القِصَّة المصرية بين الشُّبَّان والشيوخ

إن القصة المصرية تنشب جذورها في تربة الأدب المصري في ثبات، مهما صادفت من صعاب ونكران جميل.

جب

كيف تستأصل شجرة غارسها ضعيف ومقتلعها عنيف! أنَّى يكون لنا هذا وعلى بصائر متزعمي الأدب غشاوة صفيقة، وفي أبصارهم قصر لا تصلحه ألف زجاجة مقعرة من مصنع «زيس»! إن في نفوسهم لصبوة مجنونة إلى «الكليَّة»، فهم، كما يتوهمون، شعراء وكتاب ونقاد، ومؤرخون وفلاسفة وعلماء في كل فن حتى اللاهوت، وصحافيون وسياسيون ودكاترة وشيوخ في آنٍ واحد، بله التبريز والأستاذية. فكيف نحتال لهم لنقنعهم أن العصر عصر اختصاصيين أو أخصائيين على لغتي الشيخين: البستاني والمغربي.

فإذا قلت أمامهم: إن أدب القصة نافقة سوقه حاولوا أن يقطعوك بالحجة، وجبهك الرافعي «بشيء يعلو وآخر يسفل» ويا ليت هذه الكلمة التي راح يمضغها كانت من عنده، ولكنها للعم «لابرويير»، نقلها الرافعي إلى لغته فتبنَّاها كما يتبنى هو وغيره من أعلام أدبنا «بنات الموالي» … ولولا يعترفون بالتسري ويقفون عند حد لهان علينا الأمر، ولكنهم يحركون مَن يناضل عنهم كلما هبَّت زوبعة، ويحاولون إفهام الناس أن الريح راكدة، بينما العاصفة تكاد تقتلعهم لولا تماسكهم.

فما يضرُّ العقاد لو انصرف إلى النثر، وفي أبحاث لا يتعداها، وإذا كان يجهلها أو يتجاهلها دللناه بالإصبع عليها. أيغصب نفسه على الشعر؟ «فمالرب» قضى العمر ناحتًا وما أخرج تمثالًا تتردد فيه روح الفن والعبقرية … والعقاد رغم إخلاصه لفنه وتضرعه لربة الشعر لم يوحَ إليه بعد ببيت يدور على ألسنة الناس.

ربما لا تكون الرواية دليلًا قاطعًا على الأدب الرفيع في نظر العقاد، وهو ينتظر الخلود المخبَّأ — بعد أطول العمر — بين ثنايا الأجيال العتيدة، أما نحن فرأينا أن العيون تنم عن الحيوية المتقدة، وعيون شعر العقاد ينقصها البريق والفتون، فلا بريقها يغري ولا فتونها يغوي، فحرام أن ينصرف عمره في هذه الرياضة؛ فهو لن يصير من الجبابرة.

وما ضرَّ طه حسين لو انصرف إلى الترجمة «جهرة»، والنقد العام لا التطبيقي، والدراسات الفردية — كما أشار عليه المازني منذ أعوام — واختص بتأريخ الأدب العربي وتمحيص الرواية، ولو غوى مع الكثيرين من المتمشرقين وهام في أودية مرغليوث؟

وما ضرَّ المازني لو لزم أسلوبه الفكاهي وقفَّى على آثار مارك توين وأضرابه؟ فلا خوف على شهرته ولا هو يحزن إذا أدَّى رسالته بأمانة.

وما ضرَّ حسين هيكل لو جاور أنقاض هياكل إيزيس وأبيس وسميراميس واختصَّ بأدبه الفرعوني وقصصه، ولو طلست ألوانه المصرية وشاهت لهذا التعمُّد وتتالي الأصباغ؟

وما ضرَّ سلامة موسى لو اختص بأبحاثه الحديثة فأتم رسالة الشميل وصرُّوف ونمر؟

وما على الرافعي لو ظل «تحت السلاح» للدفاع عن التقاليد والعادات يردي مَن يتخطى التخوم رشاش مدافعه وبندقياته … ثم لا يتزحزح من مكانه؟ فمقاله «لحوم البحر» ممتع حقًّا.

فلو حصر كل واحد من هؤلاء الأدباء نفسه في نطاق لا يتعداه لترك في الأدب العربي أثرًا. هذا إذا أقلعوا عن خطتهم المعهودة وفكروا كثيرًا. فأدبهم «الإنشائي» بل إنتاجهم الشخصي ضئيل جدًّا، وكلما تقدمت بهم السن شاخت فكرتهم وقلَّت بضاعتهم وتبخرت بحيراتهم ونصل صباغهم وأنسلوا ذرية ضعافًا — بينما هتلر وعلماء الأجناس يقولون بالتعقيم — فماذا يكون لو بلغوا أرذل العمر؟

لقد مللنا حديثهم، فما كتبوه — إلا أقله — لا يخرج عمَّا يقول لنا الدليل حول الأهرام، وبين أنقاض قلعة بعلبك، وأنس الوجود، وليس هذا بالأدب الخالد. إن ما ينقلونه إلى لغة العرب يعثر عليه كل طالب ألمَّ بلغة أجنبية. فكرت طويلًا فلم أجد لهذا الجمود سببًا إلا عصمتهم البابوية، وتوهمهم أن قراءهم مغفلون يلهونهم بزجاجة حمراء أو قطعة أرجوانية، كما كان يفعل الفينيقيون بالأوروبيين، رحم الله ذاك العهد. لقد توكئوا على الشهرة، والشهرة كالسياسة تفسد الفن، فقلَّ إخلاصهم لفنهم وتفه محصول كهولتهم، رزقهم الله شيخوخة خصبة!

فبينما يقول المتمشرق «جب» مستنبطًا ومتابعًا: إن الشعر الإفرنسيَّ والإيطاليَّ متأثر بالشعر العربي الأندلسي، وإن غوته متأثر بالأدب الشرقي، يقوم فينا مقلِّدو غوته وغيره، فيقولون: ماذا قال شعراء العرب؟ إن أدبنا سطحيٌّ!

أليس عندنا يا إخوان مئونة شياطينية؟ فمن عندنا هاجر شياطين غوته وغيره من الذين تتمطقون بذكرهم. التوراة والإنجيل بين أيديكم وفي متناول كل منكم. أليس شيطان أيوب وشيطان المسيح أفضل من شيطان فوست؟ أليست رؤيا يوحنا أمرع من ملهاة دانتي؟ إن في كتبكم التي تؤمنون بها موحًى دونه جبال برناس، ومرعًى خصيبًا للنفوس الجائعة فأين روادكم؟

ليس ما ترك الأولون سطحيًّا، إنما نحن كمن يسكن قصرًا دهريًّا كان حديث عصره وآية زمانه، فتركناه على قدامته، ولم نفتح به بابًا أو شباكًا أو نافذة، نطلُّ منها على الدنيا، ثم أخذنا نشكو ثقل الهواء، وعفونة المسكن، وتداعي الجدران واحدًا بعد واحد. هجرناه وتركناه للناس يقلِّدون طرازه وينقِّحون فيه منقِّبين في صحونه وجدرانه عن نقوشه وفسيفسائه، وقد حيَّرتهم هندسته وبراعة بُناته، فأدهشهم الفن الحي.

هجرناه لنسكن بيتًا جديدًا مبنيًّا بالآجرِّ، هجرناه وقد أغلق علينا سرُّ فنه. هجرناه؛ لأننا لا صبر لنا ولا جَلَد على الترميم. يعوزنا العزم لنصلح ما أفسده الدهر. فما أشبهنا براعٍ وجد في خرائب جبيل دينارًا أثريًّا قال له الأخصائيون: هذا فلس، فصدقهم وباعه بما باع به عيسو بكوريته. ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.

يقرر جيمس بريستد المتمشرق العظيم، «أن انخذال المسلمين في إسبانيا كان بمثابة انهزام المدنية أمام الهمجية!» ويقول السِّر تشارلس بارتيس في آخر تاريخ إسبانيا: «إن عصر الآداب الإسلامية فيها كان من أزهى عصور امتزاج العناصر في تاريخ الحضارة.» ويقوم أصحابنا ينددون ويهدمون القصور الشامخة ليبنوا بحجارتها «مواقدهم»! يرحم الله ابن خلدون.

ويقرر المستر جب: «أن النثر العربي أخرج نثر أوروبا في القرون الوسطى من جموده وصرامته التقليديين، بما منحه من خياله الذي يشبع الحواس.» ونقرر نحن أن الخيال العربي ضعيف متابعين أوليري، ناقلين عنه، متمسكين بأهدابه كالأعمى بقائده، ناسين أن جاحظنا كان يخطِّئ أرسطو كما كان يكذِّب الأعرابيَّ متى لاحت له في شبهات البحث بارقة يقين.

ويقول الأستاذ جبٌّ: «أسمع العربُ أوروبا حكايات السندباد البحري وما إليها، فكانت خميرة للأدب الخيالي الأوروبي الجديد الذي زحزح الأدب التقليدي وحل محله، فنشأت في أوروبا الروايات الرومنتية.» ويقول العقاد: «لا ضير على أدب الأمة أو الفرد إذا خلا من القصص.» والقصة بكل أنواعها عندنا، حتى الشعر المطلق الذي يحاول أدباء أوروبا اليوم أن يوجدوه، عمله ابن العميد ومتابعوه، وإن أخرجه المقلدون عَمَّا وُضِعَ له، فكتبوا كل شيء بالسجع حتى التاريخ، فساءت صنعته. ألا إن آفة الفن التقليد.

ويقول جب: «إن قصة ألف ليلة وليلة التي ترجمت سنة ١٧٠٤ كانت أقوى عضد للأدب الخيالي، ففتنت أوروبا وقلدها كتابهم في قصصهم فأشبعوا نفوس الأمة وميول العالم، واتَّلدت منها قصة روبنصن وجيلفر … إلخ.» أما نحن فخبصنا صحيح الآراء بفاسدها، والخبيصة أكلة عربية تشتهى.

أيشبع الناس من الفتات المتساقط عن موائدنا ونحن أجوع من إليعازار؟ أيقوم كبار كتابنا ويقولون: لا ضير على أدبنا إذا خلا من القصص وأدبنا كله قصص؟

إذا قلنا: لا قصة عندنا اليوم صدقنا، أما قديمًا فلا وألف كلا. أكلُّكم توما يا أدباء العرب؟ هاتوا أصابعكم وكونوا مؤمنين.

لقد أخزانا هؤلاء المتمشرقون، فبينا هم ينقبون عن آثار آبائنا وتراث أجدادنا ويدرسون مخلفاتهم، ترانا في غفلتنا ورحى التنابذ تطحن، يشوقنا أن ننصِّر امرئ القيس أو نوثِّنه، والأخطل النصراني قال منذ ثلاثة عشر قرنًا: الأدب لا دين له. ونحن اليوم لا يعنينا من الأدب إلا الإشادة بذكر فلان وطمس ذكر فلان، وكلنا يبهر أبصارنا بهرج الشهرة القائمة على مثل قول النابغة: أنت أشعر العرب يا ابن أخي. وكم قالها وهو ماشٍ، فأرضى الناس أمس، وأضحك أبناءنا اليوم على مقاعد المدرسة. ما أشبهنا بتلك القارورة التائهة في عرض البحر المتوسط بين فينيقيا ومصر يوم كانت جبيل أورشليم العالم الوثني.

ألم ينبعث توفيق الحكيم بغتة كرجال كهفه، فرأى عالمًا جديدًا لا عهد له به ولم يتصوره في أحلام يقظته. ثم شبَّ واجتمع أشده بطرفة عين كأبطال صاحبته شهرزاد، بينا غيره يصرف العمر ولا يتمتع بما تمتع به هذا، ولماذا؟ لا يجيب على هذا إلا طه حسين، ونحن بالاستقراء.

وحدثت توفيق نفسه أن يشق عصا الطاعة ويخلع عن عنقه غل طه، فانتصب «أرميا» وحاول أن يكسر الجرة على عيون الرجال، ويجعل المدينة خرابًا وصفيرًا (أرميا، ١٩: ١٠)، فكتب طه روايته توفيق الحكيم (الرسالة، عدد ٥١، ص١٠٦٣) «الأديب الحائر». ولكن لباقة توفيق الحكيم في رده على ولي نعمته طه، وختام رده البارع أذهبا حفيظة الدكتور لتوفيق، فصب جام سخطه على رأس صديقه الزيات (الرسالة، عدد ٥٣، ص١٢) «بين أسلوبين»، فدار على لسان الإمامين ذكر سجع الزيات وثرثرة حسين، والسجع المطبوع خير من الثرثرة المملة، وربَّ كلمة جاءت عفوًا خلقت حولها أثيرًا بديعًا غرقت فيه المعاني القاتمة.

يقول المسيحيون في صلاتهم «الأبانا»: كما في السماء كذلك على الأرض، ونحن نقول عن أنفسنا: نحن نحن في كل دهر، كما في السياسة كذلك في الأدب، أما تعصبنا أمس للأسرة، فالقبيلة ثم للبلد ثم للأقطار؟ إن هذا دأبنا اليوم، فقبالة البصري والكوفي المصري والسوري، فكأنما كتب لهذه الأمة أن تتفرق أبدًا شيعًا حتى في الأدب الذي لم تختلف فيه أمة إلا بما يختلف به الجنود من سمات وشيات للطغمات والفيالق، وكلها للوطن.

الأمة في آدابها كالجسم، يتألف من أعضاء شتى تختلف أسماء وتلتئم لتؤلف شخصية مستقلة هي «هو» أما نحن فلا نعرف حتى «نحن» بل كلنا يقول: «أنا». وأنا لا تؤلف مجموعًا، ولن يصير الفرد أمة مهما ضخم نبوغه وتسامت عبقريته.

وإلا فكيف نؤَوِّل هذا النزاع القائم في مصر حول القصة؟ فماذا يضر الأستاذ عزمي الدويري ومشايخه إذا روَّج أدباء الشباب للقصة والفن القصصي، وقالوا: إن القصة أسمى ضروب الأدب، وأشيعها، وأخلدها، حتى يقول عنهم: أولئك الجهال الذين يسمون أنفسهم «كتَّاب الشباب»!

أأُميون هم يا ترى، أُهم شيوخ؟ عرفت أحدهم بحلب فما هو شيخ ولا هو أمي، إنه لشاب ظريف لطيف. إن الشباب سيصيرون شيوخًا فما ضركم لو تمتعوا بكلمة «شباب» في حينها كما تمتعتم بها من قبل أيها الأجلاء؟ فالمازني تباهى بها يوم قال كلمته في شاعرية زكي مبارك.

أما قول الدويري، ولا أدري مَن قال له هذا: «ومن هنا كانت القصة بين الصيغ الأدبية الصيغة الوحيدة التي لا يتطلب التبريز فيها مزية خاصة.»

نعم نعم، إذا كانت كحكاية سِتَّك يرحمها الله …

أما القصة التي نحن في صددها وننشدها فلا يحسنها إلا العبقري الذي خُلِقَ لها. وإلا لكانت كل القصص خالدة، وضاقت جنة آلهة الفن على عبادها الصالحين والأولياء الصديقين.

أتريد أن أقول لك ولأدبائنا «الغزاة» مَن هو الروائي؟ اسمعوا غير مأمورين: الروائي خالق مبدع، ومصور مثال، وشاعر كلِّي الخيال.

الروائي الفنان النابه يخلق عالمًا يتحرك وينطق ويحيا ويخلد، وبخلوده يخلد الفنان، فالحياة والخلود متبادلان بين الروائي وشخوصه، تبادل الثناء والتقريظ بين متزعمي الأدب عندكم.

إن ما يخلقه الفنان ويهب له جزءًا من حياته يحيا إلى الأبد، ولا يعطش إلى الأبد مَن يشرب من ماء بئر الفن، كما قال يسوع للسامرية.

إن ما يخلقه الفنان يتحرك كلما حركته يد مفكرة أو تداوله لسان، إن بين دفتي كتب القصص الخالدة عالمًا يتحرك كالبحيرة النائمة إذا داعبها النسيم.

الروائي الفنان يجعل روايته ساحة لعالمه، فتتمثل لك شخوصه بشرًا سويًّا، وتنتصب حولك كالجبابرة حول سرير الشاعر العبراني، الملك الحكيم، فلا تعود تعلم أين أنت. فقد يحملك الرخُّ، وقد تركب بساط الريح، وتلبس «القبع الأخفى». قد تدخل حتى أعماق النفس البشرية فتتغلغل في أحشائها، فترى كوائنها أدقَّ مما يريكه المجهر، وأبعد جدًّا مما تراه في التلسكوب.

الروائي الفنان الشاعر ينقلك إلى الساحة التي خلقها فترى البيوت والأسواق والجبال والأودية والأنهار، والسماء والنار، والأرض والفضاء، والكواكب والنجوم في رابعة النهار.

الروائي الموهوب يخلق أشخاصًا تنقصها الروح ولا تنقصها، فهي تتقمص روح قارئها فتحيا حينًا، كما عاشت زمنًا مع مَن أنشأها وأبدعها، هذا إذا كان مثله، ولا يتوهم مثلك أن الرواية لا يتطلب التبريز فيها مزية خاصة.

هكذا تتجدد حياة العالم الذي يخلقه الروائي المبدع المصور الشاعر، وإذا تُرك نام حتى يوقظه مفكر فيحيا بروحه آونة ثم ينام ثم تظل شخوصه تنتقل من روح إلى روح إلى يوم يبعثون.

تقول: «إن القصة في إنكلترة على الأقل أخذت تحتضر، فهذا ولز القصصي العظيم قد رأى أخيرًا … إلخ.» والخلاصة عدل عن الرواية إلى تأليف الكتب.

إن احترامي الفائق لوِلْزكم وشُبِنْهَوَركم وغوتكم ومَن إليهم من أساطين أدباء العالم لا يمنعني أن أقرر وأقول: ما هؤلاء إلا متقدمون في الأخوة من خدمة الهيكل وسدنته، فما ولزكم إلهًا إن هو إلا بشر، بل فرد من أفراد نوابغ الأدب، والفرد لا يؤلف أمة، والأمة — ولو كانت الشمس لا تغيب عن مُلكها كإنكلترة، أو كان مَلِكُها كالرشيد يوم خاطب السحابة — لا تؤلف العالم. فلا تخف أن تقوم القيامة إذا سمعت بزلزال في اليابان، قل لمشايخك: اكتبوا فما أخرجت الأرض أثقالها!

إن مشفر البعير لا يقع مهما تدلى، فلا تكن كأعرابي تلك الحكاية … خبِّر جماعتك — الكلام في سرك كما روى لنا العقاد عن زغلول، رحمه الله — أن خلوَّ أدبهم من القصة ليس بعيب. إنما العيب أَلَّا يكون عندنا قصصيون، ونحن مَن علَّم أوروبا هذا الفن. لقد طعَّمنا الأدب الأوروبي يوم كان برِّيًّا فصيَّرناه بستانيًّا، فلان ملمسه، ولذَّ وطاب طعمه، فأشبعنا النفوس الجائعة.

العيب يا صاحبي أن يقال عن سوريا «أهراء رومية» وهي عاجزة عن تموين أهلها!

إنما العيب أن يتناول المستر جب تاريخ نشوء القصة المصرية ويتتبع تطورها فتخرج من يديه كصبيرة طومسن … ولا يرى غير قصة «زينب» قصة مصرية بالمعنى الحقيقي. ثم يعيب خطتها التي لا تكفي ٤٠٠ صفحة، ويعيب أشخاصها التي لم تركَّب بدقة كافية، ويعيب تصويرهم بطريقة درامية؛ لأنه جاء ضعيفًا في الجملة. ويعيب طول الوصف، والقصص الاستطرادية التافهة التي لا تمت إلى الرواية بصلة، ويسوءه ضعف الخيال، والحوار باللغة العامية.

لنا احتجاج على الأستاذ جبٍّ مع متابعتنا له وشجبنا معه لغة الحوار بالعامية. إن لغة الحوار أيها الأستاذ الجليل مشكلة لم تحل حتى في أوروبا عندكم حيث تتكلمون — تقريبًا كما تكتبون — فكن رحيمًا، أما جماعتنا فنقول لهم: إن جي دي موبسان استعمل لغة الأقاليم أحيانًا، بيد أن هذا لا يبرر استعمالنا لغتنا العامية، بين الاثنين فرق عظيم، وأنتم كما نعهد لا تكتبون للمصريين «فحسب» بل للعالم العربي أجمع، وهذا العالم لا تربطه إلا اللغة الفصحى. أما إذا كنتم لا تزالون تدعون لاستقلال الأدب الفرعوني الناجز، فاقطعوا هذا الخيط!

وإلى الدويري أعود فأقول: القصة عمل فني جبار، لا كما توهمت فقلت سابقًا. ألم يرَ البروفسور جب في روايات نقولا حداد حركة سريعة ومواقف رائعة، ثم عاب خطة قصته؛ لأنها مفككة، وتعوز أشخاصها قوة التصوير؟ أما رأى أن زيدان والمنفلوطي لم يمثلا الهيئة الاجتماعية تمثيلًا صحيحًا في الألفاظ، وطريقة التعبير عمَّا في النفس وخصوصًا في الحوار؟

أما قال عن قصة «إبراهيم الكاتب» للمازني، والمازني وهيكل في نظري أدنى الكتَّاب المكتهلين إلى أدب القصة: إنها لم تحقق ما كان ينتظره المرء منها بعد تلك المقدمة، وإنها ليست قصة مصرية كما افترض المازني، فبطلها شخصية غربية تنطبق على النزر من المصريين، والقصة بكاملها غربية في المشاعر والمثل العليا والمسحة الأدبية والموضوع. ودراسة عاطفة الحب فيها غربية لا شرقية، ومظاهرها الخارجية أيضًا من حيث الشكل والأسلوب. ومن أمثلة ذلك: كثرة استعمال المجاز والجمل الغربية. وأغرب من ذلك كله جرى المؤلف على طريقة اقتباس فقرات من الإنجيل في رأس كل فصل.

الحاشية: ليست الفقرات من الإنجيل كما قال جب أو المعرب، بل هي من التوراة. ويظهر لي أن المازني أخذها من الترجمتين العربيتين، بل المرجح عندي أنه نقلها من لغة أجنبية وأظنها الإنكليزية.

وأخيرًا قال جب «تأدبًا»: إن رواية إبراهيم الكاتب متأثرة بالأدب الروسي. أما الحقيقة فهي أن في رواية المازني فصلًا يعدُّ ترجمة حرفية لخاتمة القصة الروسية — رواية سانين.

أليس من المخجل أن يروي جب أن أحد المجددين عندكم قال، منذ سنوات: ما هذه المناقشة الطويلة حول القصة، لقد سار الأدب العربي بدونها في الماضي ولم ينقص ذلك من قدره. فما هي إلا مثل جديد من أمثلة تقليد الأوروبيين … إلخ.

يا للفضيحة! ألم تكن القصة عندنا بكل أنواعها، فمَثَلُ مَن ينكر علينا القصة اليوم كمثل مَن ينكر على الملكة فكتوريا الرقي والتمدن؛ لأنها كانت تلبس من القماش ما يكسو عشرًا من ملكات اليوم. أو كمن يقول: إن لويس الرابع عشر وفولتير امرأتان لأنهما استعارا الشعر الطويل!

الخلاصة؛ على الشباب أن يحاولوا، فالغد لهم لا لنا. ذروهم في غيِّهم يعمهون، فلعل مغامرتهم في هذا الفن تنجلي عن روائي عبقري. إنهم يحاولون ملكًا أو يموتوا فيعذروا … أَلَا فاحسبوهم عمالًا في مصنع فإذا انقرض المتمرنون انقرض الأساتذة الكبار. فهل مَن يزعم أن الطفل يمشي فور انتصابه على قدميه؟ أَلَا يقع مائة مرة قبل أن يدرج!

اتركوهم يكتبون فلعلهم يوفقون، فلا يقول الأستاذ جبُّ فيما بعد: «القصة المصرية، وخصوصًا الأقصوصة، تقف اليوم في منتصف الطريق … فلا هي حافظت على الصبغة العربية، والخيال الشرقي الذي يمتاز بكثرة الحركة وتنوع الخيال، ولا هي وقفت في صفوف القصص الأوروبية. فأكثر القصص المصرية يشع من جوانبها إسهاب في الوصف بما يضجر القارئ ويدفعه إلى الملل والتبرم. وقد حاول بعضهم أن يركز في قصته أكثر من حادثة، فأخفق. ولهذا أرى — أي جب — أن التقليد في القصة المصرية أكثر من الخلق والابتكار، وأن البعض جاء بدون لغة الحوار التي هي روح القصة.»

هذا ما خطه القلم منذ أعوام بعيدة، وقد حقق الشباب، بعده، شيئًا مما رجوناه، وإن لم يستولوا على الأمد.

قال الأستاذ إبراهيم المصري، في ذلك الزمان، ردًّا على جب: إن القصصي المصري لم يخلق بعد. فقلت له: لا تيأس يا إبراهيم، وقُلْ معي: ويخلق الله ما لا تعلمون.

وأظنه قد خلق … وما على هذه المخلوقة أن لم تكن ملكة جمال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤