في ليلة ممطرة

كان أول يوم من إجازة نصف السنة يبشر بطقس صحو … فقد بكَّرت الشمس في اليقظة وبرَزت إلى العالم تنشُر الدفء … ومعها استيقظت الطيور … والزهور و«لوزة».

نزلت المُغامِرة الصغيرة إلى حديقة «الفيلا» تجري في مرح … وكان أمامها ثلاث ساعات تقضيها وحدها قبل أن يصلَ بقيةُ المُغامِرين لعقد أول اجتماع لهم منذ فترة طويلة … لم يكن الاجتماع لبحث لغزٍ أو مُتابعة شيء في مغامَرة … إنما لوَضعِ خطَّة لقَضاء الإجازة.

لقد أدَّوا جميعًا واجبهم في أثناء النِّصف الأوَّل من العام الدراسي في عمل جاد متصل … وأصبح من حقِّهم أن يرتاحوا وأن يسافروا إذا تمكنوا؛ فقد وافقت أُسَرهم جميعًا على إعطائهم حرية قضاء الإجازة كما يحبون.

بعد أن قضت «لوزة» نحو نصف ساعة شعرت بالجوع، فأسرعَت عائدةً إلى «الفيلا»، وجلسَت تتناول إفطارها … ودخل عليها شقيقها «عاطف»، وهي في جلستِها فقال: صباح الخير … هل سمعت آخر نكتة؟

رَدَّت «لوزة» في دهشة: صباح النور، لقد كنت معك حتى وقتِ النوم، وأنا أحفظ كلَّ النِّكات التي تعرفها … فمن أين جئتَ بالنكتة الجديدة؟

عاطف: لقد حلمتُ بها!

وجلس «عاطف» يَلتهِم طبق المربى الصغير، وقال: اسمَعي … سقط بوَّاب عمارة …

وقبل أن يُكمل جملته ظهر والدُه ووالدته فسكت، فقال والده بعد أن بادلهما تحية الصباح: نُكتة جديدة … أم مغامرة جديدة؟

لم يردَّ «عاطف» فقد شعر بالخجل، ولكن «لوزة» قرَّرت أن تُحرجه، فقالت: نكتة جديدة!

ابتسم الوالد وقال: إذا كانت نُكتة «مُضحِكة» فسوف تَفتح شهيتنا للطعام!

قالت الأم باسمة: في هذه الحالة لا داعيَ للنكت … وإلا قضيتُم على تموين البيت!

عاد الوالد يقول: احكِ يا «عاطف».

أحسَّ «عاطف» بالحرج، وقال: إنها ليست نكتة جيدة يا أبي.

الأب: لا بأس … قلها وأمرنا إلى الله.

نظر «عاطف» إلى «لوزة» بضيق، فتظاهرت أنَّها مُنهمِكةٌ في تناول إفطارها؛ ورشف «عاطف» رشفةً من كوب الشاي، وقال: سقط بواب عمارة على السلم، وذهب للطبيب فكشَف عن إصاباته ثم كتَب له دواء وقال له: ادهن مكان الإصابة.

وسكت «عاطف» لحظات ثم قال: وذهب البواب فدهن سلَّم العمارة!

وانطلق الأب والأم يَضحكان بشدة … واضطرَّت «لوزة» إلى الضحك هي الأخرى؛ فقد أعجبتها النكتة … وانتهز «عاطف» هذا الانتصار، وقال لوالده قبل أن يكفَّ عن الضحك: بالمناسبة يا أبي … لقد بدأت إجازة نصف السنة … ونرجو أن تزيد من مصروفنا … فقد نضطرُّ إلى رحلة قصيرة أو نزهة.

قال الأب وهو يُنهي ضحكته: لا مانع.

ومضى الإفطار في جو من المرح بعد نكتة «عاطف»، وعندما انتهى الجميع خرج «عاطف» و«لوزة» إلى الحديقة، فوجدا «نوسة» تجلس وحدها، وقد انهمكَتْ في قراءة صحف الصباح.

أسرعت «لوزة» إليها وقالت: أخبار جديدة؟

ردت «نوسة»: أي نوع من الأخبار يهمك؟

لوزة: وهل هذا سؤال … ألغاز … مغامَرات.

نوسة: لا أخبار ولا مغامرات … سوى أنَّ هناك احتمالات سقوط مطر في المساء.

ووصل «تختخ» ومعه «محب» … يتبعهما «زنجر»، وبدأ المغامرون الخمسة اجتماعهم.

قال «تختخ»: لقد سافر والدي ووالدتي إلى عمي لقضاء الإجازة في الأقصر، وقد ضَحَّيتُ بهذه الرحلة الممتعة من أجل البقاء معكم … فماذا تقترحون لقضاء إجازة سعيدة؟

وارتفعت الأصوات باقتراحات كثيرة … ولكن لم يستقر الرأي على أي اقتراح … وفجأةً قالت «نوسة»: إنني لم أذهب إلى دار الخيَّالة منذ بداية العام الدراسي … وقد قرأتُ في الصُّحف عن فيلم «رحلة في أعماق البحر» … وهو من الأفلام ذات الطابع الثقافي التي تُعجبني … وقد قررت أن أبدأ إجازتي بمشاهدة هذا الفيلم الليلة في حفلة السادسة مساء.

عاطف: ولماذا لا تدخلين حفلة الساعة الثالثة؟ فهذا أفضل لكِ!

نوسة: عندنا ضيوف مدعوون للغداء، ولا بد من بقائي، لأنَّ بينهم بعض صديقاتي في المدرسة.

تختخ: سأدخل معك السينما يا «نوسة»، ولنؤجل اجتماعاتنا حتى صباح الغد … وانفض اجتماع الأصدقاء بأسرع مما توقَّعَت «لوزة» التي بدت حزينة لأن الاجتماع انتهى بقرار سخيف هو دخول «السينما» … فقالت: إنني لن أدخل السينما، سأبقى في البيت.

ولم يُعلِّق أحد … غير أن «تختخ» ابتسم، وهو ينظر إلى «لوزة»؛ فقد كان دائمًا يُعْجَبُ بروحها المتوثِّبة ورغبتها الدائمة في الحركة.

وفي الخامسة كان «تختخ» و«نوسة» يأخذان طريقهما إلى محطة المعادي … حيث وقفا فترة في انتظار القطار العائد من حلوان إلى القاهرة … وفي السادسة إلا ربعًا كانا يقفان أمام دار السينما، وكالعادة اشترى «تختخ» كمية رهيبة من السميط والجبن لالتهامها في أثناء مُشاهدة الفيلم … وهذه عادة لم تكن «نوسة» تحبُّها … ولكن …

كان الفيلم خيَاليًّا عن مُغامرة في قاع المُحيط، تقوم بها غَوَّاصة أبحاث وما تعرض له العُلماء والمهندسون في الغَوَّاصة من صنوف المتاعب بين أسماك البحر الغريبة، والانهيارات الأرضية في أعماق المحيط … ولعل المتاعب التي لاقاها رُكَّاب الغواصة لم تكن تزيد عن المتاعب التي لاقاها «تختخ» و«نوسة» … عندما خرجا من السينما، لقد كانت السماء تُمطِر بشدة، والنَّاسُ يَجرُون، كل واحد يبحث عن وسيلة توصله إلى منزله، السعداء ركبوا السيارات … وغيرهم جروا في كل اتجاه بحثًا عن سيارة أجرة.

وقف «تختخ» و«نوسة» بجوار السينما لعلَّ المطر يخفُّ قليلًا، ولكنَّ المطرَ كان يَزْدَادُ شِدَّة بين لحظة وأخرى، وبدأت المحلات تُغْلِق أبوابها، ولم يَعُد أمامهما إلا أن يُسْرِعَا بالجرْي إلى محطة باب اللوق ليستقلَّا القطار إلى المعادي، وبرغم أنهما حاوَلا على قدر الإمكان الاحتماء بمظلات المحلات التي مرَّا بها، فإنَّهما تعرَّضا كثيرًا لسيل المطر المُتدفِّق … وتعرضا أكثر للانزلاق على الأرض الزلقة، وعندما وصلا إلى محطة باب اللوق كانت «نوسة» ترتجف من البلل، أمَّا «تختخ» فقد حمتْه سِمنتُه من الإحساس بالبرد.

واستقلا القطار إلى محطة المعادي، ولحُسنِ الحظ لم يكن مُزدحمًا، فجلَسا يتحدَّثان عن الفيلم، وعن هذه الليلة الباردة. ووصَلا إلى محطة المعادي، ونزَلا على الرَّصيف، وكانا يأمُلان ألا يكون المطر قد أغرق المعادي كما فعل بالقاهرة، ولكنَّهما فُوجئا بالمطر أشد، ووقفا تحت مظلَّة المحطة، وكلٌّ منهما يُفكر في الشوارع الخالية التي سيقطعها في الطريق إلى منزله تحت المطر.

وفجأةً شاهدت «لوزة» بجوار أحد مقاعد المحطة قدمًا صغيرة حافية تبرز وحدها، وأحسَّت برعدة تسري في بدنها … مَنْ هذا النَّائم على الأرض تحت المقاعد؟ وأدارت وجهها، ولكن هذه القدم الوحيدة شدَّتْها مرة أخرى فأعادت النَّظر، وتأكَّدَت أنَّها قدم بشرية لولد أو فتاة في السابعة أو الثامنة من عمره … وفكَّرت … هل هو ميت؟

وهَزَّت «نوسة» كتف «تختخ» الذي كان ينظر إلى المطر مُفكِّرًا … ثم أشارت إلى القدم الصغيرة الحافية … وحدق «تختخ» حيث أشارت «نوسة» ثم اقترب من الكرسي، وثنى ركبتيه ونظر تحته … ووجد عينَين صغيرتين تبرقان في الظلام! وظَلَّ «تختخ» لحظات ينظر إلى الجسد الصغير المُمدَّد على الأرض، ثم قال له: ماذا تفعل هنا؟

لم يردَّ الولد ذو الثياب المُهلهلة، بل جذب ساقه إلى صدره، وانكمَش مثل قط خائف.

فعاد «تختخ» يقول: مَنْ أنت؟ هل أنت من المعادي؟

ولم يردَّ الولد بل زاد انكِماشًا، ولاحظ «تختخ» أنَّ هناك عينَين أُخريَين بجوار الولد الصغير تَلمعان … ثم سمع مواء قطة صغيرة فقال للولد: اخرج … سأُعطيك قرشًا، ولكن للمرة الثالثة اشتد انكماش الولد، وازدادت دهشة «تختخ»، واستطاع «تختخ» أن يَلمح في عينيه نظرة رُعب وفزع، وهو يتمسَّك بالقطة الصغيرة التي بدت مثله نحيلة جائعة، لم يجد «تختخ» بدًّا من أن يمدَّ يده ليجذب ذراع الولد الصغير … فقد أحسَّ برغبة شديدة في أن يَعْرِف ماذا يفعل في هذا المكان، ولماذا هو خائف هكذا؟!

وحاول الولد أن يُقاوم، ولكن ذراع «تختخ» القوية جذبتْه خارج مَكمنِه البارد.

ونظرت «نوسة» إلى الولد، وأفزعها هزاله الشديد … وثيابه الممزَّقة التي كشفت عن عظامه الرقيقة … وأحسَّت بأنها ستبكي ألمًا له، ومَدَّت يدها بسرعة في كيس نقودها وأخرجت كل ما معها ومدَّت يدها به إلى الولد الصغير.

قال «تختخ»: شيءٌ مُدهشٌ! ماذا يفعل هذا المسكين في هذا المكان … في مثل هذه الساعة … في هذا المطر؟

والتفتَ إلى الولد الذي كان ما زال يُقاوم وقال له: لا تخف … إنني صديقك وأحاول مساعدتك.

لم يردَّ الولد، ولكنه أخذ يُتابع حركات وجه «تختخ» … وبدا عليه قدرٌ من الاطمئنان، وبخاصة عندما شاهد يد «نوسة» الممدودة إليه بالنقود.

قال «تختخ»: ما رأيكِ يا «نوسة»؟

نوسة: لا أدري … لماذا لا يرد؟

نظر «تختخ» إلى الولد الصغير طويلًا ثم قال ﻟ «نوسة»: سنأخذُه معنا!

نوسة: إلى أين؟

تختخ: إنَّ والدي ووالدتي ليسا في المنزل … ولو كانا هنا لما تردَّدا في قبوله ضيفًا، هو وقطته الصغيرة علينا في هذه الليلة الباردة …

وأمسك «تختخ» بالولد في يده، وسحبه خلفه، واستسلم الطفل الخائف ليد «تختخ» الدَّافئة … ومضى خلفه وهو يحتضن قطته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤