أعلام الحرية لقدري قلعجي

قدري قلعجي كاتب عامل، وقد يكون الكاتب الباحث المحترف الذي لا يزوِّق ولا ينمق. يعني ما يقول فيؤديه بتلك البساطة المركبة، مبتعدًا عن الرمز والإيماء والتلاميح؛ لأن له هدفًا يرمي إليه. أما أسلوبه فهو السهل الممتنع، وخصوصًا في سلسلة «أعلام الحرية» التي لم تكتب للخاصة وحدهم، وإن لم تنحط عن مستواهم.

إن سِيَرَ الرجال العظام خير مدرسة لتعليم الشعب وحثه على التشبه بالكرام من البشر، وهذا ما فعله الأستاذ قلعجي؛ إذ حلل لنا شخصيات عالمية فذة فما تقيد بجنس ولا بقارة. كأن هدفه «تأميم» العظام من العالمين، وهم أحق بالتأميم في نظري من النفط وغيره … إن في سِيرهم مواد أكثر التهابًا من ذاك. وإذا كان النفط لتحريك الآلات؛ ففي هذه السِّيَر ما حرك العقول حتى أبدعت ما أبدعت. إن هؤلاء المفارد من البشر هم الذين حققوا للإنسانية ما صبت إليه من حرية ونعمة هما مصدر كل خير.

فإذا قرأنا إحدى حلقات هذه السلسلة، «أبو ذرٍّ الغفاري»، علمتنا سيرة هذا الرجل الصالح كيف يمسي الرجل الساذج «مجتهدًا» فاضلًا لأنه يريد، ولأن نفسه متفتحة لاقتبال المبادئ الجديدة الصحيحة.

سمع أبو ذر بالدعوة النبوية فاستجاب لها وتاق إلى رؤية النبي الجديد فقصده، وما رآه وتحدث إليه حتى آمن به ولزمه، فكان من أفضل صحابته. ثم عاش بعده لا يحيد قيد شعرة عما تعلمه من تلك السيرة الصالحة. لم يلن أبو ذر للحدثان، وما أصغى إلا إلى صوت وجدانه. ثبت لما حل به من نكبات تقصم الظهور، ولم تستطع المادة أن تأخذ شيئًا من تلك النفس الصلبة. وكيف يستخذي من يحمل في صدره ما حمل أبو ذر من يقين حتى آثر الجوع على مال السحت.

جاءه عبد يحمل إليه من الخليفة عثمان مائة دينار، كان رفضها من قبل، فقال له العبد: اقبلها، يرحمك الله، فإن فيها عتقي. فقال له أبو ذر: إن كان فيها عتقك فإن فيها رقِّي.

ومن يستغرب حدوث مثل هذا منه متى عرف أنه لحق النبي راجلًا إلى تبوك، فقال النبي لأصحابه: «أدركوا أبا ذرٍّ بالماء فهو عطشان.» فيشرب شرب الجواد الصادي. ثم دنا من رسول الله وقدم إليه قارورة فيها ماء. فتعجب الرسول وقال له: «يا أبا ذر، معك ماء وعطشت»؟ فيقول: «نعم يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! انتهيت إلى صخرة وعليها ماء السماء، فذقته، فإذا به عذب بارد، فقلت: لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله.»

أجل بمثل هؤلاء الأبطال، أبطال اليقين والإيمان تتوطد دعائم الدعوات والرسالات العليا. هذا بعض من فضائل هذا الحواري الطاهر في حياته، أما ختامها فعظة رائعة: احتضر أبو ذر وليس عند زوجه ثوب تكفنه به. فقيض الله له رجالًا يشهدون احتضاره، فقال لهم: «والله ما كذبت ولا كذِّبت، ولو كان عندي ثوب يسعني كفنًا لي ولامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي ولها، وإني أنشدكم الله أن لا يكفنني رجل منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا أو نقيبًا.»

فقال له فتًى من الأنصار: «أنا أكفنك يا عم في ردائي الذي اشتريته بمال كسبته بعملي، وفي ثوبين من غزل أمي، حاكتهما لي كي أحرم فيهما.» فقال أبو ذر: «أنت الذي تكفنني، فثوبك هو الثوب الطاهر الحلال.»

هذا بعض ما في كتاب «أبو ذر الغفاري» من درس رفيع وموعظة سامية وقد أجاد تأليفه الأستاذ قلعجي لو لم يلصق به الفصل الأخير الذي عنوانه «للتاريخ». لم تكن هذه التعليقات ضرورية في نظري، فهي تنقص من جلال سيرة أبي ذر، فبطل عقيدة كهذا الصحابي الصالح لا تحتاج أخلاقه الوعرة إلى مَن يلطف من صلابتها. فلندع الحوادث تتكلم، أما الاستنتاج والحكم فللناس.

ومَن أقدم مناضل في الإسلام تنقلنا سلسلة الأستاذ قلعجي إلى أحدث أبطاله «محمد عبده» بطل الثورة الفكرية في الإسلام.

صدر المؤلف كتاب محمد عبده بالبيتين اللذين قالهما الإمام في مرضه الأخير:

ولست أبالي أن يقال: محمدٌ
أبلَّ أم اكتظت عليه المآتمُ
ولكنَّ دينًا قد أردت صلاحه
أحاذر أن تقضي عليه العمائمُ

أما الأبيات الثلاثة الباقية، وهي:

فيا ربِّ إن قدرتَ رجعي قريبة
إلى عالم الأموات وارفضَّ خاتمُ
فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا
رشيدًا يضيء النهج والليل قاتمُ
يضارعني رأيًا وفهمًا وحكمةً
ويشبه فيَّ السيفَ والسيفُ صارمُ

فأذكر أن أستاذنا الشيخ سيد الشرتوني أجهش بالبكاء حين قرأناها له في الصف، ثم انتفض مدافعًا عن صديقه فقال: البيت الأخير منحول؛ لأن الشيخ محمد عبده أقلُّ البشر اعتدادًا بالنفس.

أما هذا الكتاب فكافٍ وافٍ يعرفنا ببطل الحرية المعاصر الذي قال فيه أيضًا معلمي الشيخ سعيد: هذا الرجل إذا تكلم يخرج النور من فمه.

فما أحوجنا إلى مثل هذين الكتابين اللذين يصلان حاضرنا بماضينا، وما أحرانا بإحياء ذكر أبطالنا بنشر آثارهم وإظهار فضلهم. فمجاهد عظيم كالإمام محمد عبده يستحق كتبًا لا كتابًا واحدًا فقط. فسيرة حياته، وما ترك من شذرات أدبية تكوِّن عقولًا مستقلة، وشبابًا يستميت في جهاده.

تأمل ما يقول هذا الثائر على التقاليد البالية حتى في العلم. قال: لا ينبغي أن يذل الفكر لغير الحق، والذليل للحق عزيز. نعم يجب على كل طالب علم أن يسترشد بمن تقدموه، وسواء أكانوا أحياء أم أمواتًا، ولكن عليه أن يستعمل فكره بما يؤثر عنهم؛ فإن وجده صحيحًا أخذ به، وإن وجده فاسدًا تركه وحينئذٍ يكون مِمَّن قال الله تعالى فيهم: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.

فعسى أن يقتفي أثر الإمام كثيرون ممن يقرءون هذا الكتاب، فلا يصح فينا قوله المختوم به هذا السفر النفيس: «يا ويح الرجل الذي ليس له أمة. وأشد التعب أن ترى مَن حولك مَرْضى ولا تستطيع معالجتهم.»

لقد أبللنا يا سيدي الإمام، وعسى أن لا نبتلى بالنكسة، فنم مستريحًا فإن تعاليمك أثمرت. فللمؤلف ولدار العلم للملايين أجزل الشكر على هذه السلسلة الذهبية التي تحلِّي الألباب والأذهان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤