النوارس

لو أنه طائر يُحلق في الآفاق، سمكة لا تُصادف ما يعيق سباحتها في البحار والمحيطات، راكب بساط سحري ينقله إلى حيث يشاء.

عدا الأضواء المُتناثرة في الفلايك الصغيرة، غرق كلُّ شيءٍ في الظلمة. البحر أمامه كتلة منبسطة، هائلة، من السواد، والسفن المتباعدة يضوي ألَق أضوائها فوق المياه. اللطمات الهادئة للأمواج على مقدمة البلانس وجانبَيه.

هذه ثالث مرةٍ يركب البحر.

أولى رحلاته إلى أبي قير، علَت أمواج النوة بالقُرب من الشاطئ، لا يعرف العوم، فخشِي الغرق. أزمع ألَّا يُكرر الرحلة حتى نسِي. ثاني رحلاته إلى صخرة الأنفوشي، أغراه قُربها من الشاطئ، مضى ناحيتَها في قاربِ الصياد عوض القرني، عاد — آخِر النهار — بصورة للبحر تختلِف عمَّا ألِف رؤيته من الشاطئ: البيوت المُتلاصقة تشكل شريطًا في استدارة الأفق، حركة الطريق — من بعد — والكبائن، والمُتناثرين على رمال الشاطئ. لم يركب بلانسًا من قبل، ولا تهيَّأ لسفرٍ إلى ما بعد الإسكندرية، مدن بعيدة تختلِف في ناسِها، ويصعُب التصوُّر — مما أنصتَ إليه من حكايات — كيف يعيشون.

يتطلَّع إلى البحر، الأمواج المُمتدة أمامه، ينبغي أن يفعل شيئًا، لا يعرف صورته، ولا متى يبدأ، ولا أين ينتهي. ما يفعله الآن يختلِف عن كلِّ ما سبق في حياته. استغرَقَه حنينٌ غامر للسفر. لو أنه لم يرحل، يلحق نفسه بعملٍ ما، فسيفقد مُنى. لم يعُد لدَيه ما يربطه ببحري منذ ارتقى السقَّالة إلى البلانس. ربما عاد في زياراتٍ تالية، لكنه سيُمضي بقية حياته في الغربة.

يعرف أن للبحر أفقًا ينتهي إليه، لم يتصوَّر أن الأفق يمتدُّ إلى آفاقٍ مُتتالية، وأن الأمواج المُترامية بلا نهايةٍ ولا حدود.

يتطلَّع إلى النجوم المُتناثرة في السماء.

هل هي النجوم نفسها التي تُطل على الإسكندرية؟

لامسَت وجهَه نسمة باردة، أرجفَتْه بالنشوة، لحظةَ تَفاجُئِهِ بما لم يتوقَّعه، لا صِلة لها بتواصُل اللحظات، الرجفة لمُفاجأة غير المتوقَّع، تُداهمه في أوقاتٍ متباعدة، بما يُناقض مشاعر الترقُّب والقلق وافتقاد المؤانَسة. لحظةٌ ما تلبَث أن تزول، لا يدري بواعثها، ولا لماذا اختفت، كأنها الومضة.

برودة سبتمبر مُنعشة، تغيب فيها حرارة شمس النهار. زرقة السماء خالية، إلَّا من سُحب بيضاء، متباعدة، والنسائم تلتقي في تياراتٍ خريفية باردة.

داخلَتْه رغبة في التعرُّف إلى ما لم يُشاهده من قبل، ويتمنَّى رؤيته، المشاهد التي تصوَّرَها في قعدات القهاوي، الجلسات المُستظلَّة بهياكل المراكب في وِرَش القزق، بدت تحوُّلًا يتمنَّاه في حياته.

تساءل بينَه وبين نفسه: ماذا لو أن حوتًا تصدَّى للبلانس، حاول الْتهامه بمن فيه؟ هو لا يُجيد السباحة. أقسى الأمور أن يظلَّ في موضعه، يكتفي بالصراخ حتى يبتلِعَه الحوت.

السكون يُعمِّقه ارتطامُ الموج بحواف البلانس. الهواء معبَّأ باختلاط روائح أعشاب البحر، والنفايات، والزيوت المُتسرِّبة من السفن.

نظراته تتنقِل بين الأفق والدفَّة والأمواج الحصيرة، تتوقَّف عند ملامح الجالِسين في شِبه دائرةٍ لصق جانبَي القارب.

هذه هي المرة الأولى التي يلتقي فيها بمن أسلَموا أنفسهم للصمت والشرود والتوقُّعات، تُلامسه مشاعر القُرب والتعاطف والمشاركة، هم قريبون منه، وهو قريب منهم.

تنبَّه إلى أن ما يترنَّم به، أغنية للصيادين في أثناء رمي الطراحة، الكلمات والألحان تجتذِب الأسماك إلى داخل الطرَّاحة أو الجرَّافة، أو حتى إلى سنارة الواقِفين للصيد فوق مصدَّات المينا الشرقية.

بداية اللحظة تعود إلى زمنٍ لا يعرفه، وتمضي إلى زمن يصعُب تخمينُه. يتمنَّى أن تظلَّ اللحظة على حالِها، وإن عاشوا الخوف والخطر والتوقُّع، ينتظرون شيئًا تغيب ملامحه.

غاب عن بالِه تصوُّر المكان الذي يقصِده: هل هو مدينة هائلة؟ هل هو قرية؟ هل يعرف أهلها العربية؟

•••

وهو في طريقه إلى الدائرة الجمركية، تذكَّر — كالرؤى البعيدة — عمليات هدم المنطقة ما بين ميدان المنشية وأول شارع الميدان. تحوَّلت — لا يذكُر كيف — إلى شارع النصر الواسع، الطويل، يصِل باب الدائرة الجمركية بقلب المدينة، على جانبَيه بنايات جديدة، معظم شاغلِيها يعملون في الاستيراد والتصدير والنقل البحري.

حاول أن يُحدق النظر في كلِّ ما يراه، يتأمَّله جيدًا، يختزِنه في ذاكرته فلا يترُكه، يظلُّ ما رآه في عينَيه وذهنه، لا يُلغيه البُعد عن بحري: البنايات ذات النسَق المُوحَّد، مكاتب التصدير والاستيراد، ومكاتب المُحاماة، والمكاتب الهندسية، والمعامل الطبية، وعيادات الأطباء، والبواكي، ومحال الملابس والعاديات، والحناطير، وعربات الكارو واليد، واللافتات، والإعلانات المُلوَّنة، ومناشر الغسيل، والوجوه المُطلَّة من النوافذ، حتى باب رقم ستة المُفضي إلى الميناء والدائرة الجمركية.

هذه هي المرة الأولى التي يبتعِد فيها عن الأنفوشي، الصخرة آخِر ما تصِل إليه الفلوكة، ثم تعود. يتكلَّم عن البوغاز دون أن تُتاح له رؤيته، يتأمَّل — في جلسته على الكورنيش الحجري — تلاحُق الأمواج المُحملة بالزبد والأعشاب المُخضرة، تلامس رمال الشاطئ، أو يدفعها المد، فترتطم بصخور الشاطئ، تتصاعد، تنهمِر على الطريق، تبدو البحار من بعيد — وإن تمنَّى رؤيتها — غامضة، مجهولة، يُقلل من تأثيرات الخوف ما يتناثَر في أحاديث الشيخ عبد المجيد زيدان من عالَم مخلوقات البحر، والحياة الجميلة في ما وراء البوغاز، كما تأتي على لسان المُتوكِّل السروجي، وقراءاته في حكايات البحارة والقراصنة والمعارك البحرية. لقاءاتهما قليلة، لكنَّ صداقتهما على حالها.

ألِفَ زيارة المُتوكل في بيته بمساكن السواحل. بناية صغيرة، من طابقَين، مُلاصقة لبناياتٍ مُماثلة، طُلِيت واجهاتها باللون الأصفر، ونوافِذها بالأخضر. الباب الخارجي يُفضي إلى صالة صغيرة، وحجرةٍ للاستقبال، ومطبخ، وحمام، وحديقة خلفية. حدَس أن الطابقَ العلوي لحُجرتَي نوم.

يُنصت إلى حكايات المُتوكل عن عملِه في البحر، المِهَن التي تتَّصِل بالبحر، داخل الميناء، أو على بلانس، أو مركبٍ تجاري ينقلُه إلى الدنيا الواسعة، يحرِص أن يحتفظ بأشياء صغيرةٍ من المُدن التي يزورُها، يستعيد — بالنظر إليها — أماكن وأحداثًا وبشرًا. عاش حياته على البلانسات والبواخر الضخمة. زار موانئ قريبةً وبعيدة، أقام علاقاتٍ أحزنَه أنها انتهت بعودتِه إلى بحري.

يسرح بنظره في اتساع الميناء: الأفق، والبواخر الكبيرة، والحاويات، والأوناش، وعمليات النقل، والبلوطات والأجولة على الأرصفة، وقوارب الصيد واللانشات واليخوت والقوارب الصغيرة، وترامِي أصوات البحارة وعمَّال الشحن والتفريغ، وراكبي الزوارق الصغيرة، والباعة، والشيَّالين، والنداءات، والصخب.

يرنو إلى الأفق، يتخيَّل الحياة في الشاطئ الآخر، ما ينتزِعه من الأحوال الصعبة، ينقلُه إلى دُنيا مُغايِرة. يتوق إلى رؤية المدن البعيدة، الموانئ، الفنادق، العبَّارات، القهاوي، الطرق المُسفلتة بالبازلت، العيشة الهانئة.

ما يعرفه أن البلانس يَحمِله إلى بلدٍ يعرِف اسمه، ويعرف أنه سيلقى فيه حياةً تختلف عن حياته في بحري، لكنه لا يعرف سُكان تلك البلاد.

ما الأماكن التي سيراها؟ بمن يلتقي؟

هو لا يعرف كيف يحيا الناس في الميناء الذي سيصِل إليه، ولا المدينة التي سيُقيم فيها.

ذكَر المُتوكل السروجي أسماءً كثيرة: طرابلس، صيدا، غزة، نابولي، مقديشو، وأسماءً أخرى لم يستطِع نُطقها.

هل تصدِمه الغربة في السِّحَن، واللغة، وظروف الحياة؟

حياة المُتوكل في البحر أتاحت له الكثير من الذكريات، حصيلة التنقُّل بين الموانئ، الاختلاط بالبشَر من جنسياتٍ مختلفة، الصداقات الطارئة — كلها كانت كذلك — حتى الوعد بالرسائل المُتبادلة، ظلَّ لأشهر، ثم تباعَد على سنوات، ثم بهتَتِ الكلمات، وغابت.

يروي مشاهداته للدلافين المُتقافِزة حول البلانس في البحار البعيدة، يُمسك نفسه عن صيدِها، حتى لا يواجِه ريس البلانس — قبل أن يُواجِه الجميع — عقاب الصيد الممنوع.

أشار المُتوكل إلى تعدُّد الرحلات في حياته، دون أن يتحدَّث عن المشكلات التي ربما واجهها. هو — بالتأكيد — واجه ظروفا قاسية، لكن كلماته اقتصرت على الشوارع الفسيحة والميادين والقصور والحدائق والتماثيل والأضواء والنساء الجميلات، وكان دائمَ التلويح بقبضته، كأنه يؤكد ما يقوله.

– من تطول حياته في البحر لا بد أن يعود إلى الأرض.

ثم وهو يهرش بإصبعه مقدمة رأسه: أبلغ ميناءً ما، فأنا أبلغ بيتي، تجتذبني اللهفة.

واجهه مَرعي بنظرة متسائلة: نسيتَ قولك إن قبرك ليس في البر، وإن البحر قبرك؟!

وهو ينفض يديه: نلتُ كفايتي من البحر.

وغلبت المرارة صوته: أعود إلى البر في كل مرة، أُنفق ما حصلتُ عليه في البحر، أعود إلى البحر أجمَع ما أنفقتُه في البر.

أخذه التفكير، فعاوَد الضغط بأسنانِه على شفتِه السُّفلي، لا تنفرِج شفتاه إلا حين يبدأ في الكلام: لا بد من نهاية. أعمل في البر، أكسِب فيه، بدلًا من البحر.

قال مرعي بلهجة مُواسية: البحر هو وطنُك.

– مُستحيل … البحر غدَّار.

ثم وهو يلوِّن في صوته ليُحدِث التأثير الذي يريده: اليوم حصيرة تُغري بركوبه، وغدًا، وربما بعدَ ساعاتٍ، نوَّة، تبتلِع حتى البلانسات.

وهزَّ تكوُّر قبضته: لا بدَّ من نهاية.

وأغمض عينَيه، يستعيد مثلًا شعبيًّا يُعبر عن المعنى. تبيَّن أنه نسِيَه.

قال الأوسطى عبد الواحد حجاج: من يعرف البحر جيدًا لا يخشى أذاه، هو صديق لمن يعرِف ظروفَه، يحترِمها.

يتأمَّل حركة الطريق، عبر فاترينة المقهى الزجاجية. يُحركه الحنين إلى شيءٍ ما. تعترِيه أحوال من التأمُّل، أو الشرود.

رائحة البحر في أنفِه، أينما ذهب.

يأخذه الإحساس بالمَلل. يخترق — بلا هدفٍ — ميادين بحري وشوارعه وحواريه، يَميل من الميدان الصغير قبالةَ نقطة الأنفوشي، يخترق السيَّالة، يمشي في الشوارع الضيقة، المُتقاطعة، مُتعدِّدة الانحناءات، المُفضية إلى ميدان الأئمة. يندسُّ في حلقات الذِّكر على رصيف البوصيري، يرنو إلى واجهات البيوت، النوافذ والشرفات ومناشر الغسيل والإعلانات. حين يناوِشُه الضِّيق، ينزل البحر، يغطس بملابسه، ويصعد، يتمدَّد على قاربٍ فوق الرمال، أو على الكورنيش الحجري، حتى تجفَّ الثياب عليه. يدخل البوابة الهائلة لقلعة قايتباي، يرقى الدرجات إلى أعلى القلعة، يُطلُّ من المزاغل على البنايات في الناحية المُقابلة من الشاطئ، والمراكب، وأفق البحر.

– أُحب بحري، لكنَّني أُحِب رؤية الدنيا وما فيها.

يحسُد نفسه على بحري: أولياء الله، والبحر، والصيد، والموالد، والجلوات، وحلقات الذكر، والطريق إلى الميناء، والعودة من الحج.

الظروف القاسية أبعدت ذلك كله عن حياته.

تعدَّدت المِهن التي مارسها، فلم يُعرَف بمهنة محددة. يصحب البحَّارة الأجانب إلى داخل المدينة. يلتقِطهم من باب ستة. يدلُّهم على بارات اللبان، وقهاوي الكورنيش. ربما سبقَهم إلى بيوت في الرمل. يلجأ إلى تعبيرات وجهه ويدَيه لتوضيح المعنى لمن لا يعرفون العربية. يُجيد التكلُّم بستِّ لغات، وإن كان لا يكتبها. وقف على لعبة النشان في مولد أبي العباس. صعد — في ليالي العيد — على مسرح أحمد المسيري. ردَّد مع أفراد الفرقة أغنية ياللي زرعتوا البرتقان. عمل مُطيِّبًا للشيخ مرشدي القارئ بجامع سيدي نصر الدين، يهتف بعبارات الإعجاب من خارج السرادق، في قلب الميدان. وضع عربة يدٍ على ناصية السيالة، يبيع الفول والفلافل والبطاطس المقلية والباذنجان والخيار المخلل. اشترى كشكًا صغيرًا على ناصية شارع أبي وردة، يبيع فيه الوجبات السريعة.

عرف أبوه تردُّده على أماكن مشبوهةٍ في اللبَّان. طردَه من البيت، وحرَّم على إخوته لقاءه، أو ذِكر اسمه. حين طرده أبوه لم يكن السفر مما يشغَله. هجر البيت والحي، وركب البحر. قبِلَ الصعود إلى مركب دون أن يسأل عن طبيعة عملِه.

تحدث — بعد آخِر رحلاته — عن فكرةٍ تناوِشه: يُنشئ شركةً لتسويق إنتاج السمك، بعد شرائه من صيادي البلانسات.

استحسن الأوسطى عبد الواحد حجاج الفكرة، عرض أن يترك عمله في ورش القزق، ويشارك المتوكِّل فكرته، لكن المتوكل أرجأ الأمر، أو أهمله، بدا تدبير رأس المال صعبًا.

قال الأوسطى عبد الواحد: نحن في كرموز نُعاني مشكلات بحري. البلد واحد.

وفي نبرة هادئة لا تخلو من ضيق: الحياة في بحري تلخيص للحياة خارجه.

عرف مرعي أن المتوكِّل يمتلك خبرةً في أصناف الخمر، يهتف بالنشوة لصوت فتح سدَّادة الزجاجة. قال له أبوه: صديقك المتوكِّل يعرف أنواع الخمر أكثر مما يعرف أصناف السمك! لا يلحظ مرعي احتساء المُتوكِّل الخمر إلا إذا شمَّ رائحة فمه. الطافية ما يُفضله لنفسه، ويختار لأصدقائه ما يُرضيهم. يُسرف في احتساء الطافية، لا يفقد اتِّزانه، ولا قُدرته على التفكير، وإن صعدت به زجاجة بيرة فوق طاولة قهوة رأس التِّين، وأخذَه الرقص.

– أحبُّ السفر والخمر والنساء والعراك.

وأغمض عينَيه منتشيًا لهبَّات هواء من ناحية الأنفوشي: فكرتُ في أن أرتكِب ما يُتاح لي من خطايا، ثم أتوب في الشيخوخة.

وهزَّ كتفَيه في لامبالاة: ما معنى الحياة إن عشتُها كالسائر على الصراط؟ … لا بأس من ارتكاب الذنب، والتوبة.

رمقه تهامي غنيم بعيني سخط: إذا أردتَ دوام صداقتنا فعليك أن تتَّقي الله!

أردف وهو يُشير إلى الزجاجة الصغيرة في يده: هذا الشيء …

ولوی شفتَيه ممتعضًا.

شرد عن تهامي بتحوُّل زرقة البحر إلى صفرة قاتمة. تقافزت سمكاتٌ صغيرة فوق الموج الحصيرة، تدعوه لمُراقصتها، تُنسِيه ما يشغله.

عثر عليه تهامي غنيم — ذات صباح — ملقًى على أرض الدحديرة المُفضية إلى أبي العباس. لم يُنكر المتوكِّل الواقعة، ولا استنكرها من نفسه، ولا قدَّم تفسيرًا أو اعتذارًا.

هذا ما حدث.

فاجأه المُتوكل بالقول: نلتُ كفايتي من البحر، مثلما نال كفايتَه منِّي.

سَئِم العيش في البحر، الرحلات الطويلة بعيدًا عن بحري، الرياح والأعاصير والنوَّات، ارتفاع الأمواج بما يُقارب طول الصواري، هبوطها كأن طيَّاتها ستبتلِع المركب. تمنَّى — بينه وبين نفسه — أن تكون حياته بعيدًا عن البحر، وإن ظلَّ يُطلُّ عليه من نافذة البيت، ويترامى — عبر النافذة — صوت تلاطُم الأمواج.

ألِف في سيرِه تحيات أهل بحري من أرصفة القهاوي، ومن الشرفات والنوافذ ومداخل البيوت والدكاكين. يرُدُّ بالكلمات، أو يكتفي بإيماءة.

يُخفي وراء هدوئه مزاجًا متقلبًا، من الصعب توقُّع تصرُّفه في حدثٍ ما. يسكت كأن شيئًا لم يحدُث، ويأخذه الانفعال فيَصيح بالغضب. حتى يُخفي تهيُّؤَه للعراك، يدسُّ قبضتَه مضمومةً في جيب السيالة. إذا تملَّكه الغضب، فلا أحدَ يُواجهه، لا يتردَّد في فِعل أي شيءٍ للحصول على ما يُريده. ربما دخل في خناقة: تتطاير الشوم والكراسي والطاولات والأكواب الزجاجية.

رأى فيه الأُوسطى عبد الواحد حجاج اختصارًا لفتوات الإسكندرية القدامي: أبو خطوة وحميدو فارس والسكران.

تمنَّى أن يلتقيَ فتاة شقراء تُرضيها فُحولتُه، يُرافقها إلى مدينتها البعيدة، لا يفترقان حتى نهاية العمر.

أحبَّ بائعة فاكهة في شارع الميدان، تكبُره في السن، لكنها تُثيره بقعدتِها وسط عربة اليد، عجيزتِها الهائلة، ثدْيَيْها المتهدلِّين على بطنها، الحنة الحمراء في اليدَين والقدمَين. حاول مُعاكستها، فقذفَتْه بالسِّنجة.

النظرات الغاضبة أسكتت التفاتَتَه، وما همَّ بفعله. أخذه البحر، فغاب عن المرأة، وشارع الميدان، وبحري.

قال مرعي كراوية: أحببتُ البحر من قراءتي ﻟ «موبي ديك».

أردف للنظرة المتسائلة: رواية عن صيد الحيتان في المحيط.

شاهد الفيلم المأخوذ من رواية «ملفيل». استهواه المُمثل الأمريكي جريجوري بيك في شخصية الكابتن إهاب.

هل يطلع له من قلب الأمواج حوتٌ في ضخامة «موبي ديك»، يواجهه مثل الكابتن إهاب، ويقضي عليه؟!

قال المتوكل: بحر خيالك يقتصِر على صيد العصاري في المينا الشرقية. البحر الحقيقي شيءٌ مختلف.

أغمض عينَيه كمن يُحاول التصور: عندما تركب البحر فأنت تركب المجهول.

وهز راحته في الفراغ: البحر هو المجهول!

هل يُواجِه ما لم يدُر في خياله؟

هل يُسلِّم نفسه إلى ما لم يتدبَّر نتائجه؟

اجتذبته الأقوال والحكايات والأخيلة والمعاني المُوحية، لم يربط بين الفعل ونتائجه، نسِيَ حتى تَعلُّم السباحة، قلَّص في نفسه فُرَص النجاة إن حلَّ الخطر.

تأخذه الحيرة لعدم تبيُّن رغباته الحقيقية: ماذا يُريد من السفر؟ هل ينوي الهجرة، أو أنه يُمضي في الغربة وقتًا، ويعود؟

أعاد لأمِّه ما حدَّده لنفسه: ستة أشهر، يعود بما يُتيح العيش الذي يأمُله.

هل يُواجِه في الغربة ما يُباعد بينه وبين بحري، يحدُث ما لا يتصوَّره، ولا أعَدَّ له نفسه؟

حكايات كثيرة عن الرحلات التي لا تعود، جذبت انتباهه في الزوايا والقهاوي والقزق وصحن أبي العباس. حتى حضرة الشيخ عبد المجيد زيدان شغَلتْها حكايات غرقى البحر.

لم يتخيل أنه يترك بحري بإرادته، يدفع ثمنًا لتذاكِر الرحيل، يُعِد ثيابه، يهجر أُمَّه في لحظات وداعٍ قاتلة.

ظلَّ على رفضِه لفكرة السفر، ألغاها تمامًا، لم يتصوَّر أنه يبتعِد عن أُمِّه، تشكو فمن يُغيثها؟ تموت فمَن يُسبِل عينَيها؟

في انحناءة طريق الكورنيش، قبالة قصر رأس التين، فاجأته الشخطة بطلَبِ بطاقة الرقم القومي. لم يكن الاحتفاظ بالبطاقة يشغَلُه. بحري هو البيت، هل يحتاج المرء في بيته إلى ما يُثبت شخصيته؟

ترك قسم الجمرك — ظُهر اليوم الثالث — بشعورٍ مُغاير. لم يعُد بحري مكانًا يطمئنُّ إلى الحياة فيه.

انعكس إلحاح الظروف القاسية مَيلًا لخوض التجربة. أزمع أن يحيا المغامرة بكلِّ احتمالاتها. ما يدفعه لعقد العمل يستبدِل به أجر ركوب البحر، السفر إلى دُنيا تُبدِّل أحواله، الرواتب الهائلة، العيشة التي يتمنَّاها. ينزل إلى المدينة التي لم يرَها من قبل، يتقاسَمُه الشعور بالوحدة، والرغبة الغامضة في المغامرة.

واجه المُتوكِّل بنظرةٍ متسائلة: كنتَ رافضًا لفكرة العودة إلى البحر.. لماذا بدلتَ رأيك؟

في لهجة حاسمة: اليأس!

وتحسَّس إصبعُه شعرةً نافرة في أنفه، انتزعَها: لم نكن نُواجه ما نحن فيه لو أن ظروفنا كانت أفضل!

وأغمض عينَيه كمن يفرُّ من نظرتِه الثابتة: أنا نورس. عيشي في البحر، لكن لا أطيق البعد عن البر!

وقضم بأسنانه طرف شاربه: بحري حياتنا لولا العيشة الصعبة!

غالَبَ مرعي كراوية انفعاله: دفعتُ خمسة عشر ألف جنيه … هل أدفع عمري ولا أسافر؟!

في صوتٍ مُتآكِل المقاطع: طُولِبت بعشرين ألف جنيه. دفعت ثلاثة آلاف، ووقَّعت على شيكاتٍ ببقية المبلَغ.

أضاف كمن يُلقي موعظة: رمانا على المُرِّ ما هو أمرُّ منه.

أطلَق أسراب الحمام من «البِنيَّة» فوق سطح البيت. تابع انطلاقها حتى التلاشي في الأفق. تبلُغ أماكن لا يرحَل إليها.

– لم يعُد في بحري ما يُغريني بالبقاء. حتى الذكريات الجميلة تلاشت. لا يُوجَد إلَّا الحزن.

أردف بنبرة قاطعة: لا أطيق العيش في بحري … في الإسكندرية كلها.

أمَّن المتوكِّل على قوله: صحيح، لم تعُد مصر بلدًا يصلح للعيش!

قال الأوسطى عبد الوحد حجاج: هل تريد مصير تهامي غنيم؟

دارى ارتباكه بادِّعاء حشرجةٍ في حلقه، تنحنح وقال: أرحل للبحث عن لُقمة العيش لا للزواج من جنيَّة البحر!

قال الأوسطى مُستخفًّا: ضيعت عروس البحر تهامي غنيم فنسِيَ رزقه!

تحسَّس المتوكِّل شاربه بطرف إصبعه: مشكلة تهامي غنيم تنتهي بزواجِه من امرأة تنسى ظروفه وخلقتَه.

تكرَّرت رؤيته لتهامي غنيم في الجلسة التي اختارها لنفسه داخل مساجد الحي وزواياه، يسند ظهرَه إلى الحائط، بالقُرب من المحراب، يحرص على الجلوس إلى الأرض، ليس بعدَها مرتبة ينزل إليها المرء، أبرز ما يُميزه عينان جاحظتان كعينَي ضفدعة، وحاجبان كثيفان متَّصِلان من أعلى الأنف، دبغت الشمس وملوحة البحر بشرتَه، صارت أمْيلَ إلى السواد. له وجه مليء بالبثور، ووجنتان ناتِئتا العظام، وأنف مُتورِّم، وعنق نحيل تتوسَّطه تفاحة آدم، تتحرَّك بالنُّطق، أو بابتلاع اللعاب. لغِلظة شفتَيه، فقد كان يحرص على زمِّهما.

هو دائم الشرود، مهموم بالبحث عن العُزلة التي يريدها، ينأى بنظراته عمَّا حوله، تلتمِع عيناه بالتحديق في شيءٍ لا يراه، وإن جسَّد في مخيلته الكثير من الرؤى والتصوُّرات.

قال لمرعي وهو يُزيل بإصبعه سحابة دمع: أنت والمتوكِّل وبقية الشبَّان لكم علاقات في بحري وخارجه. لماذا لا يكون لي مَن تُحبني وأُحبُّها؟

إذا عانى شدة، أو تحرَّكَت في نفسه أخيلةٌ وتهويمات وعلاقات تُثيره، فإنه يتَّجه إلى أقرب مسجدٍ أو زاوية.

شرح لإمام جامع ميبر ما يُعانيه.

قال الإمام: مَن لا يخاف الحِساب؟!

وفي لهجةٍ مطمئنة: المؤمن يخاف الله.

وربَّت كتفه: ليكن الخوف حصنك في اتِّقاء عذاب الله.

يأخذ في تلاوة الأوراد والأدعية حتى تزول الشدة. إن غالَبَه النوم، تمدَّد أمام عمود، طوى ساعِدَه تحت إبطه، ونام. ربما وقف على أرضيةٍ جافة إلى جانب جدار، يُصلي ركعتَين في غير مواعيد فرائض اليوم، يشغَلُه أن يطرد الهواجس اللعينة من داخله. لو أراد أن ينال ما يتمنَّاه، فعلَيه أن يتحكم في شهواته، ويُهمل لذائذ الحياة.

حتى قهوة أنَّح لم يعُد يتردَّد عليها. يمضي في طريقه دون أن يلتفِت ناحية القهوة، ربما ألقى التحية، أو لوَّح بيده.

•••

قبل أن يُفاجئهم تهامي غنيم بعودته، تعدَّدت الروايات حول الجهة التي ذهب إليها، فلم يعُد.

آخر ما عرفوه من حياته تردُّده على البيوت والدكاكين والقهاوي، يبيع أطقمًا للمطبخ، يحملها في حقيبته البلاستيك: أكوابًا وفناجين وملاعق وسكاكين وثيابًا داخلية. لمَّا ضاقت ظروفه، وقف على رصيف أبي العباس، يبيع أحقاق النشوق والمسابح وأعواد البخور والمسواك، سجَّل من إذاعة القرآن الكريم خُطبًا دينية على شرائط وأسطوانات. صفَّها على ترابيزة خشبية معقوفة الأرجُل، على الرصيف الجانبي لجامع البوصيري. ثم أهمل ذلك كلَّه، واكتفى بالطرَّاحة، يمضي بها — كل صباح — إلى الأنفوشي، أو المينا الشرقية.

أوكل إليه الشيخ حفظي أبو السعد فتح مسجد المسيري، وإغلاقه، والإشراف على كنْسِه، وتنظيفه، وفرش السجاد والحصير.

يواظِب على قراءة الأوراد، يُقيم الصلوات في أوقاتها، حتى لو نسي الشيخ موعِد الصلاة، وضع راحتَيه في جانبَي وجهه، ورفع الأذان.

قرأ في كتب المُتصوِّفة أن التوكُّل وقصر الأمل هما السبيل إلى الجنة. أزمع أن يأخُذ بالأسباب قدْر استطاعته، لا يأذن للوسواس الخنَّاس أن يدخل نفسه، ويُنقي القلب عن كل ما يشغله عن الله.

ترك المعاصي، وأقبل على الطاعات، وأكثرَ من الاستغفار كما الصوفية. تمنَّى أن يُتاح له العيش في استقامة، اعتاد قيام الليل، يقرأ القرآن، وتراجِم آل البيت والخلفاء والصحابة والتابعِين، وتعلَّم قراءة أدعية طرْد الأرواح والجان. قرأ كتابًا اسمُه «الجنة في وصف الجنة»، كما قرأ سِيَر آل البيت والصحابة والأولياء والتابعين، قرأ عن السيد البدوي، أخذ عليه شقيقه عزوفَه عن الزواج. قال البدوي: تأمُرني بالزواج وأنا موعود من ربي ألا أتزوَّج إلا من الحُور العين الحِسان؟

أكثر من التردُّد على ضريح أبي العباس للتبرُّك، ولتطهير الجسد والروح من الآثام التي علقت بها، واقتصرت أسئلته — في دروس المغرب — على شروط دخول الجنة.

الطهارة وثبات اليقين ضرورة لعبور الصراط إلى الجنة، لا يُعاني الخوف من السقوط على أحدِ الجانبَين.

شرد في كلمات إمام أبي العباس: الآخرة، حساب الملكَين، القيامة، الصراط، البقاء في الجنة أو النار، الجنة مثوى المُتقين في الفردوس مع الحور العين.

هذا ما شغلَه تمامًا، استولى عليه.

اتخذ الشيخ شيخًا له، صار درويشَه ومُريدَه، يجلس إليه، يُنصت لكلماته. بدا ظلًّا للشيخ في قيامِه وقعوده. لا يطيق فراقه، أو الابتعاد عنه.

قالت روايات إنه نزل البحر للصيد بالطرَّاحة، عمله الذي لم يُبدِّله، يقذِف الشبكة في دائرةٍ بآخِر قوَّته، ثم يبدأ في تضييقها، حتى تلتئِم الدائرة، بداخلها حصيلة السمك. اعتاد الناس نزوله البحر بمُفردِه، في المنطقة من السلسِلة إلى ما بعد قلعة قايتباي، عبَرَته نظراتهم بحُكم العادة، لا يلحظون متى نزل البحر، ولا أين، ولا متى عاد إلى السيَّالة، إن كان قد عاد بالفعل.

مصطفى سليم بائع الصحف في انحناءة الطريق إلى حلقة السمك آخِر من رآه. قال إنه تتبَّع خطواته المُهرولة، تختلف عن رؤيته له في أوقاتٍ سابقة، يسير في خطواتٍ بطيئة، متأمِّلة أو شاردة، كأنه يقصد مكانًا يعرفه. مال من جانب طريق الكورنيش إلى الساحة المُفضية لمساكن السواحل.

رجَّح ريس الصيادين محمود دغيدي، أن تكون عروس البحر قد أوهمَتْه أنها حورية الجنَّة التي تمنَّاها، حورية الجنة شاغل كلماته «وحورٌ عينٌ كأمثالِ اللؤلؤِ المكنون». قبل أن يُغيِّبَه زحام المساكن والشاطئ الحجري الفاصل بين المينا الشرقية والأنفوشي. أكثر من التردُّد على الساحة، يعبُرها إلى الشاطئ الخلفي، يتعثَّر بين الرمال والحجارة والأصداف والقواقع والأعشاب والعُلَب الفارغة والزجاجات والأسماك الميتة. قصد عزلة المكان للخلوِّ إلى نفسه، طلع من قلب الموج كائن أشبَهُ بعروس البحر في مدخل متحف الأحياء المائية، تختلِف الجنيَّة عن العروس في اتِّصال جسدِها السمكي بقدمَين كالبشر.

ألِف الشيخ حفظي أبو السعد مشاهدة تهامي غنيم يتَّجِه إلى قهوة مخيمخ؛ لأنه لا يجد مكانًا يقصده، فهو يمشي بلا هدف، يخترق الشوارع والحارات والأزقَّة، ينتظر الردَّ ممَّن يُلقي عليه السلام، أو يواصل السير دون أن ينتظِر ردًّا.

قال محمود دغيدي إن جنِّيَّةَ البحر تختطف من تُصادفه وحيدًا على الشاطئ، تجتذِبه بغناءٍ جميل، يمضي إلى داخل الموج، فتأخُذه إلى الأعماق، أصابعها مَخالب تخترق جسد الإنسان، تلتهِم أحشاءه، تشرَب دماءه، تُلقي الجسد الميت إلى الأسماك، تجِد استمرار حياتها في شُرب دماء البشر. ذلك ما يفعلُه عفاريت ومرَدَة وجنيَّات بحر يختطِفنَ الرجال من شوارع بحري إلى الأعماق البعيدة.

أومأ الشيخ عبد المجيد زيدان بمُوافقته أن تكون عروس البحر قد أغوَتْ تهامي غنيم بما صدَّقَه، وإن أنكر الشيخ قتلَه. رجَّح أن العروس صحِبَته إلى الأعماق، ربما تتبَّعتْه في سَيرِه بالقُرب من البحر، تختطِفه في أرضٍ خالية، تُعانقه، تمضي به إلى داخل الموج، يغوصان في الأعماق، يرى ما لم يخطُر في تصوُّره، دنيا حافلة بالسِّحر والأسرار، يخلُد فيها المرء، يمتدُّ خلودُه — بعد أن ينتهي الكون — في الجنة.

غالب الجميع شعور المفاجأة لرؤية تهامي غنيم على الباب المُوارِب بقهوة الزردوني: هل ترحلون بدوني؟

•••

تناثرت على الشاطئ كراسي خالية، ومظلات مغروسة في الرمال ومطوية، وعلب فارغة، وأكياس بلاستيك، وأوراق ممزقة، وبقايا طعام.

حين قدم الرجل الممتلئ، تُميزه بشرة غير حليقة، ونظارة طبية، في قاربٍ أشبَهَ بالفلوكة، فطِنوا إلى أنه قدم من أجلهم. عبَرَهُم الرجل كأنه لا يعرفهم. قبل أن يغيب في انحناءة الصخور أشار إليهم كي يتبَعُوه.

اخترقوا الأزقَّة الضيقة، المُتشابكة وراء التلِّ الصخري.

تملَّكه شعور بأنه عاش في هذا المكان، أو رآه في الحلم.

البيوت أشبَهُ بكهوفٍ تصطبغ بالصُّفرة. الجدران تآكلت بملوحة البحر. الأبواب والشبابيك منزوعة الضُّلَف، والدكاكين أقرب — في ضيقها، وتنوُّع بضائعها — إلى دكاكين السيالة.

تبِعوا الرجل إلى مدخل بيت كهفي.

انتقل إليهم شعور الارتباك الذي وسَمَ تصرفات الرجل، التقطوه من كلماته الكثيرة، المُتقاطعة.

– متى نرحل؟

– يومان أو ثلاثة … مجرد ترتيبات.

وألقى في الفراغ نظرةً خاوية: نحن الآن في مرحلة التخزين، تأتي بعدها المرحلة النهائية.

وهزَّ رأسه مُؤمِّنًا على قوله: لا تقلقوا!

قال المُتوكِّل: المَلل ما أُعانِيه وليس القلق!

ثم وهو يُمَسِّد شعر رأسه: عملي يُتيح لي عيشة طيبة.

حدَجَه مرعي بنظرةٍ مستغربة: لماذا ترحل إذن؟

– التغيير!

وجری براحته على عنقِه، كمن يشعُر بالاختناق: لم يعُد أمامي إلَّا الإبحار … لا يُهمني البلد الذي أقصده. ما يُهمني أن أهجُر بحري.

لم يعُد بحري هو الحي الذي ألِف العيش فيه. يمشي في شوارعه مُغمَض العينَين، بحري — إن أغمض عينَيه — هو الصورة التي لا تُفارقه. يشعر أن الشوارع والبيوت والجدران تُطبق عليه، تُحاصره، تكتم أنفاسه، فيختنِق. حتى الناس من حوله لم تعُد تَعنيه رؤيتُهم، ولا تبادُل التحية.

حدَّثَهم الرجل عن المئات من المصريين، يعملون في إيطاليا. أقلَّتْهم البواخر — أو السيارات — إلى ليبيا. عبروا البحر إلى الموانئ الإيطالية.

– سواحل ليبيا قريبة من إيطاليا، رحلة قصيرة تنقلك إلى الجنة!

وطرقع بإصبعَيه الوسطى والإبهام: معكم نقود؟

نحَّى مرعي نظرته عن الزبد على جانبَي فم الرجل: دفعتُ في الإسكندرية معظم ما معي.

دفع أمَّهُ إلى رهن بيت السيالة. وقَّع إيصال أمانة بباقي المبلغ، يدفعه مما يكسِبه في نابولي.

البيت من طابقَين، اقتصرت حياتهما على شقةٍ من صالة وحجرة واحدة لأمِّه، قُسِّمت الصالة إلى حجرة أنتريه، وسكَن الأخرى، تفصِل بينهما ستارة قماشية. الكنبة يَستعملها للجلوس والنوم، ورُصَّت الكتب على الأرض، وعلى الجدار مسامير عُلِّقت عليها شماعات تحمِل ثيابَه.

قال الرجل: أجر القارب من البلانس إلى نابولي.

أضاف بلهجة ملوَّنة: أنت هناك تأخُذ في شهرٍ واحد ما قد تُضيع عمرك كلَّه دون أن تحصل عليه!

مدَّ يدَه إلى جيب البنطلون، فتح كفَّه المُطبقة في راحة يدِ الرجل، أفرغ ما بها: هذا كلُّ ما عندي.

حدجَتْ أُمُّه حقيبته الجلدية الصغيرة، طوى فيها ثلاثة بنطلونات، وثلاثة قمصان، وغيارات داخلية. رفض أن تُضيف سندوتشات إلى داخل الحقيبة، ربما فسدَتْ أثناء السفر.

وهي تتلمَّس المُوافقة في عينَيه: أكل يسند قلبَك!

وسرَت في صوتها حشرجة: من يركب البحر ومَعِدته خالية يُصيبه الدوار.

أجادت — من أيام أبيه — إعداد أطعمةٍ لا تؤذي راكب البحر، وتُقلل فُرَص الدوار.

حرصت — في أيام ما قبل السفر — على طبخ ما يُحبه من الأكلات: الملوخية، البامية، المسقعة، فتة اللحم.

تحثه: رُمَّ بدنك.

وبلهجةٍ متواطئة: لن تجد مثلَه في المركب.

وَمضت على شفتَيه ابتسامة: في كلِّ المراكب ثلَّاجات تحفظ الطعام.

تأمَّل — بعفوية — جسدها النحيل، وعينَيها السوداوين، الضيقتَين، وشفتَيها اللتَين تُعانيان اعوجاجًا بسيطًا بتأثير مرَض قديم، وقميص نومها القطني الواسع، بأزراره المقفولة حتى الرقبة، وقدمَيها الحافيتَين، وشعرها الأسود لمَّتْه في منديل أسود، تُطلُّ من مقدمتِه خصلة يتخلَّل سوادها بياض.

أخلى وجهه لابتسامة مُشفقة: هل سنطلع المركب دون أكل؟!

حاولت أن تُثنيه عن فكرة السفر، يدعونا البحر لركوبه، إذا صِرنا فوق أمواجه، ذهبت بنا إلى الأعماق. استعادت قول أبيه: البحر غدَّار.

– اليوم حصيرة تُغري بركوبه، وغدا — وربما بعد ساعات — نوَّة، تبتلِع حتى البلانسات.

نسي الأب ما قاله، وركب البحر، فلم يعُد.

ابتسمت في وجهه لتُخفِّف من وقع الكلمات: لا تتطلَّع إلى ما تعجز عن بلوغِه.

وفي نبرة مداهنة: أخشى أنَّ الأحلام تسرِق عمرك!

وارتجفت ملامحها بما يُشبه التهيؤ للبكاء: ستُضيِّع عمرك في الهرَب!

أشاحت بيدِها. انحسر المنديل عن رأسها، ظهر شعرُها الذي اختلط فيه السواد بالبياض: إذا ابتلعك البحر.. فأنت تختار الانتحار!

زارت أضرحة الأولياء ومقاماتهم، نفَّذت كلَّ ما طلبه الأقطاب، أطالت الدعاء عقب أداء صلاة الفجر — هو أفضل وقتٍ تُستجاب فيه الدعوات — أطلقَتِ البخور في ساحة البيت، تصاعَد، دخَلَ كلَّ الحجرات في طابقَي البيت، الأرضي وما فوقه، يطرُد الأرواح الشريرة التي ربما — سعيًا للأذى — تُلِحُّ على ذهن مرعي بركوب البحر.

أشاحت عنه. قالت في صوتٍ تعروه ارتعاشة: افعل ما بدا لك.

وزفرت: طهقت!

لاحظت تلفُّته وهو يتهيَّأ للخروج.

قال لنظرتها المتسائلة: ربما نسيتُ شيئًا.

وهي تُغالِب دمعها: لم يعُد في البيت غيري، تعود فتجد ما نسيتَه في مكانه! لم تخطر له فكرة السفر، أيقظها في نفسه كلامُ المتوكِّل، السِّحَن المختلفة والموانئ والمطارات والساحات، يواصِل حثَّه على العمل في البحر، في الميناء، في التخليص الجمركي، في الترسانة البحرية.

صعد إلى سطح البناية الجديدة، ذات الطوابق العشرة، على ناصية الحجاري. شرد في تصوُّرات التطلُّع من جهات السور إلى المشاهد التي تُطلُّ عليها: البواخر الضخمة والأوناش والرافعات والأرصفة المكدَّسة بالبضائع في الميناء الغربي، وصيد الجرَّافة والطرَّاحة في الميناء الشرقي، والبلانسات ذات القلوع والصواري تتناثر في خليج الأنفوشي، واللنشات الطائرة فوق الموج.

•••

وضع همَّه في إعداد الأوراق.

تبلورت أُمنياته في أن يركب البحر، يُسلم نفسه إلى الشرود في رحلاتٍ لا تنتهي، يُسافر إلى المُحيطات والموانئ والمدن والجزر والمشاهد التي يُحاول تصوُّرها، يجوس عوالم مليئة بالمغامرات والخيال.

ربما جلس على صخرة — اختارها— تطلُّ على مرسى القوارب في المينا الشرقية، يغمض عينَيه، يتخيل ما لم يره، ويتوق إليه.

ظل على إهماله تحذير أُمِّه من أخطار ركوب البحر. هو لا يعرف العَوم، ولن يجِد — إن غرق المركب — من يُنقذه.

قال: سأهاجر. وسكت.

لم يَهبها الفرصة للسؤال ولا المناقشة، ولا معرفة ماذا يُخطط لحياته، وإلى أين يُهاجر، ولا حتى خطورة رهن البيت.

منذ اختطفت الأمواج أباه، من فوق البلانس، إلى الأعماق، وهي تكرَه البحر. ترفُض كل ما يأتي به، لا تجلس، ولا تسير، أمامه. ما يُعطيه البحر لا يُساوي ما يأخُذه، نُريد أعزاءنا، ولا نُريد كل خيرات البحر، إنها طعوم لاجتذاب الأعزاء، واختطافهم، وتغييبهم إلى حيث لا يدري أحد. لم يكن يشغَلُه الصيد، العودة من البحر بما يبيعُه أو يأكُله. يستهويه تهيُّؤ السمكة للموت، ارتعاشاتها المُتوالية داخل الغلق. يُقطِّعها بالساطور وهي لا تزال حية، يُلقي بأحشائها في صندوق القمامة إلى جواره، يُقطِّع الجسم إلى شرائح كبيرة.

حذَّرَتْه من أن يواجه ما لم يتصوَّره من الإهانة والسجن والترحيل الإجباري، ربما يلقى الموت في بلادِ الغربة، أو تأكُله أسماك البحر.

داست قدمُه الحافية كومةَ نملٍ حول شقٍّ في أسفل الجدار: الموت بيد الله، قد أموت بلا سبب.

وعلا حاجِباه بالدهشة: إذا قدَّرنا أن السفن ستُواجه الغرق إن هي أبحرت … فلماذا لا نمنع الطائرات من التحليق، والقطارات من السير على القضبان، حتى السيارات نمنعها من السير على الطرق؟ … لماذا لا نوقِف الحياة؟!

وأحاط عنُقَه بيدِه: الحياة هنا مثل حبْل حول عنقي، أتخلَّص منه لأتنفَّس!

وشابَ لهجته عناد: البحر مليء بالسَّمك … لماذا لا أُلقِي شبكتي؟

يُحزنه رزق يومٍ بيوم، تمنَّى أن يعمل في بلانس صيد، يطلع أعالي البحار، يعود بالخيرات التي تُبدِّل حياته.

غيَّمَت سحابة أمامه: أريد أن أعيش كما أُحِب، لا كما أراد أبي.

وأخلى وجهه لتكشيرة: أقصى ما أراد أبي أن أحصل على الدبلوم.

وجاهد ليبدو صوتُه هادئًا: لم يَشغله ما أفعل بالشهادة.

ونفخ في ضيقٍ واضح: من الصعب أن أُحقِّق ما أريده.

ثم وهو ينقر على جبهته بإصبعه: أُصادف في كلِّ خرابة عفريتًا.

تشاغلَتْ بالهتاف في برص يختفي وراء نملية المطبخ: صاحب البيت اسمُه محمد.

اسم أبيه.

تشفُّعها باسم الرسول لتُداري ارتباكَها، لا لتأمَن أذى البُرص، يلامس الملح، فيُصاب الجسد بالبهاق — بُقَع صغيرة بيضاء تظهر على البشرة — تتَّسِع حتى تُغطي الجسد كله، أو مُعظمه.

في نبرة تذكير: اسمي مرعي.

قرأ في عينَيها ما حاولت أن تُخفيه: هل أنسى الاسم الغالي؟!

ووشی صوتها بالارتباك: ذكرتُ أغلى الأسماء لأُبعِد الشر عن البيت!

حرصت أمُّه — في ليالي إقامته الأخيرة في البيت — على رشِّ الملح فوق رأسِه، تُرفِقه بدعواتٍ كي يُنجِّيه الله من أخطار السفر. لمَّا أنجبت — بالتعاقُب — ثلاث بنات، صنع لها الشيخ سعيد معوض، خادم سيدي ياقوت العرش، تعويذةً ترجو من الله الولد.

لماذا يعمق حزنها بالفقد؟ لا تعرف له قبرًا تجلس أمامه، تؤنس رقدتَه، تُردِّد آيات القرآن والدعوات.

نادته في نومِه على السرير ليَعْدِل عن قراره، تجاهل نداءها، شرد في تكوينات النشع على الجدار، حتى استغرقَه النوم.

•••

في تقاطُع شارع صفر باشا وطريق الكورنيش، أغمض عينَيه، فلا يرى ما قد لا يراه ثانية. شوارع ضيقة، مُتداخلة، أرضيتُها من التراب، الطرق الضيقة، المُلتوية، تتحوَّل — عند هطول المطر — إلى بِرَك من الماء والطين اللزِج. على جوانبها صفوف من البيوت القصيرة، أُزيلت الطوابق العُليا من بعضها. لها رائحة تُذكِّره بحلقة السمك، الزفارة المُختلطة بروائح الطعام والنفايات، وما يتسلَّل إلى الجسد بالخدَر.

اقتحمه الشعور وهو يَمضي في الشوارع الضيقة، يميل إلى المفارق والتقاطُعات، يخترق الحواري والأزقة، أنه لم يكن يعرِف مدى تعلُّقه بذلك كلِّه.

هل يُدرك نيَّاتِه الحقيقية؟

هل يعرف ما يُريده بالرحيل؟

اعتاد الجلوس على الكورنيش الحجري، تُتابع عيناه سربًا من الطير يُحلق فوق خليج الأنفوشي، أشكال وتكوينات، تطير في أسرابٍ إلى نهاية الأفق. يتسلَّى بقذْف قِطع الحجارة الصغيرة في قلب الموج، تُصدِر ما يُشبه ارتطام اللسان بأعلى الحلق. تصنع دوائر، تتَّسِع وتتَّسِع، ثم تتلاشى، يعود الموج الهادئ إلى سكونه، يُكرِّر ما فعل، ويُكرره، حتى يملَّ أو يزهق، أو يأخُذ ويُعطي مع الجالس — مصادفة — إلى جانبه.

قال الرجل ذو النظارة الشمسية: لماذا لا تفعل مثل شبَّان كثيرين؛ تستخرج جواز سفر، وتركب البحر؟

– إلى أين؟

– حيث توجَد الفلوس!

نزع النظارة، أدارها بين أصابعِه: هل تريد ركوب البحر؟

مال برأسه إلى الخلف، واتَّجه إلى الأفق: أركب الهواء إن كسبتُ من ورائه.

حدق الرجل في عينَيه: هل تعرف لُغاتٍ أجنبية؟

– أتكلم … لكنَّني أكتُب بالعربية وحدَها.

عدَّد له المِهَن التي يمكن أن يعمل فيها: أعمال البناء، الخدمة في المطاعم، تنظيف المداخن، العمل في محطة للبنزين، وفي أماكن انتظار السيارات.

حدَّثه عن حسني الفقي تاجر الأدوات الصحية بشارع عبد المنعم، أول ما فعله — بعد أن قضى في الغربة سبع سنوات — منع أباه من الوقوف فريشًا في الحلقة. خصَّص له راتبًا شهريًّا، وأقعده في البيت. فتح متجرَه، وأضاف إلى البضائع المصرية بالاستيراد من الخارج، واشترى البيت الذي تسكُنه أسرته، واشترى سيارة، واطمأن إلى تزايُد ودائعه في البنوك.

مسح بظهر يدِه لعابًا تكوَّم على جانب فمِه: ما كان يحدُث ذلك لو أن الفقي تردَّد في السفر!

حدَّد خمسة عشر ألف جنيه، يُسافر إلى زوارة في شمال ليبيا، ومنها إلى شواطئ إيطاليا. الإقلاع في الظلام.

وعدَّل النظارة فوق أنفه: لديك جواز سفر؟

– من السهل استخراجُه.

– اكتُب في خانة المهنة ما يُساعدك على إيجاد عمل … ميكانيكي … ترزي … حلَّاق … صاحب شركة.

ولوَّحَ بإصبعِه مُحذرا: لا تكتُب بدون عمل.

ثاني يوم، اشترى الأوراق، واتَّجه إلى نقطة الأنفوشي.

أخذ دورَه في الطابور، أمام النافذة الحديدية المُطلَّة على انحناءة الطريق. عرف ما ينقصُه من أوراق.

لمَّا قدَّم جواز السفر، قال الرجل مذكرًا: الأوراق تحتاج إلى نقود.

رفع حاجبَيه في دهشةٍ مستغربة: أنا لا أشتري السمك في الماء.

استطرد بنبرة محتجَّة: أعطني الأوراق وتذكرةَ السفر، تأخُذ المقابل.

رمقَه الرجل بنظرة مستاءة: كم عمرُك؟

– أديتُ الخدمة العسكرية.

– تحتاج إلى تعلُّم الحياة.

وتبدلت نبرة صوته: أنت لم تعِش حياةً حقيقية!

وهزَّ سبابته أمام وجه مرعي، فكاد يلامِس أنفه: هذه رحلة لا يعرف بها أحد، لا شركات الملاحة ولا شركات الطيران، ولا الحكومة نفسها.

وعاودَ هزَّ إصبعِه لتأكيد المعنى: إنها رحلة غير قانونية.

حدَج مرعي الرجل بنظرة مستفهمة: كيف تحصُل على السمك من بحرٍ جفَّت مياهه؟

ثم وهو يمسِّد رأسه براحة يدِه: ألا يمكن دفع مبلغٍ أقل؟

وشی صوت الرجل بجفاف: من يركب البحر بطريقةٍ غير مشروعة، عليه أن يدفع ما يُطلَب منه، ليست هناك وسائل أخرى!

زوی ما بين حاجبيه: لماذا إذن جواز السفر وكل هذه الأوراق؟

– مجرد احتياط.

ثم وهو يقلب شفتَه السُّفلى: من يدري؟!

•••

لاحت بدايات النهار. تحولت المرئيات — في الأفق — إلى ما يُشبه الأطياف.

مِن زمن، تاق لشيءٍ بعيد، تغيب ملامحه، لكنه يحلم بالوصول إليه، أحاديث قهوة الزردوني أعادت ما كان يَتناساه.

سكنتْه نداءات البحر، فلم تبرَحه، تخلَّلت ثنايا نفسه، يُعاني الفضول والإغواء واللهفة لرؤية ما لم يسبِق له رؤيته، يُغالب العجز عن تحقيق حلمِه بالسفر إلى المدن البعيدة، يُطارده إحساس بالفراغ، لا يملِك الفرار منه.

عند انحناءة طريق الكورنيش في الشاطبي، يُطالعه ارتفاع مئذنة أبي العباس بين البِنايات، هو في بحري. يخترق الشوارع المُفضية إلى البيت، يجلس على شاطئ البحر، في القهوة، يزور مقامات أولياء الله لقراءة الفاتحة، وطلب المدَد، يجوب الشوارع بلا هدف. انشغالُه بمعاناته يصرِفه حتى عن التمعُّن في الوجوه.

اختفى بيت أم البحرية في ظاهر الأنفوشي، أول الطريق إلى قصر رأس التين. أسواره، حديقتُه الصغيرة، الأعمدة العالية، الشرفات الرخامية البيضاء، حلَّت موضعه بِناية سكنية، بدَّلت طبيعة المكان.

يتخيل لنفسه قصرًا في الموضع ذاته، كما في ألف ليلة وليلة: الحديقة الواسعة غُرست فيها الأشجار الظليلة والنخيل، الباب المُكفَّت بالذهب والفضة يُفضي إلى قاعة واسعة، أعمدتها من الرخام متعدِّد الألوان، تتوسَّطها فسقية من الرخام المُزدان بالنقوش المذهَّبة، تحيط بنافورةٍ على هيئة سمكة هائلة، ينبثق من فمِها الماء، أرضية الردهات والحجرات مُغطاة بالرخام مُتعدد الألوان، الأسقف مُزينة بزخارف الذهب. الستائر من الحرير الموشَّى بالخيوط المذهَّبة. وثمة الطنافس والأبسطة والرياش والتُّحف الثمينة من الخشب والخزف والزجاج والبلور والعاج والنحاس، وروائح الصندل والمِسك والعنبر والعود. جعل للقصر ثلاثة أبواب تحت الأرض، تنتهي إلى الخلاء المُحيط، يلجأ إليها في أوقات الخطر.

يخرج من البيت في زقاق العماوي، يخترق شارع السيالة. يُلقي السلام على الواقِفين أمام الدكاكين وأبواب البيوت، والجالسين في القهاوي، أو داخل المطاعم، حتى يصِل إلى نهاية الشارع. يميل إلى اليمين. يُخلِّف وراءه مقام سيدي كظمان، يدور حول البناية الهائلة إلى قلب الميدان الصغير، المُسوَّر. كلَّمه أبوه عن اتِّساعه في القديم، وامتدادِه في التقاطُعات، دون حواجز من أي نوع. يتلو الفاتحة — بتلقائية — على أرواح الأئمة في مقاماتهم المتجاورة، داخل البناية الحجرية بنوافذها الحديدية العالية.

يخترق الشوارع القريبة من طريق الكورنيش، يعرف أن كلَّ شارع لا بدَّ أن ينتهي إليه.

يعبُر إلى الناحية المُقابلة.

تُبطئ خطواته على الرصيف الحجري. ينظر إلى الأفق: تناثُر القوارب والزوارق والبلانسات وأسراب الطيور والصخرة الهائلة في مدى الأفق. يُطيل الوقوف، ينتظر المراكب العائدة.

لا قلق، فقد اعتاد الانتظار.

يلقي الصيادون شِباكَهم المُحملة بالأسماك على الشاطئ، يُصنفونها، كلَّ نوعٍ على حِدة: البوري والمرجان والبربوني والمياس والدنيس والوقار والأناش، وأنواع أخرى كثيرة، يبيعونها بالشروة، أو ينقلونها إلى الحلقة لمزادٍ يرسو على السعر الأعلى، يتركون البسارية، يجمعها الأولاد، أو يقذف بها باعة السمك في مشنَّاتهم، يشتري شروة، أو يكتفي بالبسارية.

وافق على بيع إحدى كليتَيه.

حدَّق الطبيب في نتائج الأشعة والتحاليل. قال في ابتسامة مُشفقة: عندك متاعب في الكليتَين!

وقذف بالأوراق على المكتب، ونظر إلى الواقف خلفه.

•••

يعرف أن السماء تُراقبه، تُحاسبه على أفعاله. من يتَّقون الله، يقصدون وجهَه، وعليه يتوكَّلون، يُهلل الملك رضوان مرحبًا، يدخلون الجنة بغير حساب، لا يمشون على الصراط، لا يُنشَر لهم ديوان، ولا يُنصَب ميزان، لا يُحاسبون ولا يُعاقبون.

عاب على مُحسن أبو سمرة صاحب مطعم النبلاء بالسيالة، أنه أسرف في إرضاء لذَّته، فأمات الله في جسده موضع اللذة. استبدل الرجل بالمُتَع الوقتية إقبالًا على الزهد والعبادة، عرف معنى الحلال والحرام، الصواب والخطأ، الفضيلة والرذيلة، العمل الصالح والعمل السيئ. لم يعُد يتردَّد بين شهوات الدنيا ودواعي الآخرة. يُقصي خيالاته الجنسية، يكتمُها، يبتِرُها، لا يزني بامرأة في قلبِه.

أراد أن يجمع بين العبادة والتجارة، فتح كشكًا لبيع التقاويم والأجندات والكُتب الدينية. يأسًا من السيطرة على وقت التجارة، فقد هجرها، ولازم العبادة. ترك تجارته وأُسرته وبيته، خلع عن نفسه ما كان يرتدِيه من زُخرف الحياة وزينتها، لاذ بالصوفية يطلُب منها الحياة بلا قيود، ولا مسئوليات، إلا ما تطلُبه الأوامر الإلهية، زهد في الدنيا وما فيها مما يتكالَب عليه الناس، استبدل التبتُّل بفكرة الزواج، داوم على الصلوات والعبادة والأذكار. يحفظ الجوارح، يؤدِّي الفرائض، الصوم والصلاة والدعوات والابتهالات، يُواظِب على النوافل بعد إحكام الفرائض، يحرِص على أداء صلوات إضافية زيادة عن فروض الصلاة، تُعوِّض ما قد يكون نَسِيَه في صِباه وشبابه. فنِيَ عن نفسه، وعن الناس من حوله، وعن كل ما سوى الله، يقتصر لجوءُه إلى الله سبحانه، يَمتثِل لأحكامه ونواهيه وأقدارِه.

لم يعُد يشغلُه حتى الجلوس على شاطئ البحر، يمضي — بعد صلاة العشاء في أبي العباس — إلى البيت، الجلوس أحلى على شواطئ أنهار الجنة، تحت ظلال أشجارها.

حين بدأ البلانس رِحلته، لم تكن النوَّة في بالِه، يعبر الأحاديث عن النوَّات، لا يستوقِفه المعنى، كأن تأثيراتها من البوغاز إلى داخل المدينة.

غابت الصورة في تلاشي البنايات. حتى البلد الذي يُسافر إليه غاب عن خاطره، مجرد أن يترك الإسكندرية، يجد فرصة عمل في مدينة لا يعرفها. تبلورت أُمنياته في عملٍ ثابت، يُتيح له الحياة، بعيدًا عن التوقُّعات القاسية.

•••

لم يُكلِّمها عن موعد سفر البلانس. خشِي أن تفقد تماسُكها البادي، فتُربكه. أوصى الريس قباري الحصري، أبلغَها بسفره بعد أن أدَّى صلاة العشاء في جامع المسيري. حدَس رحيل البلانس — في ذلك الوقت — عن الإسكندرية.

حين سأله الريس قبَّاري عن الشركة التي سيُهاجر على سفينة لها، تبين أنه لم يعرف اسم الشركة، ولا حتى اسم الرجل نفسه. يُناديه بالأستاذ، والنظارة الشمسية فوق عينَي الرجل تُضفي عليه الهيبة، وتعزله عن الأسئلة.

ظلَّ على ثقة — بينه وبين نفسه — أن قراره نهائي، ولن يرجع عنه.

لم تعُد أمُّه تسأله عما يشغله. هو دائمًا مشغول بأشياء تجهلها. إجاباته عن أسئلتها كلماتٌ مُدغَمة، أو مطموسة.

بعفوية، يتحسَّس التميمة المُتدلية من عنقه، عادة ألِفَها منذ أحاطت عُنقَه. يشعر أن ضياع التميمة يُفقده جزءًا من جسده. كتب الرجل في الورقة ما لم يتبيَّنه من الكلِمات والجُمَل وأشكال المُثلثات والدوائر والمُربعات. طوى الورقة مرَّات، حتى صارت في حجم ما بين الإصبعَين. عرف أنها طلاسم تحمي خطوات حياته. ترك لأمِّه خياطتها في هيئة حِجاب، وصَلَتْه بخيطٍ علَّقه في عنقه.

قال الشيخ عبد المجيد زيدان إنَّ ركوب البحر مخاطرة للجميع، إن تخلَّى البحر عن هدوئه في لحظةٍ ما، فهو يُغرق كل شيء. ذلك ما يحدث حتى للصيادين؛ البلانسات تخرج للصيد فتغرق، تخرج بِطالبي الهجرة فتغرَق، البحر بلا أصدقاء دائمِين، لا شأن له إن كان ركوبه للنُّزهة، أم للصيد، أم للهجرة.

اتَّجه ناحيتَه بنظرة مُشفقة: لماذا لا تلجأ إلى الله؟

في تقريرية يَشُوبها الضيق: لجأتُ إلى الله أحيانًا كثيرة، لكن الله — فيما يبدو — كان مشغولًا بعبادِه الآخرين.

جاوز الشيخ المعنى: ركوب البحر فيه مُخاطرة. البلانس يُبحِر للصيد، وقد لا يعود، الفلوكة الصغيرة قد تقلِبُها مَوجة عالية في وقفتِها على الشاطئ.

سرح بنظراته وهو يُمسِّد لحيته: نحن نُعِد الشباك لصيد مخلوقات البحر، طبيعي أن تُعِد لنا الشباك هي أيضا!

ألِف مُريدوه دعوتَه — في نهاية كل موسم صيد — للوقوف بالتذكُّر والحداد على أرواح الصيادين الذين ابتلعَهم البحر.

•••

زايل مرعي التردُّد حين قال له الرجل: الأوراق هكذا جاهزة … هيئ نفسك للسفر!

استعاد قول المتوكِّل السروجي: أكرَه أن أظلَّ في مكانٍ واحد، أريد أن أكون طائرًا يتنقَّل بين كلِّ الأمكنة!

شرد بنظراته: أُحب بحري.

قال المُتوكل في لهجة تسخيف: كُلنا نُحب بحري … الحُب لا يُؤكِّل عيشًا!

ظلَّت صداقتهما منذ تزامَلا في مدرسة راتب باشا الابتدائية. توقف المُتوكل عن مُواصَلة التعلُّم، بينما حصل مرعي كراوية على دبلوم التجارة، اشتغل كلٌّ منهما في العديد من المِهَن، إن واجها الإخفاق، باعا ما يحصُلان عليه من شروات السمك، على الشاطئ، أو مِن الحلقة، يلتقِيان — في فتراتٍ مُتقاربة، ومتباعِدة — على قهوة أنَّح على ناصِيَتي طريق الكورنيش وشارع صفر باشا. خيط الكلام ينطلِق من بين شفتَي المُتوكل دون توقُّف، ومرعي يكتفي بالإنصات.

قال له المُتوكِّل في قعدتِهما على قهوة أنَّح: في أجسادنا أمراض لا نعرفها إلَّا إذا اشتدَّ ألمُها!

أعاد — بتلقائية — تأمُّله.

حاجبان كثيفان، يعلُوان القوام الفارع، والعينَين العسليتَين، والأنف البارز، المُستقيم. شاربُه الكثيف يتدلَّى عند جانبَي فمِه، لا يُمشِّط شعره، يتركُه مهوشًا. البشرة أمْيَل إلى السُّمرة بتأثير أشعة الشمس ومُلوحة البحر، لفَّ حول مِعصمه أسورة من الجلد. يحرص أن يُبرز تفوُّقه، وأنه يعرف ما يغيب عن الآخرين. يتخذ هيئةً استعراضية وهو يروي ما يعرفه من معلوماتٍ بصوت يخرج من حلقه. لا يُعطي حسابًا لتصرُّفاته، يتصرَّف وفق ما يُمليه حدسُه وتخمينه. ما يُواتيه يفعله دون تدبُّر. إن سار شوَّح بذراعِه، كأنه يتهيَّأ لنزال، يُشوِّح بيدِه إن تلبَّسه الغضب، وما أكثر ما كان يغضب، يتناثر الغضب رذاذًا من بين شفتَيه.

نظر المُتوكِّل إلى نفسِه في باب القهوة الزجاجي: ملامحي وسيمة.. لو أن أسرةً إيطالية تقبَل بي ابنًا!

شرد في أيامٍ بعيدة، يمضيان إلى المخطاف، يتأمَّلان البواخر الواقفة في محاذاة الرصيف، وعمليات الشحن والتفريغ، وأصوات البمبوطية والعتَّالين، والقوارب الصغيرة، والحِبال المتدلية، وامتزاج الرمال ولزوجة الزيت الأسود ونفايات البواخر.

لم تعُد الوقفة القديمة متاحةً هذه الأيام، لا بدَّ من تصريحٍ بالدخول، وإجراءاتٍ أمنية سخيفة.

أزمع أن ينزل البحر، يركبه، لا يعود إلا بعدَ أن يتبدَّل الحال، في البحر، أو بعيدًا عنه.

– أنا أحيا بلا أملٍ في تغيُّر ظروفي … لماذا لا أموتُ في البحر وأنا أُقاوم هذه الظروف؟!

ثم وهو ينظر إلى أمه: لن أُعاني في البحر أسوأ مما أُعانيه في البر!

تلمَّست الموافقة في عينَيه: أنت هنا تجشد من يُغيثك.

هز كتفيه: لم أجد!

وقاوم رغبةً بتحطيم شيءٍ ما: لا أملك شيئًا أخشى فقده!

– هوَّنَ وجودُك موتَ أبيك.

وداخَلَ صوتها أسًى: قد أموت وأنت في الغربة … من يغمض عينيَّ؟

رفع أعلى صدره، وأغمض عينَيه، بما يشِي بنفاد صبره: إذا وجدتُ فرصةَ عمل، فلا سبب يمنعني من الرحيل.

قبل أن يميل في شارع الكورنيش، التفتَ وراءه. كانت أمُّه لا تزال واقفةً على باب البيت، تُلوِّح له بيدِها.

حرَّك يدَه ملوِّحًا.

•••

كالحلم، عانوا الترقُّب والملَل والخوف، على الصخور الهائلة، المُختلطة بالأحجار المثقوبة والأعشاب والطحالب والرمال والقواقع والأصداف والزيت الأسود ونُفايات المراكب.

عاد ركاب القارب إلى تناثُرهم فوق الصخور، أو مُغالبة التوتر بالتقافُز بينها. لم يُحاولوا — ولا أزمعوا — أن يتعرَّفوا إلى الموضع الذي صحِبَهم إليه الرجل، أو يتطلَّعوا إلى البحر.

الساحة الحجرية المُطلَّة على الموج، يفوح فيها اختلاط روائح الملح واليود والطحالب والأعشاب، وثمَّة مقاعد بلاستيكية تتخلَّل نباتات برية، وتتناثر في زواياها بقايا بول وغائط.

الهدوء على وجه فتاةٍ وحيدة، ذكَّره بمُنى.

ردَّت الفتاة على نظرتِه العفوية بنظرةٍ ثابتة، لا تتحول، السَّحنة ليست غريبة، لعلَّه رآها من قبل، أو أنه يعرفها.

هل هو طبعُها، أو أنها تُداري الخوف؟

حلَّ في ذهنه سؤال وامِض: أين مُنى الآن؟

دس يده في جيب السويتر الداخلي، بسط الصورة الصغيرة على أصابعه: مُنی.

منتهى إحساسه بالنشوة في وقفته — وقت الفجر — على كورنيش الأنفوشي، يتفحَّص النسوة العائدات من داخل البحر إلى الشاطئ الرملي، تلتصِق الثياب الداخلية، المُبتلة، بالأجساد، تطول وقفته حتى يتنبَّه إلى صخب الحركة من حوله. يدفعه صراخ الرغبة إلى زنقة الستات، يخترق الأجساد في الطُّرق الضيقة بين الفاترينات الزجاجية وكومات البضائع، تغمرُه النشوة في اندفاعه المحسوب.

يحلم بفتاةٍ يُحبها وتُحبه، يلتقِيان بعيدًا عن أعين الناس، يتكلَّمان ويتكلَّمان، يُشرق بهما الكلام ويغرب. تُساوره الرغبة في فتاة، أية فتاة، لا يستدعيها في صورةٍ محددة، فهو لا يعرفها.

بدت حورية بحْر في خروجها من الماء، استعاد ما قرأه عن حوريات البحر: الجسد البلوري، الصوت الجميل، الرفقة — في الأعماق — إلى مُدن السحر، تُمسِّد شعرها المبلول، تُمشِّطه بأصابعها إلى خلف العُنق، تنفض الماء عن الجسد الذي أبان البلل قسماته.

اعتاد الوقوف على الأرض التُّرابية، أول شارع أبي السعادات، يُتيح لنفسه رؤيتها، ولتعرِف أن ذلك ما يُريده.

تطول وقفتُه أول المسافة بين الساحة الترابية وشارع أبي السعادات، يأخُذه الشرود في السكون السادر، يتسلَّى بمشاهدة الحركة داخل البيوت المقابلة، خلف النوافذ المضيئة، ما يبدو طبيعيًّا، وما يلفت الانتباه. ينتبِه لحركة، فيتَّجه بنظراته إلى شُرفة الطابق الأرضي في البيت المُواجِه.

تمنَّى لو أن الجرأة أسعفته، يُلقي في طريقها بتصرُّفٍ أو عبارة، ينفتح ما تصوَّرَه مغلقًا، تُبادره بتحية، أو ابتسامة.

كتم حُبه في نفسه، لم يَبُح به لأحد، ينصت إلى كلمات المتوكل المُرغِّبة في معرفة البنات، يصطنع الفضول بإلحاح الأسئلة. في بالِه مُنى وحدَها لا تُغادره. اكتفى — في رده على الأسئلة التي تلاحِظ ما يُخفي — بكلماتٍ مُدغِمة.

عاد إلى وقفتِه أول الشارع، يرقُب إطلالتها من النافذة، يُغالب الشوق واليأس، يظلُّ في وقفتِه حتى تُطفئ نور الحجرة، وتوارِب الشيش، لا تُغلقه، وتتَّجِه إلى داخل الشقة. ربما أطال الوقوف حتى تخترِقه النظرات المُتسائلة في الشارع والدكاكين والنوافذ القريبة. يبتعِد — ليومٍ أو يومَين — بخوف التوقع، ثم يعود إلى الوقفة التي اعتادها، يُهمل حصار النظرات، تأخُذه اللهفة إلى نافذة البيت المُقابل، لا يُبدِّل نظرته، ربما لأن النافذة في الطابق الأرضي فهي مُسيَّجة بالحديد.

دفعته جرأة لم يتدبَّرها إلى اللحاق بها في انحناءة الطريق إلى المينا الشرقية.

همس: مُنی.

فاجأته بنظرتِها الغاضبة: عيب يا مرعي!

لم تعُد تُطل من النافذة، ولا تخرج من البيت، دون أن يُرافقها أخوها الصغير.

تيقَّن من الشعور الذي لم يُلاحظه من قبلُ في نفسه. يغمض عينَيه، يستعيد صورتها في لحظات، تعزله عما حوله. علق بأذنه صوتُها، يستعيدُه في أوقاتٍ متقاربة، عندما يخلو إلى نفسه، أو في النبرات المُتلاغِطة.

أزمع أن يختصر الطريق، فيتقدم لخطبتها.

قال الريس قباري الحصري: من دلَّك على بيتي؟

– سألتُ في الحلقة.

حدجَه الريس بنظرة متفحصة: أُولى زياراتك إلى الحلقة؟

– لم أزُرها، ولا أعرف ما يتَّصل بالصيد.

شابت صوتَه نبرةُ غضب: تطلُب النَّسب من عائلة صيادين؟!

وقرَّب إصبعَين من وجهه: أمامك خياران؛ الزواج أو الصوفية.

ذهبت الكلمات من رأسِه، وتجمَّد لسانه في فمه، لم يدْرِ ماذا يقول.

– رأيتُك في حلقة الذِّكر على رصيف البوصيري.

سرَت في صوته بحة: ما شأن الصوفية بزواجي؟!

– حتى تتزوَّج لا بد أن تتحمَّل تكاليف الزواج، وهو ما لن تُحققه ظروفك الحالية.

وكأنه فقد الرغبة في مُواصلة الكلام: الزواج ليس مجرد عقدٍ يكتُبه شيخ، إنه شبكة ومهر وهدايا وحفل زفاف وتأثيث بيت ومصاريف لا نهاية لها.

أعد في نفسه ما ينبغي عليه قوله، لكن النبرة الواشية برفض الأب أربكته، فظلَّ صامتًا.

– تعلَم أن الإنفاق على البيت واجب الزوج؟

تخلَّلت صوته بحَّة: طبعًا.

– حصلت البنت على دبلوم التجارة للتعلُّم لا للعمل. الزوجة لبيتها!

ترك الباب مواربًا، يدخله إن وجد عملًا يفتح بيتًا.

وهو يُغالِب الارتباك: السفر فرصة لتبديل الأحوال.

– هل تجد كنز على بابا، فتحمِله وتعود؟ ما يُدريني أنك لن تَضِيع في الدنيا؟!

وأدار عينيه: أقدر حُبك لمني … لكنَّني أرفض أن تؤذي بِحُبك الآخَرين.

•••

اقتحمه قلقٌ لرؤية طاقم البلانس، ستة رجال لم يلتقِ بأحدهم من قبل. حتى الرجل الذي أخذ النقود وجواز السفر غاب عن الرحلة.

تفحَّص الجواز. فاجأه بالسؤال: اسمك محسن؟

هز رأسه بالنفي: هذا ليس اسمي.

– ما اسمك إذن؟

– في جواز السفر.

اخترقه بنظرةٍ غاضبة: أجِب عن السؤال.

لكزَه المُتوكل، وهمس: احتياط أمني.

وقرب شفتَيه من أذنه: السجن مصير من يرحل دون تأشيرة.

قبل أن يصعد البلانس، سلَّم الطاقم كلَّ ما بحوزته: جواز السفر، الموبايل، النقود، القلم. صارت الجيوب فارغة.

اهتزت السقالة في استناده على درابزين الحبال المجدولة، الخوف من المجهول يُقيد خطواته.

كأنه عبر ردهةً ضيقة إلى صحن جامعٍ يمتلئ بالمُصلين، اختلطت السحَن والنداءات والأوامر والصيحات والصرخات. أعاد تأمُّل المكان بنظرةٍ مُستريبة.

للبلانس رائحة تختلِف عن الروائح التي اعتادها في مرسى السفن، وفي القزق، والميناء، لا درجات كما كان المتوكِّل يصِف ركَّاب البواخر الهائلة، لا قمرات خاصة، ولا أولى، ولا سياحية، تكوَّم من معه في البلانس، الأجساد تتساند في الجانبَين، وبالقُرب من المؤخرة، المساحة الخالية وسط البلانس لحركة الركاب والطاقم.

تعالت صرخة لانتتار امرأةٍ في أرضية البلانس. تبايَن ردُّ الفعل ما بين الخوف، وغض النظر، والتحديق في الفخذَين العارِيَين.

أومأ المُتوكِّل بذقنه إلى الوجوه الساكنة: أرقام زائدة تخرُج إلى الدنيا لتُصبح أرقامًا صحيحة!

عدَّ الركاب بنظرة سريعة، ثلاثين أو أكثر، غالبيتُهم من الشبان، وأربع نساء، تلاصَقوا على الكراسي المُثبتة على جانبي البلانس. يتحرَّك في الطرقة الفاصلة، وبين الكراسي ما لم يُحاول عدَّه من الأطفال.

خلَت ملامِحه للسؤال الصامت: لماذا هؤلاء هنا؟

بدأ القارب رحلته من الإسكندرية، تصوَّر أن راكبِيه سيُرافقونه — وحدَهم — إلى نهاية الرحلة.

هزَّ المتوكِّل رأسه، وهو يدفع تهامي غنيم: القعود عند البريدج أفضل.

حدَّق في الأجساد المتلاصِقة، انشغلوا بالاطمئنان إلى مواضعهم. لم يجد من يُبادله النظرات. شابٌّ وفتاة، تحت أقدامهما صرَّة مربوطة من أعلاها، حدس أنها تحوي ثيابهما. حرص الشابُّ أن يضع راحتَه على شفتَيه، فطن إلى أنه يريد أن يُخفي سنة مكسورة في مُقدمة فمه. حليق الرأس إلا من خصلةٍ كذيل الفرس مدلَّاة على قفاه، عيناه أمْيَل إلى الزُّرقة، يرتدى سترةً جلدية سوداء، وبنطلونًا من الجينز ملتصقًا بساقَيه. استوقف نظره الأخدود الجميل بين نهدَي الفتاة. البلوزة تشفُّ عن القميص الداخلي الأسود، ذي الحمالات، تعلو بنطلونًا من الجينز ضيقًا محكمًا على استدارة ردفَيها، ومتانة فخذَيها وساقَيها.

خايلَتْه هنية بجسدها الفارع، وبشرتها الملساء، وعينَيها السوداوَين، وأنفها العريض، وشفتَيها المُمتلئتَين.

التقط المتوكل السروجي نظرة الشاب، قال وهو يُومئ بذقنه إلى مرعي: رآك من قبل.

هزَّ الشابُّ رأسه في عدم فهم.

متي التقَيا؟ كيف؟

من الوجوه التي اعتاد وقوفَها بين المُصلِّين في أبي العباس، حدس قُرب منزله بما يُعينه على أداء معظم الصلوات في الجامع.

في هيئة المُتذكر: سوق سوريا.

قال الشاب: عملتُ بائعًا سنة أو أقل. صور لي اسم السوق أني أستطيع العمل فيه.

– مصري؟

– لا … سوري … غسَّان حِمصي.

استطرد في نبرة حزينة: تمنيتُ العيش في بلد عربي.

ثم وهو يُمرِّر أصابعه بين شعر رأسه: الإقامة في مصر مُستحيلة.

وغلب مشاعره جيشان مفاجئ: الغرق في البحر أهوَنُ من القتل في سوريا!

قال المُتوكل وهو يمسح المكان بعينَيه: هذا البلانس يُعاني اعتلالًا في صحته.

اطمأن الريس مغاوري إلى وقفته على البريدج: عمَلُنا يقتصر على أيام الصيف. إذا أبحرنا في الشتاء فلن نسلَم من النوَّات!

عاوَدَ تأمُّل الوجوه، تختلف التعبيرات ما بين الشرود والقلق والخوف. حاول تصوُّر الظروف التي قادَتْهم إلى البلانس، لكن النداءات والأصوات العالية اجتذبَتْه إلى ما حوله.

فاجأه المتوكل: أنت خائف … إظهار الخوف يقضي عليك.

ترامی صوت خُطَّاف ارتطم بالأعماق القريبة، خمَّن أن فلوكةً تهتزُّ في مدى الرؤية، هي التي ألقت الخطاف.

أحسَّ بالغربة، من يعرفهم يعيشون في بحري، من يُخالطهم يراهم للمرة الأولى. وَمَضتْ في ذهنِه مشاهد متقطِّعة لقهوة فاروق، مرسى القوارب، ورش القزق، التقاء شارعي إسماعيل صبري والتتويج، مقام سيدي العدوي، حديقة رأس التين، دوران الترام في نهاية الخط، ميدان الأئمة، القعدة على قهوة الصيادين، مئذنة أبي العباس من انحناءة الشاطبي، تعالي الإنشاد من صحن البوصيري، بائع يدفع أمامَه عربة خشبية، يُنادي على ترسة، تحملها، مقلوبة على ظهرها، سيجري ذبحُها — عقب الفجر — في الحلقة.

لكثرة ما رسم المُتوكِّل — بالحبر الجاف — طريق الرحلة من بداياته، تصوَّر المركب في الساحل، موقع خلف البنايات، يصحبه في ركوب الأمواج من لم يتخيَّل لهم ملامح مُحددة، ناس في مثل ظروفه، ليسوا فقط — كما قال المتوكل — من بحري، ولا من الإسكندرية، ولا حتى من المدن القريبة، العشرات وفدوا من بلادٍ لا تعرف العربية، تجمعهم الرغبة في تبديل الأحوال. شكلت اللغة عائقًا في البداية، ثم تكفَّلَت التعبيرات والإيماءات.

معظم الكلمات بالعامية، داخلَتْها مفردات، أو عبارات كاملة، بلُغاتٍ لا يفهمها، يعرف الكثير من مفردات الإنجليزية والفرنسية، ما تعلَّمه من اختلاطه بأطقُم السفن في نزولهم إلى الميناء، وإلى داخل المدينة.

•••

خلا سطح البحر من التموُّجات، وإن لامس حفيف الموج جانب البلانس.

الموج مساحات مُتداخلة من الخضرة الشفافة، والزرقة القاتمة، تتخلَّلها بُقَع زيتية وأعشاب بحرية وطحالب.

في نقطةٍ ما، مدينة بعيدة، بعد نهاية الأفق، سيجري يبحث عنه. يلجأ إلى التخيُّل، يُحاول تعويض ما حرمته منه الظروف.

شاهد صور الشوارِع والميادين والبنايات والأسواق، تصفَّح عقود العمل، قرأ عن الرواتب التي تصنع جنَّة، أنصت إلى الروايات عن البنات والمُغامرات والحياة الجميلة التي يصعُب تصوُّرها.

ليس في بحري ما يُغري بالبقاء، الأمس هو اليوم، واليوم هو الغد، والتوقُّعات غائبة، أو قاسية.

رفض أن يعترف بأن هذا هو حظه في الدنيا.

يستعيد حكايات روَتْها أمُّه، وجدته، وسمِعها من الشيخ عبد المجيد زيدان، التصقت بذاكرته فلم ينسَها، الدنيا المغايرة لكلِّ ما عاشَه في بحري، تصدُر من المياه وتنطلق فيها، ما يبدو مفهومًا، وما يصعُب على التصديق.

– أتمنَّى لو رأيتُ ما وراء الأفق.

قال المتوكل: ستجِدُه ممتدًّا.

– وعند نهاية كل الآفاق؟

– توجَد موانئ ومدن.

وهو يشرد في الفراغ: لو رأيتُها!

تكرَّر حلمه بركوب بلانس، أو زورق شراعي، أو لنش، يجوب به ما لا يعرفه من البحار. الدنيا البعيدة التي تغيب صورتها، وإن ظلَّت — في مخيلته — جميلة.

ألِف التردُّد على قهوة الصيادين: يجلس وراء النافذة المُطلَّة على طريق قلعة قايتباي، يُتابع المُتَّجِهين إلى حلقة السمك، والعائدين منها. يتوقَّع في من يعرفه شروة سمك، أو رحلة صيد، أو عملًا يتقاضى عنه أجرًا.

حاول أن يُرافق البحارة الأجانب في جولاتهم داخل الإسكندرية، أسعفتْه إجادتُه للعديد من اللغات، فتحدَّث بها. لم يبلُغ ما حصل عليه — في نهار كامل — إيراد الدكان. مضى بتفكيره وجهةً أخرى. يُحزنه غياب من يتكلَّمون اللُّغات التي كان يُجيد سماعها، ونُطقها بإضافة تعبيرات الوجه واليدَين، حتى شوارع الإسكندرية كادت تخلو من بحارة السفن الأجنبية بأزيائهم العسكرية، وخطواتهم ذات الإيقاع — في السير جماعات — على الأرصفة.

يعود إلى البيت — آخِر الليل — بعد أن تغلق القهوة أبوابها.

بحلقت عينا المُتوكل بالدهشة لقوله: المولد القادم … قد لا أكون في الإسكندرية.

حدجَه بنظرةٍ مستفهمة: لماذا؟

جاهد ليُداري انفعاله: زهقت من العمل الطياري.

هتف المُتوكل بالدهشة: مرعي كراوية يترك بحري؟!

وهو يظهر التأسُّف: تغيُّر الظروف يدفعني إلى طلب الهجرة الدائمة.

وخالط صوته نبرة تحدٍّ: ما دمتَ حيًّا … لماذا لا أبدأ من جديد؟

قال المُتوكل وهو يفارقه: أراك غدًا … ليتك تُقرِّر أمرَك.

وَمَضت في مخيلته مشاهد لا يدري صِلتها بما يتمنَّاه: يُطل من فوق كوبري على ميدانٍ يشغي بزحام الناس والسيارات، يُنصت إلى وقع قدمَيه في شارع مُبلَّط، رمادي اللون، يُفاصل في الشراء من سوقٍ مزدحمة، يمسح ما وراء الواجهات الزجاجية من الأدوات الكهربائية والساعات وعدسات التصوير وأطباق الصيني والأقمشة والسجاجيد، يتأمَّل تحليق أسراب النورس في مجموعاتٍ دائرية على امتداد شاطئٍ شاحِب الملامح، يستعيد ما رآه في صور المجلات الأجنبية التي كان المُتوكل يحتفظ بها منذ عودته إلى بحري (لا يقرؤها، وإن أجاد التكلُّم بالكثير من اللغات واللهجات): الغوص في الأعماق، تحوُّل الشمس إلى نصف برتقالة هائلة في نهاية أفق البحر، البنايات الهائلة تُطلُّ على أمواج زرقاء، الصخور المُدبَّبة يتخلَّلها الموج بالرغوة البيضاء، إعلانات النيون فوق البنايات العالية، عارية تشدُّ منشفةً حول جسدِها، وتقف على أطراف أصابعها، فنجان قهوة بالحليب، شريحة خبز محمَّص مدهونة بالزبد.

تلاصقَت الأجساد في داخل القارب، صنعت شِبه دائرة، كل واحد في حاله ونفسه، وإن أدرك أن مصيره مرتبط بالآخرين، يبلُغ القارب الأرض، ينجو فينجون. داخَلَه الإحساس نفسه الذي كان يطمئنُّ إليه وهو في الموالد، في ساحة أبي العباس: الطرق الصوفية والموالد وحلقات الذكر والسرادقات والخيام والباعة والقهاوي والنداءات، تعمق إحساسه بالجماعة، هو قطرة في بحر الناس المُمتدِّ من حوله.

راعَهُ اهتزاز المرئيات في انطلاق البلانس. هل هو اندفاع الموج، أم حركة البلانس في قلبِها؟

لو أن رحلة البلانس مضت إلى غير نهاية، إلى اللانهاية، تثبت اللحظة، تتواصَل، يغيب التوقُّع، والخوف.

لاذ الجميع بالصمت، وإن صخبت الأعماق برؤًى وتصوَّرات وملامح وقسمات وأحداث قريبة وبعيدة.

تصاعدت من البحر رائحة غريبة، تكرَّر إحساسُه بالغثيان، تماوَج في جوفه ما يُهيئه للقيء.

حدَّق المتوكِّل في الْتِماعة الموج الساكن: هذه رائحة الأمُونيا.

والتمعت عيناه بوميض سخرية: خائف؟

قال تهامي غنيم: الخوف لا يدرأ المَوت، لكنه يسرق الحياة!

قال المتوكل: نحن في الخريف … أنسب موعد للسفر. الربيع أكذوبة، والشتاء نوَّات، والصيف شمس قاتلة.

لاحظ مرعي الْتِصاق الفتاة بغسَّان حِمصي، لا تُفارقه، يتهامسان، وتشي ملامحهما بالخوف.

خمَّن أنهما زوجان.

كالومضة، داخَلَه حنين إلى مُنى. آخِر لقاءاتهما أول الدحديرة النازلة إلى الموازيني، كلَّمَها عن ترتيبات السفر، واستكمال الأوراق. استعاد ما أملاه الارتباك: إن أراد الله الخير، أعِدُك بشقة تمليك في كفر عبده، هو أَولى من بحري بهذا الجمال.

ثاني يوم، شاهد الريس قباري الحصري في جلسته على باب الحلقة، ضايقَتْه وقفة الريس الساكنة، إلى جانبه الولد ياقوت يجذب لجام الجواد حتى سبق الجميع. ألقى ياقوت اللجام، وارتفعت يدا الريس للهتافات المُصفِّقة.

لماذا ينسب الريس قباري إلى نفسه ما صنعه غيره؟!

همس لنفسه: نحن نرحل وهو قاعد على تلِّها!

اختفت الأرض تمامًا، لا بنايات، ولا جُزر صغيرة، أو كبيرة، ليس من حول البلانس إلا البحر، وتكسُّرات الأمواج.

أغمض عينَيه.

ميدان أبي العباس مزدحِم باحتفالات المولد: الأعمدة والسقالات، وأقمشة السرادق، وخيام الصوفية، والفوانيس الهائلة، ووشيش كلوب الرتينة، وأكشاك الختان، والحاوي، وآكل النار، ولاعب العقلة، والراقِص على الحبل والسلك، والأراجوز، وشاعر الربابة، والأدباتي، والمراجيح، وخيال الظل، وصندوق الدنيا، والخيول الدوارة، وألعاب النشان، وقاذفي السكاكين في الدائرة، ولاعبي الكرات المُلَّونة، والسيرك، والإنشاد والمدائح والتواشيح والأدعية والابتهالات، وعزف الناي والمزمار والأرغول والربابة والسلامية، وإيقاع الطبلةِ والدفِّ والرق والنقرزان.

يجد نفسه في موالد أولياء الحي، ينفض نفسه من كل شيء، يشعر أنه في دُنيا غير الدنيا، يفرغ للحياة في قلب الخيام والسرادقات والقفاطين الشاهي والجُبَب الخضراء والجلابيب المُرقَّعة والسيالات والعمائم والطواقي والبُلَغ والأقدام الحافية، وتلاوة القرآن، ورواية الأحاديث الشريفة، وشرحها، والإنشاد الديني، وحلقات الذكر، وعمليات الختان، وقراءة البخت، ونبيِّن زين ونضرب الرمل ونشوف الودع. الحشود والبيارق والأعلام واللافتات تتحوَّل إلى مسارِب في الشوارع الجانبية والحواري والأزقة.

يقدم المتوكِّل السروجي على ما يتمنَّاه، وإن لم يفكر في فعله. يأخُذ الطبلة من يد حامِلها، يشارك في ضبط الإيقاع، أو يلتقِط الميكروفون من يدِ المنشد، يعلو صوته بما يتذكَّره من كتاب «روضة أحباب الصفا في مدح المُصطفى» من القصائد والأناشيد والتواشيح والابتهالات، يعتزُّ بقُدرته على طعن جسدِه بالأسياخ والسكاكين، كسْر حدوات الخيل بأسنانه، إدخال النار في فمه، والإطباق عليها.

عرف عن المتوكل اعتزازَه بأن أي عددٍ من الرجال يعجزون عن فكِّ قبضة يده، إن ضمَّها. يمدُّ يدَه بالقبضة المضمومة، تظلُّ على حالها أمام فشل محاولات الرجال في فتحها، ذاع ولَعُه بالعراك، ربما اختلق سببًا ليدخل معركة، يهمِل فكرة إن كانت ستنتهي بالفوز أم الهزيمة، تلحُّ عليه الفكرة، فيُنفذها، يلجأ إلى كلِّ ما يُواتيه، يضرب بقبضة يدِه، أو يركل بالقدمَين، أو يهوي على الشخص الذي يُعاركه بما تلتقِطه يده: عصا، سكين، كرسي، لا يتدبَّر موضع الضربة.

روى أنه عارك جنِّيَّ البحر الذي تسلَّل إلى بحري في غيبةٍ من التفات أهله، أحاط الجنِّي رقبتَه بيدَين قويتَين، كاد يزهق روحه، لولا أنه استكمل بكلماته المبعثرة آية الكرسي. تضاءل الجنِّيُّ في نفسه، وتلاشى.

ترتفع تواشيح رمضان من مئذنة أبي العباس، وهو في موضعه داخل سرادق راوي السيرة، أعلى الدحديرة الخلفية للجامع، تأخذه الأخيلة والرؤى في السيرة النبوية، وسيرة عنترة، وملاحِم الهلالية والزناتية، وسيرة الظاهر بيبرس، وحكايات حمزة البهلوان، والأميرة ذات الهمَّة، وعلى الزيبق المصري، ودليلة المُحتالة وابنتها زينب النصَّابة، تكسوه نشوة وهو يتحدَّث عن السِّيَر الشعبية وأعمال البطولة والخوارق وأفلام المطاردة والأكشن.

يشعر في صخَب المولد أن هذه هي حياته، وأنه يستطيع العيش — في طمأنينة — مع المتصوفة والرفاعية والصيِّيتة والمنشدِين والحواة والغجر والمجاذيب وفِرَق الموسيقى والأغنيات والأهازيج والتهدُّج والتهليل والتكبير والمجاذيب والأشاير والأعلام الملوَّنة والزينات والبالونات واللافتات وعربات الفول والفلافل والسمك المقلي والمخ واللسان والممبار المحشي والكرشة وحُمص الشام والبليلة وحَب العزيز وغزل البنات والفشار والعسلية والثلاث ورقات.

– ليلةَ فكر أبي في الإنجاب … ألم يخطُر في باله هذا الحال؟!

يُردف بلهجةٍ متصعِّبة: سأحزن كثيرًا لو اكتشفت — بعد موتي — أني لم أعِش!

ويُغالِب تأثره: حتى الآن لا أجد إلَّا ما يملأ بطني، في أية خيمة، وعلى أيِّ رصيف!

قال الأوسطى عبد الواحد حجاج: فرج بسيوني النجار في القزق وجد الحلَّ في عافيته.

وافترَّ فمُه عن أسنانٍ سودها التدخين: تزوج عجوزًا فرنسية، صحبته إلى بلدها ليُقيم معها!

فرج بسيوني!

كان يُواجِه جدار بيت الشمبكشي الخالي من سكانه، يدُه تتحرك أسفل بطنِه بما لم يتبيَّنه، ملامحه طافحة بالنشوة، تبين انعكاساتها في تقلُّص تعبيرات وجهه.

خمَّن أن وقفة فرج انعكاس معاناة — بطول النهار — لشبَق جنسي يلحُّ عليه، ويُغالب تأثيراته، يشغله أن يتمتع بكل لحظة في حياته، يمتصُّ لذَّتها قطرة قطرة، يُفرغ إحباطه في جدار البيت الخالي، وزحام حلقة السمك وشارع الميدان وزنقة الستات.

مال — بخطوات مهرولة — إلى شارع أبي السعادات، تلفَّت وراءه خوفًا من أن يراه فرج، يُفاجئه بما لم يُعِد له نفسه.

•••

ستارة صندوق الدُّنيا خلف كتفَيه.

تابع حكايات الجازية والسفيرة عزيزة وست الحسن والجمال وقطر الندى، ظلَّ في باله — وهو يُغادر سوق العيد — أنَّ حوريات الجنة يختلفنَ عن كل نساء الدنيا، الخلود في الأعمار، والحُسن الإلهي يُزيل الفتور والسأم.

كانت تلك آخِر قعداته في القهوة، ثم لم يعُد إليها.

لا يذكُر كيف لاحظ الأولاد غياب القمَر عن السماء، أخفاه المُحاق، تجمَّعوا في حلقات، يقرعون قِطع الصفيح، ويهتفون: يا بنات الحور … خلُّوا القمر ينور!

يعرف بنات الحور إذن ما يجري على الأرض، يشاهدن خلق الله من مواضعهن في الجنة، ترتفع إليهن هتافات الاستغاثة، يرفعن عن الناس ما يُنغِّص الحياة. الحور العين جزاء المتَّقين في الجنة.

روى له تهامي غنيم حلمًا هبط فيه ملائكة من السماء، صعدوا به على سلالِم مُضيئة، لم تبدأ في موضع، ولا تنتهي في موضع، كأنها مُعلقة في السماء. عند درجة اختاروها، مضَوا إلى عالمٍ من النور والسطوع والتجلي. تيقن أن سيرَه على الصراط يوم القيامة، سيميل به إلى جنات النعيم، حياته الناسِكة، المُتعبِّدة، ستُهيئ له السير فوق الصراط إلى نهايته، لا يخشى السقوط في نيران الجحيم. يدخل الجنة، يأكل من فاكهتها، يشرب من ماء الخلود، يتنعَّم بما لم ترَه عين، ولا استمعت إليه أذن، ولا خطر على قلب بشر.

أزمع ألَّا يرحل إلا بعد أن يَنهى نفسه عن فعل أشياء كثيرة، قد تجرُّه إلى الخطيئة، يخشى ما لا يعرف حدوده جيدًا، يُخلِّف علامة ثابتة في دُنيا التصوف، واظب على الطاعات، تجنَّب المعاصي، أعرض عن الانهماك في الشهوات، سعى لأن يكون من الواصِلين والسالِكين، ترك الدنيا، أعرض عنها، واتَّجه إلى الآخرة.

استعاد إخفاق أبي الدرداء في الجمع بين العبادة والتجارة، أزمع أن يفعل مثلَه، فيفرغ للعبادة، تنازل عن دكان عطارة يملكُه، وأموال كان يحتفظ بها. اكتفى بإيراد بيت تملكُه أمُّه، مُلاصق لجامع سيدي خضر، أقبل على مجاهدة النفس ورياضتها، عكف على العبادة، انقطع إلى الله تعالى.

في باله، أن عابدًا ما، في مكانٍ ما، يُعطي نفسه للعبادة والتأمُّل.

لماذا لا يفعل مثله؟

توزَّعت حياته بين الحضرة والأذكار والأدعية والوضوء والصلاة وقراءة القرآن، حرص أن يدخل أي مكانٍ بالقدَم اليُمنی، يخشى أن يحسبه الله من أهل الشمال، تردَّد على حلقات الذكر في الجامع الأحمدي، وجامع إبراهيم الدسوقي، وضريح أبي الدرداء، قصَرَ طعامه على العيش البتاو والجبن القريش والمش، وعلى ما يسدُّ جوعه، لا يَعنيه نوع الطعام، وإن حرص ألا يُثير الجوع انشغاله بالتهجُّد والعبادة.

جعل همَّه ألا يقع فيما يغضب الله، جهنم مصير من يرتكب الذنوب، ويتردَّد في التوبة منها. ثبت في يقينِه خشية من أهوال الآخرة، ما يسبقها ويلحقها من المُحاسبات والمُوازنات والشدائد القاسية. فارق حظوظ نفسه، سكن تأمُّله على أبواب الجنة، يفتح له رضوان حامل المفاتيح، صِدق اليقين لا يتحقَّق بغَير الخوف من الله تعالى، أشدُّ ما يخشاه — إذا وقف على الحساب — أن تُرفَض أعمالُه، فيَمنع رضوان دخوله، تتلقَّفُه أيدى الزبانية إلى الجحيم، يغيب كلُّ ما كان أعدَّ له نفسه من الحياة في الجنة.

يعبُر الصراط إلى الحوض وجنات النعيم. تصحبُه الحورية إلى سريرٍ مُكلل بالذهب الأحمر والفضة البيضاء والدُّر والجوهر واللؤلؤ والزمرد الأخضر والياقوت الأزرق، تُحيطه الوسائد والنمارق والزرابي والزخارف والمُقرنصات والتهاويل. النور في وجهها أجمل مما في الشمس والقمر، الجسد مضمخ بالمسك والزعفران، الشعر مندًّى بالياسمين والريحان، تُقبل عليه بلا نداء، ولا إشارة. تُدرك اشتياقَه لها، تأتيه دون مصارحة، ليُضاجعها، يظلُّ في عناق حورية الجنة — في المرة الواحدة — أربعين سنة، لا تنطفئ شهوتُه، تترُكه الحورية فتحلُّ أخرى، تتركه كذلك لتحلَّ أخرى، الشهوة مُتجددة، لا تنقطِع، ولا تنضب. تمضي وتُقبل أخرى، لا ينتهينَ ولا يرتوي، تظلُّ شهوته في تعافيها. الأيدي والأقدام تتبادل الإيقاعات الملوَّنة، عصافير الجنة تُحلق — مُغردة — في الفضاء الفسيح، بين تكاثف الأشجار المحمَّلة بالثمار، امتدادات الخضرة وأشجار الزيتون وكرمات العنب، ينزل عليه ما يتمنَّاه، الفاكهة لا تغيب في صيفٍ ولا شتاء، إذا أراد ثمرةً على شجرة، فإنها تسقط في يدِه، مهما تناءت عن مجلسه. أطباق الذهب والفضة فوقها ما لم يتذوَّقه ولا رآه من قبل، الصحاف من الياقوت الأحمر والأزرق والمرجان، الجنان الوارفة الظلال، الزروع والورود والينابيع والجداول والشلالات وأنهار الماء الزُّلال واللبن والخمر والعسل المُصفَّى.

حين عرضت أمُّه عليه أن يتزوج بنت عتريس الفريش بحلقة السمك، قال في هدوء: هل هي جميلة؟

وهي تُقبِّل أصابعها المضمومة: ولا فلقة القمر؟

– أجمل من الحور العين؟

قطَّبت جبهتها: هل رأيتُ الحور العين حتى أشهد بجمالهن؟

– ألا تُصدِّقين كلام الله؟!

حتى يتزوَّج الحور، لا بد أن يدخل الجنة، وحتى يدخل الجنة، لا بد أن ينبذ ما يُقربه إلى الدنيا، ويُقبل على ما يُقربه من الآخرة، يؤمِن بالبعث والحساب والصراط، ورضوان على باب الجنة، والزبانية على أبواب الجحيم.

لن يخشى حساب الآخرة، وفي صحيفته الكثير من أفعال الخير يقصد بها وجه الله. تمنَّى أن يختم حياته ختامًا صالحًا، يختاره الله في رحابه.

فتح المُتوكل فاهُ بالدهشة، لمَّا رفض تهامي أكل السمك.

– أنا سكندري. طعم السمك أحَبُّ إليَّ من أي شيء!

قلب تهامي شفته: إذا لم يكن للسمك الآن هذه الرائحة الكريهة، فستكون هي رائحته بعد أن يدخل بطني.

ومسح أنفه بظهر يده: كيف آكُل شيئًا ميتًا؟!

انغمس بكُلِّيته في صحبة أرباب الفرق والطرق، والعيش في الفقر والورع والاعتكاف والتهجُّد والصوم والتوكُّل والإنشاد والذكر والجذب والفناء والمُكاشفات والكرامات والأنبياء والملائكة والخُلفاء الراشدين، يتطلَّع في السماء إلى نقطةٍ ما، لا يراها سواه، يتطلَّع من أسفل الهرَم الصوفي إلى مَن سبقوه في الترقِّي إلى القمة: النُّقباء والأوتاد، حتى القطب بمكانته الجليلة.

قال الشيخ حفظي أبو السعد: لا تُخلص في عبادتك طلبا للجنة … بل محبَّةً لله.

قال تهامي غنيم: أنا أطلب في الجنة ما لا أجِده في الدنيا … المرأة التي أتمنَّاها.

قاطعَه الشيخ قبل أن يُكمل جُملته: لماذا لا تتزوَّج؟

– صورة المرأة التي أُحبها لا توجَد في الدنيا.

وهز قبضته في الفراغ: لن يقوى الشيطان نفسه على مُغالبتي ليمنعني من دخول الجنة.

– هل تريد الجنة لأنك تخشى النار، أم لأنك تريد الحور العين؟

وهو يجري براحته على وجهه: الحورية مخلوق سماوي … لن تتأمَّل سِحنتي!

•••

بدأ البلانس رحلته.

السكون أعلى من الأصوات المُتلاغطة، عاود النظر إلى ما حوله، كمن يتأكَّد أنه ليس بمُفرده. الأمواج، تُحدث حفيفًا في ملامستها جانب السفينة.

انطلق البلانس في اتجاه الأفق.

الشاطئ والكورنيش والبِنايات تراجعَت إلى الوراء، ابتعد الأفق بتقدُّم البلانس في اتجاهه. خلَّف وراءه بناياتٍ متناثرة ومُستودعات وبواخر ورافعاتٍ وأوناشًا وفلوكات صغيرة تُلامِس الأرصفة الهائلة.

لم يقطع البلانس — كما قدَّر — مسافة طويلة، حتى بدأت الأمطار في التساقُط. قطرات متباعدة، زادت غزارتُها، صارت أقرب إلى أستار الماء، التصقت الأجساد كأنها تتَّقِي المطر، رنَتِ الأعيُن إلى تسلُّق الصاري، وفك الأربطة والحبال، وإطلاق قماش الأشرعة.

تابع عمليات تخزين المازوت وصناديق الأطعمة المُعلبة وأقفاص الفاكهة واللحم المُجمَّد والخبز والدقيق والأجولة الصغيرة والأدوية وجراكن المياه والمصابيح اليدوية.

لون المياه أقرب إلى الخضرة، ليست الأمواج التي تعكس لون السماء في خليج الأنفوشي، والمينا الشرقية، ولا حتى الأمواج التي شابَتْها عمليات الصيد في أبي قير.

أعاد التلفُّت، لا شيء أمامه وحوله، إلا الأمواج الساكنة، تتصاعد فيها صخور مُتناثرة، نتوءات صغيرة تعلوها الطحالب والأعشاب، وارتفاعات مسطحة النهاية، تُغري بالحياة فوقها.

نظر إلى ترامي آفاق البحر، تطلَّع إلى الأمواج الممتدَّة أمامه، طيور النورس تهبط على صفحة المياه، تلتقِط طعامها من الأسماك الصغيرة، وتعلو. قوس قزح يعلو السماء الصافية.

أخذت بناياتُ بحري في التضاؤل والتلاشي. لم يعُد من حول البلانس إلا المياه، لا مراكب، ولا بيوت، ولا مآذن، ولا شوارع. الموج من جميع الجهات، لا آفاق يتَّجِه البلانس إليها. لا شيء، سوى تناثُر السفن في مسافاتٍ متباعِدة، تُطلق صفاراتها تحية، أو للتحذير.

قال الشاب ذو العود الجاف، والوجه الضامر، والعينَين المبحلِقَتَين، وهو يرنو إلى الآفاق المترامية: لم أكن أظنُّ أن البحر بلا حدود.

وظلَّل عينَه بيده، يتأمَّل الأفق: هذه أول رؤيتي للبحر.

ثم وهو يُكسب صوته ودًّا: كنتُ أعرف أن البحر أكبر من النهر.

وضيَّق ما بين راحتَي يده: حدُّ قريتي ترعة.

هو يُحب الإسكندرية، لا يتصوَّر عيشَه في مدينة أخرى، الظروف القاسية — وحدَها — تدفعه إلى الهجرة. يُحب أمَّه، والشيخ حفظي، وبحري، والمساجد، والأضرحة، والمقامات والموالد، وحلقات الذكر، وأهازيج السَّحَر، وأدعية الفجر، والأحجبة والرُّقى والعزائم والأعشاب، والباعة، والقهاوي، والنداءات، وحلقات الذكر حول البوصيري، ودروس المغرب في ياقوت العرش، والائتناس بمقام سيدي كظمان، والجلوس في قهوة الزردوني، ورفع الأذان من مئذنة أبي العباس، تُماهِيه مآذن الحي الأخرى، والتسابيح، وصيد العصاري في المينا الشرقية، والجرافة على ساحل الأنفوشي، ورفيف أجنحة النوارس يضرب الموج الساكن، فيتطاير الرذاذ، وألوان قزح في نهايات الأفق.

يُحب ذلك كله، لا يتصوَّر أنه يهجُره.

السكون أعلى من الأصوات المُتلاغطة داخل المركب، عاود النظر إلى ما حوله، كأنه يتأكد أنه ليس بمُفرده.

لا يعرف — في لقائه الأول بكل من في البلانس — إن كانوا من الإسكندرية، أم من مُدنٍ أخرى؟

من بين الركاب خمس نساء، خمَّن مصريتهنَّ، أو — ربما — من بلدٍ عربي.

تبادلوا نظرات التساؤل والتأمُّل والتعاطف والمشاركة، يعرف أن في داخل كلٍّ منهم حكايات هي السبب في ركوب المجهول.

الفراغ الهائل دفعه إلى القراءة، استعار ما استهوته أسماؤه من مكتبة النن بالموازيني. غادر النبي دانيال بمجموعةٍ من كتُب الرحلات والمغامرات، اقتناها من محالِّ الكتب القديمة والفرشات على جانبَي الشارع. قرأ كلَّ ما استهواه عنوانه. قرأ عن بلاد الهند والسند، وبلاد الروم، والبندقية، ومضيق جبل طارق، وجزر الأنتيل، وطرق القوافل، وقرأ في الأساطير والحكايات والمغامرات والعواصف والزوابع والأعاصير وعجائب المخلوقات. قرأ في كتاب لا يذكره — ربما رواية، أو ما ينتمي إلى أدب الرحلات — عن السفينة التي تمخر عباب البحار. لم يفهم المعنى تمامًا، وإن استهواه التعبير، استعاده في وقفاته على رصيف رقم واحد، يتأمَّل البواخر العملاقة، أضخم من بيوت الرمل المُطلة على الكورنيش، تتقافز النوارس فوق أفاريزها.

أثارت القراءات أحلامَه برحلات ماركوبولو وماجلان وابن بطوطة وابن ماجد، وبأفعال القراصنة، ورحلات السندباد البحري إلى الفراديس السبعة، وجزيرة سرنديب، وجزُر التوابل، والواق الواق، وجزيرة الملك المهرجان، وجزيرة الرخ، وجبل الماس، وجزيرة العسرات، وجزيرة العمود القماري، ومدينة الصين، وإقليم الملوك، وجزر التوابل، ووادي الحيات، وجبل القرود، والمغارة، وبيضة الرخ، وإخوان الشياطين، وكنوز الأعماق، والبشَر الذين لا تُدركهم الشيخوخة، ولا يلحقهم الموت.

تمنى أن يعثر — في مكانٍ ما في البيت، أو في رمال الشاطئ — على مصباح علاء الدين، يفركه براحة يدِه، يعلو المارد بقامته الهائلة، يُلبي ما يُطلَب. شرد في لقاء عروس، تقوده إلى الأعماق، استعاد حكاية ألف ليلة وليلة عن العروس التي ظهرت للإنسي في هيئة البشر، فقيرة، تطلُب العطف وتبذله، حتى يوافق على الغَوص في عوالِمها السحرية، مُدن كاملة، بنايات وحدائق وملاعب وساحات وأسواق. كلُّ شيء كأنه السحر، كل شيء في الأعماق يُطالِعه بما لم يرَه من قبل: المياه والأعشاب والصخور والكهوف والبيوت التي شيَّدتها مخلوقات البحر. السلالِم من المرمر، والأسقف من المرجان، والقِباب من الياقوت الأحمر.

قدَّم له المتوكِّل مجموعة كتب، لم يَعُدَّها.

قال المتوكل لنظرته المتسائلة: تُحب الكتب … لكنك لا تملك ثمن استعارتها!

وبصوتٍ أقرب إلى الهمس: أخذتها من مكتبة النن … رصَّات كتُب لا يقرؤها أحد.

تنحنح مرعي ليزيل احتباس صوته: هذه سرقة!

وهو يشرد في الفراغ: أنت أولى من التراب والعناكب!

ابتسم لرؤية المتوكل، يستنِد إلى إفريز البلانس في ابتعادِه عن الميناء الغربي، تتَّجِه نظراته ناحية البحر، يتطلَّع إلى أبراج السفن والدُّخان المتصاعِد والأعلام والحواجز الحديدية في استدارة الطوابق، وإلى البحَّارة والمسافرين والشيَّالين والأوامر والنداءات، والجُزُر الصغيرة والبلانسات والفلايك المتناثِرة في مدى الأفق.

وهو يُشير إلى هياكل المراكب المُكوَّمة على رمال الأنفوشي: لو أن القزق يُصلح أحوال الناس كما يُصلح المراكب؟!

قال المتوكل: يبدو أني سأرحل معك … منع الصيد يعني إغلاق دكاكين كثيرة … الثلج والحبال وشباك الصيد … ودكاني الذي يقتصر على بيع أدوات الصيد.

وتلوَّن صوته بحُزن: كنت مُترددًا في العودة للسفر؟

برقت عينا مرعي باهتمام: لماذا بدَّلْتَ رأيك؟

– أعيش رزق يومٍ بيوم، لن أظلَّ بلا عمل شهرَين مُتواليين!

وأشاح بيده: زال التردُّد! … أنا على استعدادٍ للسفر بأية وسيلة.

– حتى لو كانت غير مشروعة؟

تبدَّلت ملامحه: هل الظروف التي نحياها مشروعة؟!

يُحب الناس، وإن لم يُخفِ كرهه لأبيه، ومُدرِّسه في راتب باشا الابتدائية، وإمام جامع نصر الدين. يكره تحذيراتهم وأوامرهم وتوبيخاتهم، يجدون — في كلِّ ما يقول، أو يفعل — ما يستحق المؤاخَذة.

لا يجد حرجًا في أن يتحدَّث عن أي شيء، حتى أسراره الشخصية يَرويها دون أن يلحظ ما إن كان ينبغي روايتها.

– يترك الطائر عشَّ أُمِّه، فينساها، كما لا يعرف أباه!

ثم وهو يُجفف جبهته بظهر يده: هو يكتفي بالطيران مع الأسراب، لأنها عائلته التي يحتاج إليها.

لا يجد ما يمنعه من التكيُّف مع الحياة في البلد الذي يستقر فيه. واجَهَ ما يصعب قبوله من المتاعب والإهانات وتوقُّعات الخطر، ألِف المرمطة، لا بأس من استمرارها إذا أفلح في تأمين مُستقبله.

– أحيانا تُصبح المغامرة هي المُتاح الوحيد!

تردَّدا على شركات الخطوط الملاحية في طريق أبي قير وميدان الرمل.

قال المُتوكل لتأمُّله خريطة المُدن التي تسافر إليها سفن الشركة: لن نختار إلا المدن التي تستقبل الأيدي العاملة.

عضَّ الموظف الأربعيني بأسنانه على طرف شاربه: تسافران للعمل أم للسياحة؟

فتح المُتوكل فاه في استغراب: هل تشي ملامِحُنا بأننا سيَّاح؟

– لا أقرأ الفنجان، لكنَّنا شركة سياحة ولسْنا مكتبًا للتشغيل.

قال المتوكل لنظرة مرعي المُتسائلة، وهو يُلقي في فمه حبَّات دواء: ركوب البحر له ثمنه، هذه أدوية لعلاج التهاب المفاصل والشد العضلي والربو والتهابات الرئة!

واتَّسعت عيناه في هيئة المُتذكِّر: تصوَّرت أن الدوار سيهدُّ حيلك!

بعد أن حصل على الابتدائية، تنقَّل بين أكثر من عمل: كاتب في فرن التمرازية، بائع للصحف، منادٍ على سيارات السرفيس ما بين رأس التين وأحياء الإسكندرية الأخرى، عامل إنقاذ على شاطئ الأنفوشي. التحق كاتبًا مُتطوعًا بسلاح الحدود. لمَّا تكرَّر غيابه، فُصِل من الخدمة، عمل في البحر، يزود البلانس بالماء والأوعية والمُؤن والوقود وقِطَع غيار الموتورات. اكتسب شُهرة بمهارة نشر الأشرعة وطيِّها، وتسلُّق الحبال إلى أعلى الصاري، والهبوط بخفَّة قرد. يعتزُّ بأنه يجيد السباحة في عز النوة، لا يخشى هياج البحر، ولا الأمواج العالية، ولا الدوَّامات.

أمضى زمنًا قصيرًا، تُحيط بذقنه لحية، ويرتدي جلبابا أبيض قصيرًا، من تحته بنطلون باللون نفسه، ويحرص على الصلاة جماعة في مساجد الحي، ويلزم جدار أبي العباس، يفرش أمامه كتبًا دينية وأدعية وأشرطة في مديح الرسول.

استغرق الأمر أشهُرًا قليلة، ثم عاد إلى ارتداء البنطلون والقميص، وطالت أوقات جلوسه على القهوة.

استهوته النصيحة بأن يُبدِّل حياته بفتح دكان أدوات بيع للصيد في حي الصيادين: قرار منع الصيد سيُذيب ما ادَّخَرته من مبالغ صغيرة.

تجميد الصيد على طول السواحل الشمالية من أول مايو إلى آخر يونيو، فترة نمو الزريعة. من بين ٢٥ نوعًا من الأسماك والأحياء المائية والبحرية في المياه المصرية بالمتوسط، يتكاثر خمسة عشر نوعا منها خلال تلك الفترة. صدَر قرار المنع للحفاظ على المخزون السمكي. يؤثر القرار على عائلات الصيادين، والمِهَن المُرتبطة بمهنة الصيد: القزق، بيع أدوات الصيد، الأسلاك والبوص والغزل وحبال الصيد وسيارات النقل والعمال والحمَّالين والباعة.

قال الريس قباري الحصري: المفروض أن تأخذ فترة التوقُّف أربعة أشهر … لكنها اختُصِرت إلى شهرين فقط.

قال المتوكل: لماذا؟

– لتأخُذ الزريعة فرصةً للنمو.

قال متولي خليفة: أنا صياد سنارة، وإذا توسَّعت فصَيدي بالطراحة!

قال الريس الحصري: كل أنواع الصيد ممنوعة!

قال المتوكل: ألا يكفي توقُّف الصيد في الشتاء؟

ثم وهو يَجول بنظره في آفاق البحر: لو أن قرار المنع نُفِّذ في شهري يناير وفبراير.

قال الريس الحصري: فترات نوَّات، لا ينزل فيها الصيادون البحر!

تمازج الاستياء والحيرة في عينَي المتوكل: إذا أضفْنا أيام النوات إلى شهرَي وقفِ الصيد، فسيبلُغ المجموع مائة وعشرين يوما؟

قال متولي خليفة: لماذا لا تُوسِّع شِباك الصيد وينتهى الأمر؟

تذكر مرعي التحذير — وهو يعد حقيبته — أن يضع حسابًا لدوار البحر. ظلَّ القلق في داخله، حتى نَسِيه في انطلاق البلانس، ثم نسيه تمامًا.

•••

صحِب المُتوكِّل معه إلى الشيخ عبد المجيد زيدان.

ألِف لقاء الشيخ في بيتِه المُطل على خليج الأنفوشي، هذا ما يخصُّ به الشيخ خاصةَ المُريدين.

يخطو إلى عامِه السادس والثمانين دون مشكلاتٍ صحية ذات بال، أعراض طارئة وتزول، مثل التي تُواجِه الناس في أعمارهم المختلفة. له قامة وافية، وحواجب ثقيلة، على جبينه دائرة سوداء من أثر السجود، لِحيتُه المستديرة تُضفي على وجهه هيبة. يضع على كتفَيه عباءة من الجوخ البُني. في يده عطوس، وفي اليد الأخرى سبحة من الكهرمان تجري عليها أصابعه. يشغله الحنين لزيارة مُدن المغرب، نشأ هناك، وتعلَّم، معظم أولياء الله الذين تخضع لقواهم الطرق الصوفية.

حلقة الذكر ليلة الاثنين على رصيف البوصيري، يمضي — بقية الليالي — عقب صلاة العشاء، إلى بيته المُطل على بحر الأنفوشي. يخلو إلى نفسه في حجرة علوية، تُطلُّ على خرابة، بيده مخطوط يستأذن في استعارته من مكتبة أبي العباس، باليد الأخرى كسرات خُبز تسدُّ جوعه. يظلُّ إلى أذان الفجر، أو يغلبه النوم.

اعتاد زيارة المُريدين لبيته، يفترشون القاعة التحتية حتى يفرغ من خلوته، ويتهيأ لاستقبالهم. يُلقي العباءة على كتفَيه، بدلًا من إدخال جسده فيها. في يده عطوس، وفي اليد الأخرى مسبحة تجري عليها أصابعه. يُكثر من التحميدات في خُطَبه وعظاته، لا تقتصر — كما هي العادة — على بداية الكلمات، لكنها تتخلَّل كلماته من ألِفِها إلى يائها. يستغرقهم الإنصات إلى عظات الشيخ، الذقون فوق الصدور، والأيدي في وضع الوقوف للصلاة.

اعتاد أبناء بحري رؤيته يركب جوادًا في جلوات المولد النبوي، ومولد أبي العباس، والمناسبات الدينية الأخرى.

أمضى معظم حياته يعِظ ويُدرِّس فقه الدين، يُفسر آيات القرآن، يحلُّ المشكلات، حتى المشكلات الشخصية، ينصح، يُحذِّر، يَؤمُّ المُصلِّين في جامع طاهر بك.

يلجأ إليه الناس كلما واجهوا مشكلة، أو استشعروا الخطر، أو داهمتهم النوَّات بتأثيراتها القاسية.

يظلُّ صامتًا، مُطرقًا إلى الأرض، كأنه لم يستمع، أو كأن الأمر لا يعنيه، لكنه يقتحِم الإحساس بخيبة الأمل، يرفع رأسه — دون توقع — كمن يتَّجِه بعينَيه إلى السماء، تُبطئ كلماته في الإشارات والإخلاص والمُراقبة والمجاهدة والإيماءات والتوقعات والحلول والاتحاد والوصول. ربما قال عبارات غامضة، يستخرج منها الناس ما يَطمئنون إليه من المعاني والإيحاءات والإيماءات، قد تحمل الكلمات ما لا يفهمه إلا خاصة المُريدين من الإشارات واللطائف والتوريات المُوحية.

بدا صديقًا للجميع. يُغادر بيته المُطل على خليج الأنفوشي، ما بين رأس التين والحجاري، يخالط الناس، يمشي في الأسواق، يزور البيوت، يجلس في القهاوي، يؤدى الصلوات في جوامع الحي ومساجده وزواياه، يُهنئ بالمواليد، يُنقِّط في الأفراح، يسير في الجنازات، يُعزِّي في المآتم، يشارك في حفلات عقد القران والزفاف ومناسبات العزاء. يُجيب — في جلساته بقهوة رأس التين — على ما يطرحه الروَّاد من أسئلة، قد تبدأ المناقشات ولا تنتهي في أحداث السياسة، وأحوال البحر، ومواعيد النوات. يتشابك الجدل والأسئلة والأجوبة حول التفسيرات والفتاوى والتأويلات. وكان النساء يبحنَ له بما يُخفينَه حتى عن أزواجهن، أو يشكين الأزواج، فيقضي بالإنصاف.

يؤدي صلاة المغرب في موعِدِها، ينتحي — بعدها — إلى جوار المنبر، يأخُذ القرآن من المكتبة الخشبية الصغيرة، وينشغِل بالتلاوة حتى يُؤذَّن للعشاء، يُعيد المصحف إلى موضعه، يؤمُّ المُصلِّين لصلاة العشاء. يتَّجِه — بعد الصلاة — إلى بيته. يحرص — عقب الصلاة — على الخلوة، وإيثار العُزلة. يكرَه اقتحام الناس لخلوته، وصرْفِه عن الرياضة والعبادة والمجاهدة.

عنَّف شوقي أبو كيفو بائع الدوم أسفل دحديرة أبي العباس، لمَّا تشنَّج جسده، وتقلَّصت ملامحه، وتمازَج في صوته الأنين والحشرجة: لا تفعل هذا ثانية، أو اترُك حضرتي!

أعرض عن كلِّ ما يشغله عن الحق تعالى، منع النفس عن الالتفات إلى ما سِوى الحق، ألزمَها التوجُّه نحو العَليِّ القدير، أسلم أمرَه لله في كل أحواله، بالانكسار والخشوع والذل والتسليم المُطلَق، ليس له في الأمر من شيء. لازَمَ الذِّكر، تحمَّل مشاق المجاهدة، رفض أقوال الناس إنه يعرف ما لا يعرفه الآخرون، ولا إنه بلغ من الحكمة ما لم يبلغه أقطاب الصوفية.

ظل على حرصه في ألا يكون قطبًا، كما أبي العباس والشاذلي وياقوت العرش ونصر الدين والمسيري وابن هرمز والطرطوشي، يتبعه مُريدون، وينفذون نصائحه وتوجيهاته، ويلزمون باب حضرته. هو لا يرغب في شيءٍ من الدنيا ولا الآخرة، أسقط الرغبة في الأشياء بالكلية، وَكَل نفسَه إلى ربِّه في جميع أحواله، يخشاه، يجد حلاوة في طاعته، وينظر إلى ما حوله بعين العبرة، ويعي بفهم ما يسمعه من العلم.

تربطه بالبحر علاقة، هو على دراية بأحوال المد والجزر، والتيارات البحرية، والدوَّامات، ومواعيد النوات، والقيعان العميقة، والجزر، والمُنحدرات الصخرية، والأغوار، والجيشان، والمخاضات، ومواقع البواغيز، وأنواع الأسماك، وأسماء الطير، وطرُق الصيد.

ينقُل عنه المُريدون ما تضمُّه الأعماق من مدنٍ وبنايات وميادين وشوارع وأسواق وخُضرة بلا آفاق، أساسات البيوت من الذهب والفضة والياقوت الأحمر، وما يصعُب تسميتُه، الجدران طوبة من ذهب، وطوبة من فضة، الغابات من المِسك والعنبر والكافور والأريج الذي يصدُر عن أشجار الجنة، الأنهار تجري في قنوات ضِفافها المرجان واللؤلؤ والزبرجد الأحمر، الحُلي والنفائس والجواهر الثمينة هي ما تلتقي به الأعين.

يتحدَّث عن الأزرق الذي يضمُّ في أعماقه الذهب.

يُدرك المريدون أن البحر هو المقصود بالمعنى.

فسر غياب الشيخ عبد المجيد المُتكرِّر عن بحري، بأن مُعظم أوقاته مع أهل البحر، يشعُر أنهم أقرب إلى نفسِه من ناس بحري. هو همزة وصل بين الأرض والبحر، مخلوقات البحر واطمئنانها إلى بركات أولياء الله ومُكاشفاتِهم.

أهل البحر ليسوا عرائس بحر، ولا جنيَّات بحر. هم أقرب إلى الإنسان في ملامحِه وصفاته، لا يختلفون عنه إلا في أنهم يعيشون في الأعماق، يعيشون في قلاعٍ مُشيَّدة تحت البحر، ربما تظهر أثناء سكون الأمواج. يَتمنَّون الحياة في البر، أو اجتذاب أهل البر للحياة في البحر.

مِثلما أن الأرض لها من يحكمونها، ويصنعون فيها العمران والخراب، فإن البحر هو أيضًا له من يحكُمه، يجعله موضعًا للحياة الطيبة والرزق، أو يُحيله إلى جحيم.

إذا نزلنا البحر فقد صِرنا في ضيافته، تحت إرادته وحُكمه. أمل حياتنا يقتصِر على مخلوقاته، جنيَّة البحر هي الوحيدة من مخلوقات البحر التي تُملي ما تريد، تُصدِر الأوامر للرياح والأمواج والمخلوقات الأخرى، يتبدَّل الساكن إلى مُتحرك، والهدوء إلى صخَب، والمُسالمة إلى عنف.

– نحن نركب البحر ضيوفًا على مخلوقاته.

وسرَت في صوته نبرة تحذير: ليس لأحدٍ سلطان على البحر — بعد الله — إلا مخلوقاته، تُنفِّذ ما تُوصي به عرائس البحر.

وارتجفت شفتُه السُّفلى: من حق مخلوقات البحر أن تُدافع عن سلامتها!

تعدَّدت روايات المُريدين عن علاقات الشيخ عبد المجيد زيدان مع أهل العوالم الأخرى، لا يعرفها المُريدون، ولا يُدركون أسرارها، عجائب الأسرار والحقائق ولطائف الألغاز والإشارات، وما له فيها من آراء نافِذة، يختفي من حيث ألِف الناس وجودَه في مسجد طاهر بك، يظهر في أماكن أخرى، بعيدة، يراه فيها الناس.

يحرص — في السير خطوات داخل المسجد — أن تكون على أطراف قدمَيه.

يقول للنظرات المُندهشة: أخاف أن أدوس أجسام الملائكة!

سأله مرعي. حدَّثه الشيخ عن جنِّيَّة البحر. ملأت الكلمات خيال مرعي. صدَّقها، وإن ظلَّ على إصراره بركوب البحر.

قال له الشيخ: إن أخلصتَ في انتباهك فأنا أدُلك على ما يُفيدك، وأمنعك من عملٍ يؤذيك.

ارتفع قدْر الشيخ بين أهل بحري. اعتقد فيه الناس بما لم يحدُث مع أحد المشايخ من قبل. أبرز ما يُميزه إطالة التأمُّل بمفرده، أو في وجود مُريدين. يتبع سُبل الشريعة، ويقتدي بأهل السنة، لكنَّه صوفي المَشرب، يقينُه أن الصوفية قطرات في بحار الأنبياء. يتردَّد إلى جامع طاهر بك بالحجاري إلى ما بعد صلاة العشاء، يمكُث فيه الليل متعبدًا. أخذ عنه خلق كثيرون. لزم عتبات الجامع أعداد هائلة من المُريدين والأتباع والمُحبين، يقرأ لهم ما يتيسَّر فهمه من كتب الفقه والمنطق والأصول والحديث والكلام. يروي قصص الأولياء والصالحين والصحابة والتابعين. ينصرفون — عقب صلاة الفجر — إلى قراءة ختمات القرآن والحديث والتسبيح والإنشاد، يتهيَّئون للمُغادرة حين يملأ نور الصبح أرجاء الجامع.

– أنت تستطيع أن تحيا على رزق البحر لو أنك امتلكت بوصةً وسنارة وخيط نايلون!

يعلَم ما لا يعلمه بقية الناس من غرائب العلوم، ودقيق الإشارات. يُجيد التعرُّف إلى دستور السنة من مقوِّمات السيارة ومواقع التاريخ وتواقيع القِبط والمواسم والأهلَّة، يحفظ أسماء النوَّات، ومواعيدها، الأيام التي تستغرقها كل نوة، التأثيرات التي تُحدِثها، ما إذا كانت غير قاسية، فيسهل ركوب البحر، أو يلزم الصيَّاد اليابسة. يحفظ الكثير من الأدعية التي تتمنَّى تهدئة النوَّات، أو إيقافها، وتوجيه الريح في الاتجاه الذي يفيد، وتحريكها بالسرعة التي لا تُدمِّر.

يتنبَّأ — في تطلُّعه إلى السماء — بالعواصف والأعاصير، والرياح التي تجلب المطر، والتي تُبقيه غيمًا في السماء، وهياج الأمواج، وسكونها، وهبوب النوَّات، وغلبة الضباب، وأحوال البحر. ربما تشمَّم الهواء المُحيط، يتنبَّأ — من رائحته — بالأحوال الجوية المُتوقَّعة، ما إذا كان البحر سيظلُّ ساكنًا، أم أن النوَّة قادمة.

يثق في قُدرته على تمييز أسماك المينا الشرقية وخليج الأنفوشي عن صيد المناطق الأخرى، أنواعها وألوانها وحجمها، حتى الرائحة التي تصدُر عنها.

لم يكن يلجأ — لمعرفة الوقت — إلى ساعةٍ أو مُنبِّه. الليل يأتي بالظلمة. يعرف وقتَ النهار من الضوء والظل في الحجرة. ليس وقت الصباح ولا الضُّحى أو العصر أو الغروب، وإنما ساعة التوقيت الكاملة وأنصافها.

إذا لاح بلانس في نهاية الأفق، فإن الشيخ يقرأ الاسم — من بُعد — بسهولة، يتعرَّف إلى طاقم البلانس، يُطمئن الناس لِما رآه قبل الجميع.

قال علي الشيشيني خادم جامع طاهر بك إنه رأى الشيخ عبد المجيد زيدان في المياه، دون أن تجتذِبه الأعماق. بلغ الموج ساقَيه، كأنهما تسيران فوق الأرض. لحِق الولد الذي يصارع الغرق، حملَه بين يدَيه، وعاد إلى الشاطئ.

قال الشيخ زيدان: ليس في سَيري على الماء ما يستحقُّ المديح، قطعة الشجر تعوم فوق المياه، وليس في طيراني ما يُنسَب إلى الخوارق، لأن هذه وسيلة الطير في التنقُّل. المعنى الحقيقي أن أُفرج عن إنسان كربة.

وعلت شفتَيه ابتسامة مُطمئنة: أنا مثل القناة، لا أشرب، لكنَّني أحمل الماء إلى العطشى!

ثم وهو يُداعب حبَّات مسبحته الكهرمانية الطويلة، ويتأمل الفراغ: أنا أشكل في البحر — مثل كل الصوفية — أحدَ مَوجاته!

رُوي أنه عند اشتداد تأثُّره لإخفاق الصيادين، ينادي على الأسماك. تدخل الشباك من نفسها، أكلها حلال للناس.

حين علت قامة المخلوق الهائل الجثة، بالقُرب من صخرة الأنفوشي، لم يعرِف حتى الريس قباري الحصري ما إذا كان المخلوق من عائلة السَّمك، أم أنه حيوان بحري ضلَّ طريقَه من البحار البعيدة.

وقف الشيخ — دافِعه الخوف الذي تملك الناس — على الشاطئ. اتجه بنظراته إلى المخلوق الغامِض، تمتم بكلماتٍ غابت مفرداتها عن اللمَّة المُحيطة، عرف الناس أنها مفردات لغة مخلوقات البحر.

أعطى المخلوق الغريب صدرَه إلى الناحية المُقابلة، ومضى بعيدًا.

شاهد — ببصيرته — صيادًا يسقط من المركب في الغميق. لا أحد — لارتفاع الأمواج، وكثرة الأسماك المُفترسة — حاول إنقاذه. استعاضوا الله فيه، وواصلوا الإبحار.

هتف الشيخ الجالس وسط مُريدِيه في جامع طاهر بك: لا تؤذُوه!

أدرك الناس بواعِث الهتاف المفاجئ، حين هبط الصيَّاد خميس البنداري، على ساحل الأنفوشي، من عُنق مخلوق أشبَهَ بالدرفيل.

روى البنداري أن الأسماك الهائلة، والمخلوقات التي لا يعرفها، لم تقترِب منه بالأذى، إنما التقطَتْه بأفواهها، وطرحته فوق المخلوق الذي مضى في اتجاه الأنفوشي.

فرح الناس للكرامة. ثمَّة مَن حرص على لثْم يده، ومن اكتفى بلمس عباءته.

لاحظ الشيخ يدَ المتوكل ترتفع إلى فمِه، تُداري السعال. حدَّق الشيخ في المُتوكِّل بقامته العملاقة، وقميصه المُشجَّر، وبنطلونه الجينز، وحذائه الكوتشي، والسلسلة المعدنية حول رسغه. ثبت نظرتَه على عيني الشاب، وابتدَرَه بلهجةٍ مشفقة: هل تنوي السفر؟

هزَّ رأسه بمعنى الموافقة.

– لماذا؟

– ظروفي قاسية!

قال الشيخ كأنه يُصدر أمرا: لا تركب البحر!

قال مرعي كراوية: هذا صديقي … المتوكِّل السروجي.

ظلَّ اتجاه نظرة الشيخ ناحية المتوكِّل: لا تركب البحر، حياتك مُهددة!

– ظروفي تدفعني إلى السفر.

وزوَی ما بين عينَيه في دهشة: طول عمري أركب البحر … لماذا أخاف الآن؟

يرى أن الخوف غير موجود، لكنَّ البشر يخترعونه، يشردون بمُخيِّلاتهم، يُجسِّدون ما يستحيل تصديقه. إن حل الخوف فمن السهل طرده بقراءة آية الكرسي والمَعوذتَين، تخلو النفس مما يطرأ عليها من الهواجس والمخاوف.

قال الشيخ في لهجته المُشفقة: صدرُك لا يحتمِل!

وهو يُحاول السيطرة على انفعاله: أُفضِّل الموت في البحر مرةً واحدة، بدلا من الموت في البر على دفعات!

•••

تابع البحَّارة يجذبون الحبال، يشدُّون الأسلاك، يُنفذون الأوامر، يتقافزون على سطح البلانس، وفي جوانبه.

ترامی صوت سلاسل الخطاف.

أدرك أن البلانس يتهيَّأ للإبحار.

كان يخشى الغرَق من قبل أن يستقل البلانس. لم يكن قد ركب البحر. عرف — من دردشات القهاوي وأحاديث الصيادين، وحتى في داخل البيت — تأثيرات الرياح والعواصف والنوَّات وغرَق المراكب والصيادين. تبدو له شاحبة الملامح، لا يعرف — ولا يعنيه — تفصيلاتها. ينسى ما قِيل بعد لحظات.

همس بأن يرفعوا السقَّالة، ويُعيدوه إلى الرصيف.

اغتصب الريس مغاوري ضحكة: إذا أردتَ العودة، فبوسعك القفز في الماء!

في حدود السبعين، وربما جاوزها، له فكٌّ عريض، وحواجب ثقيلة، وشارب كثيف يُغطي شفتَه العُليا. هو القبطان في السفن الضخمة. عرف مرعي من المُتوكل السروجي أن الريس؛ القبطان، لا يخرج إلى المعاش في سنٍّ مُحددة، لا يعرف سنَّ المعاش ما دامت ظروفه الصحية تأذن له بالعمل. وجهه يميل إلى السُّمرة الداكنة، ربما بتأثير حرارة الشمس التي تخلَّلت بشرتَه بما يُشبه العروق، اختلطت بها ندوب وخطوط. فتحة الفانلة الزرقاء، أعلى الصدر، تُبين عن بشرة قمحية، أنفاسه عالية، مُتقطعة، خمَّن مرعي أنه يُعاني الربو الذي لازم أباه حتى وفاته. يضع فوق رأسه الطاقية البيضاء، ويرتدى السيَّالة المُتعددة الطيات، والصديري المُقلَّم ذا الأزرار الكثيرة، المُتقاربة، والحذاء الكاوتش.

عرف من المُتوكِّل أن هذه أول مرةٍ يقود الريس مغاوري البلانس وهو يملِكه.

يعتزُّ بأنه عاش الفترة ما بين التحوُّل من الأشرعة والبخار إلى الديزل. ظلَّ أجيرًا عند المعلم حودة الشيمي شيخ الصيادين. باع بيتا في شارع العوامري. اشترى البلانس بقيمته. تابع — على مدى أشهر طويلة — عمليات ترميم البلانس، حتى بدا كالجديد، ونزل به البحر.

– من الصعب على أي ريح أن تتغلَّب على السلطان!

بدَّل اسم البلانس من «ملك البحار» إلى «السلطان»، وجد في التسمية الجديدة مَبعث تفاؤل بسلطان الإسكندرية المُرسي أبي العباس. وضع نسخةً من المُصحف في قاعدة الصاري. رشَّ على الموتور حفنةً صغيرة من تراب أرضية مَقام أبي العباس، فلا يغرق البلانس. دعا الشيخ عطية سند — إمام جامع البوصيري — لتلاوة آيات من القرآن، وقراءة أدعية تُناسِب تهيُّؤ البلانس لنزول البحر. ذبح ثلاث بقرات، نثر دماءها في جوانب البلانس. تناول وجبات الطعام عددٌ كبير من صيادي البلانسات، والعامِلين في ورش القزق، وأهل بحري.

لأنه وُلِد ونشأ بالقُرب من البحر، رِزقُه يعتمد على ما يُعطيه المالح، فقد جعل لنفسه مسئولية كل شيء، هو الذي يُحدِّد ما يجب أن يحدث. يقف — في ثقة — وراء البريدج، يتلقَّى الأسئلة، يُعطي الأوامر، يتكلَّم عن التوقُّعات.

يبدو يقظًا، ويُجيد السيطرة على الأمور. من يُواجه البحر يجب ألا يَهابه، الندِّية مَطلوبة.

خبرتُه تُعينه على معرفة الطريق، يحتفِظ بالبوصلة، والخرائط، والسجلَّات، ومعدات قياس المسافات، ومسبار تحديد أعماق المياه، وغيرها من الوسائل التي تُرشده، لكنه يُهمل استخدام ذلك كله، يُفضل أن يستعين بالشمس في النهار، وبالقمر والنجوم إن أقبل الليل، يجيد قياس ارتفاع المد، سرعة الرياح، كثافة الغيوم، درجة الحرارة والرطوبة، يتنبَّأ بالنوَّات والعواصف: إذا لم تُحسن التنبؤ بأحوال البحر، فقد تُواجه من الأخطار ما لا تتوقَّعه!

لم يُشكل العاملون في البلانس ما يصحُّ تسميتُه طاقما: الريس مغاوري والميكانيكي ياسر عبد الكريم والصيادون. عشرة رجال، أكبرهم — ومن يُعطي الأوامر — العجوز السبعيني، يبدو مُهتمًّا بكل ما يتَّصِل بحياة الركَّاب على السفينة.

قال مرعي: هذا البلانس … يبدو صغيرًا.

قال الريس مغاوري: لكنه يستطيع السفر إلى المحيط.

ورماه بنظرةٍ مؤنبة: نحن نركب معك البلانس نفسه.

لم يُشر الريس مغاوري إلى الوجهة التي يقصدها القارب. اكتفى بالقول: تذهبون إلى دُنيا جديدة!

ظلَّ مرعي صامتًا. خشي — لو تكلم — أن يُخطئ، فيغضب الرجل.

استعاد مُنى في نظرته إلى الفتاة الجالسة وحدَها. انحسر ثوبها بهبَّةِ هواءٍ مفاجئة، اجتذبه باطن فخذِها، واستدارة ساقيها.

لم تكن الملامح مُتشابهة، ولا طريقة الكلام، أو التصرفات، ولا حتى الفستان الذي ثبت تصميمُه، وإن تعدَّدت ألوانه. توالت هبَّات الهواء، كشفت — بعفوية — عن ساقَيها، لاحظَتْ تسلُّل نظراته، فجذبت فستانها إلى أسفل.

كانت تنزل البحر في وقتٍ ما بعد أذان الفجر، في اللحظات التالية لتعالي الأذان من أبي العباس.

تشتدُّ الظلمة، فتغيب الرؤية تمامًا. حتى المرئيات القريبة تشحب إلى حدِّ التلاشي. تنزع ملاءتها، فلا يبقى على جسدها سوى الفستان القصير، يعلو الركبتَين، لا تتلفَّت بالقلق. تُدرك أنَّ النظرات العابرة، والمُتسلِّلة، لن تتبيَّن موضعها. تتوغَّل داخل المياه، مُلتفَّة بالظلمة الشفيفة، تُعاود الاطمئنان إلى خلو الشاطئ من حولها، تسير حتى يصِل الموج إلى ما فوق صدرِها، ثم تعود.

رآها مع طالبات — للمرة الأولى — على ناصية السيالة. شيء ما اجتذبه إلى ملامحها، كأنه رآها من قبل، أو يعرفها.

شعرها الأسود، الكث، إطارٌ حول وجهها، يُحدد بياض البشرة. وجه أبيض مُدوَّر. تنسدِل على صدرها ضفيرتان من الشعر الأسود. في عينَيها الواسعتَين حوَل خفيف، سمَّاه زغللة، أضاف إلى جمالها. ترتدى جونلة بيضاء، ذات كشكشة، وتي شيرت أحمر. تدسُّ قدمَيها في صندلٍ ذي سُيور تتصاعد إلى أسفل الساقَين.

لمحها تسير على رصيف شارع الحجاري. أغراه الهدوء، فأسرعت خطواته. حاذاها، ثم خلَّفها وراءه. عاود إبطاء خطواته. كادت شفتاه تلامِسان أذنها: مُنی.

رمقته بنظرةٍ ساخطة، ومضت في طريقها. لزم إيقاع خطواتها.

أعاد القول: مُنی.

وسكت.

طالت وقفته على ناصية شارع المسافر خانة. عند اقترابها عرف أنها لمحته، تعثَّرت في خطواتها، وزمَّت شفَتَيها، واتجهت بنظراتها إلى الأرض.

عندما رآها من قبل، لم تستوقِف انتباهه. هي واحدة من مئات البنات اللائي يسرنَ في شوارع بحري. رؤيته لها على ناصية شارع السيالة، كأنه شاهدها للمرة الأولى، عاش — منذ تلك اللحظة — في توقُّع رؤيتها. رآها بالفعل بين المُتردِّدات على مقام أبي العباس، وهي تغادر — مع طالبات — مدرسة البنات بالمسافر خانة، وهي تصحب من خمَّن أنها أُمُّها في زحام شارع الميدان.

لحِقَها بالنداء، قبل أن تميل إلى شارع الحجاري: منی.

لاحظ عبور نظراته عابرات الطريق، شغلت منى تفكيره، الفتاة التي أحبَّها في هذا العالم. انجذب إلى مدارها، يُحبها كما لم يُحب فتاةً أخرى من قبل، هي المركز والوسط والمحور والقلب.

ذكرت أُمُّه — بإلحاح أسئلته — اسمَها. استولى عليه شعور بالسعادة لمَّا ذكرت أُمه الاسم: منى بنت ريس الصيادين قباري الحصري.

روت عن سرة المُقيمة في البيت ذي الطوابق الثلاثة، المُطل على شارع خير الله بك، قبالة الأنفوشي.

استدارت ناحيته، ثم تبيَّنت أنه كان ينبغي عليها أن تُواصل سيرَها.

طاردها بعينَيه، لم يُحول نظراته عنها، يتوقَّع أن تصطدم بنظرتها المُتجاهلة.

ناوشَتْه الرغبة في الجلوس إليها. لدَيه الكثير مما يريد قوله، يُرتِّب الكلمات حتى يطمئنَّ إلى العبارة المُلائمة، يجهد ذهنَه في البحث عن كلمات تُعبر عما في نفسه، يخشى أن يُثير غضبها، فلا تعود لِلقائه. إنِ التقاها يعجز لسانه عن نُطق ما أعده، تتعثَّر الكلمات، أو تغيب تمامًا.

منذ أخبرَتْه أمُّه بنافذة الطابق الأرضي، حرص على الوقوف في الساحة الترابية أول شارع خير الله بك، يُمنِّي النفس برؤيتها.

لم تكن المسافة تسمح بأن تصِله الأصوات من البيت، يظلُّ في وقفته حتى تضيء نور حجرتها، يتابع طيفها، أو طلتها السريعة من وراء قضبان النافذة.

أُدرك أن هذه البنت ملكت عليه نفسه.

حين كان يضع وجهه في كتابٍ من التي يستعيرها من مكتبة النن بالموازيني، يتأمل وجهها يطالعه بدلًا من السطور، شعر أنها أعزُّ عليه من أجملِ شيءٍ في الدنيا.

لم يعُدْ في حياته ما يشغله سوى أن تكون بقُربه، يُحبها وتُحبه. يرجع عن نية الهجرة لو أنها أتاحت له الوقوف إلى جوارها، ملامسة بشرتها، الإمساك بيدها. غاية المراد أن يقبلها.

تمنَّى أن يستقلَّا فلوكة، تتجه بهما إلى صخرة الأنفوشي، يجلسان فوقها، أو فوق جانب منها، يكلمها، وتكلمه، يقول لها: أحبك، تقول له: أُحبك، يُمضِيان الوقت بعيدًا عن نظرات الفضول والتساؤل والرفض. تمنَّى لو يُقبل شفتَيها الورديتَين، يعوم في بحر عينَيها، يستظلُّ برموشها الطويلة، يتخلَّل شعرها الأسود الحريري بأصابعه، يتشمَّم — بالقُرب — رائحتها.

ماذا فعل محمود دغيدي برسالته إلى مُنى؟

صارت الرسالة — بعد الخطبة — من الماضي، لكن السؤال يُناوشه: هل أَطلَع عليها محمود دغيدي أحدًا، أو أنه احتفظ بها، وروى ما تضمَّنَته للمُتوكِّل وتهامي، وآخرين؟

نفى لنفسه فكرة الحرام حين استند إلى العمود المواجِه لمقام المرسي، الحُب ليس عيبًا ما لم تُخالطه الخطيئة، هو يُحب منى، يتمنَّى زواجها، إذا أصرَّ أبوها على الرفض فإن الأمل في استجابتها. الكراسة على ركبتِه، والقلم في يده، تتلفت نظراته فيما يُشبه الشرود بين النسوة حول المقام المكسو بالخضرة، والمِحراب، والمنبر، والمكتبات الصغيرة في امتدادِه، وأعمدة الجرانيت والرخام، والنجفة الهائلة المُدلَّاة من السقف، وفتحات التهوية الملونة، ومَشربية مصلَّى النساء، وزخارف البرونز والنحاس المُحيطة بالأسقف والجدران، والنقوش العربية، وتعشيقات الأرابيسك والفسيفساء في النوافذ والأبواب.

تردَّد كثيرًا قبل أن يكتب الرسالة. وجد في عرض محمود دغيدي، البائع بمكتبة الموازيني، أن يوصِل رسالته إلى منى ما يُغريه بالسهر، يعيد القراءة، يبدل، يحذف، يضيف، يطمئن إلى المعنى الذي يقصده.

دفع الرسالة إلى محمود دغيدي، لم يسأله إن كان قد فعل ما وعدَ به. ظلَّ على تصوُّره أنها تسلَّمت الرسالة. توالت الأيام قاسيةً في ترقُّب رد الفعل: رسالة بخط يدِها، إيماءة من النافذة بقراءة رسالته، الالتفات — في سَيرها — ناحيته، حتى يتبعَها.

صبر طويلًا على ملاحظات أبيها وتحذيراته وتوبيخاته، وشتائمه أحيانًا، حتى وافق على تزويجها له. الهجرة هي المفتاح السحري لدخول الباب الذي طال إغلاقه، قرَن الأب عقد القران بالعودة من السفر.

قال للمتوكل: أسافر لأني أُفضِّل أن أُعبِّر عن حُبي بالفعل لا بالكلمات.

علا حاجِبا المُتوكل بالدهشة: وما شأن السفر بحبك؟

– أبوها يطلُب المُقتدِر!

يعرف مكانة أبيها في حلقة السمك.

يكتفي بالنظر — من جانب عينِه — إلى القامة الهائلة، والوجه الذي تهَبُه استدارته طفولةً واضحة، ينسدل على جسده جلباب من السكروتة، فوقه جاكتة تصِل إلى ما فوق الركبتَين، ويدس قدمَيه في حذاءٍ يخفي الجلباب رقبته، ويده تطوِّح بالمِذبة للتخلص من إلحاح الذباب.

أشار إلى صفِّ البيوت في الناحية المقابلة: أموت وأسكن شقَّةً هناك.

لم تكن أحلامه قد جاوزتها. تطلُّ على البحر، في مواجهة المينا الشرقية، بنايات مُتلاصقة من أربعة طوابق، يفتح البلكونة في الصباح على صيادي السنارة في قعداتهم على المُكعبات الإسمنتية، والمارة، إلى جانب الكورنيش الحجري، وانبثاق أشعة الشمس من خلف قايتباي. إذا حلَّ الغروب، فإن أشعة الشمس تكتسي توهُّجًا قبل أن تغيب.

وهي تُظهر اللامبالاة: ما دُمت ستموت، فلن تحتاج إلَّا إلى قبر!

لم يقرأ آلام فرتر، لكنه تأثر مما رواه محمود دغيدي عن انتحار الشابِّ المُحب، استغلقت الوسائل ليفعل مثله، لا يعرف كيف يُنهي حياته بما لا يؤلِمه، يهجر الحياة دون أن يستبق ما ينتظِره من عذاب الآخرة.

حدجَها بنظرةٍ مُتأملة.

هل تأثَّرَت بكلمات أبيها؟ هل حرضها على فراقه؟

– إذا كنتِ تخشَين غضب أبيك فسأفعل ما يرضيه.

وهي تهزُّ يدها: لا يُريد أن تزورَنا.

– لن أزوركم قبل أن أُصبح في الصورة التي يرضاها.

وشرد في الفراغ: إذا عُدتُ بالمال فسأبني لك قصرًا يجاور قصر رأس التين، أُحيطه بحديقةٍ لا تقلُّ سعتها عن مساحة حديقة القصر.

صار من حقِّهما التمشِّي بمحاذاة الكورنيش إلى انحناءة الطريق في السلسلة. يعودان من الطريق نفسه، يُدركان — دون أن يُنبههما أحد — أن هذا هو أقصى حدود المتاح، تُتابعهما، تُلاحقهما، عشرات الأعيُن في بحري وخارجه، يشتريان الذرة المشوية والترمس والفشار والسوداني واللب، يُتابعان صيادي السنارة في تناثُرهم فوق المصدَّات الأسمنتية، وصيادي الطراحة والجرافة، والبلانسات المُتجهة ناحية البوغاز. تُداخِله نشوة وهو يُعينها على الصعود إلى الكورنيش الحجري، ثم وهي تقترب — في اندفاعها — من صدره، تكاد تلامِسُه.

شعرت برغبةٍ في أن تخلع الصندل، وتمشى على الرمال. نزعت قدمَيها من الصندل، فرَكَت إحداهما بالأخرى، ثم سارت حافية.

– أُحب ملمس البرودة في قدمي.

وشى صوته بالقلق: ألا تخشَين ما يؤذي؟

نظرت — بعفوية — إلى أسفل، وواصلت السير.

غمرَه الشعور بالسعادة لأنه يُحب، أحبَّها من بين الوجوه التي يلتقي بها، يراها في الطريق، أو في الترام، أو الأوتوبيس، أو على شاطئ الأنفوشي، وفي داخل الأماكن التي يتردَّد عليها، وجه له ملامحه التي يلتقِطها دون تفاصيل، لأن التفاصيل قد استقرَّت في عينِه وذاكرته ووجدانه، الومضة السريعة، البعيدة، تجتذبها إلى نفسه، تستدعيها، بمجرد رؤيته للرأس الصغير، أو التكوين الجسدي، أو العينَين الواسعتَين، لا يدري إن كانتا سوداوين، أم بُنيتَين غامقتَين. يميز الوجه الذي يُحبه دون أن يعيد النظر، أو يُحاول إعادة النظر، أو إلى التأكد. روافد المياه الصغيرة تختصِر طريق الالتقاء.

تأمَّل قدمَيها الصغيرتَين، الحافيتَين، المُبتلتَين بالماء والرمل، وهي تحمل الصندل في يدها: أنتِ أول من يعرف موعد سفري!

أدارت نظراتها ناحية البحر: خلاص؟

وهو يُغالِب تأثره: لكي يوافق أبوك على زواجِنا، فلا بدَّ من السفر!

لم يكن يُفكر في ركوب البحر، ولا يتمنَّاه، لم يُحاول حتى تعلُّم السباحة، لكن ركوب البحر صار — بالمشكلات التي لا تنتهي — هو الأُمنية والمقصد؛ يركب البحر، فتتغير حياته.

رفعت عينَين حزينتَين: هل تطول غيبتُك؟

فطن إلى أنَّ عليه أن يتصرَّف بما يرضي مشاعرها، يختار الكلمات والتعبيرات. أسعفته بديهتُه: إذا فكرتُ في الغياب، فسيُعيدني الشوق إليك!

– سأنتظرك.

انتزع ضحكة: المُهم أن ينتظر أبوك!

وهي تُغالِب حُزنها: ألن تُتيح لي وداعَك؟

اتجه بنظراته ناحية البحر: لا أُحب تلك اللحظة!

داری ارتباكه وهو يلحظ نظرة المتوكل المتسائلة إلى دسِّ الظفر العالِق بين طرفَي إصبعَيه في مظروف صغير: ظفرها! … تقصَّف باصطدامها في سور الكورنيش … شيء منها أصحَبُه معي!

شحبت الأرض، ثم تحوَّلت إلى خطٍّ رمادي، ما لبث أن اختفى تمامًا. أحاطت بهم الأمواج من كل الجوانب، امتدَّت إلى آفاقٍ لا تنتهي.

تباعدت الأضواء، حتى اختفت. حلَّت — إلى نهاية الآفاق — ظُلمة، زادَ مِن عتمتِها تكاثُف السحب.

•••

تسلَّم — في قهوة أنَّح — جواز السفر والتذكرة وتصريح العمل والتأشيرة.

حدَّثه الرجل ذو النظارة الشمسية عن المتاعِب التي أعفاه منها: الانتظار — بالساعات — أمام أبواب القُنصليات، التوقُّع الأرجح برفض تأشيرة الدخول، الوجوه العابسة والمُتشكِّكة والرافضة، الأسئلة التي إن لم يُتقِن الكذب في ردِّه عليها، فلن يُتاح له الدخول إلى البلد الذي يقصده.

قال الرجل: كل الخطوات في الورقة المُرفقة، أهمُّها الصعود إلى البلانس في الموعد المُحدَّد.

قال المُتوكل إنه تمنَّى لو يسافر بالطائرة بدلًا من البلانس. خطوط طيران غير مباشرة، ينزل في مطار الترانزيت الأوروبي، يُمزق — بمجرد وصوله — كل ما يُثبت شخصيته: جواز السفر، التأشيرات، تصريح العمل. ينسِب نفسه إلى بلدٍ يُعاني ظروفًا سياسية، ويطلُب اللجوء.

زوی مرعي ما بين حاجبَيه: هل تفعل هذا؟

وهمس بصوت كحشرجة: ومصر؟

– ما لها؟

– ألن تعود إليها؟

– وطني حيث أجد الراحة.

وسار نحو كرسي لصق جدار القهوة: إذا أردتَ مُقابلتي، فستجدني هنا.

وأشار بيده إلى ما حوله: القهوة هي مكتبي حتى إشعارٍ آخر.

حذَّر الرجل ذو النظارة الشمسية مرعي من أن مد البحر يعلو مع اكتمال البدر.

عاود تحذيره من النوَّات المفاجئة. لا نُذُر لها. تُفاجئك في قلب البحر، أو بالقُرب من الساحل. للبحر مفاجآته التي لا يُمكن التنبؤ بها. حذَّرَه من النزول إلى مدينةٍ ما، وهو يحمِل نقودًا، أو مُقتنيات يُمكن سرقتها.

كان البحر — بعيدًا عن ونس البلانسات والفلايك أمامه — غامضًا، ومُثيرا، يتوق إليه ويخشاه.

لم يكن يُحب النزول في البحر بعيدًا عن الساحل، يتجنَّب السباحة لثِقته في أنه لن يُحسن العوم، وربما اجتذبته الأعماق، فلا يستطيع النجاة.

يتملَّكه خوف لرؤية الرايات السوداء، تُرفرف في مواقع متناثرة على امتداد الشاطئ، تُحذر من النزول في البحر.

يُخيفه الغموض في حكايات الجنِّيات اللائي يصعدنَ من الأعماق، يَخطفنَ من يَستهويهن من راكبي البحر.

قال الريس مغاوري: تستطيع أن تقف وراء الحاجز لوداع أُسرتك.

قال مرعي: لا يُوجَد مَن أُودِّعه!

صعد — مباشرة — إلى سطح البلانس. لم يؤذَن له، ولا مَن شكَّل بهم جماعة، بالهبوط إلى الداخل. مُجرد التعرُّف إلى الغُرَف السفلية والآلات، ممَّا يُشكِّل — في تصوراتهم — عالم البلانس.

خمَّن من تبايُن السِّحَن، اختلاف جنسيات الركاب. عشرات الوجوه اختلطت وتشابكت. تناهى إلى أُذنَيه نثار كلمات وتعبيرات بالعامية. فطن إلى أن التفاهُم لن يصعُب عليه، لن يُعاني باللغة، اللهجة، الوحيدة التي يعرِفها.

حرص — في الأيام الأخيرة — أن تستوعب ذاكرته ما يستطيع من ملامح العيش في بحري. قد يعود إليه، وقد لا يعود. ربما ظلَّ في بلدِ الهجرة، وربما واجَه الغرق في البحر، أو الموت في مدينة — لا يعرفها — تستقبِلُه.

قضى مُعظم الليل والنهار خارج البيت، جلس بالساعات على قهوة رأس التين، زار ورش القزق، تطوَّح مع الذاكِرين على رصيف البوصيري، رافق الجلوة إلى جامع الشيخ إبراهيم، صلَّى الفجر حاضرًا في ياقوت العرش، اكتفى من لقاء الشيخ عبد المجيد زيدان بسماع خطبتِه في أبي العباس، ارتشف — في غبشة الفجر — كوبًا من دم الترسة، أطال تأمُّل القوارب الصغيرة في مرسى المينا الشرقية، قرأ الفاتحة لمقام سيدي كظمان.

حلقة السمك.

ومض وجه الفرِّيش عوض متولي، بالسيَّالة الفضفاضة على جسمه النحيل. دفع به أبوه إلى الحلقة، وقف على عربة يدٍ، في زوايا أرضية السطح الصاج ثقوب تنزل منها دماء الترسة فور ذبحِها، تستقبِلها الأيدي في أكوابٍ من الألومنيوم.

عانى البطء في البداية، ثم اختصر الوقت إلى دقائق في الشروة الواحدة.

– لم يعُد هذا البلد يصلح للعيش.

ومسح بظهر يدِه لعابًا تكوَّم على جانب فمه: أنا أحيا بلا أمَلٍ في تغيُّر ظروفي … لماذا لا أموت في البحر وأنا أُقاوم هذه الظروف؟!

في امتداد المساحة، بلانسات بصوارٍ وأشرعة، وبُخارية، وقوارب صغيرة بمجاديف، ولنشات، ويُخوت.

لم يُفارقه حلمه بالبحر، والسفر إلى المدن البعيدة.

أظهر الريس قباري الحصري عجبه: زمان … كان السفر إلى الخليج، ثم تبدَّل الأمر.

وانتزع ابتسامة باهتة: السفر الآن إلى أوروبا.

وقطَّب ما بين حاجبيه: يُريدون الحياة المرفهة في مُنتهاها.

أشار متولي خليفة بامتداد ذراعه إلى الأفق: هكذا يتصوَّرون الحياة على الناحية الأخرى!

ليلة الرحيل، فضَّل أن يجلس على شاطئ الأنفوشي، يرقُب نهاية الأفق، التقاء المياه بما تختفي صورته. يتخيَّل ما بعد، السفن والموانئ والمُدن والجزر، وما قد تغيب ملامحه. نهاية الأفق مدخل انطلاقِه إلى العالَم. شرد في تصوُّرات، رؤى، ممَّا قرأه في الكتب، وما رواه المُتوكل عن رحلاته، ترك لمخيلتِه تصوُّر الحياة، يرسو على ما لا يعرفه من الموانئ. يتنقَّل بين المدن والقرى والغابات والوديان والمُحيطات والبحار والأنهار والجبال والصحاري والكهوف والمَغارات والخلاء والغيطان والمراعي والمعابد والمزارات والأديرة والأضرحة والمساجد والمكتبات والكتاتيب والبنايات الأثرية والميادين والشوارع والأشجار والزحام، والمعارك بين الجيوش وعصابات المسلَّحين، واقتتال الحيوانات في الغابة، وطقوس المُعتقدَات والتقاليد والعادات. يتحوَّل إلى طائر رخ، يطير في الآفاق بلا تعب، يهبط في الأماكن التي يُريدها، يرى ما لم يكن في بالِه، يُصادق أشخاصًا لم يلتقِ بهم من قبل، يُحدق، يتأمَّل، يسأل بالدهشة والعجب.

لمَّا تحدَّث عن كُرهه للحظات الوداع، عرفت منى أنه ينوي التوجُّه إلى الميناء بمُفرده.

تعمد ألَّا يمُدَّ لها يدَه بالمصافحة، أو يقول كلمات وداع، أو يتصرَّف على نحوٍ يُثير مشاعرهما.

حدس أنها راقبَتِ البلانس وهو يُغادر الميناء، في طريقه إلى عرض البحر.

مضى البلانس ناحية البوغاز، ابتعد، تضاءل، لم يعُد سوى نقطة. مئذنة أبي العباس هي آخِر ما استطاع تمييزه.

انتبَه على لكزة تهامي غنيم ولهجته المؤئبة: هذه التي بظَّت عينك عليها … هل تفُوق في جمالِها الحور العين؟

التقط نظرات المتوكل المليئة بالرغبة إلى جسد المرأة الفائر.

هل هذا هو المكان؟ هل هذه هي اللحظة؟

روى هريسة جرسون قهوة رأس التين عن دهشته لرؤية تهامي غنيم وهو يضع كوب الماء بعد أن رشف منه.

قال تهامي لنظرته المُستغربة: أتصوَّر حلاوة ماء الجنة!

رقَّت مشاعره — منذ استغراقه في أوقات القرب — عن الحاجة لرؤية جسد أية امرأة، يُهمل حتى مجرد تصوُّر ما تُخفيه الملابس. منع نفسه عن مراداتها، رسم بإيمانه فوق ما يبذُل الناس، يداوم على الصلوات والعبادة والأذكار، يحرص على الوضوء، وأداء الصلوات في أوقاتها، وقراءة الورد اليومي، والمشاركة في ذكر الحضرة، لا يتخلَّف عن التوجُّه إلى الصلاة في المسجد جماعة، يدخل أي مسجدٍ يصادفه، يؤدي فيه ما قُدِّر له من ركعات، يُحاذر أن يكون من رجال الدنيا، تغويه اللحظة بمُغرياتها، تنسِيه الآخرة، وما تقتضيه من إخلاصٍ في العبادات، والتيقُّن من أنها المحطة النهائية لسِني المرء في الدنيا.

صغُر في عينَيه كلُّ ما يراه. تَعبُر نظراته النساء حول مقام المرسي، وفي الشوارع المُحيطة بالجامع، وفي الأسواق، كأن عينَيه لا تُبصران.

– نحن أبناء الآخرة، وهم أبناء الدنيا.

ليست الحور العين وحدَها ما يُهمُّه، وعد الله عباده المُخلصين بالحور والولدان والأنهار والأشجار وما لم يخطر على قلب بشر.

اعتاد ذكر اسم الله الرحمن الرحيم، يكتُم ما يُحرِّضه للردِّ على كلمات الإغاظة، ويستغفر عن أي خطأ، حتى لو كان خاطرًا في الذهن. يبدأ كلامه بالتعوُّذ، يخشى مس الشيطان، يفقده القدرة على التصرُّف السليم، يتلبس جسده وأفكاره. الخطأ الصغير، الذنب الذي يُهمل فعله، يئول به إلى الجحيم، يقيده الزبانية بالسلاسل والأغلال ومقامع الحديد.

لم يعُد يتردَّد على سينما ركس، وإذا علا راديو القهوة بالأغنيات، بادر إلى تحويله إلى إذاعة القرآن الكريم، حرَّم على نفسه ما ألِف مشاهدته في التليفزيون من مباريات كرة القدم. إن سار في شارع السيَّالة، عبر قهوة الزردوني بنظراته، تُثبَّت النظرات على مسجد المسيري، أو تظلُّ عيناه شاخصتَين إلى الأمام، لا يتلفَّت.

•••

ترامی من غرفة الآلات — في ابتعاد البلانس عن اليابسة — صوت غريب، مُتقطع، ما يُشبه الانفجارات المكتومة، أو الفرقعات المُتلاشية. ثم سكت المُحرك تمامًا.

أشار الريس مغاوري لهم بيدِه ليصمتوا. انحنى على غرفة الآلات، وأصاخ السمع، يتبيَّن سلامة الصوت.

حدَّق الريس حوله، كأنه يتعرَّف في الوجوه إلى انعكاسات ما يجري: لا خوف، إنها مُجهزة بحيث لا يؤثر فيها طوربيد.

ثم وهو يتصنع الهدوء: البلانس لم يترك الميناء إلا بعد أن خضع للصيانة والتفتيش.

ووشت لهجته بالثقة: لعله الموتور، أو أنه سبب آخر سنعرفه.

وعلا صوته بالتأكيد على أن البلانس لا يبدأ رحلته إلا إذا جرى فحصٌ لكل أجهزته ومعداته، توافرت عوامل السلامة والأمان البحري، وسلامة أجهزة المِلاحة والإنقاذ وأطواق النجاة، أعيد قراءة شهادة الصلاحية، وآخِر موعد لها.

هبط الريس مغاوري إلى غرفة المحركات.

زاد القلق من طول الفترة التي أمضاها في أسفل. صعد بالشحم والزيت يُغطيان رأسه ووجهه وذراعَيه وأفروله. قال إن المُحركات أصيبت بعُطل، من الصعب إصلاحه. وحدج الخوف في الوجوه: أمامنا خياران: استبدال البلانس، أو إصلاح العُطل، إصلاح العطل هو ما سنُحاوله.

أضاف — في مزاوجة بين التسليم والحسم: لا بدَّ من استكمال الرحلة.

هزَّ المتوكل راحة يدِه المبسوطة إلى أسفل، يدعوه للهدوء: أنا ميكانيكي … ربما استطعتُ إصلاح العطل.

رمقه بنظرةٍ متفحصة: هذا بلانس وليس فلوكة!

لم يجد كلامًا يُعبر عن المعنى الذي يقصده، فسكت.

ترامى صوتٌ من قلب الأجساد المتلاصقة: أليس الأجدى أن يعود البلانس إلى الإسكندرية؟

قال مغاوري: المسافة إلى طرابلس الغرب أقصر من المسافة إلى الإسكندرية.

ولجأ إلى لهجته الواثقة: ما يحدث رأيناه من قبل.

وتلكَّأ في نطق الكلمات: حتى النوَّة ليست كلها خطرًا. الأمواج تصعد بقاع البحر، وما فيه من أسماك. يتوافر السَّمك للصيد.

عاود مرعي إحساسٌ بالغثيان والمَيل إلى القيء، استيقظتِ المخاوف داخلَه، تحرَّكت، بدَّلت ما في ذهنه، ما كان أعدَّ له نفسه.

قال المتوكل: هل أبعث إشارة SoS للإنقاذ.

قال الريس: هل تعرف معنى الاستغاثة؟

وضرب على إفريز البلانس بقبضة يده: في أوراق الميناء … نحن لم نُغادر الإسكندرية.

ثم وهو يُغالب لهاث أنفاسه: أُفضِّل أن يغرق البلانس، ولا أدخل السجن!

ومضَ ما يُشبه البرق. هل يحترق البلانس؟

أعاد المتوكل قوله: هل نُطلق إشارة استغاثة؟

أشار إليه مغاوري بالصمت: اقفل بقك!

أردف بلهجةٍ مطمئنة: قبل أن تصِل النجدة سيكون الوضع تحت السيطرة.

والتفت — بعفوية — ناحية الأمواج المُحيطة بالبلانس: البحر لا يؤذي إلا مَن يستهتِر به!

همس المُتوكل من بين أسنانه: المشكلة في البلانس. يحتاج إلى بلانس جديد!

لم يستطع الريس مغاوري تحديد مصدر الحريق: شرر من المولد الكهربائي، سخونة وحدات التبريد العاملة بالسولار. ما أدركه أن الحريق ينبعث من خلف البريدج، سلَّط رغوة الإطفاء على المكان. لم يكن قد استخدَم أسطوانات الإطفاء، لكنه ضغط في اتجاه النيران.

علا صوت المُحرك في الغرفة التحتية، عرف أن الموتور عاد إلى التشغيل.

اطمأنَّ الريس إلى أن الحريق محدود، سهلت السيطرة عليه. لن يحتاج الأمر إلى إشارات استغاثة، ولا قوارب نجاة، ولا حتى إلى الاتجاه لميناء قريب.

– خمس ساعات توقف فيها المحرك كانت كافية للوصول إلى البر.

غالب مرعي حزنه: ربما نتأخَّر عن موعد الوصول.

قال المتوكل: المُهم ألَّا نغرق!

بذل جهدا للابتسام، انفرجت شفتاه، لكن اصطكاك أسنانه وشى بعكس ما يُحاوله.

قال الريس: ما حدث لم نكن نتوقَّعه … لكن الخطر سيزول.

أهمل النداءات بأن يعمد إلى التخفيف من سرعة البلانس، واندفاعه في الأمواج العالية.

قال في لهجته الواثقة: لا توجَد مشكلات!

وهز رأسه مؤمنًا: أنا أدرى بالظروف!

تخلِّي الأصوات عن استغراق الصمت، والعودة إلى الأحاديث الجانبية، والنداءات، شفَّ عن زوال الخطر.

عرف الريس مغاوري من نتر المرأة المُستندة إلى الصرة أصابعها أنها تريد التبوُّل.

قال في لهجة آمِرة: داري نفسك وتصرَّفي!

التفتت المرأة حولها، ثم سكتت.

فكر شابٌّ قمحي البشرة أن يقفز إلى المياه، لكن تحذير الريس مغاوري سبق تصرُّفه بأن اليابسة لا تزال بعيدة.

ترامت — من جانب البلانس — صيحات استغاثة. أدركوا أن راكبًا فقد توازُنه، وسقط في الموج.

علت يداه، وقفز برأسه إلى أعلى، وحرَّك الموج من حوله … لكن الصوت خفت، وقلَّت تطويحات اليدَين، والتأمت الدوائر حتى غابت.

أمرهم مغاوري أن يظلُّوا في أماكنهم ساكنين، لا يتحركون.

– هذا قدره!

خمَّن مرعي أنه يُداري إحساسًا بالعجز يُطلُّ من عينَيه.

أقسى الأمور أن يُشاهد شخصًا يغرق، دون وسيلةٍ لإنقاذه. يهمل الصيحات المُستغيثة، ويكتفي بأن تحزن لصراخه فوق الأمواج.

تصوَّر أن الرحلة تبدأ وتنتهي، تعبُر البحر ما بين الإسكندرية ومدينة إيطالية. إيطاليا هي الهدف، يرحلون إليه كالرحلة في يوم شمِّ النسيم أو العيدَين.

يفر المرء — يوم القيامة — من أعزِّ ناسِه.

هل نحن في يوم القيامة؟

نصح الريس مغاوري بتحويل الدفة إلى اتجاهاتٍ مُعاكسة، فلا يواجه البلانس تيارات الأمواج والرياح. ظلَّت الريح تهبُّ عكس كلِّ الاتجاهات التي اتَّجهَ ناحيتَها البلانس.

أدرك أن البلانس — إن لم يبلُغ، بسرعة، شاطئًا، فإنه سيُواجِه الغرق.

رفع رأسَه يتبيَّن الصوت المُترامي من الأُفق الضبابي.

تعالى ما يُشبه التشقُّق أو التمزُّق، انبعثت من الزورق البخاري سحابةٌ كثيفة من الدخان، دمعت لها عيناه.

أوقف البلانس ماكيناته.

مدفوعًا بأمر الريس مغاوري، ألقى في المياه — مثل الآخرين — جواز السفر والأوراق التي تُثبت هويته. إذا عرف السواحل من أنتم، فإن مَصيركم السجن. لو استطعتُم، تظاهروا بأنكم عانيتُم، فلا تذكروا شيئًا!

عرف أن جواز السفر هو الصحيح الوحيد. كل الأوراق التي سلَّمها له الرجل ذو النظارة الشمسية كانت مُزوَّرة.

لم يكد يطمئنُّ إلى اليد التي انتشلَتْه، حتى غاب عما حوَّله. لم يفتح عينَيه إلا على شاطئٍ يختلف في صخوره ومساحات الرمال عن شواطئ الإسكندرية.

خمَّن — حين أنقذهم بلانس الصيد — أن قوةً ما، غامضة، حالت دون هلاك البلانس تمامًا، دون تدميره، وتحوُّله إلى حطام.

تلفَّت، كمن يُحدِّث نفسه: أشعر أن الله يُعينني في المواقف الصعبة.

اتَّجه الريس مغاوري ناحية الركَّاب المُتناثِرين في الأرض الصخرية: سنُحاول الانتظار هنا … إذا نقلناكم إلى المُستشفى فلن نضمَن عدم اتِّهامكم بالتسلُّل إلى الأراضي الليبية.

تابع نظرات المُتوكل الصامتة ناحية الفتاة.

همس باستعادة الاسم والملامح: هنية.

حين رآها — للمرة الأولى — في القزق، اقتحمت صورتها داخله، كأنها المفاجأة الجميلة، سرَت في أعماقه، اختلطَت بدمِه وأعصابه. حدَّق فيها ليرد نظراتها الثابتة، لكنها لم تُحوِّل عينَيها.

تصاعد في نفسه اهتياج. أدرك أن الواقفة أمامَه امرأة يحتاج — وتحتاج هي أيضا — لأن يلتصِق لحم جسدَيهما.

تلفَّتَت في وقفتها على الشاطئ، كأنها تطمئنُّ إلى غياب النظرات. اختبرت — بقدمَيها — برودة الماء، ثم خاضت في الموج الساكن إلى ما فوق الركبتَين، ساقاها مخروطتان أسفل الجونلة القصيرة الزرقاء، تعلوها بلوزة بيضاء، في مُنتصفِها ورود ملوَّنة صغيرة. فاجأها — في إعادة التلفُّت — ثبات نظرته، لم يُحوِّلها، حتى بعدَ أن رأته.

مضى خلفَها بتلقائية، لم يلحظ نظرات ناس الطريق وأوسطوات القزق، صيحات النورس فوق رأسِه نبَّهته إلى سيره على الرمال، من حوله صخب صنع البلانسات وإصلاحها، المناشير والقواديم، والخطاطيف، وحِبال الغزل، الطلاء، وغلقان السَّمك، والنداءات والصيحات، وأُغنيات مُسجلة تترامى من موضع قريب.

اعتاد رؤيتها، سعى إلى اللقاء، تقف إلى جانب أُمِّها في الكشك المعدني، تناثر حوله كراسي من القشِّ المجدول، أشبه بالقهوة الصغيرة. يقضي الساعات في القزق، يعمل أو يتمشى بلا عمل — في جونة الأنفوشي، ما بين حديقة رأس التين وحلقة السمك، يُمنِّي نفسه أن يراها، يلتقيها، تنقُّلها في المنطقة ما بين مركز الشباب إلى الناحية المواجهة لشارع الحجَّاري.

قامتها الطويلة، الأقرب إلى الامتلاء، تُناقض صِغر سنِّها. شعرها الفاحم الطويل ينسدِل على كتفَيها، البشرة القمحية الملساء، النهدان المُنتصبان، الردفان يهتزان مع أية حركة، يحكم استدارتهما بنطلون من الجينز ضيق، الأخدود الجميل بين نهدَيها، البلوزة تشفُّ عن القميص الداخلي الأسود، ذي الحمالات. الكعبان المُستديران بالِغا النعومة، يختلِط فيهما البياض بالحمرة.

أشدُّ ما كان يُثيره ثنية الركبة، الفاصل بين الفخذ والساق، يتمنَّى لو أن الجرأة واتته لمُلامَستهما.

خطر له أن يصحب المُتوكل إلى القزق، يفيد من جرأته في استمالتها.

هل يحتاج إلى الجرأة؟!

يعرض عليها، يتوسَّل، يتذلَّل، أن تهبَه ملامسة أصابعه لهذه المساحة الصغيرة من الجسد، لا مَطلب له قبل ذلك ولا بعده، لا مطلب له سواه، يُلامس ثنية الركبة، ويموت.

– البلاج هناك!

تملَّكته جرأة، فقلَّد المُتوكل في تعبيراته: أعوم معك!

أغمضت عينَيها، وضغطت على شفتها: قدام الناس؟!

في بدايات الليل، تأكد — بنظراتٍ متلفِّتة من صمت الرمال وهياكل السفن، وافتراش الظلمة، وخلو المكان.

قادته في أحراش مُتكاثفة من الأشجار والصخور والطحالب والأعشاب وأعماق السحر. ترامى هدير الأمواج، وصياح النوارس، وصفارات السفن في الميناء، ولحن أغنية مطموسة الكلمات من الناحية المُقابلة. عرَّفته إلى ما لم يكن يعرفه داخل الأغطية الواصلة بين هياكل المراكب، يدسُّ يدَه داخل بلوزتها، يُكور راحته حول ثديِها، يُمسِّده، يُدلِّكه، تفكُّ أصابعُه أزرار البلوزة. يُطلُّ نهداها نافِرَين، متماسِكَين، يدور بأعلى كتفَيها، تواجهه بنظرةٍ ملهوفة. يعتصِر النهدَين، مدفوعًا بتأوُّهاتها وأنَّاتها الخافتة. تُدير ساعدَيها من تحت إبطيه، تجذبه، تُحيط ظهره بساقَيها، تضغط فلا يستطيع التملُّص من عناقها، لا يتحرك من فوقها إلا بعد أن تُهمِل ساقَيها.

تكرَّرت اللقاءات في كابينة مهجورة على شاطئ الأنفوشي، حنية السُّلَّم في بيت شارع الشاروني الخالي — بأمر مجلس الحي — من سكانه، خلف ردم الخرابة المُلاصقة لمطحن الشيمي، البيت المهجور في شارع سيدي داود.

قال المُتوكِّل وهو يمضي نحو السيالة: نلتقي هنا!

هو المكان نفسه الذي اعتاد أن ينتظر فيه إشارتها. يتبيَّن أعلى جسدها من وراء سور السطح المُطل على الخليج، إذا رفعت الغسيل من المناشر، فهي في انتظار صعوده، يتَّجه إلى الساحة الترابية، أول شارع أبي السعادات، ومنها إلى شوارع ضيقة، مُتداخلة، تأخذُه إلى قلب السيالة.

فاجأه الشاب ذو البشرة المُنمشة: تتطلَّع للإشارة أنت أيضا؟

أنت أيضا!

هل رَفْع الغسيل دعوة لآخرين؟!

مال برأسه، يتَّقي اللكمة، تبِعَها الشاب بلكماتٍ وركلات، قبض على عنقِه بيدَين تريدان خنقَه.

هذه الجالسة أمامه لا تُشبه هنية، لكنها أعادته إلى ما غيَّبَته الأيام، كأنه فارق بحري أمس، كأنه فارقه منذ قليل.

– أنت جميلة … لماذا تُهاجرين؟

تكلفت ابتسامة: للسبب الذي تُسافر من أجلِه.

– لو استطعت … أصحبك بعيدًا على حصاني الأبيض.

وفي صوت منفعل: لماذا يصحب البطل حبيبته على الحصان الأبيض؟ … لماذا الأبيض؟

فاجأته هنية وهي تمشط شعرها بأصابعها: ألا تعرف الهدايا؟

استطردت في نبرة ملوَّنة: ما يُقدمه الشاب للبنت إن كان خطيبَها أو صديقها.

أربكته الكلمات. ظلَّ صامتًا، وإن وشى تملمُله بالحيرة.

تقافز — ظُهر اليوم التالي — فوق رمال القزق. تناثرت — من حوله — الهياكل الخشبية للبلانسات والقوارب والزوارق واللنشات والفلايك والدناجل والمَواعين وبراطيم نقل البضائع والسلاسل والخطاطيف الحديدية وألواح الخشب والأشرعة المُمزقة والبراميل والمعدَّات المُستهلكة وعلب البوية والدهان والغراء والقناديل الميتة والأعشاب والطحالب وبقايا الأعشاب وقشر الفاكهة وأعقاب السجائر والأسماك الميِّتة والمُخلفات.

لمَّا سخن رأسه من حرارة الشمس دون أن تلحق به، أدرك أنها لن تأتي.

فطنت إلى تغيُّر مشاعره، لا تلتقِط نظراته المتابعة، ولا يتردَّد على القزق، حين يلتقِيان في الطريق، يميل إلى شارع جانبي، ويسرع في خطواته.

ضايقَه ما سمِعه عن علاقاتها بشبَّان من الأنفوشي. اسمها يتردَّد كثيرًا في جلسات القهاوي، يتحدَّثون عن شبقها الذي لا يعرف حدًّا، يصل عدد المرات إلى عشر وأكثر.

اتهمها المُتوكل السروجي بأنها تفتح فخذَيها لكل رجلٍ تلتقي به: عشاق هنية يُحققون الرواج للقهاوي التي تمرُّ عليها!

همس لنفسه في نبرة مُنفعلة: أرفض المرأة التي تؤجِّرني جسمها!

رآها — ذات ظهر — في زحام شارع الميدان. التقت أعينُهما، حوَّل نظرته، ومضى، كأنه لم يرَها.

•••

اختار الريس مغاوري من ينزلون في القارب المطاطي، سبعة قوارب تناثرت في مسافاتٍ متقاربة. المسافة بين كل قارب وآخر نحو نصف ساعة، يُشير إليهم الريس مغاوري، ينزلون — في الظلمة — حتى يكتمِل العدد خمسة عشر شخصًا.

وهو يدفعهم من ظهورهم بيده: انزلوا بسرعة قبل أن يرانا خفر السواحل!

أمر أن يرقدوا في باطن القارب حتى يخلو المكان من خفر السواحل. لو أنهم فطنوا إلى الركاب، فلن يُفلت أحد من العقاب.

دعاهم إلى الحرص على الأرز. قد يفسد اللحم والخضر والفاكهة، وحتى المُعلبات، لكن الأرز لا يفسد، غليه في الماء يكفل وجبةً تحفظ الحياة.

أضاف ما بدا كأنه وصية أخيرة: حافظوا على جراكن المياه. يستطيع الإنسان أن يحيا على الماء وحدَه شهرَين وأكثر.

أشار إلى الجالس وراء الدفة بيده: مع السلامة يا شفيق.

في حوالي الخامسة والأربعين، وجه مُمتلئ، ساكن الملامح، يخلو من تعبيرٍ مُحدد، وإن أطلَّت الطيبة من عينَيه، شعره أسود مجعد، انسحب من مقدمة رأسه، حاجباه كثيفان مُتصلان، خالطَتْهما شعرات بيضاء، يتوسَّط وجهه أنف كبير أقنى، يعلو شاربًا غطَّى الشفتَين. يرتدي بنطلونًا من الجينز، وسترة جلدية سوداء، فتح أزرارها عن فانلة رمادية، يلفُّ حول عنقه شالًا من الكشمير مُختلط الألوان.

أدار شفيق الموتور. ارتفعت المقدمة، وانطلق القارب.

لم يستطع أن يحصي — بعينَيه — ركاب القارب، الخوف أفقده التركيز، وإن اطمأنَّ إلى قعود المُتوكل وتهامي بجانبه. التقطت نظراتُه ملامح ثبتت، أو تلاشت، بعبور رؤيتِه لها.

قال وهو يداعب الموج بيده: لو أنَّ يدي عثرت على قُمقم عفريت سيدنا سليمان، سأرجع عن هذه الرحلة.

أغمَض المتوكِّل عينَيه بالتأثر: إذا لم أجِد ما يُيسر لي حياة طيبة، فلا قيمة لكلِّ ما سأحصل عليه في الكبر!

– نحن في قاربٍ واحد. لن يظهر العفريت لك وحدك!

وغالَب احتباسًا في صوته: أنا لا أريد إلا الستر!

وجد في صخرة الأنفوشي موضعًا مُناسبًا لبناء بيت، يطلُّ على البحر من الجهات الأربع، عدد حُجراته بمساحة الجزيرة، يؤثِّثها بما يجلبه من البلاد التي يسافر إليها، ما لم يرَه أهل بحري من قبل، حتى الأغنياء ومشايخ الصيادين.

قالت مُنی: لا تسرف في الأحلام!

– أريد أن يعرف أبوكِ أنك أحسنتِ اختياري، وأساء رفضي!

وهي ترفع كتفَيها: صاحبك المُتوكل سافر كثيرًا، ولا يملك شيئًا.

– هذا خطؤه. يعود بما يُساعده على مشروع، لكنه يُنفق كل ما لدَيه، ويعود إلى البحر!

بعد أشهُرٍ من آخِر رحلاته، دفع به الريس قباري الحصري إلى الحلقة، يُنظف الشروات، يشقُّ السمكة من جانبها بسكين، ينزع الأحشاء، يُلقي بها في الجردل أسفل الطاولة المعدِنية، ثم يجري بالسكين على جانبَي السمكة، يُلقيها في القروانة، ويلتقط غيرها. دبلوم التجارة لا يساوي الورقة. عمل شيالًا في الميناء. يُفرغ حمولات السفن من البضائع، من السابعة صباحًا إلى الثالثة بعد الظهر. يعود إلى البيت مكدود الحيل، لا يُغادره إلى صباح اليوم التالي.

كانا قد نزلا من رصيف الكورنيش إلى الشاطئ الرملي. تتباطأ خطواتهما بصعوبة السير في الرمال المبتلَّة، وبين الجالسين تحت الشماسي، ولاعبي كرة المضرب، وباعة اللبِّ والفستق والفشار، والأطفال المشغولين بصُنع تكوينات الرمال، والألعاب البلاستيكية المبثوثة على امتداد الشاطئ، ومُحاذرة حُفَر الماء، وقناديل البحر في لدغاتها المُفاجئة، القاسية.

•••

لمَّا زالت الظلمة، بدا البحر أميلَ إلى الهدوء، سكن كحصيرة، توالِي الأمواج رتيب، هسيس الموج يُعمق من الصمت السادر، يلامِسه القلق والخوف والتوقُّعات.

ومضت أمُّه في خاطره: كيف تعيش أيامَها؟ هل يساعدها الجيران؟

لو تعلم بما يُعانيه الآن!

غاب ظلُّ الأرض، ظلُّ الأشياء، في امتداد الآفاق. ليس ثمَّة ما يشي بيابسة، حتى الطيور اختفت من السماء.

أشار شابٌّ إلى جسمٍ رمادي ضخم يقفز في الهواء، يعلو ويعلو: هذا قرش!

قال شفيق: بل هي سمكة المرشد.

حذَّر من أن السمكة تُرشد سمك القرش إلى موقع الفريسة، وتكتفي بما يُخلفه السمك من لحم الفريسة.

الفتاة ذات القامة المُمتلئة، والعينَين الواسعتَين، والشعر الأسود، المتكوِّم فوق رأسها، والأنف العريض، والشفتَين الممتلِئتَين، شاركت الباقين — وهي تحتضِن خوفها — ما أثاره الريس شفيق عن سمك القرش: العينان في طرف الرأس، الذيل القوي، الزعانف الحادة، الرأس القوي المُدبب، الفم الذي لا يعرف سوى الالتهام. تجتذِبه رائحة الدماء من منطقة بعيدة.

قال شفيق: القرش ليس الخطر الوحيد.

واخترق الفراغ بجانب يده: سمكة البرامودا تشطر الإنسان إلى نصفَين.

أخذتهم المناقشات.

تناثرت الأسئلة والتعليقات والملاحظات. استدعوا مواقف ضاحكة، وحزينة، حتى النكات التي لم تكن جديدة، ضحكوا لها من أعماقهم، كأنهم استمعوا إليها للمرة الأولى، ثم عادوا إلى نفوسهم المُفعمة بالترقُّب والقلق.

ألِفَهم وألِفوه، ائتنس بهم. فطن إلى أنَّ لكلٍّ منهم حكاية يحتفظ بها في نفسه، هي دافعه لركوب البحر، الانتقال من حياة لا يعرفها إلى ما يُحاول تصوُّره.

هل لهواء البحر تأثير في احتدام الرغبة؟

تمنَّى لو أن هنية — أو من لا يعرف — في حضنه الآن، يُطفئ فيها رغبته الصارخة. أهمل مواضع الدمامة، لم يعُد في باله إلا ما يُثير.

عرف — فيما بعد — أن ملامح مُنى — في اللحظة نفسها — لم تُخايله، كأنها ليست في حياته.

حين رأوا سرب النوارس يحوم فوق القارب، بدَّد المتوكل السروجي مشاعر الخوف: ظهور النوارس يعني اقتراب الأرض. لا بد أنها في الأفق القريب.

استولى التوقُّع على الجميع أنهم نجوا، وإن كانوا يجهلون أين هم.

قالت الفتاة التي ذكَّرته بهنية: أسافر دون أن أعرف حرفًا من لغةٍ أجنبية!

قال المتوكل: الإشارة لُغة عالمية!

ومال على أُذن مرعي، وهو يرسم في الفراغ جسدًا أنثويًّا: هي تملك لغةً خاصة!

قال غسان حمصي: المتزوِّجون حديثًا يركبون البحر لشهر العسل.

وأشار إلى نفسه، وإلى الفتاة جواره: أما نحن … فنأمل في فرصة عمل!

وأد المتوكل ضحكةً قصيرة: ألم يفكر في أنه قد يُراجع نفسه بعد أن يتعرَّف إلى أوروبية؟

قال شفيق وهو يميل بالدفَّة: البلدي يوكل!

زفر مرعي: كنَّا في غِنى عن هذه الرحلة!

ثم وهو يتَّجه إلى السماء بعينَين متأمِّلتَين: هل هذه النجوم هي نفسها التي تطلُّ على بحري؟

قال شفيق: طبعًا … السماء واحدة.

قال المتوكل: لماذا تسأل؟

وهو يتنهد: أبدا … مجرد سؤال!

شرد المُتوكل في اتجاه الأفق: المياه هنا هي المياه في كل البحار، والأمواج هي الأمواج نفسها، حتى في المُحيطات الواسعة، والجزر والصخور والرياح والعواصف والأنواء والأعشاب والطحالب وأنواع الأسماك التي بلا عدد.

كانا يتقافزان فوق صخور الشاطئ — بحذَر — خشية السقوط في المياه، يستقلَّان قاربًا، يتَّجِهان به إلى صخرة الأنفوشي.

اختارا ما يُشبه الكهف أو الفجوة في داخل الصخرة، يخوضان — بعيدًا عن صخب الشاطئ — في كلامٍ يبدأ ولا ينتهي، إلا عندما يمتدُّ اللون الأحمر في الأفق، لا يقربها، يُمسك نفسه حتى عن النظر إليها بعينَي الرجل، هي مُنى، حبيبته التي يهجر بحري من أجلها، تفرش جريدة، يأكُلان عليها الطعام.

قاوم تردُّدَه وهو يمدُّ أصابعَه، يحاول أن يتحسَّس جسدها، فخذها، أو رُكبتها، أو يلامس — بأطراف أصابعه — شعرها، أو بشرتها، مجرد المُلامسة، مجرد حتى أن يلامس ملابسها.

يجد في نفسه جرأة لمُغازلة الفتيات، لكنه كتم ما يشعر به نحوها.

جذبته ملامح الفتاة المُنمنمة، وهدوءها: الشعر الأسود الحريري الطويل، المُتكوِّم فوق الرأس، الرموش الطويلة، العينان العسليتان الواسعتان، الأنف الدقيق، الشفتان الرقيقتان كورقتي وردة، كأنها التصقت بالشابِّ ذي الوجه الأشقر، والجسد النحيل، تتَّجه له وحدَه بنظراتها وكلماتها.

التقطت نظرته إلى ما بين فخذَيها. غالبت الارتباك. طوت ساقَيها. وضعت راحة يدِها فوق الأخرى، ثم وضعت الراحتَين على بطنِها كمن تُخفي شيئًا.

لم تراوِده تجاه منى مشاعر حسِّية من أي نوع. أسقط التصوُّر بأنها تفعل أفعالَ البشر، تأكل وتنام وتبصق وتتبوَّل وتتغوط.

هي ليست من جنس البشر.

بدت له مخلوقًا نورانيًّا، يقصر عن النظر إليها، أو مُبادلتها الكلام.

خفتت الأصوات في اللحظات التالية. تراخت الكلمات، غابت القُدرة على الحكي والأخذ والرد وإبداء المُلاحظات واستجلاء التوقُّع، سيطر النوم على الجميع. شرد في رؤًى وتصورات، مثَّلت له الآفاق المُنبسطة جدرانًا تعزله عن الحياة التي اعتادها، تفصل بينه وبين ركاب البلانس، تقصر المدينة على التذكُّر. مشاهد وامضة، تقفز إلى الذهن، وتغيب: ترامي صافرات السفن في المينا الغربي، تسلُّل أشعة الشمس إلى الجلسة المُسترخية تحت الشجرة في حدائق الشلَّالات، أهازيج السحر من مئذنة ياقوت العرش، قُبَّتا أبي العباس تعومان في شمس الأصيل، التجرُّؤ بالاندساس في حضرة إمام البوصيري، وميض الفنار الخاطف في سماء المدينة، القومة الفزِعة من نظرته لشابٍّ وفتاة غابا في قبلةٍ تحت فلوكة مقلوبة، صرير عجلات الترام في الانحناءة حول الحديقة الصغيرة قبالة ميدان أبي العباس، انشغاله بالمذاكرة في زاوية صحن أبي العباس، باعة المُقتنيات في ساحة قلعة قايتباي، يد تنفض سجادة على إفريز شرفة، امرأة تنزل بجلبابها في مياه الأنفوشي، دخان أبيض يتصاعد من ماسورة صفيح، في مقدمة عربة فول سوداني، بنت صغيرة تُبحلق في انتِصاب حمار، رجل واحدة على سُلم الأوتوبيس المزدحم، والرِّجل الأخرى مُعلقة في الهواء، النصب التذكاري للجندي المجهول يسبح في ضوء شمس الصباح، الشحاذ العجوز — أول الحجاري — في ندائه الرتيب: قصدت باب الكريم، أهالي المحجوزين في نقطة الأنفوشي، يُحيطون باللوري قبل أن يُقلهم إلى الترحيلة، عربة نقل تُلقي ربطات الصحف على الرصيف، تقافز فأر من بين صخور الشاطئ قبل أن يختفي، عش اليمامة خلف ماسورة الجدار، أسماك البسارية تضوي في المشنة باختلاف ألوانها، هبَّات الريح من الأنفوشي تهزُّ اللمبة المُدلَّاة من السقف، تلقي ظلالًا مُتماوِجة على جدران الحجرة. الأمواج تصطدم بالكورنيش الحجري، تعلو عليه، تندفِع في الطريق، تصل إلى الرصيف المُقابل، الخرق المُتدلِّية على مقام سيدي كظمان، صيحة الدهشة لرؤية عروس البحر في متحف الأحياء المائية: هل هذه هي؟! ارتطام المطر بزجاج النافذة المغلقة، صورة أبيه بالجلباب والطربوش معلقة على جدار الصالة، تلاشي بيوت الإسكندرية في ابتعاد البلانس عن البوغاز، هبوط الإمام درجات المنبر تهيؤًا للصلاة، خطواته المُسرعة أمام بيتٍ مهجور، سرب من طيور البحر يُشكل ما يُشبه الغمامة الصغيرة في انطلاقه إلى الأفق، هدير الأمواج الرتيب، في اصطدامها بالمكعبات الأسمنتية على شاطئ المينا الشرقية، الغارقة في الظلمة والصمت. سيدة تدفع عربة — بداخلها طفل — على رصيف الكورنيش، نسوة فرشن ملاءة في حديقة الملكة نازلي يتناولن الطعام، تقاطعات ضوء النهار عبر قضبان النافذة الخلفية، جدران مسجد تربانة المزينة بالنقوش والكتابات والمُقرنصات، الإعلانات المضيئة فوق بنايات ميدان الرمل، تعالي أغنية شعبية من راديو ترانزستور فوق عربة تين شوكي، دقات اليد الحديدية في الهاون الحجري بسوق الترك، جلسة المذاكرة لصق جدار صحن أبي العباس، تَطوُّح البخور في يدٍ معروقة، طقطقة أبي فروة فوق فحم المدفأة وسط حجرة النوم، خطواته المهرولة وراء عربة الرش، شاب وبنت تتبادل أيديهما حبَّات كيس فشار، قرقعات عربة كارو على مُستطيلات البازلت السوداء، ولَد يلوح بمناديل ورقية في إشارات المرور، الملامسة المُنتشية لساق البنت الجالسة جواره في سينما استراند، صوت أم كلثوم يتناهى من راديو قريب: رق الحبيب وواعدني يوم!

•••

انحسرت الشمس، وعادت.

طبيعة الجلسة لا تأذن بالتحرك، حلَّت بَلادة على الجميع.

توالى — أمام عينَيه — تلاحُق الأمواج، والدوامات الصغيرة. المشهد — لطول ما تكرَّر — ساكن، لا يتبدل. روحه ترفُّ في الآفاق، لا تستقر.

أسلمت الأجساد نفسها للنوم. تعالى شخير تهامي غنيم. ظلت عيناه مفتوحتَين بالتوقُّع، تتنقِل بين يد شفيق وراء الدفة، والأمواج المُترامية في الآفاق، تتدرَّج ألوانها ما بين السماوي والأخضر والبُني والأزرق الداكن والأميل إلى السواد.

شعر أنه قريب من هؤلاء الناس، وأنهم قريبون منه، وأنه — بوجودِه بينهم — يبعد عن أخطارٍ لا يعرفها.

هبت دفقات هواء، تحركت لها الأجساد داخل القارب، تلاصقت، أو تباعدَت. حرك التوقُّع ما ران على القارب من السكون. لم يُحاولوا تبيُّن ماذا يعني شفيق في خشيته من تكون هبَّات الهواء المفاجئة بداية للرياح المدارية.

استوقف مرعي التعبير، وإن لم يفهمه.

رياح في الصيف؟!

لم يكن ثمَّة ما يشي أن الجوَّ سيتغير، الريح طياب، والبحر حصيرة، والأمواج الخفيفة تضرب جانب القارب، والسماء شديدة الزرقة، تعلو سحابات بيضاء صغيرة، مُتباعدة، والهواء نسائم مُنعشة.

كانوا مشغولين بالتوقُّع، فأهملوا السؤال. أسلموا أنفسهم إلى ما لم يُحاولوا تصوُّره، توقُّعات الرياح المدارية — وصف شفيق — مُحمَّلة بخطر العواصف والنوَّات والأمواج العالية والأعماق التي بلا نهاية.

استنكر مرعي من نفسه إخفاقها في التراجُع عن استراق النظر إلى الساقَين العاريتَين. قد تأتي اللحظة التالية بما يغرق كل شيء، لا مواضع إثارة، ولا عينان، ولا حياة، يغيب القارب — بكل من فيه — داخل الأمواج، تطويه الأعماق.

علت الصيحة: انظروا!

المركب بعيدة، لكنها قريبة من الأعيُن، مالت على جنبها كأنها تغرق. اختلط الصراخ وصيحات الاستغاثة والنداءات والبكاء.

أحسَّ جفاف حلقه، واقتحمَه شعور بالخوف.

هل يشاهد ما سيُعانيه؟

تذكر أن الوقت سرقه، فلم يُحاول نوم القيلولة، لم يستطع النوم، يُحاصره الصمت والقلق والخوف والتوقُّعات والنظرات المُستريبة. لم يأخذه النوم بعد الغداء، عادة نسي متى بدأت في حياته، يستردُّ بها من العافية ما يُعيده إلى العمل. اشتدَّ هبوب الهواء، تساندوا في حواف القارب، تداخلوا في أنفسهم اتقاء البرد. سحب مرعي الغطاء على رأسه، وتكوَّر، قاربت رُكبتاه ذقنه.

أحسَّ بتأرجُح ما تحته، وحوله، تدافعت الأمواج — على غير توقُّع — وتوالت. إيقاع لطمات الموج على جانبي القارب. ثمة — في السماء — سحابات رمادية تتقارب، حتى تلتصِق، تتباعَد، فتنفُذ أشعة الشمس من الانفراجات فيما بينها. تلاقت السُّحب المُتفرقة، في سحابة كبيرة، احتلَّت مساحة هائلة من السماء.

انحنی شفيق بجانب صدره. حدس المُتوكل أنه يُحاول الميل بالدفة، فلا يشحط القارب في الرمل، أو يصطدم بصخور الجزيرة، أو ينقلب بمن فيه.

تقاربت الأجساد، تلاصقت، تشبَّثت بالكراسي والعوارض والحواف. أحاطت الأيدي — بإحساس الخوف — بالصدور والأذرع والسواعد، بدت إطارًا داخليًّا لإطار القارب، يُعانون حصارًا لا يَرَونه، ألزمهم أماكنهم داخل القارب، لا يقوون، ولا يُفكرون، في مجرد الحركة، وإن تعالى النطق بالشهادتَين، والعبارات المستغيثة، والداعية.

تملكت الفتاة حالة من الهوس، تنزح الماء بيدَيها من داخل القارب، لا تلحظ — ولا يشغلها — سيل المياه في تدفُّقه من مَوضع غير مرئي.

دارت الدوَّامات في دوائر، تقترب، وتقترب. لم يعُد إلا العاصفة القاسية، كأنها تُريد إغراق القارب، وإغراق من فيه. سرَت رائحة الخوف، اقتحمت الأنوف بما يصعُب تنفُّسه.

تطوَّحت الأيدي، تُحاول أن تتشبَّث بأي شيء، على أمل أن تهدأ الريح، أو يصِل القارب إلى أرضٍ مرتفعة.

نفض شفيق السكون من وجهه. تمازج — في عينَيه الخوف والدهشة. قال إنه يعرف أحوال المدِّ والجزر جيدًا، المد المفاجئ، اشتداد الرياح والأمواج بدَّل توقُّعه تمامًا. الريح تهبُّ عكس كل الاتجاهات التي حاول أن يمضي فيها.

غالب مرعي القلق: ألا تعرف الطريق؟

– أعرفه. القارب يسير في طريق أخرى.

هتف المُتوكل: اعدل اتجاهه!

حاول شفيق — لتحاشي الخطر — أن يُغير مسار القارب، ينحرِف به عن الاتجاه المُستقيم، المُحدَّد النهاية.

اختلط في صوته الارتباك والخوف: الدفة لا تعمل كأنها مُتوقفة.

لم يستطع تحديد المسار، أو تعديله. استولت قوة غامضة على القارب، تُحركه، وتدفعه. ما أعدَّ له نفسه، ويعرفه الركَّاب في القارب، أن ينتقلوا — في عرض البحر — إلى سفينةٍ كبيرة، تُقلهم إلى الشواطئ الإيطالية. التيارات المُعاكسة أوقفت الدفة تمامًا، تمضي بالقارب إلى غير ما كان يتَّجِه إليه.

بدا المكان على غير ما ألِفوه. لا يعرفون أين هم، الأمواج بلا آفاقٍ تنتهي إليها، ليس ثمَّة مراكب ولا جُزر ولا صخور ولا دلائل حياة، يعيدون التلفُّت، والنظر إلى الآفاق المترامية، دون أن يرَوا شيئًا.

في لهجة مُهوِّنة: ستر الله دفع القارب إلى إيطاليا. اليونان تسجن المسافرين إليها!

زاد قلق مرعي من الارتباك البادي على المُتوكل، انكمش في جلسته، وتداخل، وعيناه دائمتا التلفُّت، كمن يُعاني توقُّع مصير لا يعرفه.

استعاد كلمات المُتوكل المُتحدية عن مواجهة شحِّ البحر وغضبِه والنوَّات والعواصف والأجواء القاسية: لولا أنني أعرف الداية التي أشرفت على ولادتي، لتصوَّرتُ أني وُلِدت على شاطئ البحر!

وترفُّ على شفتَيه ابتسامة: لعل أُمي نذرتني للبحر!

ثم وهو يُدلك أنفه بعصبية: إذا كنت في الأرض، فأنا مريض بالحنين إلى البحر … لا أُشفَى إلا بالعودة إليه!

ويشي صوته باللهفة: البحَّار الحقيقي يشعر أن بيتَه الحقيقي هو البحر. حتى لو طال بقاؤه في البر، فهو يُعِد نفسه للعودة إلى البحر!

كان المُتوكل يتحدث عن السفن التي عمل على متنها، والموانئ التي زارها، والنوات التي صادفت الرحلات، والصداقات التي تعرَّف إليها: أرصفة المحطَّات، والبارات، والقهاوي، والحواري الضيقة، والأرضية البازلت، والمتاحف، والميادين، والحدائق، والأماكن المُظلِمة. البحر مثل الأرض تمامًا، فيه كائنات تحمِل الطمأنينة والأمن، وفيه كائنات تُصدر العداء والشر.

– هل عرفت بنات؟

وهو يرفع كتفَيه ويهز رأسه: كثيرًا.

حكى عن علاقاته الكثيرة، علاقات عابرة، ومغامرات مؤقتة، شحبت من الذاكرة، حتى غابت تمامًا. رحلات إلى كل الدنيا. شالته البحار، وحطَّته، هبط في ما لا حصر له من الموانئ، نزل البحر في رأس التين، وخرج منه في المُنتزَه، ركب القوارب الصغيرة والبلانسات والسفن الضخمة، يعرف متى يطوي الشراع، ومتى يخفضه، وكيف يُواجِه تيارات البحر، ويتجنَّبها. فاق الآخرين في تسلُّق الصاري، ونشر الأشرعة. فك الحبال في لحظة كالومضة، وفرْد القلوع، تثبيتها بالحبال. تعامَل باللغة والإشارة، عرف أنواع العملات والخناقات والهرب، بذل وعودًا، وأجاد التملُّص منها، رأى ما لم يرَه أحد، أخذ، وأعطى، واشترى، وباع، وساوَم، ولجأ إلى المراوغة في أحيانٍ كثيرة. يثِق أنَّ ما يرتكبه من ذنوبٍ صغيرة، لن يقذفه — في سيرِه على الصراط — إلى الجحيم، قد يواجِهُ مساءلةً قبل أن تستقبله الجنة برياضها وأنهارها ونعيمها.

عرف مرعي — بطول المعاشرة — أن عدوانية المتوكل الظاهرة، وملاحظاته التي لا تنتهي، وأسئلته المُستفزة، وميله إلى التظاهر، هي محاولة للتغلُّب على الخجل — وربما الخوف — في داخله، يُخفيه في ميله إلى الاقتحام، وإن غلبه — في لحظات — ارتباك، وصمت، وغياب للبديهة، وتلعثُم أمام الأسئلة العادية.

غالَبَ تردُّده: هل صحيح أن البحَّار له في كل ميناء عشيقة؟

ضرب المُتوكِّل راحة يدِه بقبضته: هي عشيقتُه حتى يرحل، ثم تبدأ علاقة مع بحَّار آخر! روى عن قبطان عمِل في سفينته: كان يقترن بامرأةٍ في معظم المدن — وربما القرى — التي ينزل بها، يتركها بعد أن يبذُر فيها مولودًا يختار له اسمَه إن كان ذكرًا، ويترك لها اختيار الاسم إن جاءت المولودة فتاة. يرحل إلى مدينةٍ أخرى بعد أن يترك لزوجته ما تستقر — باستثماره — حياتها.

هل كان صادقًا في حكاياته عن البراعة في ركوب البحر، وتحدي الأمواج، والخوف، ومُصادقة النساء؟

لم يعُدِ المتوكِّل الذي يعرفه، غابت الجرأة، والميل إلى المُناكفة، حلَّ عليه هدوء مُتوتر، يُحركه الشرود، والصمت، وتقلُّص الملامح، والتلفُّت بين الأمواج العالية والجالسين في القارب. هو — مثل الجميع — مُحاصر، وضعيف، لا يقوى على فعل شيء.

حدَّق شفيق في الأفق: حرس الحدود!

تبدَّلت السِّحَن، غاب الشخط والنطر وإبداء الملاحظات وإصدار الأوامر. يعرف حرس الحدود في العسكري على الكورنيش، بندقيته على كتفِه، نظراتُه ترقُب البحر، يتخلَّص من الوقفة الثابتة بالسير خطوات، ويعود. ربما دخل في مُسامرات مع صيادي السنارة، أو الجالسين بالقُرب منه.

اتَّجهت الأعيُن إلى الموضع الذي أشار إليه الرجل، ما يُشبه الضباب، أو التموُّجات في الهواء، هو ما رآه قبل نهاية الأفق.

أحسَّ مرعي أن أمعاءه تنتفِض، الغثيان يتصاعد في بطنه، كأنه يهمُّ بالقيء: ألا يحمل القارب ترخيصًا؟

قال شفيق: الترخيص للصيد وليس لنقل أضعاف الحمولة!

وشى صوت المُتوكل المُرتجف بما يُعانيه.

– أخشى أنَّنا سنغرق كُلنا.

واكتسى وجهه خوفًا لم يرَه مرعي فيه من قبل: قد نموت معًا، أو يموت أحدنا.

قال غسان حمصي: اعتدْنا ابتلاع البحر من يخرجون للصيد، هو الآن يبتلِع من يقصدون الهجرة.

وهز قبضتَيه: لماذا الهجرة؟

اتجه المتوكِّل بنظرةٍ محدقة ناحية مرعي كراوية، أخذ الخوف سُمرة وجهه، حلَّ بياض شاحب، كأنه وجه ميت. فضحت ارتعاشة صوتِه تظاهُره بالتماسُك: إن نجوت أنت، أبلغ أهلي بموتي.

وغلب صوته نشيج: أخاف ألا يعرف أهلي شيئًا عن مصيري.

ومازج نشيجَه نبرةٌ مُتذللة: هل لا بد أن نغرق؟

هل كان مُخطئًا في تصوُّره للمتوكل؟ هل هذا الجالس جواره شخصٌ آخر لم يكن يعرفه؟

تناهى صوتٌ من ناحية البريدج: ما دُمنا أحياء فهناك أمل!

تعالى — فجأة — صوت ارتطام في المياه. علا صراخ الرجل، ويداه، وهو يُصارع الأمواج، كأن قوة — لم يرَوها — اختطفته.

قذف شفيق بحبل.

حاول الرجل أن يتشبَّث به، امتدَّت يدُه إلى حافة القارب حتى لا يسقط به الدوار داخل المياه.

قذفت به الموجة الهائلة إلى الناحية المُقابلة. قبل أن يعلو بصدرِه ليتسلَّق القارب، طوَّحت به الأمواج بعيدًا، اجتذبته دوَّامة إلى أسفل، خارت قواه، فلا يستطيع ملامسة الحبل.

غاص في الأمواج وطفا، وغاص وطفا. توالى غطسه وطفوه. التيار القوي يمنعه من العودة.

أطلقت البنت صرخةً لرؤية الشاب جوارها يقفز في الأمواج، ثقة — ربما — في أنه يُحسن العوم. بدا — من موضع التصاقهم داخل القارب المتأرجِح — أنه يحاول اتِّقاء الموجة الهائلة، ما لبثت أن طوته، لا يَدرون إن أفلت بحياته، أم غيَّبتْه الأعماق؟ ترنَّح البلانس فوق المياه، علا وهبط، أحاطته الأمواج بعلوها وتوالِيها، التفت حوله في نوَّات لا تنتهي.

لاحظ تحليق النوارس على ارتفاعٍ منخفض، بالكاد تعلو إلى قُرب الصاري. أوعز لنفسه أن يطمئنَّ إلى قرب انتهاء الرحلة.

ظلَّت الأمواج عالية، مُزبدة، تلطم القارب بعنف. القارب يهتز، ينزلق في مُنخفَضٍ يهمُّ بابتلاعه، ثم يرتفع فوق سلاسل متوالية من الجبال، أو الجدران العالية، المُصمتة.

لم تعُد الأجساد ساكنة، تطوَّحت — بتعالي الأمواج وتواليها — في داخل القارب، ارتطمت بالجوانب، وببعضها البعض، ارتفعت مقدمة القارب، وسقطت بين الأمواج الهادرة، أيدٍ غير مرئية تلقَّفته، لا يكاد يستقر في إحداها، حتى تقذف به إلى أخرى. لن يُمكنهم التصدي لهياج البحر، وشدة العاصفة، وارتفاع الأمواج.

انشق جانب القارب. تدفَّق الموج إلى باطنه، فمال.

تعالى الصراخ.

تغير لون الأمواج. تحوَّلت إلى الرمادي. تلاطمت بقوة، علت كسلاسل من الجبال الصغيرة. مال البلانس إلى الجانب. حدس أن الماء تسرَّب داخله. تأرجَح البلانس، كأنه يغرق.

لمح طيرًا يقف على صاري البلانس، وطيورًا تحوم — مُتباطئة — في السماء. تشكَّلت سحابة بيضاء، صغيرة، مُتحركة. تسبح فوق سطح الموج، تميل نحو الماء، وتعلو. تعالت صيحات النوارس، مُحوِّمة في مدى الأفق القريب على شكل دوائر متباعدة.

أدرك أنه قريب من الأرض. ومض في رأسه قول المتوكل: تحليق أسراب النورس يشي بوجود البر.

ارتجف لشيءٍ حطَّ على كتفه، سبق الطائر التفاتته الخائفة، ومضى في الأفق.

تأمَّل النوارس في تناثُرها أعلى البلانس.

رأى موجة عالية تدوِّم، وتهبط على جانب البلانس. طوَّق الصاري — بعفوية — بذراعَيه. علت الأمواج كجبالٍ صغيرة، هبطت كوحشٍ خرافي يريد ابتلاع القارب. تمايل القارب، ترنَّح، تحت قوة الضربات المُتلاحقة، يعرف أن النوَّة تحمل الهواء والبرد، لكنه لم يتصوَّر أن تكون بهذه القسوة. قهرَه شعور بأن شيئًا ما، خطيرًا، يلامِسه، يوشك أن ينقضَّ عليه.

علَت صيحة مُحذرة: السواحل!

الزورق الصغير يلفُّ أمام القارب في دائرة واسعة، مُخلفًا وراءه انفراجةً من الزبد، أعين الجنود وأسلحتهم مثبتة على الأجساد التي شلَّها الخوف.

تنبَّه مرعي على دفعةٍ في ظهره: انزلوا!

تشبَّثت قبضتاه — بتلقائية — بالحافة أمامه. آخِر ما يتصوَّره أنه يعوم، يعرف السباحة مما يراه في جلسته على الشاطئ، أو في ركوب البحر، لكنه لم يتعلَّم السباحة، ما رآه عند تحريك اليدَين والرجلَين، يظل الجسد طافيًا فوق المياه.

هل دفعه شفيق في البحر للفرار من الظروف القاسية، أم ليغرق؟

دارت الدوَّامات بسُترة النجاة التي تحلقته، أفقدته الاتجاه. الأمواج تطويه، تلفُّه. حرص أن يظلَّ طافيًا، يُغالب العجز والخوف والتعب والتوقُّع، من حوله بقايا ملابس وأعشاب وأوراق وقطع خشب.

– هل أنتظر الموت دون أن أعيش حياتي؟

خفر السواحل في نهاية أفق الأمواج، الأمواج تعلو، تُعمي عينَيه. نظرة رُعب في عينَين مفتوحتَين عن آخرهما، ما لبث أن طواهما الموج، وطوى الجسد كلَّه.

قطعة خشب — لعلَّها من داخل القارب — طافية فوق الماء، وتتحرَّك نحوه. ارتقاها، فغطست به، انحرف عن طريقها، وواصل العوم، تُعينه سترة النجاة، ضرب في الأمواج ضربات متوالية. حرك ذراعَيه وساقَيه ليتفادى الغرق.

مدَّ يدَه. كاد يلامِس يد المتوكل. الموجة العالية، المفاجئة، قذفت بكلٍّ منهما بعيدًا، لم يصل صراخ أحدهما إلى الآخر.

حين أراد المتوكل أن يُعلمه العوم، أجاد تطويح ذراعَيه وساقَيه، لكنه أخفق في أن يظلَّ فمه مفتوحًا. ضرب المتوكل ظهره بقبضته، فانتتر الماء المالح من حلقِه.

ترك نفسه للأمواج، بلا مقاومة. ترك الفعل لسُترة النجاة، لم يُحاول حتى أن يضرب بيدَيه، كأنه يترقَّب الموت.

الموجة العالية حطَّت كسيلٍ، قذفت به إلى أعماقٍ لم يرَها. ظلمة كأنها الليل. ظلَّت يداه وساقاه تتحركان، تُجدِّفان، أغلق فمه، وأسكت أنفاسه. حاول — للتغلُّب على عدم إجادته السباحة — أن يضرب المياه بذراعَيه وساقَيه، يُحرك كل جسده، يظلُّ سابحًا، ويظل رأسُه طافيًا فوق المياه، لا تجتذبه الأعماق.

اطمأنَّ إلى سباحته فوق سطح الماء، فتح فمَه على آخره والتقط أنفاسه. واصل العوم حتى لا يغرق، يُغالب توالي الأمواج بضرباتٍ من ذراعَيه وساقيه، لا يعرف إن كان هذا هو ما ينبغي فعله، ولا إلى أين يتَّجه.

تحولت الأمواج إلى دوَّامات دائرية، تجتذِبه إلى الأعماق.

حاول تفادي الدوَّامات وتيارات الريح. إذا أفلحتُ في إمساك ما يطفو بي فوق الماء، فإني أُسلم نفسي للموج، يَحملني إلى الجهة التي يُريدها، المُهم أن أظلَّ حيًّا.

•••

خيل له أنه يسمع أصواتًا من بعيد، واهنة، ضعيفة، صادرة عن مواضع لا يراها، وإن سبحت من حولِه كائنات، بلا ملامح واضحة.

دفعته الريح المفاجئة إلى ما لم يتصوَّره، وأخافه.

لا بنايات، إنما صخور مُتداخلة، تغلب عليها الرمادية. تحلق فوقها أسراب طير متداخلة الألوان.

من مكانه، بدَت له الصخرة الهائلة، وسط الأمواج، مُشابهة لصخرة الأنفوشي، وإن خلت من دلائل الحياة، عدا الكُتَل الصخرية، والمُنحدرات، يتخلَّلها ما يُشبه الأشجار الصغيرة.

أفزعه اندفاع القارب نحو الصخرة، يرتطِم بها، فيغرق الجميع.

ربما يمضي إلى جزيرة السحر، تعدَّدت عنها تحذيرات الشيخ عبد المجيد زيدان، لا حيلة لمن تتَّجِه سفنهم نحوها، تنقاد إليها بما لا قِبَل لها على ردِّه، لا فرق بين البواخر الهائلة وسفن الركَّاب والبلانسات والقوارب الصغيرة، تدفعها النوَّات بعيدًا عن خطوط سيرها، تقودها ناحية الجزيرة، تطويها الأمواج في اقترابها، أو تجذبها إلى الصخور، تصطدم بها فتتفتَّت، تتحوَّل إلى رُكام متناثر تعلو به الأمواج.

ثمة قوى خفية، غامضة، تسوقهم إلى مصير لا يعرفونه: هل يظلُّون أحياء، أم يصطدمون بالصخور المَسنونة، أم تقذف بهم الأمواج إلى مصيرٍ مجهول؟

قال الشيخ عبد المجيد زيدان: أعماق البحر لا تقتصر على الأسماك واللآلئ والإسفنج، آلاف المخلوقات تزيد عما يتحرَّك فوق الأرض، تصرُّفاتها ما بين المُسالِمة والقسوة المتوحشة، وقال: تجتذب مخلوقات البحر ما تُريد من البواخر الضخمة والسفن وحتى القوارب الصغيرة، تتحطَّم على صخورها، أو تُحاسِب المخلوقات من أساء إليها. وقال: لا أحد يعرف مصير من كانوا يستقلون السفن، من تجتذِبهم مخلوقات البحر إلى الأعماق، ومن تبتلِعهم، ومن يغرقون، ومن تتركهم أحياء. هي لا تأذن بالاقتراب من الجزيرة، والسير جوارها، ومِن حولِها، إلا لِسُفن أولياء الله، يُميزها المجاديف المُضيئة، والأشرعة المُشابهة — في ألوانها — لأعلام الطرق الصوفية. تمضي — بالأمان — إلى هدفها، لا تُواجِه أسئلة، ولا اعتراضًا، ولا محاولة أذًى.

ما كاد يلمس الصخرة الناتئة، حتى انزلقت يدُه على الأعشاب الملساء.

عاود المحاولة، وأخفق.

بدا تسلُّق الصخرة احتمالًا وحيدًا، لا تشغله الأغنيات، ولا الأفعال الشريرة، ولا المصير الذي تغيب ملامحه. أخفق لزلق الصخرة، كرَّر المحاولة بتحريك جسدِه، وكل أطرافه، فلا تجذبه الأعماق.

موجة عالية طوَّحت به بعيدًا. اختفت الصخرة عن مدى رؤيته. لم يعُد إلَّا الأفق المُحيط به من كل جانب، تناثر فوق أمواجِه بقايا قلوع وصوار وقِطَع أثاث وأخشاب مُتكسرة.

طالعَتْه — وسط الأمواج الهائلة — جزيرة صغيرة، تكسو الخضرة أرضها، وتتناثر الأشجار القصيرة على الحواف. تُحيط بها صخور ناتئة، سوداء. تناثر — في داخلها — شقوق عميقة، وما يُشبه الكهوف، تغطَّت زاوية رؤيته لها بالأشجار القصيرة ونبات الصبَّار والتين الشوكي والأعشاب البحرية.

خلت — في التأمُّل المُحدق — من البشر، كأنها تصاعدت من قلب البحر، كأنها — بالضباب الكثيف الذي يُحيط بها — لم تكن في موضعها، ارتبط ظهورها بغرق القارب، وتناثُر الأجساد في مساحات الموج.

الجزيرة أمَل يستطيع أن يلجأ إليه، قارب إنقاذ يحمله إلى السلامة والطمأنينة.

عرف في عِراكه مع الأمواج — من الصوت المترنِّم بالأغنيات — أن جنيةَ البحر تختبئ في مكانٍ ما.

دارت به الدوَّامة في تلاحُقٍ لا ينتهي، حمله التيار في اتجاه الجزيرة الصخرية، المرتفعة.

استعاد نصيحة الشيخ عبد المجيد زيدان — وهو يعدُّ نفسه للسفر — أن يحذَر جزيرة السحر.

هل هذه هي الجزيرة؟

هل هي المَوضع الذي تسحر فيها جنِّية البحر من تريده؟ تجتذِبه بأغنياتٍ ساحرة، تفتنُه، وتأخذه إلى الأعماق، فلا يعود، هل تمارس فيها طقوس سحرية، تَخفى على راكبي البحر؟

تشابكت تصوُّراته بالأخطار التي تحدَّث عنها الشيخ: السفينة التي تدخل مُحيط الجزيرة تواجِه الغرق، أو الارتطام بالصخور المسنونة، أو الدوران في دوَّامات، لا تتوقَّف حتى تتحوَّل السفينة، ومن فيها، إلى حُطامٍ وأشلاء، أو أذية مخلوقات لا قِبل للبشر بعراكها.

البحر له أحوال مدٍّ وجزر، عواصف وأمواج ساكنة، الدوَّامات حول جزيرة السِّحر لا تهدأ، والأمواج هائجة، تغرق، وتختطف، وتُحطم، سكانها عفاريت ومرَدَة ووحوش وأرواح، تخضع لإرادة العروس الأم، وتُلبي أوامِرها. هي تُثير العواصف عندما تريد، تُغرق السفن، وتختطِف البشر. زوجُها ملك من مخلوقات البحر، دوره في حياتها مثل الشغال في حياة النحلة، يموت بعد لقاحه لها.

ما حدث لم يكن يخطر في بالِه، وربما لم يخطر في بال الشيخ.

تحدَّث الشيخ عبد المجيد عن غناء جنية البحر، يجتذب من تريد أذيته — بلا قُدرة على المقاومة — حتى يصطدِم بالصخور، أو يدفعه الغناء الجميل إلى السباحة في اتجاه الجزيرة، فيُواجِه الخطر. من تريد الجنيَّة إغواءه، تُوقِعه — بالأغنيات — في شراكها، تمضي به إلى الأعماق البعيدة، فلا يعود إلى بحري.

هذا ما استعادته الحكايات في أقوال الشيخ عبد المجيد زيدان، ودردشات القهاوي، وداخل البحر، وعلى شاطئه.

قال المُتوكل: ركبتُ البحر عشرات المرَّات ولم أرَ جنية البحر.

قال الشيخ عبد المجيد: العروس تظهر للشخص الذي تُريد أن تلتقِيه، في الوقت الذي تُحدِّده!

هون المتوكِّل من الأمر: جنية البحر تختطف من يركب البحر بمُفرده.

ووسم صوته بنبرةٍ واثقة: في البحر … لا بد أن تكون فردًا من طاقم … واحدًا من جماعة.

يتَّجِه المُريدون بأسئلتهم إلى الشيخ. يعرفون أنه يخلو إلى عروس البحر دون أن يجمعهما مكان، يتلقَّى الأجوبة، فينقلها إلى الناس. تُحذره من النوَّات، وأماكن الجدب، وأخطار الغرق. إذا همست للشيخ بتحذيرٍ من ركوب البحر، نقله إلى الرجال، لا يُغادرون البيوت، أو يجلسون على القهاوي، أو يتردَّدون على أبي العباس وجوامع الحي. لا يعرف أحدٌ كيف يلتقِيان، هل تزوره في النوم، أم يذهب إلى شاطئ البحر، يُخاطبها، فتُبلغه بما يطمئن إليه؟

قال المتوكل: إذا كانت عروس البحر شبيهة بتلك التي حُنِّطت في متحف الأحياء المائية، فهي ليست أكثر من كائنٍ بشع!

قال الريس قباري الحصري: إنها تتحوَّل، تُصبح أجمل الجميلات!

تكلَّم عن تحوُّلها إلى كائن بشري في صعودها فوق الأمواج، أو على الصخور المُتناثرة في البحر، ثم تعود إلى هيئتها الأصلية حين تعود إلى الأعماق. قد تتحوَّل إلى أشكالٍ أخرى، مختلفة، لا حصر لها: حية، يمامة، سمكة صغيرة لا يكاد يفطن إليها النظر، لا تستقر في الأعماق، ولا فوق الأمواج أو الصخور. تتنقَّل بين الكهوف، والمَغارات، والمخلوقات السابحة، وراكبي البحر.

قال المتوكل: ساعتها لا بأس … لن يشغلني ما كانت عليه!

أكثر تهامي غنيم — بآلية — من ترديد الشهادتَين. هذا ما يُعِد له نفسه، وينتظِره، جنَّات النعيم بما تحفل به من الحور العين والطيور والأشجار والهناءة التي لا تُمَل. يأكل من فاكهة الجنة، يشرب من ماء الخلود، يتنعَّم بما لم تره عين، لا بول ولا غائط، إنما عرق له رائحة أزكى من روائح المسك.

المرأة الجميلة — في وصف الناس — حورية من الجنة.

ذلك ما تاق إليه، أن يتزوج الحور العين، يعمل لآخرته فيُثاب، ويدخل الجنة، تُقاسِمه الحور العين حياة الأبدية. يستقبلْنَه على بابٍ من أبواب الجنة الثمانية، يسبقنَه إلى النعيم. تلقاه — حين يدخل من الباب الوردي الضيق — فتاة جميلة، أجمل من نساء العالَمين، تبسط ذراعَيها، وتتَّجه إليه بالقول: أنا حوريتك!

سكنته فكرة القِران بالحور العين، سعى لإجادة الوصفات التي تحفظ على الرجال حُبَّهم للزوجات، عمل على حل الخصومات بين عائلات بحري. لم يكن يُكثر من الكلام، ويؤثِر الصمت أمام الأقوال التي لا تَعنيه، والمناقشات التي لا تشغله، استغرقته الرؤى المُحملة بالأخيلة والنبوءات، فهو لا يملك القدرة على الإنصات، ولا على إدارة الحوار.

لا عيش في الحياة الدنيا بلا مرض، ولا مُعاناة، ولا موت. الحياة الخالية من الكدَر والنهاية القاسية موضعها الآخرة، ما يُتيحه الله لعباده المُتَّقين. المرء يقف أمام العرش الإلهي بعملِه، يُحاسبه على الصواب والخطأ، يميل به الصراط ناحية الجنة أو النار.

لا يطلُب الولاية، ولا المشيخة، لكنه يأمُل أن يكون من عباد الله الذين يستقبلهم رضوان على باب الجنة، يدخلون، فيُطالِعهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

لما بدأت ساقاه في الانجذاب إلى أسفل، هيَّأ نفسه لمُلاقاة الموت … لكن اليد — لم يرَ الجسد الذي تتَّصل به — جذبته إلى أعلى.

ترك نفسه لراحة اليد التي أحاطت بمِعصمه. لاحظ أنه يمتلك القدرة على التنفُّس تحت الموج دون حاجةٍ إلى الشهيق والزفير، تدخل المياه أنفَه وفمَه، فلا يُواجه خطر الغرق، هو مثل السمك تمامًا.

تصاعد الجسد من قلب المياه، بالكاد تَبيَّنَه، هو جسد إنساني، أنثوي.

استقام واقفًا، نفض عنه المياه.

طفا الصدْر المُكوَّر والخصر النحيل والشعر المنسدل على الكتفَين. ما تحت الخصر ظلَّ مغمورًا في الأمواج.

هي لا تُشبه واحدة من مخلوقات البحر التي رآها، أو تصوَّرَها، حتى جنِّية البحر التي رسمها خياله، لم تكن شبيهة بهذه التي انبثقت من الأمواج أمامَه. اختلطت — في رأسه — مئات الحكايات عن أشكال تحوُّر عروس البحر. لا يملك التخمين إن كان ما يراه جسدًا حقيقيًّا، أم أنه تحوير عروس البحر لجسدها، فهي تخدعه.

لم يكن رآها من قبل، لكنه اطمأنَّ إلى البسمة المُشفقة تعلو شفتَيها، تتسع فتملأ الوجه. لم يشغله إن كانت بقية الجسد — كما عرف — لسمكة. بدت له — في المُتاح مما رآه — مخلوقًا جميلًا، يُومئ بالتعاطف والمشاركة.

عروس البحر تملك الفعل الشخصي بتهدئة الأمواج، وتحريكها، وتملك التأثير على مخلوقات البحر، فتُنفِّذ ما تقضي به.

مضى — فوق الأمواج — مدفوعًا بربتة يدِ العروس على كتفِه.

سقطت — في انفعالها — خصلة شعرٍ على عينها. نفضت رأسها، طوَّحَت بالخصلة إلى الوراء: كل مخلوقٍ يحيا في مجاله. أنت تغرق في البحر، نحن لا نستطيع العيش خارجه.

من يختاره أهل البحر للحياة في الأعماق، لن تعوزهم الحِيَل لاجتذابه، حتى لو لم ينزل البحر. تتعدَّد الغوايات، حتى يتَّجِه إليه، يركبه، فيعيش ما ينتظره.

تكلم الشيخ عبد المجيد زيدان عن ثورة الأمواج، هي فرصة ليُنفِّذ أهل البحر ما طال انتظارهم له، يجتذبون من تريده عروس البحر من فوق البلانس، أو من فوق القارب المطاطي. يَصحبونه — وسط انشغال الركاب بمصائرهم وصخب الأمواج — إلى أعماق البحر. عروس البحر أمرت الأمواج فلم تجتذِبه، لم تأخُذه إلى القاع.

أمسكت بذراعِه. استسلم لها كالمُنقاد. لم يشعر بالخوف، ولا فكَّر في الفرار. أسلم لها نفسه، تقوده إلى حيث لا يعرف، وإن احتواه اطمئنانٌ بأنها لن تؤذِيَه، لن تقذف به في الخطر.

شحب ضوء الشمس إلى حدِّ التلاشي، تداخل في الظلمة ضوء لا يدري مصدره، امتد، واتَّسع. أغرق الأسماك وكائنات البحر، أظهر قسماتها وملامحها وتفصيلاتها الصغيرة. أسراب بلا حصر من الأسماك مُتباينة الأشكال والألوان، وكهوف صخرية، وغابات من الأشجار، تختلف عما ألِفَ رؤيته، ومخلوقات يشاهدها للمرة الأولى، وغابت السفن في الآفاق المترامية.

لم يأخذه الخوف، ولا الدهشة، لكلامها. استغرقته اللحظة فغاب التركيز والتصوُّر، هذا هو العادي والمألوف، حياته التي لم يُبدِّلها.

اختلط ما يعرفه، وما استمع إليه للمرة الأولى، العلاقة بين البحر واليابسة، مخلوقات البحر والبشر، الموج الحصيرة والريح الطيَّاب وألوان الطيف والعواصف القاسية والدوَّامات والنوَّات التي تُوقِف حال الصيادين.

•••

هل يكون هذا هو مصيره؟

قال الشيخ عبد المجيد زيدان: لا أُشير عليك بركوب البحر.

– هل أغرق؟

ولوَّن صوته بسخرية: هل تختطفني عروس البحر؟!

لم يُغادر الشيخ هدوءه: إذا ركبتَ البحر سيُتعبك المرض.

أضاف لنظرته المُتسائلة: صحَّتك ليست جيدة!

أشار إلى نفسه بأصابع مضمومة: أنا؟!

– أنت تقذف بنفسك في الخطر.

أعاد المُتوكل قوله في استهانةٍ واضحة: هل أغرق؟

كل اللحظات تجمَّعت في لحظةٍ مفعمة بالقلق والخوف، كأنه تحوَّل إلى خرائب من المخاوف والهواجس والأشباح.

إذا كان الموت نهايةً قريبة، فلماذا لا يموت في بحري؟ يدفن في فضاء أولياء الله والأضرحة والمقامات والجوامع والزوايا والموالد والجلوات وقراءة الفاتحة والدعوات بالرحمة؟ لماذا يتبعثر الجسد مُزَقًا في بطون الأسماك؟ تطفو، متفسخة، فوق الأمواج؟ لماذا لا يُغسَّل، ويكفَّن، كما يقضي الشرع، يُوَسَّد القبر إلى جانب أعمامه؟

في باله، ما رآه في فيلمٍ أمريكي. راكب لحِقَه الموت فوق باخِرة ضخمة، لُفَّ في ملاءةٍ بيضاء، ودُفع به إلى البحر. ابتلعته الأمواج والأسماك.

•••

حاول أن يمضي إلى الناحية المُقابلة، اجتذبه ما يُشبه الدوامات المُتلاحقة، لا تهبط به إلى القاع، وإنما تُعيده إلى موضعه، يُحرك ذراعَيه وساقَيه، يندفع بصدرِه، يتبيَّن أنه لم يُزايل مكانه. ثمة شيء لا يراه يجتذِبه في داخل البحر، دوَّامة بلا قاع، قواه تخذله، تفارقه. ذراعاه ثقيلتان، لا يقوى على تحريكهما، ساقاه تجذبانه إلى أسفل، تستجيبان إلى ما يجذبهما.

إذا لم يُقدَّر له أن ينقذه أحد، أو يرسو على أي شاطئ، فإن ما يقدر عليه أن يُسلِم نفسه للبحر، يسقط ذراعَيه، يترك جسده، فيغوص إلى حيث لا يعرف، يُواجه الريح والظلمة والتوقعات التي لا تخطر بباله.

كالمفاجأة، أو المُصادفة التي لا يتوقَّعها، ومضت صور كثيرة لا رابط بينها، اختلطت وتشابكت، فشحبت التفاصيل: صُحبة أمِّه إلى أبي العباس، تشاغُلُه بتأمُّل الصحن الواسع، حتى تنتهي زيارتها لمقام ولي الله، فيُعيدها إلى البيت، صيحات المتوكِّل المُتعالية مع ضربات النرد في قهوة أنَّح، وقفته المُتملمِلة المُطلة على شارع سيدي نصر الدين، طلة مُنی — تتكئ بساعدَيها على حافة النافذة — من وراء القضبان الحديدية إلى الشارع المُمتدِّ أمامها، ريح الخماسين تكنس الأوراق، وعلب الصفيح الفارغة، وتتطاير في الهواء، أو تتشكَّل في دوَّامات، امتداد قضبان الترام وتقاطُعات الشوارع أمام النافذة العلوية في ترام الرمل، الزيت المُتخلِّف من المراكب يكسو مياه البحر بالخضرة، مشنَّات السمك المُتلاصقة في رصيف الحلقة، زحام شارع الميدان، مشاهدة مباريات كرة القدم في تليفزيون قهوة رأس التين، تصاعد أبخرة الشاي على الطاولات المعدنية، نداءات الباعة في سوق راتب، اهتزاز الكلوب باهتزاز القارب داخل المينا الشرقية، تراشُق الأولاد على رمال الشاطئ بمياه البحر، تأمُّله صيادي الجرافة في عودتهم إلى الشاطئ، ملامح الطبيب المُشفقة وهو يدفع إليه نتيجة الأشعة، قول أمِّه: أفقِدُ — بِرهْن البيت — ما بقي من عمري، بقايا الشمس المُنسحبة تعلو أسطح البيوت، إصراره على فضِّ عناق هنية عند ترامي أذان الظهر، نصيحة تهامي غنيم بأن يبتعد عن هنية. شرد في تصوُّر الكلمات: تسير — ليلًا — على كورنيش البحر، تلتقِط من يستهويها، تصحبه إلى حدائق الشلالات، ثم تمضي قبل أن يتطرَّقا إلى الأمور الشخصية، أو حتى قبل أن يتبادلا اسمَيهما.

امتدَّ الضباب الأبيض، الكثيف، فوق المياه ملساء السطح، عدا تموُّجات رتيبة، ثم انحسر الضباب تدريجيًّا.

ما يُشبه الخط الرفيع، المُتقطِّع، في مدى الأفق. ذكَّره — في اتجاهه ناحيته — بالخط الرمادي الذي كان آخِر رؤيته للإسكندرية.

تنبَّهوا لصافرةٍ من الاتجاه المقابل.

هلَّلوا لاقتراب اللنش، كاد يلامس البلانس، ثم اختفى تمامًا، تبخَّر كما يتبخَّر الماء من فوق الموج.

تسربت المياه، علَت في الأرضية، غطَّت كل ما تحتها، أحاطت التيارات والأمواج بالقارب، بدا أنه خرج عن السيطرة، دارت به الدوَّامات القاسية كأنها تهمُّ بابتلاعه. قال له الشيخ عبد المجيد زيدان وعيناه تتَّجِهان إلى خليج الأنفوشي: البحر لا يرفض ما يُقذَف في جوفه.

وجرت أصابعه على حبَّات المسبحة: لن يبكي البحر من يغرقون في أمواجه، غرقهم لا يشغله، يتحولون إلى طعامٍ ككلِّ مخلوقات البحر.

وقال الشيخ عبد المجيد: ربما لا يتذكر الصيادون ما حصدوه من البحر، لكنهم يذكرون جيدًا من اختطفَهم البحر في أجوائه المُتقلبة، الغادرة.

صخب الأمواج من اشتداد الريح، هي أنفاس مخلوقات البحر لمَّا يعروها الغضب من أفعال راكبي أمواجه.

لأنها ملِكةُ كلِّ مخلوقات البحر، فقد أمرت المخلوقات أن تضع نظراتها على تهامي، حين ينزل البحر، تهبُّ لنجدته في حال الخطر، وتكون في عونه. تُغيثه إن ألَمَّ به مكروه، أو صادفته مشكلة.

لا تذكر كيف استولت عليها فكرة الاستحواذ عليه، إخضاعه لسيطرتها، جاوزت مجرد تمنِّي إغاثته.

ظلَّت ترقُبه وهو يصيد بالسنارة والطراحة.

تكرَّر صعودها من قلب الموج كل صباح، تسبح بالقُرب من الشاطئ، تُلامِس الرمال وأمواج البحر. ترقُبه في وقفته المتكررة. عرفت عروس البحر موعد وقوفه على الشاطئ، تظلُّ في العوم حتى يأتي.

لاحظت أنه يميل إلى الصيد منفردًا. يُدلِّي السنارة من موضعه على الحاجز الأسمنتي. ينتظر الجذبة. قد يضع الطرَّاحة داخل القارب ذي المِجدافَين والشراع، يدور في مساحةٍ ما قبل البوغاز، لا يزيد على ساعاتٍ ثلاث، ويعود، يبيع ما اصطاده شروة، يقضي فترة ما بعد الضُّحى على قهوة أنَّح، ثم يتَّجه إلى البيت.

حاولت أن تدعوه بغنائها، وتلويحةِ يدِها، تُحرضه أن يهبط من الفلوكة إلى المياه، يسبح بما يُتيح لها بلوغه، واصطحابه إلى الأعماق.

لم تحاول اختطافه، ولا دعت مخلوقات البحر إلى الفعل نفسه. أشفقت أن تؤذِيَه المفاجأة، فيغرق.

اكتفت بمُراقبتِه عن بُعد. تشدُّها رائحته إلى الفلوكة، منذ نزوله البحر، وإلقائه الطراحة، حتى عودته إلى الشاطئ.

أقسى الأيام، حين يتأخَّر نزوله إلى البحر. تخشى أن يكون قد أصابه ما يؤذِيه، تشمُّ الرائحة التي تنتظِرها، فتسبح ناحية الفلوكة، في داخلها تهامي غنيم يحمِل الطراحة، يلقي بها، يسحبها، يستعيدها إلى الشاطئ.

لم تتصوَّر أنه سيتَّجِه إلى الناحية المقابلة. كانت على ثقةٍ من أنه سيمضي وراءها، وراء جمالها الذي اصطنعته بما لا يقوى على مُغالبته بشَر، تهبط به إلى عالمها، في أعماق البحر.

التفتت، فأدهشها اتساع المسافة بينها وبينه، وهو يعوم إلى الاتجاه المُضاد. جمالها لم يَجتذبه إذن، ولا شجَّعه على العوم ناحيتَها قبول ما تراه.

تملَّكه الخوف من جنية البحر، تختلف عن عروس البحر. استعاد تحذيرات الشيخ عبد المجيد زيدان من أن تلجأ الجنية إلى أغنيات عروس البحر لاجتذابه، تأخُذه إلى أعماق بعيدة، فيها الهلاك.

روى الشيخ عن امتزاجها بالصخور المتصاعدة من المياه، تكتسب خضرةَ الطحالب، تبدو جزءًا من الطبيعة المُحيطة بها. قد تخرج له من بين الأمواج، تُغويه بالهيئة التي تظهر عليها، جميلة ولا كل الجميلات، تُغني وترقص، يذهب معها فلا يعود.

تعددت حكايات الشيخ عبد المجيد عن العوالم السحرية، وعن تحول الجسد إلى طعامٍ لمخلوقات البحر، وعن تحول البشر إلى قرابين للجنِّيات ومخلوقات الأعماق. تأخذه الأمواج، من يغيب في الأعماق، لا يعود.

استطرد في نبرة هادئة: ما تريده مخلوقات البحر لا بدَّ أن تناله!

ضاع من ذهن تهامي غنيم ما كان يحفظه — نقلا عن الشيخ — من تعازيم، لصرف الجنية التي قد تُواجهه في البحر، تختطفه من الشاطئ، أو من قلب الأمواج، تُناديه باسمِه، تجتذبه بأغنياتٍ كالسحر، تسحبُه إلى الأعماق. شعرها الأشعث، المهوَّش، وأنيابها الحادة، وأظافرها الطويلة، المَعقوفة. تنفذ بها في الصدر، تغرسها في لحم الجسد، تقتلع الشعر، تلتهم الأذنَين والأنف والشفتَين.

طالت روايات الشيخ عن جسدٍ ضخم مثل جبلٍ صغير، أو شراع هائل مفرود عن آخِره، عيناه صغيرتان بما لا ينسجم مع غلظة وجهه، له أنف معقوف كأنوف الكواسر، مِنخاراه واسعان يُصدران دخانًا وما يشبه الشرر، ذراعاه الطويلتان تنتهيان بيدَين غُطِّيت أصابعهما بشَعْر كثيف، وطالت أظافرهما فبدت كالمَخالب، تنهشُه الجنيَّة حيًّا، تُمزقه، تلتهِمُه، لا تبقي منه شيئًا، تقوى على ابتلاع سفينة كاملة.

•••

دفعته يدُ شفيق بعيدًا عن القارب. حاصرته الأمواج، علت، وعلت، هبطت كسيل، يُحيط به، يحجب ما حوله، يَخنقه، يَجرفه بعيدًا، تحركت في الأمواج المُتلاحقة، المُزبدة، وجوه يعرفها، ونسِيَها، ثم انمحت كل الصور من ذهنه.

تنبَّه إلى أن الماء يدخل من فمه المفتوح، فأغلقه. أخفق في كتم النفَس، امتلأ أنفه وفمه بملوحةِ الماء. بدت المرئيات متماوجة، فتح فاه للهواء، بصق الماء من حلقه وأنفه، انقضت موجة هائلة، دفعته إلى أسفل. قاوَم بتحريك ذراعَيه وساقيه، لا يقصد العوم، إنما يشغله الطفو فوق الأمواج الصاخبة، فلا تأخذه إلى الأعماق.

الأجساد من حوله، تطفو، يتعالى أنينُها وصراخها، هدير الأمواج أقوى من الصيحات المُستغيثة، ابتلعها فبدَت كالهسيس. انتشرت على سطح المياه بُقع متقاربة من الزيت، اصطدمت أصابعه بعارضةٍ خشبية طافية. قبض عليها، فغاصت، تركها، عاد إلى تحريك أطرافه، شعر بتنميل، لم يعهده من قبل. نفض الشعور بالتبلُّد، بالخدَر، يسري في جسده، والتثاقل يُغمض عينَيه، صرخ من تشنُّج ساقه اليُمنى، كأن قبضةً قاسية تجذب رجلَه إلى أسفل. زاد من تحريك ساقَيه، كأنَّ يدَين تقبضان عليهما، تأخذانهما إلى ما لا يعرفه. شعر بثقل المياه على رأسه وكتفَيه، يدفعه إلى أسفل، ساقاه تتثاقلان، تسوخان في الموج، جسدُه يخذله، روحه تنسحِب منه، فقد إرادته، حاول أن يصرخ، صرخ بالفعل، لكن فمَه ظلَّ مفتوحًا، بلا صوت. عجز حتى عن الصراخ، شعر أنه يغوص، يغطس — ببطء — في الموج الصاخب، غابت الأصوات إلَّا هدير الموج، هو في قلب الأمواج، تُحيط به تمامًا، لا يرى في ارتفاعها أي شيء.

لا خوف، لا توقُّع، لا صدى استغاثة، لم يشغل نفسه بالسؤال: ماذا بعد؟

ليس في بالِه إلا الوصول إلى الجزيرة القريبة. شيء في داخله، أنه سيتخلَّص مما يُعانيه. تلبَّسته قوة غريبة لم يعهدها في نفسه، ولا شعر بها من قبل، أزمع أن يستجمع قواه، يفعل أي شيء، لا بد أن ينجو، يُواصِل ما يفعله، يضرب الأمواج بذراعَيه ورجلَيه، بكل جسده، لا يهدأ، همُّه أن يظلَّ فوق سطح الماء، تأخذه الأمواج إلى أسفل، يُحرك ذراعَيه وساقَيه وصدره، ليطفو، حتى يُنقذه ما لا يخطر بباله، ربما يظهر في قلب الأمواج، وينقذه.

محمد جبريل
مصر الجديدة
١٦ / ٧ / ٢٠٠٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤