في الكومبيوتر الكمومي.

(١-٤) التسرُّب Tunneling

هذه الظاهرة الكمومية تتمثل في قدرة الجُسيمات تحت الذرية، مثل الإلكترونات والبروتونات، على اختراق حاجز الطاقة بفعل السلوك المَوْجي للجُسيم. هذا الفعل يُشبِه إلى حدٍّ ما اختراقَ الجدار. تعتمد هذه الظاهرة على مبدأ عدم الدقة؛ حيث ثمَّة عدم إمكانية تحديد موقع الجُسيمات الخفيفة، ما يسمح لها بكسر قواعد الميكانيك التقليدي ولو باحتماليةٍ قليلة، والتحرُّك في الفضاء دون الحاجة للعبور من فوق حاجز الطاقة بل التسرُّب من خلاله (شكل ٢-٥).
fig12
شكل ٢-٥: رسمٌ تخطيطيٌّ يوضِّح التسرُّب الكمومي. في الحالة التقليدية (أعلى) لا يتحقَّق التسرُّب الكمومي، وفي الحالة الكمومية (أسفل) يتحقَّق التسرُّب الكمومي.
fig13
شكل ٢-٦: تصوير الذرَّات بمِجهَر التسرُّب الماسح (يسار) حيث تظهر الذرات المفردة كجُسيمات (يمين).

إن ظاهرة التسرُّب من بين أمورٍ أخرى هي الأساس في إنتاج الشمس للطاقة؛ فذَرَّة الهيدروجين تتألَّف من بروتونٍ واحدٍ يُشكِّل النواة التي يدور حولها إلكترونٌ واحد. وبفعل الكتلة الهائلة للشمس (أو أي نجمةٍ أخرى) يتولَّد ضغطٌ عالٍ جدًّا، وبالتالي حرارةٌ عاليةٌ جدًّا في مركزها يُجبِر نوى ذرَّات الهيدروجين من خلال التصادُم على الاندماج. لكن الشحنة الموجبة المتماثلة للنواتَين تتنافران بعد اقترابهما الشديد من بعضهما، ويُشكِّل هذا حاجزَ طاقة. هنا تعمل ظاهرة التسرُّب؛ حيث يتصرَّف البروتون كموجة ويخترق حاجز الطاقة ويحصُل الاندماج، مُزيحًا طاقةً كبيرةً ستشع بشكلِ ضوء وحرارة. إن الاحتمالية المنخفضة لحصول عملية التسرُّب للبروتونات تفسِّر حصول الاندماج النووي التدريجي في قلب الشمس وطول عمر الشمس. لكن الاشعاع الهائل للشمس يرجع إلى الأعداد الهائلة للبروتونات المتصادمة.

ومن الظواهر التي يلعب فيها التسرُّب دورًا مهمًّا هي التحلُّل الإشعاعي للمواد المُشعَّة مثل اليورانيوم، والتي تنطلق من نواها غير المستقرة جُسيمات وطاقة، لتتحول إلى عناصرَ أكثرَ استقرارًا. كما أن للتسرُّب تطبيقاتٍ في فيزياء المواد الصلبة وعمل الدايودات.

هذه الظاهرة تعمل مع الإلكترونات والبروتونات، والفرصة تكون أكبر كلما قلَّت كتلة الجُسيم والمسافة الفاصلة. ثمَّة عددٌ من الحالات المهمة التي تعمل فيها هذه الظاهرة، كما سيأتي شرحه في الكائنات الحية، ومنها عمل الإنزيمات وجُزيئات DNA وحاسة الشم وغيرها.
وكتطبيقٍ لهذه الظاهرة اختُرع المِجهَر النفقي الماسح (Scanning Tunnelling Microscope) وصار بالإمكان تصوير الذرات المفردة بواسطته؛ حيث يتم تقريبُ طرفٍ معدني، دقيق، مدبَّب بمسافةٍ صغيرةٍ جدًّا من السطح المراد تصويره، فإذا كان ثمَّة فرق جهد بين طرف المعدن والسطح، فإن بعض الإلكترونات ستتسرَّب عَبْر الفراغ بين القطب والسطح، وتكون شدة التيار مُتأثِّرةً جدًّا بالمسافة الصغيرة للفراغ، حتى وإن كان بارتفاع ذرةٍ واحدة، وبذلك سيتم تصوير طوبوغرافية السطح على مستوى الذرَّات (أي يمكن تصوير الذرَّات المفردة) (شكل ٢-٦).

(١-٥) التشابُك Entanglement

فوتونات الضوء المتشابكة في الطاقة والزمن، لا تقتصر على الأبعاد الصغيرة (الذَّرية أو الجُزيئية) ولكن تتعدَّاها إلى الأبعاد الكبيرة؛ فالتشابك الكمومي هو ظاهرةٌ فيزيائية تحصُل عندما تتولَّد أو تتآثر أزواج فوتونات (جُسيمات) الليزر بطُرق؛ حيث لا يمكن وصف الحالة الكمومية لكل جُسيمٍ بمعزل عن حالة الجسيم الآخر، حتى لو كانت المسافات الفاصلة بينهما كبيرة. وهكذا يتوجَّب وصف الحالة الكمومية للمنظومة ككل. وظاهريًّا يبدو وكأن أحد الزوجَين المتشابكَين «يعرف» أن ثمَّة عمليةَ قياسٍ تجري على الزوج المتشابك الآخر، ونتيجة القياس أيضًا على الرغم من انعدام وسيلة اتصال لنقل المعلومات بينهما، وتفصلهما حينها مسافاتٌ شاسعة. لقد أطلق آينشتاين على هذه الظاهرة التي لم يكن متحمِّسًا لها ﺑ «الشبحية عن بعد».

التشابُك هو التناسُق غير الموقعي، أو عن بُعد بين المنظومات الكمومية المتمايزة. وحسب تعبير شرودنجر في مناقشته لمفارقة آينشتاين-بودولسكي-روزن (EPR) كما ينقله Whaley et al., (2011) «أن التشابُك الكمومي هو الخاصية المميزة لميكانيك الكم، والتي دفعَته إلى المغادرة التامة لخطوط التفكير التقليدي.» وهذه الظاهرة هي كموميةٌ خالصة حيث إنها على خلاف التطوُّرات شبه الموجية ليس لها مشابهٌ تقليدي؛ فالعلاقات غير الموقعية تنشأ عن تركيب الحالات الكمومية للمنظومة المتكاملة؛ فهذه العلاقات الكمومية في المنظومة المتشاكلة هي مستقلة عن الفصل المكاني للمكوِّنات، وبذلك فهي في معنًى معيَّنٍ يبدو على أنها تسلك كمنظومةٍ واحدةٍ ما يؤدي إلى انتهاك الحقيقة الموقعية (البديهية) وهو ما أدى إلى مفارقة (EPR). ومن منظور المعرفة، تمثِّل حالة التشابُك الخالصة للمنظومة المتشاكلة معرفةً قُصوى حيث تكون إنتروبي (شواش، وتُقابِل الجهل) فان نيومان صفرًا. وكما يعبِّر عنها شرودنجر «إن المعرفة الممكنة الأفضل للكل لا تتضمن بالضرورة المعرفة الممكنة الأفضل لأجزائه.» وفي الوقت الحاضر تعدَّت دراسات التشابُك الحالات الثنائية المكوِّن لتشمل التشابُك في المنظومات المتعدِّدة المكوِّنات بما فيها المنظومات البيولوجية.
حالة التشابك تزيد من قدرات معالجة المعلومات للمنظومات الكمومية لكنها حسَّاسة جدًّا. عند حصول تشابُكٍ بين جُسيمَين يمكن أن يحصُل تشابُكٌ مع جُسيمٍ ثالث أيضًا، لكن يفقد التشابُك بين الجُسيمَين الأولَين وهكذا. ولغرض دراسة هذه الظاهرة في الفيزياء يتوجب استخدام جهازٍ معزولٍ ومفرَّغٍ تمامًا، ودرجةِ حرارة منخفضةٍ جدًّا. غير أن هذه الظاهرة، وعلى عكس التوقُّع، يمكن أن تحصُل في المنظومات البيولوجية على المستوى الجُزيئي في ظل قوانين ميكانيك الكَم. السبب في ذلك أن المنظومة البيولوجية منظومةٌ مفتوحة بعيدة عن حالة التوازن الحراري، وتكون قادرة على تصحيح الأخطاء الكمومية كحالة فقدان التشابُك. إن التماسُك هو بداية الحالة الكمومية. والتشابُك هو قمتُها Briegel & Popescu (2014).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤