خطر في الليل

اقترب «تختخ» من الولد، وأخذ يُشير إلى الآثار وهو يفتح يديه في حركة سؤال عما يعنيه هذا بالنسبة له، وضع الولد الكارت أمامه، ثم أشار إليه، وأشار إلى صورةٍ بيده اليمنى … ثم وضع يده على الكارت، ثم أشار إلى نور الغُرفة وأبعد يديه … وأشار إلى ركن الغُرفة، وانكمَش في جلسته … ثمَّ أشار بإصبعِه إلى عينيه ومدَّ إصبعه إلى الأمام … وصنع خمس علامات في الهواء كما يكتب الشخص خمسة خطوط واقفة … وأشار إلى حائط الغرفة … وتردَّد لحظات ثمَّ قام من مكانه وقفز من الفراش، ورسم على الحائط ما يُشبه مُستطيلًا وأخذ يدق على حوافيه … ثم أعاد رسم إشارة الخمسة … وأشار إلى نفسه، وعاود الانكماش في جانب الغرفة … ثم لمعَت عيناه بنظرة خوف … ووضع يده على فمه … وأغمض عينيه …

وبدا واضحًا أن الولد مُرهَق جدًّا … وأنه يكاد يسقط … فأسرع إليه «تختخ» وحمله إلى الفراش ومدَّده وغطاه … فقد كان الجو شديد البرودة … ثم أشار له أن ينتظر حتى يحضر له كوبًا من اللبن، وأسرع ينزل إلى المطبخ، ووضع إناء اللبن على النار … ووقف بجوار موقد «البوتاجاز» يستذكر حركات الأخرس واحدة بعد الأخرى، محاولًا تفسيرها وهو مستغرق في التفكير حتى فار اللبن … ولم يتنبه «تختخ» إلا عندما سمع صوت السائل وهو يحترق … وأسرع يطفئ الموقد … ويبحث عن قطعة قماش يمسح بها ما سال من الإناء … فلم تكن الشغالة «حسنة» موجودة في البيت … لقد استأذنت أن تقضي الليلة عند أسرتها.

وأخذ «تختخ» كوب اللبن، وصعد السلالم ببطء، وعندما وصل إلى فراش الأخرس … وجده مُستغرقًا في النوم … وقد بدا وجهه شاحبًا تحت ضوء المصباح … فوضع كوب اللبن بجوار الفراش، وأطفأ النور وخرج وأغلق الباب.

ذهب «تختخ» إلى غرفته وخلع ثيابه، ولبس ملابس النوم … كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة بقليل … وتذكر أنه أغلق باب الكشك الصغير الذي ينام فيه «زنجر» حتى لا يفتك بالقطة الصغيرة … إنه لا يرى القطة الآن ولا يعرف أين اختفت … وفكَّر أن ينزل ليفتح ﻟ «زنجر» … ولكنَّ البرد الشديد أغراه بأن يدخل تحت الأغطية … وهو يُفكر في حركات الأخرس … ومدَّ يده فتناول كراسة مذكراته، وكتب فيها حركات الأخرس، وما فهمه منها ثم تمدَّد أكثر … واستسلم لدفء الفراش ونام.

لا يدري «تختخ» كم من الوقت مَرَّ وهو نائم … ولكنه استيقظ بعد حلم مُضطرِب … كانت الغرفة تسبح في الظلام … وسمع صوت الريح والمطر في الخارج، وأدرك أنَّ هناك عاصفة شتوية تعبث بالأشجار … وأخذ يتابع بأذنيه صوت العاصفة، وهو بين اليقظة والمنام … وفجأة أحسَّ بتوتر غامض وانتقل إلى حالة اليقظة التامة، ففي وسط هدير العاصفة، وصوت الرِّيح، وإيقاع سقوط المطر … سَمِعَ صوتًا لا يمتُّ إلى أصوات الطبيعة بصلة … وأرهف السمع لحظات … وتأكد من طبيعة الصوت أنه ليس صوت نزول المطر أو عصف الريح … ونظر إلى ساعته … كانت الثالثة بعد منتصف الليل.

وتسلَّل من فراشه مسرعًا … وفتح الباب في هدوء وأصاخ السمع … كان هناك صوت باب أو نافذة تُفتح في مكان ما من الفيلا … وصوت نباح «زنجر» مكتومًا في الكشك … وأدرك «تختخ» أن هناك من يتسلَّل إلى الفيلا … مَن هو؟ لصٌّ يُحاول سرقة شيء؟ أم شخص له هدف آخر؟

أسرع «تختخ» يجري مُتجهًا إلى غُرفة الولد الأخرس … كان يحسُّ أنه يتعرَّض لخطر ما.

كان «تختخ» يترك مصباحًا صغيرًا مضاء في وسط الفيلا، وعلى الضوء الخفيف اقترب من غرفة الولد … وأحسَّ على الفور بلفحة هواء باردة تتسلل من أسفل الباب … من المؤكد أنَّ نافذة مفتوحة في الفيلا يدخل منها هذا التيار، وقبل أن يصلَ إلى غرفة الولد الأخرس وهي تقع في نهاية الدهليز، سمع خطوات واضحة خلفه … والتفت على الفور ووجد نفسه وجهًا لوجه مع رجل تبدو عليه الشراسة! وأدرك «تختخ» أنه صعد من السلم الداخلي، ورأى في يده مسدَّسًا مصوبًا إليه … ولم يتردَّد «تختخ»، ضرب يد الرجل بكل ما يملك من قوة، فانطلقت رصاصة من المسدس … وفي الوقت نفسه طوَّح «تختخ» بقدمه في ضربة قاسية في بطن الرجل فانحنى إلى الأمام وهو يئن … فنزل عليه «تختخ» بضربة قوية بكلتا يدَيه على رقبته سقط على أثرها الرَّجل على الأرض … وأسرع «تختخ» إلى غرفة الولد الأخرس … كان الباب مفتوحًا … وعلى الضوء الخفيف شاهد «تختخ» رجلًا آخر يحمل لفَّة كبيرة … وكان الفراش خاليًا، فأدرك على الفور أنَّ الأخرس الصغير في هذه اللفة.

ألقى الرجل بحمله على الفراش، ثم هجم على «تختخ» كالوحش … كان أطول من الرجل الأول وأضخم … وقفز «تختخ» إلى الفراش بسرعة مُحاولًا القفز بعد ذلك فوق الرجل، ولكن قدمه لم تصل إلى حافة الفراش بالضبط … وأحسَّ بألم فظيع عندما ارتطمت ساقه بحافة السرير الخشبية … وسقط على وجهه فوق الفراش … وبسرعة ألقى الرجل بنفسه عليه واستطاع «تختخ» بمشقَّة أن يستدير بحيث يواجه الرجل بوجهه … محاولًا منعه من الإطباق على رقبته … واشتبكت الأيدي!

كانت ذراعا الرَّجل طويلتين ويداه كبيرتين … وأصابعه كأنها من الحديد، وبرغم أنَّ «تختخ» استطاع أن يضربه بضع ضربات في وجهه إلا أنَّ الذراعَين القويتَين وصلتا إلى رقبة «تختخ» وبدأت الأصابع الحديدية تعتصرها.

وأحسَّ «تختخ» بالاختناق، وبأنَّ الدنيا تدور به … وفي هذه اللحظة رأى الأخرس الصغير، وقد تخلَّص من اللفة، وهاجم الرجل من الخلف، برغم ضعفه الشديد حاول أن يمسك برقبة الرَّجل ويبعده عن «تختخ»، ولكنَّ الرجل استطاع بضربة واحدة من ذراعه أن يَطرح بالولد بعيدًا … وخفَّت قبضة الرجل لحظة عن رقبة «تختخ» فصاح: يا ولد … اهرب!

لقد نسيَ أنَّ الولد لن يسمعه … ولكن كأنَّما فهم الأخرس الصغير ما يقصده «تختخ»؛ فقد أسرع يجري من الغرفة … ولم يُضيِّع الرجل وقتًا أطول … فقد هوى على رأس «تختخ» بضربة ساحقة … وتلاشى وعي المُغامر وذهب في غيبوبة كاملة.

•••

عندما استيقظ «تختخ» … وجد نفسه مُلقًى على الفراش … جسده هامد … وفي رأسه ورقبته آلام عنيفة … وأحس بالبرد القارس، وتذكر «تختخ» ما حدث وقاوَم تعبه وقام يترنح … ولاحظ على الفور أن اللفة التي كان مربوطًا بها الأخرس ما زالت موجودة … فهل استطاع الهرب … أم قبَض عليه الرجلان؟

لم يُفكِّر «تختخ» طويلًا … كان رأسه يؤلمه، ولم يكن يهمُّه في هذه اللحظة سوى إخراج «زنجر» … ونزل إلى الدور الأرضي، وسار في اتجاه الريح الباردة القادمة من الخارج، ووجد أنها تأتي من نافذة غرفة المكتب.

ووجد «تختخ» أنَّ المجرمَين قد استطاعا الدخول عن طريق نزع أخشاب النافذة عند المقبض، وقطع الزجاج بواسطة مقطع … وأسرع يغلق النافذة محاولًا بقدر الإمكان الإبقاء على بصمات الرجلين.

وفتح «تختخ» الباب ووقف قليلًا يتأمل الفجر، كانت العاصفة قد انتهت تمامًا، وحل محلها هدوء رائع لم يكن يقطعه سوى نباح «زنجر» …

ومشى «تختخ» بين الأزهار والورود التي غسلها المطر، وأحسَّ بالراحة والهدوء برغم الليلة العاصفة … والحوادث العجيبة … والآلام التي يضجُّ بها جسمه ورأسه.

لم يكد «تختخ» يفتح باب الكشك الصغير، حيثُ ينام «زنجر»، حتى قفز الكلب الوفيُّ إلى أكتافه، وأخذ يلعق وجهه … كأنما — من مكانه البعيد — استطاع أن يعرف كل ما حدث.

وقال «تختخ» محدثًا كلبه وهما عائدان إلى الفيلا: إنني المخطئ؛ فلو أنِّي كنتُ فتحت لك الباب، لما استطاع هذان الوغدان أن يَدخُلا «الفيلا» ولما اختفى الأخرس الصغير.

ودخلا من باب المطبخ … وكان «تختخ» يحسُّ أنه لن يردَّ له قواه إلا وجبة إفطار ساخنة … وهكذا انهمك في إعداد طبق من البسطرمة بالبيض … ووضع ﻟ «زنجر» طبقًا حافلًا بالعظام واللحم بعد تسخينه.

وجلس «تختخ» و«زنجر» يتناولان طعامهما … وقد بدأت الشمس تُشْرِقُ والعصافير تنطلق من أعشاشها.

انتهى «تختخ» من إفطاره، ووصلت الشَّغالة «حسنة» … وانتظر نصف ساعة أخرى ثم تحدث تليفونيًّا إلى «محب» وطلب منه إحضار بقية المغامرين والحضور فورًا … ثم ذهب إلى مسرح الحوادث في الدور الثاني … وأخذ يفحَص كل شيء … مكان سقوط الرَّجل الأول … انطلاق الرصاصة التي اختفى صوتها في هدير العاصفة … وقد وجد المظروف الفارغ ساقطًا بجوار الجدار حيث أحدثت الرصاصة ثقبًا، ودخل إلى غرفة الأخرس حيث دارت المعركة الثانية.

وسمع «تختخ» صوت المغامرين و«حسنة» تفتح لهم الباب … ونزل يستقبلهم … ولم تكد «لوزة» تراه … وكانت أول الداخلين حتى صاحت: ماذا حدث؟

رد «تختخ» … بابتسامته: حدث الكثير!

لوزة: وهل الولد الصغير مُستيقظ؟

تختخ: لا أدري إذا كان مستيقظًا أو نائمًا … فهو لم يَعُد هنا!

لوزة: ماذا؟ أين ذهب؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤