حكاية الدكتور «مختار»

انتهى العشاء في منزل أسرة «محب»، وجلس ضيفهم الدكتور «مختار» يتناول القهوة في الصالون. واجتمعت الأسرة كلها حوله … فهو — بالإضافة إلى كونه قريبهم — رجل لطيف، له ذكريات كثيرة مُسلية يشتاق «محب» و«نوسة» لسماعها، وخاصة أن «محب» ينوي أن يدخل كلية الطب عندما يكبر. ويتخرج طبيبًا مثل الدكتور «مختار». قالت «نوسة»: والآن يا عمي الدكتور، هل تحكي لنا شيئًا من ذكرياتك أيام كنت تعمل طبيبًا في الريف؟

ابتسم الدكتور «مختار» وهو يرشف فنجان قهوته ثم قال: لقد كنتُ أعرف أنكِ ستطلبين هذا الطلب، لهذا سأَحكي لك قصة ليست من الذكريات … فهي لم تُصبِح بعد في عداد الذكريات … إنها قصة طازجة حدثت أمس ليلًا … ولم أَجِد لها تعليلًا حتى الآن.

قال «محب»: إنها قصة غامِضة إذن؟

الدكتور: نعم غامضه جدًّا … وأرجو أن تُجرِّب ذكاءك في حلِّها، ما دُمتَ من هواة حل الألغاز.

زاد اهتمام «محب» و«نوسة» عندما سمعا حديث الدكتور، وابتسم والداهما لأنهما يعرفان اهتمامهما وبقية الأصدقاء «تختخ» و«عاطف» و«لوزة» بالألغاز والمغامرات.

قال الدكتور «مختار»: لقد مرت بي حوادث كثيرة غريبة وغامضة، ولكن ما حدث أمس كان أكثرها غموضًا وغرابة، وإثارة أيضًا.

وسكت الدكتور لحظات ثم مضى يقول: إنَّ أولادي وزوجتي قد سافروا للمصيف منذ أول الشهر، وأزورُهم في عطلة نهاية الأسبوع؛ فأنا الآن وحيد في البيت، أقضي النهار في عيادتي وهي كما تعلمون في الشقَّة المقابلة لمسكني. أما في الليل فإما أن أسهرَ عند بعض الأصدقاء … أو أحضر إليكم … أو أقرأ في الكتب والدوريات الطبية التي تصلني من مختلف المكتبات. وقد كنت متعبًا أمس. فقد عملتُ طول النهار وجزءًا من الليل في استقبال المرضى وعلاجهم، وفي الحادية عشرة تقريبًا انتهى العمل، ودخلتُ مَسكني للراحة، وبعد أن تناولت عشاءً خفيفًا، جلست أقرأ في الفراش قليلًا، ولكني لم أستمرَّ؛ فقد استسلمت للنوم …

وسكت الدكتور لحظات ثم عاد للحديث: ولا أدري كم مضى من الوقت وأنا نائم، ثم خُيِّل إليَّ أنني أسمع جرسًا يدقُّ، وأنا آخذ التليفون دائمًا معي إلى غرفة النوم؛ فقد يتصل بي مريض في حالة خطرة فأردُّ عليه فورًا، أو أذهب إليه إذا كانت الحالة تحتاج … سمعتُ الجرس وكأنني في حلم وبحكم العادة مددت يدي إلى التليفون ووضعت السماعة على أذني ولكنِّي لم أسمع شيئًا … لم يكن هناك صوت على الإطلاق … ولكن الجرس استمر يدقُّ … وتبينتُ أنه جرس الباب.

عاد الدكتور إلى الصمت … وكانت القصة قد بدأت تشدُّ انتباه الأربعة المستمعين، فركزوا أبصارهم على الدكتور الذي شرب رشفة أخرى من القهوة ثم مضى يقول: عرفت أنه جرس الباب، فأدركتُ أن ثمة مريضًا قد جاء في حالة تستدعي إسعافه السريع … وهكذا قمتُ مسرعًا إلى الباب وفتحته … وكما توقَّعتُ وجدت شخصين يقفان بالباب … أحدهما شاب ضخم مفتول العضلات يحمل رجلًا عجوزًا بدا عليه الهزال والمرض، فطلبتُ منهما الدخول فورًا.

ابتسم الدكتور «مختار» ثم استكمل حديثه قائلًا: كان المريض العجوز في حالة تعب واضح … فطلبت من الشاب أن يُمدِّده على الكنبة التي في الصالة … ثم أخذت أبحث عن حقيبة الكشف التي أحملها معي إلى المنزل، ولكنِّي لم أجدها … ويبدو أنني نسيتها في العيادة ولم يُذكِّرني الممرض «حسني» بها … لقد كان الرجل مُتعبًا فكشفتُ عليه بسرعة حتى أحضر الحقيبة ولكن الكشف عليه لم يُبيِّن شيئًا غير عادي … وقررتُ أن أُعطيَه حقنة مسكِّنة؛ فقد كان يَصيح من الألم أنه سيموت … وكثيرًا ما يكون الخوف والاضطراب أخطر على المريض من المرض ذاته … وأخذتُ أُطمئنُه وأتحدَّث مع الشاب الذي قال لي إن الرجل العجوز والده … وإنه يُعاني من الروماتزم والتهاب الأعصاب منذ زمن بعيد … وهي أمراض تَصحَب الشيخوخة عادة.

سكت الدكتور «مختار» لحظةً ثم عاد إلى الحديث: قررتُ أن أعاود الكشف عليه بدقة فاستأذنت منهما لحظات وذهبت إلى غرفة النوم حيث أحضرت مفاتيح العيادة وأسرعت إليها لإحضار الحقيبة وحقنة من دولاب الأدوية … وكان لا بدَّ من غلْي المِحقن فأشعلت الغلاية، ووضعت المحقن ووقفت بجواره.

وعاد الدكتور «مختار» إلى الصمت فقالت «نوسة»: إنَّ الحكاية حتى الآن ليس فيها شيء مشوق يا عمي الدكتور.

نظرت والدة «نوسة» إليها مؤنِّبة وقالت: ألا يُمكنك الانتظار قليلًا يا «نوسة»؟!

قال الدكتور «مختار»: معها حق … فالحكاية حتى الآن عادية جدًّا … وتحدث لي مرة أو مرتين أسبوعيًّا.

محب: إذن ما هو وجه الغموض في الحكاية يا دكتور؟

الدكتور: ستعلم حالًا … فعندما انتهيت من غلْي المحقن وحملته معي وعدت إلى الشقة لم أجد الرجلين!

وسكت الدكتور «مختار» وتبادَل الجميع النظرات وأخذت تدور في رءوسهم جميعًا أفكار مُتضاربة … كلٌّ منهم يُحاول أن يفسر سرَّ اختفاء الرجلين.

قال والد «محب»: لم تجدهما في الصالة فقط … أم في الشقة كلها؟

رد الدكتور مبتسمًا: لم أجدْهما في الشقة كلها … فقدت تصوَّرت أن يكون الرجل العجوز قد دخل دورة المياه مثلًا، وساعده ابنه ولكني وجدت دورة المياه خالية … وكذلك بقية غرف الشقة … لقد اختفى الرجلان تمامًا.

قال والد «محب»: لعلهما نزلا لسبب أو آخر ثم عادا بعد ذلك.

الدكتور: هذا ما فكرت به فعلًا … وظللت في انتظارهما ساعة كاملة دون أن يعودا. بل إني بقيت يقظًا في الفراش فترة طويلة أفكِّر في أنهما قد يعودان … ولكنهما لم يعودا مُطلقًا.

محب: لعلَّهما لصَّان وقد احتالا للدخول إلى الشقة بهذه الطريقة هذا هو التفسير الوحيد.

الدكتور: معَك حق، وهذا الخاطر قد خطر لي أيضًا، ولكنِّي بعد بحث دقيق لم أجد شيئًا ناقصًا مُطلقًا … لا شيء سُرق من الشقة على الإطلاق … وخاصة أن زوجتي أغلقت أبواب كل شيء تقريبًا قبل سفرها، ولم تَترُك لي إلا غرفة النوم مفتوحة.

عاد الجميع إلى الصمت … وكلٌّ منهم يَعتصِر رأسه لعله يعثر على تعليل أو تفسير لهذه الحكاية الغريبة دون أن يصل واحد منهم إلى فكرة مقنعة.

نظر الدكتور «مختار» إلى ساعته ثم قال: والآن أتركُكُم تُفكِّرون في حل اللغز، وأعود إلى المنزل.

قال «محب»: ألم تصل أنت إلى فكرة ما؟

قال الدكتور، وهو يضحك: شيء واحد … ربما لم يُعجبهما الكشف الذي وقَّعتُه على العجوز المريض فذهبا إلى طبيب آخر …

ضحك الجميع لهذه النكتة، واتجه الدكتور إلى باب الخروج وقام الجميع لتوصيله، فعاد «محب» يسأل: هل نستطيع أنا وأصدقائي أن نزور الشقة غدًا ونقوم بتفتيشها لعلنا نعثر على شيء ينير الغموض الذي يُحيط بهذه القصة العجيبة؟

قال الدكتور وهو يسلم عليهم مودعًا: مُمكن طبعًا، فليس أحب إلى نفسي من أن تتمكَّنوا من حل هذا اللغز الغامض … فأنا شخصيًّا شديد الاهتمام بحله.

نوسة: وهل أبلغت الشرطة يا عمي؟

رد الدكتور: ولماذا أبلغ الشرطة إنَّ شيئًا لم يُفقَد من منزلي … وما حدث ليس فيه ما يستحق تدخل الشرطة. خاصة الشاويش «علي» الذي لو سمع ما قلتُه لظنَّني أضحك عليه.

انصرف الدكتور «مختار» وجلسَت الأسرة تتحدث عن حكايته، دون أن يصلوا إلى حلٍّ معقول لما حدث.

كان «محب» و«نوسة» قد اتَّفَقا على إبلاغ بقية المُغامِرين بالحكاية؛ فهي فرصة ذهبية لتجربة ذكائهم وموهبتِهم في حلِّ الألغاز الغامضة، ولكنَّهما قرَّرا إرجاء الحديث مع الأصدقاء حتى الصباح ليَذهبوا جميعًا بعد ذلك إلى شقة الدكتور «مختار»؛ لعلَّهم يَعثُرون على أثر يُرشدهم إلى تفسير الحادث العجيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤