محاولة للتفاهم

كان «محب» يتابع الحوار بين «تختخ» والشاويش، فلم يَلتفِت إلى الولد الذي لم يكد يرى الشاويش حتى وقف مُسرعًا، ثم جرى في اتجاه سور الحديقة … كانت الحركة مفاجئة، حتى إنَّ الجميع وقفوا دون حراك، وقد استولت عليهم الدهشة والذهول.

وصَل الولد إلى السور، ثم تسلقه بمهارة ليست مُتوقَّعة … ثم كاد يصل إلى أعلى السور عندما تعثَّر في ملابس «تختخ» الواسعة وسقط من فوق السور المرتفع على الأرض سقطة قوية ظن الجميع أنه لن يقوم منها.

كان أسرع الجميع وأقربهم «محب» الذي اندفع إلى الولد في اللحظة التي سقط فيها … وانحنى عليه … كان شاحب الوجه … مُتسارع الأنفاس … وقد أغمض عينيه وتوتَّرت مَلامِحُه … وبدا كأنَّ السقطة قد قضت عليه.

حمله «محب» بين ذِرَاعيه … والتفَّ الجميع حوله، وهو يُسرع به إلى الدور الثاني من «الفيلا»، حيثُ وضعه على الفراش … وكان «تختخ» يتَّصل بالدكتور «رياض» الذي يَسكُن بجوارهم، ولحُسنِ الحظ كان الدكتور يَركب سيارته في طريقه إلى عمله، فوصل في دقائق قليلة … ووقف الأصدقاء يرقبون الطبيب، وهو يكشف على الولد، ثم قال مبتسمًا: ليست هناك إصابات في العظام … لقد أُغميَ عليه لأنه سقط على رأسه … وسينام بعض الوقت ثم يَستيقظ على ما يُرَام، ثم كتب الطبيب روشتة ببعض الدَّواء وانصرف.

لم يكد «الدكتور» رياض يُغادر الغرفة حتى قال الشاويش: ألم أقل لكم؟! إنه لم يكَد يراني حتى حاول الفرار … إنه نشَّال أو لص!

قاطعه «عاطف» في ضيق: وهل هذا وقت هذا الكلام يا شاويش … ألا ترى الولد وما أصابه!

رد الشاويش بعنف: لا يُهمُّني ما أصابه … لا بد من القبض عليه، واقتياده إلى القسم لاتخاذ الإجراءات.

لم يَشترِك «تختخ» في المناقشة، بل ذهب إلى التليفون، واتصل بالمفتش «سامي» ولحسن الحظ وجده في مكتبه. روى له كل ما حدث، وما ينوي الشاويش عمله، فطلب منه المفتش «سامي» استدعاء الشاويش ليُحدِّثه، ولم يكد الشاويش يسمع صوت المفتِّش حتى وقف وقفة عسكرية، واستمع بانتباه وهو يقول: طبعًا يا سيادة المفتِّش … طبعًا … سأنفذ التعليمات.

ثم أعطى السماعة ﻟ «تختخ» الذي تحدَّث مع المفتش لحظات … ثم وضع السماعة وعاد إلى الغرفة.

قال «تختخ»: أرجو أن تذهب يا «محب» لإحضار الدواء، وسنترك الولد نائمًا ونخرج إلى الحديقة.

في الحديقة جلس الشاويش وقد هدأت أعصابه؛ فقال: إنَّ التعليمات تقضي بكتابة محضر بواقعة العثور على هذا الولد ونشْر صورتِه بالجرائد.

تختخ: عندما قابلناك في الطريق كنتُ ذاهبًا إليك من أجل هذا المحضَر.

الشاويش: على كل حالٍ مِن المُمكن كتابة هذا المحضر هنا، وأخْذ أوصاف هذا الولد، وستُذاع به نشرة على مختلف أقسام الشرطة، وستُنشَر صورتُه في الجرائد حتى يأتي أهله لتسلمه، مع البحث والتحري عنه.

تختخ: هذه إجراءات قانونية ولا اعتراض لنا عليها.

وجلس الشاويش يكتب ما أملاه عليه «تختخ»، ثم انصرف، على حين انهمكت «لوزة» و«نوسة» في إعداد ملابس مناسِبة للولد.

بدأت المناقشة بين المغامرين الخمسة بالسؤال الذي كان بأذهانهم جميعًا؛ وهو لماذا حاول الولد الفرار عندما رأى الشاويش «علي»؟!

وبالطبع لم يكن له إلا ردٌّ واحد … إنه يخاف رجال الشرطة!

وكان السؤال التالي هو: ولماذا يخاف الشرطة؟

وبالطبع لم يكن هناك سوى إجابة واحدة: إنه ارتكب جرمًا يَخشى مُحاسبتَه عليه.

ومعنى ذلك كما قال «محب»: إننا نُؤوِي مُجرمًا صغيرًا.

قالت «لوزة» وهي تُحاول تمرير الخيط من ثقب الإبرة: هذا الولد الضعيف النحيف مُجرم؟ شيء غير معقول! إنَّ ملامحه تدلُّ على الوَداعة والطيبة.

ساد الصمت بعد ما قالته «لوزة» … وانصرف كلُّ واحد من المغامرين الخمسة إلى خواطره يُفكِّر في كل ما حدث … ومضت فترة من الوقت عندما قام «زنجر» فجأة من مكانه، وقد وقف شعره، ثم اندفع إلى ناحية السور، وهو يَنبح بشدة، وتنبَّه «محب» على الفور وقال: إنها قطة الولد … لقد أخذها معه عندما حاول الفرار ولكنها سقطت منه، واختبأت بين الأعشاب، ويبدو أنها تُحاول الخروج من مكمنها خلسة، ولكن «زنجر» تنبه لها.

كان «زنجر» يدور حول شجرة، ونظر «محب» إلى فوق فوجد القطة تقف مذعورة … فمدَّ يده وأمسك بها من ظهرها خوفًا من أن تخمشه … ثم عاد بها و«زنجر» يقفز حوله نابحًا، وعندما وصل «محب» إلى حيث جلس الأصدقاء، قالت «لوزة»: اصعد بها إلى الولد … إنها ستأنس به، وإذا استيقظ ووجدها بجانبه فسيأنس بها.

صعد «مُحِبُّ» بالقطة … وبعد لحظات سمعه المغامرون يُنادي … وأسرعوا إليه … كان الولد قد استيقظ، وجلس في فراشه شاحبًا ينظر إليهم في خوف ورُعب، وابتسمت له «نوسة»، ولكن الولد ظل ينظر حوله، كأنه يبحث عن منفَذ للهرب منه، وقد احتضن قطته بشدة.

قال «تختخ» لقد وقعنا في مشكلة … فهذا الولد مرعوبٌ منَّا ومِنَ الشُّرطة … وهو لا يتكلم، ولا يسمع … ولا ندري ماذا نفعل!

عاطف: لقد فعلنا ما بوسعنا … ولعلَّ الشاويش عندما يُتمِّم الإعلان عنه يمكن أن يستدل على أهله.

محب: لا حل آخر!

نوسة: لماذا لا نُحاول أن نتفاهم معه بالإشارة؟

تختخ: إنَّ ذلك مُمكن في الأشياء البسيطة مثل الأكل، والشرب، والنوم ولكن كيف تسألينه لماذا هو خائف؟

فجأة قالت «لوزة»: لماذا لا نبحث عن أخرس آخر يتحدث معه؟

قال «عاطف» ضاحكًا: لقد حللتِ المشكلة الواحدة بمشكلتين … وبدلًا من أن يكون عندنا أخرس واحد، سيكون عندنا أخرسان.

تختخ: إنَّ فكرة «لوزة» ممتازة، ويُمكن تعديلها بالبحث عن شخص يعرف إشارات الخرس، ويمكن أن يتفاهم معه.

عاطف: تقصد مترجمًا؟

تختخ: بالضبط … مُترجم!

نوسة: هناك معهد للصمِّ والبُكم، ولكن كيف السبيل إلى إحضار شخص منه للحديث مع هذا الولد المسكين؟

تختخ: سنُحاول … ولكن سننتظر أولًا جهود الشاويش «علي» لعل أحدًا من أهل الولد يظهر.

•••

مضى اليوم والمغامرون الخمسة يحيطون الولد بِرِعَايتهم، وقام «محب» بتصويره، وفي اليوم التالي سلموا الصورة للشاويش … وحتى يطمئنَّ «تختخ» إلى نشر الصورة ذهب إلى صديقه الصحفي «علاء»، رئيس قسم الحوادث في جريدة الجمهورية، وأعطاه الصورة، وفي اليوم الثالث للعثور على الولد الأخرس كانت صورته منشورة، وتحتها بعض أسطر عنه، وعن مكانه، وعن رقم تليفون منزل «تختخ».

جلس المغامرون الخمسة بجوار التليفون ينتظرون اتصال أحد من أهل الولد، ولكن التليفون ظل صامتًا طول النهار، وبدا أنَّ لُغز الولد الأخرس لن يُحلَّ إلَّا بشخص يمكنه الحديث معه.

وانصرف «محب» و«نوسة» و«عاطف» و«لوزة» في المساء يائسين … وجلس «تختخ» وحده يُفكر في طريقة لإحضار شخص من معهد الصمِّ والبكم … وفجأة ضرب جبهته بيده، لماذا لم يفكر في المفتش «سامي»؟ إنَّه بالطبع مُمكن أن يُحضِر مثل هذا الشخص … وقام إلى التليفون … ولكنه لم يكد يقترب من التليفون حتى دقَّ الجرس، ورفع «تختخ» السماعة وسمع صوت رجل يقول: منزل الأستاذ «خليل توفيق»؟

رد تختخ: نعم!

الرجل: إنني عمُّ الولد الأخرس الذي نشرت صورته في الجرائد!

تختخ: أهلًا وسهلًا.

الرجل: هل يُمكنني الحضور لتسلمه الآن؟

فكَّر «تختخ» لحظات ثم قال: لا بدَّ من تسلمه في قسم الشرطة، لأنَّ هناك محضرًا بالعثور عليه.

الرجل: متى أحضر إذن؟

تختخ: في الصباح.

الرجل: هل أنتَ الأستاذ «خليل»؟

تختخ: لا … إنني ابنه …!

الرجل: أريد أن أتحدَّث مع والدك!

تختخ: إنَّ أبي مسافر.

الرَّجل: إذن سأَحضُر غدًا في العاشرة صباحًا.

تختخ: أهلًا وسهلًا.

ووضع «تختخ» السماعة وقلبُه يدقُّ بسرعة … وأخيرًا حُلَّت المشكلة، وسيحضر من يتسلم الولد الصغير، وأسرع «تختخ» إلى غرفة الولد، وظهرت الشَّغالة «حسنة» وبيدها «كارت بوستال» أرسله والد «تختخ» ووالدته من الأقصر وقالت: لقد وصَل الكارت صباحًا ولكنِّي نسيتُ تسليمه لك.

أخذ «تختخ» الكارت معه وصعد إلى غرفة الولد، ودخل عليه وهو يبتسم، أخذ يُشير له قدر إمكانه أن هناك من سيَحضُر لأخذه … وبدا على الولد أنه فهم قليلًا … ولكنَّ عينَيه كانتا مُحدِّقتَين بالكارت الذي كان «تختخ» يُمسكه في يده … ودهش «تختخ» ومدَّ يده له بالكارت … وأمسك الولد به وانتابتْه نوبة من الارتعاد وهو يُشير بإصبعِه إلى صورة بعض الآثار في الأقصر … كان الولد يَرتعِش، وإصبعه يهتز وهو يشير إلى الآثار … ووقف «تختخ» في دهشة أمام هذا المشهد العجيب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤