مشكلة الأخرس

أوصل «تختخ» «نوسة» إلى منزلها، واتفقا على اللقاء مع بقية المغامرين عنده في الصباح، ثم أسرع إلى منزله يجرُّ خلفه الولد النَّحيل الخائف، تحت سيل المطر الجارف.

وفتح «تختخ» باب «الفيلا»، ودخل وأضاء النور وألقى نظرة شاملة على ضيفه المتشرِّد وقطته الصغيرة، كان أسمر اللون، أسود الشعر … واسع العينين تبرز عظامه من ثيابه الممزقة، ويبدو على وجهه رُعب غير مألوف … وقال له تختخ: أنت لم تأكُل منذ فترة؟

لم يردَّ الولد، بل أخذ يُراقب وجه «تختخ»، وقال له «تختخ» وقد بدأ يَتضايق: لماذا لا تتحدث؟ إنني أُريد أن أعرف لماذا كنتَ تختبئ تحت المقعد الحجري في المحطة … ولماذا أنت خائف هكذا؟! تكلَّم.

ولم يردَّ الولد … وفجأةً أدرك «تختخ» أنَّ الولد أخرس … وأصم … وأنه يُراقب تعبيرات وجه «تختخ» … ليفهم ما يُريد …

وفكر «تختخ» قليلًا ثمَّ تذكَّر بعض معلومات عن كيفية التفاهُم بالإشارة كان قد قرأها، وحاول أن يُطَبِّقها مع الضيف الصغير، فأشار «تختخ» إلى فمِه … ثم حَرَّك إصبعه يمينًا ويسارًا يُريد أن يقول للولد بلغة الخُرس إنه لم يأكل … وأحنى الولد رأسه موافقًا.

أسرع به «تختخ» إلى الحمَّام … وأدار صنبور الماء الساخن ثم أشار إليه أن يستحم حتى يُعِدَّ له بعض الطعام … وأسرع «تختخ» إلى دولابه وأحضر بعض ملابسه … وعاد إلى الحمَّام حيثُ كان الولد قد بدأ يَخلع أسماله البالية، ووضع الملابس أمامه وأشار إليه أن يلبسها.

وذهب «تختخ» إلى المطبخ، فأعَدَّ وجبة ساخنة من البيض والبسطرمة … وطبقًا من الفول، وأخرج خبزًا وجبنًا وزيتونًا، ثم وضع إبريق الشاي على النار.

وغَيَّر «تختخ» ثيابه، ثم ذهب إلى الحمَّام ودَقَّ الباب، ثم دفعه ودخل ففاجَأه منظر مُضحِك … الولد النحيل وقد غرق في ثيابه الواسعة، يقف ساكنًا في وسط الحمام بعد أن مسحَ البلاط … وهو يُمسك بالقطة الصغيرة على صدره.

كان منظرُه يبعث على الحزن والضحك في الوقت نفسه … واضطر «تختخ» إلى الابتسام ثم قاده مُسرعًا إلى المطبخ، ووضع أمامه الطعام، ولم يَنتظِر الولد دعوة بل انقضَّ على الأكل كالمجنون، وأخذ يلتهم كل شيء أمامه، ولا ينسى في الوقت نفسه أن يَضع لقطته الصغيرة ممَّا يأكلُه.

واستطاع «تختخ» أن يأكُل بضع لقيمات من الجبن والفول، وترك الباقي للولد الجائع الذي انهمك في الأكل كأنه لم يَذُق طعامًا منذ أسبوع.

وعندما انتهى المتشرِّد الصغير من طعامه … جلس هادئًا، وقد بدَت على وجهه علامات الرِّضا … واختفت من عينيه علامات الفزع … وبدأ «تختخ» يُعِدُّ له كوب الشاي، ويستحضر في ذهنه ما يعرفه من إشارات للتفاهُم مع الأخرس الصغير.

ولكن عندما التفَتَ «تختخ» إليه وفي يده كوب الشاي كان في انتظاره مفاجأة: إنَّ الولد الصغير … في ثياب «تختخ» الواسعة، كان قد أغمض عينَيه ونام وهو جالس على كرسيه …

وحار «تختخ» لحظات … ماذا يفعل؟ ثم تقدم من الولد الصغير وحمله بين يديه، وبدا له خفيفًا بدرجة غير عادية … وصعد به السلم، وذهب إلى غرفة الضيوف، ووضعه في الفراش وغطَّاه … وانسلَّت القطة الصغيرة تحت الأغطية، ونامت هي الأخرى، وهي تُرسل هريرها النَّاعم.

ذهب «تختخ» إلى غرفتِه يفكر … هل هذا الولد أخرس فعلًا؟ أو أنه خائف فقط … ومن أين جاء؟ ولماذا كان فزعًا، وكان يختفي تحت المقعد الحجري في محطة المعادي؟ وهل هو من المعادي، أو من خارجها؟ أهمُّ من هذا كله … ماذا يفعل به غدًا؟

كانت السماء ما تزال تمطر … وصوت المطر على نافذة غرفة «تختخ» يُشبه طبلًا خافتًا رتيبًا … ظل «تختخ» يستمع إليه … حتى استسلم للنوم.

•••

في صباح اليوم التالي استيقظ «تختخ» على يد الشغالة «حسنة» التي قالت له بصوت فزع: هناك ولد غريب الشكل، وجدتُه يتجوَّل داخل البيت، ويُحاول الخروج وقد أمسكته!

فوجئ «تختخ» بما سمع أولًا … ثم تذكر أحداث الليلة الماضية، وقال لها: ضعي له إفطارًا حتى أغتسل.

انصرفت «حسنة» وعلى وجهها علامات الدَّهشة والاستغراب … وتمطَّى «تختخ» تحت الأغطية … كان مستمتعًا بالدفء … ولكنَّ أصوات المغامرين جاءت إليه صاخبة، وهم يقتربون من باب غرفته … وعرف على الفور أنَّ «نوسة» أخبرت «محب» و«لوزة» و«عاطف» بما حدث بعد خروجهما من السينما وحكاية الولد المتشرِّد، وعرف أنه سيتعرض لفيض من الأسئلة.

وفتح «محب» الباب وهو يقول: صباح الخير … ما هي الحكاية؟

قال «تختخ» وهو يتثاءب: ليست هناك حكاية حتى الآن.

قال «محب» مُبتسمًا: إذن فلنُحاول أن نجعلها حكاية بدلًا من هذا الكسل الذي نبدأ به إجازة نصف السنة.

وأسرع «تختخ» إلى الحمام، ثم عاد وغيَّر ملابسه، ولحق بالمغامرين في غرفة الطَّعام، حيثُ كان الولد الصغير ما زال يتناول إفطاره.

كانت أنظار المغامرين مُثبتة على وجه الولد الصغير … وكل واحد منهم يُفكر في حكاية هذا الولد، وماذا يُمكن أن يكون خلفَه، وكان الولد في ملابس «تختخ» الواسعة جدًّا يبدو كأنه مُهرِّج صغير هرب من السيرك … وأحسَّت «لوزة» أنه من المُمكن أن تُدبِّر له ملابس أكثر لياقة من ملابس شقيقها «عاطف» بعد إجراء بعض التعديلات عليها.

ولكن المهم في هذه اللحظة هو معرفة قصة هذا الولد … كيف السبيل إلى هذا وهو أخرس وأطرش؟! … ثمَّ قبل كل هذا … ماذا يجب أن يفعلوه؟ إنَّ التقاط طفل من الطريق العام ليس مسألة سهلة … وهكذا سأل «تختخ»: ماذا تَقترحون بالنسبة لهذا الولد؟

كان «محب» أوَّل من أجاب فقال: بالطبع لا بد أن نُبْلِغ الشرطة.

لوزة: تقصد الشاويش «علي»؟

محب: طبعًا … نحن لا نعرف حكاية هذا الولد، ولعلَّ أسرته تبحث عنه الآن … ولعل الشرطة تبحث عنه، ولا بد من إبلاغ الجهات المسئولة!

تختخ: لا بُدَّ فعلًا من إبلاغ الشاويش.

لوزة: ولماذا لا تُبلغ المفتش «سامي»؟

محب: الحكاية لا تستحق إبلاغ المفتِّش … فسوف يكتب الشاويش محضرًا بالموضوع، ثم يتم تسليم الولد إما إلى أهله، أو إلى إحدى مؤسسات الأحداث.

لوزة: ما هي مؤسسات الأحداث هذه؟

محب: إنها دور مُعَدَّة لإيواء الأطفال الذين لا أهل لهم … أو ممَّن يُدانون في القضايا، وهم أقل من السن القانونية.

انزعجت «لوزة» لفكرة تسليم هذا الطفل إلى مؤسسة تضمُّ المجرمين الأحداث … فقد بدا لها بريئًا.

وعندما انتهى الطفل من طعامه، ومن إطعام قطته، ووقف في ثيابه المهدلة، قال «تختخ»: حتى الآن لم أستطع أن أتبادل معه كلمة واحدة، إنه فيما أظنُّ أخرس وأطرش، ولا أدري كيف نعرف سبب وجوده في محطة المعادي ليلًا مختبئًا تحت المقعد الحجري.

محب: لنبدأ من الجانب القانوني للموضوع … أي إبلاغ الشاويش، وبالطبع لا بد أن تذهب أنت و«نوسة» لمقابلته.

لوزة: وحتى هذه الفترة سأقوم أنا و«عاطف» بإعداد ملابس مناسبة له … بدلًا من هذه الملابس المُضحِكة.

ظلَّ «عاطف» طوال هذا الوقت صامتًا لا يتكلَّم … فقد كان يُفكر أنَّ المغامرين الخمسة قد وضعوا أنفسهم في مشكلة لا داعي لها … برغم ما كان يحسُّه من العطف ناحية الولد الصغير الذي كان واقفًا يُدير عينيه فيهم، وقد بدا عليه الاستِسلام.

انصرف «تختخ» و«نوسة» إلى الشاويش … وأسرعت «لوزة» و«عاطف» إلى منزلهما لإحضار بعض الثياب … وأخذ «محب» الولد الصغير من يده وجلسا في الحديقة والقطة الصغيرة بين ذراعي الولد يحتضنها في إعزاز …

ولكن «زنجر» الذي كان حتى الآن بعيدًا عن المشكلة تنبَّه لما يحدث … وتمطَّى في الكشك الصغير الذي ينام فيه، ثم خرج ينظر الشمس التي أشرقت بعد ليلة مُمطرة باردة … واتجه في هدوءٍ إلى حيث كان يجلس «محب» والولد … ولكنه على مبعدة شم رائحة القطة فوقف شعره، وأطلق نباحًا عاليًا ثم تقدَّم رافعًا رأسه … وانكمشت القطة في صدر الولد الذي بدا مذعورًا أمام هجوم «زنجر» … ولكن «محب» أسرع يتلقَّى «زنجر» صائحًا: لحظة واحدة يا «زنجر» … إنها ضيفة.

كان «زنجر» مهتاجًا فأخذ ينبح في ضيق … ولكن «محب» مدَّ يده يمسح رقبته في رقة، ويهمس في أذنه أن يهدأ، وأخيرًا هدأ «زنجر» وجلس بجوار مقعد «محب».

حاول «محب» أن يتحدَّث إلى الولد … ولكن الولد ظلَّ ينظر إليه في صمت دون أن ينطق بكلمة واحدة … وأخيرًا كف «محب» عن المحاولة خاصَّة عندما ظهرت «لوزة» و«عاطف» … يحملان لفَّة بها بعض الثياب … فأخذا الولد ودخلا إلى الفيلا … وبقي «محب» وحده يفكر فيما وراء هذا الولد الصامت.

وفجأة بدأت الأحداث تتحرَّك … فقد ظهر الشاويش «فرقع» عند باب الحديقة يصحبه «تختخ» و«نوسة».

صاح الشاويش: أين الولد؟

رد «تختخ»: إنه في الداخل.

الشاويش: كيف تركتَه يغيب عن عينيك؟

تختخ: وماذا في هذا يا شاويش؟

الشاويش: ألا يُمكن أن يكون لصًّا أو نشالًا؟! إنَّ هؤلاء الأولاد المتشرِّدين عادة من النَّشالين.

نظرت «نوسة» إلى «تختخ» الذي قال بهدوء: أليس من الأفضل أن تراه أولًا يا حضرة الشاويش، قبل أن توجه إليه هذا الاتهام الخطير؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤