خطايا الأمير سارادين

حين أخذ فلامبو إجازته الشهرية من عمله في وستمنستر، ذهب لقضائها في قاربٍ شراعيٍّ صغيرٍ جدًّا لدرجة أنه كان بمنزلة قارب تجديف في كثيرٍ من الأحيان. وعلاوةً على هذا، فقد أخذه وأبحر به في أنهار صغيرة في المقاطعات الشرقية، وهذه الأنهار كانت صغيرة للغاية لدرجة أن القارب بدا وكأنه قاربٌ سحريٌّ يُبحر على اليابسة عبرَ المروج وحقول الذُّرة. كان القارب يستوعب شخصين فقط، ولم تكن به مساحة إلا للضروريات، وقد عبَّأها فلامبو بالأشياء التي يعتبرها ضروريةً وَفق فلسفته الخاصة. من الواضح أنها قد اختُزلت إلى أربعة أشياء أساسية؛ وهي عُلب سلمون، في حال أراد أن يأكل؛ ومسدسات محشوة، إن حدث ودخل في شجارٍ ما؛ وزجاجة براندي، في حال أُصيب بالإغماء؛ وقسٌّ، في حال إذا تعرَّض للموت. وبهذه الأمتعة الخفيفة شقَّ طريقه عبر أنهار نورفوك الصغيرة قاصدًا منطقة برودز في النهاية، لكنه في هذه الأثناء كان يستمتع برؤية الحدائق والمروج المطلَّة على النهر، والمنازل أو القرى المنعكسة على صفحة الماء، وكان يتمهَّل ليصطاد في البِرك الصغيرة والزوايا، ويبقى بطريقة أو بأخرى قريبًا من الشاطئ.

لم يكن لدى فلامبو، شأنه في ذلك شأن الفلاسفة الحقيقيين، أي هدف من إجازته، لكنه كان مثلهم أيضًا في امتلاكه مبررًا. يمكنك أن تقول إنه كان لديه نصف هدف، وقد تعامل معه بجدية كبيرة لدرجة أن نجاحه في تحقيق ذلك كان سيقع بمنزلة إنجاز مهم لإجازته، لكن ليس بالقدر الذي يجعل فشله في تحقيقه يُفسد عليه إجازته. فمنذ عدة سنوات، عندما كان من كبار اللصوص وأشهر شخصية في باريس، كثيرًا ما كان يتلقَّى رسائل استحسان واستنكار بل وحتى رسائل حب، ولكن بدرجة أو بأخرى علِقت رسالة واحدة من بين هذه الرسائل في ذاكرته. كانت هذه الرسالة ببساطة عبارة عن بطاقة زيارة داخل مظروف عليه طابع بريد إنجليزي. كُتب على ظهر هذه البطاقة باللغة الفرنسية وبحبر أخضر: «إذا حدث في وقت ما وتقاعدت، وأصبحت شخصًا محترمًا، فعليك أن تأتي لزيارتي. أريد أن ألتقيك؛ لأني ألتقيتُ جميعَ الرجال العظماء الآخرين في عصري. خِدْعتُك تلك التي جعلت بها محقِّقًا يُلقي القبض على محقق آخر كانت أكثر المشاهد إبهارًا في التاريخ الفرنسي.» وعلى الجهة الأمامية للبطاقة كُتب بصيغة رسمية: «الأمير سارادين، ريد هاوس، ريد آيلاند، نورفوك.»

لم يهتم كثيرًا لأمر هذا الأمير في حينها، بخلاف التأكد من كونه شخصية لامعة وشهيرة في جنوب إيطاليا. قيل إنه في شبابه هرب مع سيدة متزوجة من عِلية القوم، ولم يكن تصرُّفه الطائش أمرًا يدعو إلى الدهشة في أوساطه الاجتماعية، ولكنه علِق في أذهان الرجال بسبب حدوث مأساة أخرى؛ ألا وهي الانتحار المزعوم للزوج المُهان الذي قفز على ما يبدو من فوق جُرف في صقلية. عاش بعدها الأمير في فيينا فترة من الوقت، لكن يبدو أنه أصبح يقضي سنواته الأخيرة في سفر دائم ومتواصل. إلا أن فلامبو، مثل الأمير تمامًا، حين ترك الشهرة في أوروبا واستقر في إنجلترا، تبادر إلى ذهنه أن يشرع في زيارة مفاجئة إلى هذا المنفى البارز في نورفوك برودز. لم تكن لديه أدنى فكرة عما إذا كان سيستطيع الاستدلال على المكان أم لا، وكان المكان في واقع الأمر صغيرًا ومنسيًّا بما يكفي. بيْد أن ما حدث أنه عثر عليه أسرع بكثير مما كان يتوقع.

في إحدى الليالي، أرسى هو والقسُّ القاربَ بجانب إحدى ضفتَي النهر المغطاة بأعشاب طويلة وأشجار قصيرة مقلَّمة الأفرع. وخلدا إلى النوم مبكرًا، بعد كثير من التجديف، واستيقظا قبل شروق الشمس. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة، فقد استيقظا قُبيل طلوع ضوء النهار؛ إذ كان القمر الكبير على وشك الأفول في الغابة ذات الأعشاب الطويلة فوق رأسيهما، وكانت السماء ذات لون أزرق زاهٍ يميل إلى اللون البنفسجي، ويغلب عليها الطابع الليلي لكنها كانت مضيئة. استعاد كلا الرجلين ذكريات الطفولة في آنٍ واحد؛ ذلك الوقت الرائع والمليء بالمغامرات الذي كانت تقترب فيه الحشائش الطويلة من رءوسنا كأنها غابات شاهقة. كانت أزهار الأقحوان واقفة هكذا ومن ورائها القمر الكبير الآخذ في الأفول؛ ومن ثَم فقد بدت عملاقة، وكذلك بدا نبات الهندباء البرية مثل نبات عملاق. بطريقة أو بأخرى، ذكَّرهما هذا بزخارف ورق حائط غرفة أطفال. كان انخفاض قاع النهر يكفي لأن يُصبحا في مستوًى يُمكِّنهما من رؤية جذور جميع الشجيرات والأزهار، وأن يجعلهما يُحدِّقان إلى الأعلى نحو العُشب. قال فلامبو: «يا إلهي! أشعر كما لو أننا في أرض الجن.»

جلس الأب براون منتصب الظهر في القارب وأشار على جسده بإشارة الصليب. كانت حركته فجائية جدًّا حتى إن صديقه سأله، وهو ينظر إليه بشيء من التحديق: «ما الخطب؟»

أجابه القس: «أولئك الذين ألفوا الأغاني الشعبية في العصور الوسطى يعرفون عن الجن أكثر بكثير من معرفتك عنها. فأرض الجن لا تشهد الأمور الجيدة فحسب.»

قال فلامبو: «يا له من كلام فارغ! فتحتَ هذا القمر البريء لا يمكن أن تحدث سوى الأشياء الجميلة. من رأيي أن نمضي قُدمًا الآن وننظر ما سيحدث فعليًّا. فربما نموت ونتعفن قبل أن نرى مثل هذا القمر أو نصبح في مثل هذه الحالة المزاجية مرةً أخرى على الإطلاق.»

قال الأب براون: «حسنًا، لم أقل قطُّ إنه يكون من الخطأ دومًا دخول أرض الجن. فكل ما قلته أن دخولها يكون خطرًا دائمًا.»

تقدَّما على مهَل على صفحة مياه النهر المتلألئة، وقد أصبح اللون البنفسجي للسماء واللون الذهبي الشاحب للقمر أكثر خفوتًا حتى تلاشيا تمامًا في الفضاء الشاسع الذي خلا من الألوان وسبق بزوغ ألوان الفجر. حين شقَّت الخيوط الأولى من الضوء الأحمر والذهبي والرمادي طريقها عبر الأفق من أقصاه إلى أقصاه، قطعتها الكتلة السوداء لبلدة أو قرية واقعة على ضفة النهر أمامهما مباشرة. كان بالفعل شفقًا يسيرًا؛ إذ كان من الممكن رؤية جميع الأشياء، حين وصلا أسفل الأسقف والكباري المعلقة لهذه القرية على هذا الجانب من النهر. بدت المنازل بأسقفها الممتدة المنخفضة المنحدرة وكأنها تنخفض لتشرب من ماء النهر، تمامًا مثل ماشية ضخمة حمراء ورمادية اللون. تحوَّل لون الفجر الذي كان يزداد اتساعًا وابيضاضًا إلى ضوء النهار الساطع قبل أن يتمكَّنا من رؤية أي كائن حي على الضفاف والكباري الموجودة في هذه البلدة الصامتة. في النهاية تمكنا من رؤية رجل هادئ يبدو عليه أثر النعمة يرتدي قميصًا دون معطف عليه، ووجهه مستدير تمامًا مثل القمر الذي أفل منذ قليل، ويحيط بالقوس السفلي منه القليل من الشعر الأحمر، وقد كان متكئًا على عمود يعلو موجات المد البطيء. وباندفاع لا يمكن تفسيره، نهض فلامبو منتصبًا وصاح من داخل القارب المتأرجح سائلًا هذا الرجل إن كان يعرف جزيرة ريد آيلاند أو منزل ريد هاوس. ابتسم الرجل ابتسامة خفيفة، وكل ما فعله أن أشار إلى أعلى النهر نحو المنعطف التالي منه. مضى فلامبو قُدمًا دون مزيد من الكلام معه.

تخطَّى القارب الكثير من الزوايا العُشبية، وسار بجوار الكثير من الأجزاء الساكنة المكسوَّة بالبوص من ضفة النهر، لكن قبل أن يصبح البحث رتيبًا، تأرجح القارب بهما عند منعطف حادٍّ للغاية ليدخلا شيئًا أشبه ببركة أو بحيرة، أسرهما شكلها الأخَّاذ. كانت تقع في منتصف هذه الرقعة الواسعة من المياه جزيرة صغيرة منخفضة وممتدة محاطة من كل جانب بالأعشاب، وكان بجانبها منزل أو كوخ كبير طويل ومنخفض مصنوع من البامبو أو نوعٍ ما من أعواد القصب الاستوائية الخشنة. كان لون أعواد البامبو المنتصبة التي تُشكِّل الجدران أصفر باهتًا، بينما كانت الأعواد التي يتكوَّن منها السقف المائل ذات لون أحمر داكن أو بني، وبخلاف ذلك كان المنزل الطويل بأكمله عبارة عن عمل مكرَّر ورتيب. عملَ نسيم الصباح الباكر على تحريك أعواد القصب المحيطة بالجزيرة مما جعلها تُصدر حفيفًا وكأنها تعزف في هذا المنزل الغريب الشكل كما لو كانت آلة بان فلوت.

صاح فلامبو: «يا إلهي! ها هو المكان، أخيرًا! هذه هي جزيرة ريد آيلاند، إن كان يوجد شيء من هذا القبيل. وهذا هو منزل ريد آيلاند، إن كان هناك منزل بهذا الاسم. أعتقد أن الرجل البدين هذا ذا الذقن الأحمر الذي رأيناه كان جنِّيًّا.»

رد الأب براون بحيادية: «ربما. إذا كان هذا صحيحًا، فلا بدَّ أنه من الجن الشرير.»

لكن بينما هو يتحدث أسرع فلامبو المتهور إلى تثبيت قاربه على الشاطئ في أعواد القصب ذات الصوت الرنَّان، ووقفا على الجزيرة الصغيرة الممتدة العجيبة بجوار المنزل الغريب الصامت.

أما المنزل، بحسب ما رأيا، فقد كان ظهره مواجهًا للنهر والمرسى الوحيد؛ كان المدخل الرئيسي على الجانب الآخر، ويُطل على الحديقة الطويلة في الجزيرة. وهكذا اقترب الزائران منه، عبر ممر صغير يمتد حول ثلاثة جوانب تقريبًا من المنزل، على مقربة من الإفريز المنخفض للسطح. نظرا عبر ثلاث نوافذ مختلفة على ثلاثة جوانب مختلفة للمنزل إلى داخل الغرفة نفسها الطويلة والجيدة الإضاءة والمكسوة بخشب فاتح اللون، وبها عدد هائل من المرايا، كما لو كانت مُعدَّة من أجل غداء فاخر. كان الباب الأمامي، حين وصلا إليه أخيرًا، محاطًا بأصيصين للورود لونهما أزرق فيروزي. فتح الباب كبير خدم شديد الكآبة، وكان طويلًا ونحيلًا وفاتر الهمة، وتمتم قائلًا إن الأمير سارادين كان خارج المنزل في هذا الوقت، لكن من المتوقع عودته في أي وقت، ولهذا يظل المنزل مستعدًّا لاستقباله واستقبال ضيوفه. عمل إبراز البطاقة المكتوب عليها بالحبر الأخضر على بث الحياة في الوجه المتيبِّس للخادم المكتئب، وبدماثة متزعزعة اقترح أن يبقى الغريبان. قال: «إنَّ سموَّه قد يصل في أي لحظة، وسيحزن كثيرًا في حال فاتته فرصة الالتقاء بأي سيد قد دعاه. فنحن لدينا أوامر بأن نُعِدَّ دومًا بعض الطعام البارد من أجله ومن أجل أصدقائه، وأنا متأكد من أنه سيرغب في تقديمه لكما.»

وافق فلامبو بلباقة، مدفوعًا بالفضول في هذه المغامرة البسيطة، وتبع الرجل الكبير السن، الذي قاده باحتفاء إلى الغرفة الطويلة المكسوَّة بألواح فاتحة اللون. لم يكن بالغرفة أي شيء مميز، باستثناء التبادل غير المعتاد بين العديد من النوافذ الطويلة والمنخفضة، والمرايا المستطيلة الطويلة والمنخفضة؛ مما أضفى نوعًا فريدًا من الإضاءة والبساطة للمكان؛ فكان الأمر أشبه بتناول الغداء في الهواء الطلق. كان ثمَّة لوحة أو لوحتان من النوع الهادئ معلَّقتان في الأركان، إحداهما كانت صورة كبيرة رمادية لشاب صغير السن يرتدي زيًّا عسكريًّا، والأخرى كانت رسمًا بالطباشير الأحمر لفَتيان شعرهما طويل. سأل فلامبو عما إذا كان الفتى ذو الزي العسكري هو الأمير، فأجاب كبير الخدم باقتضاب نافيًا، وقال إن هذا هو الشقيق الأصغر للأمير ويُدعى القبطان ستيفن سارادين. وبعدها كفَّ العجوز عن الكلام ولم تعُد لديه رغبة في الحديث مطلقًا.

بعد انتهاء الغداء بشرب قهوة ومشروبات روحية رائعة، تعرَّف الضيفان على الحديقة والمكتبة ومدبِّرة شئون المنزل، التي كانت سيدة جميلة داكنة البشرة، لا يعلوها أي شيء من الجلالة، ولكن بدت عليها ملامح الصرامة. بدا أنها هي وكبير الخدم مَن بقي من الطاقم الأجنبي الأصلي المختص بإدارة شئون المنزل، أما باقي الخدم الموجودون حاليًّا في المنزل فكانوا جددًا وقد جلبتهم مدبرة شئون المنزل من نورفوك. كانت مدبرة شئون المنزل هذه تُدعى السيدة أنتوني، لكنها كانت تتحدث بلكنة إيطالية خفيفة، ولم يشكَّ فلامبو للحظة أن أنتوني هذا هو النسخة المحلية لاسمٍ لاتيني الأصل. أما السيد بول، كبير الخدم، فقد كان له أيضًا طِباع أجنبية بعض الشيء، ولكنه كان يتحدث اللغة الإنجليزية بمزيد من الطلاقة، مثل العديد من الخَدم المميَّزين الذين يجري انتقاؤهم بعناية للعمل لدى النبلاء المتحضرين.

على الرغم من جمال المكان وتفرُّده، فقد خيَّمت عليه لمحة غريبة من حزن واضح؛ فقد كانت الساعات تمر فيه كأنها أيام. كانت الغرف الطويلة الكثيرة النوافذ يملؤها ضوء الشمس، ولكنه بدا مثل ضوء شمس ميت يفتقر إلى الحيوية والحياة. وعبْر جميع الأصوات الأخرى التي كانت تُسمع عَرَضًا من آنٍ لآخر؛ من صوت حديث، أو صوت ارتطام الأقداح بعضها ببعض، أو صوت أقدام الخدم المارَّة، استطاعا أن يسمعا، في جميع أرجاء المنزل، الصوت الكئيب للنهر.

قال الأب براون وهو ينظر من النافذة إلى نباتات السعادي الخضراء المائلة إلى اللون الرمادي، وإلى مجرى النهر الفضي: «لقد سلكنا الطريق الخطأ، وأتينا إلى المكان الخطأ. لكن لا عليك؛ فأحيانًا قد يكون أمرًا جيدًا للمرء أن يكون الشخص المناسب في المكان الخطأ.»

كان الأب براون رجلًا قصيرًا متعاطفًا على نحو غريب، رغم كونه صامتًا في أغلب الأحيان، وفي هذه الساعات القليلة التي تبدو لا نهائية، تعمَّق في استغراقه دون وعي منه في أسرار منزل ريد هاوس أكثر بكثير من صديقه المتمرِّس؛ فقد كانت لديه موهبة الصمت الودود الذي يلعب دورًا جوهريًّا في الثرثرة؛ ففي حين أنه كان نادرًا ما يتفوَّه بكلمة واحدة، كان يحصل من معارفه الجُدد على كل ما يريدون أن يخبروه به. في الواقع لم يكن كبير الخدم بطبيعته كثير الكلام؛ كل ما هنالك أنه عبَّر عن تعلقه الشديد بسيده وحزنه عليه؛ إذ كان سيده قد تلقَّى على ما يبدو معاملة شديدة السوء. وقد بدا أن المذنب الرئيسي هو شقيق الأمير، الذي كان اسمه فقط يجعل العجوز يمد فكَّيْه المحدودين ويقبض أنفه المعقوف تعبيرًا عن استيائه. يبدو أن القبطان ستيفن كان شخصًا عديم النفع، وقد استنزف مئات أو آلاف الجنيهات من أخيه الخيِّر، وأجبره على الهرب من حياة رَغدة، والعيش في هدوء في هذا المكان المنعزل. كان هذا هو كل ما قاله بول، كبير الخدم، وكان واضحًا تحيُّز بول.

أما مدبِّرة شئون المنزل فقد كانت أكثر ميلًا للحديث، والسبب في هذا، على حد تصوُّر براون، هو أنها كانت أقل شعورًا بالرضا نوعًا ما؛ فقد كان أسلوب حديثها عن سيدها لاذعًا بعض الشيء، وإن كان لا يخلو من قدر من الإجلال له. كان فلامبو وصديقه يقفان في الغرفة ذات المرايا يفحصان الصورة الحمراء للفتيَين، حين دخلت مدبرة شئون المنزل بسرعة لقضاء إحدى المهام المنزلية. وقد كانت سِمةً خاصة بهذا المكان اللامع المليء بالزجاج أن أي شخص يدخل إليه تنعكس صورته في أربع أو خمس مرايا في آنٍ واحد؛ وعليه توقَّف الأب براون، دون أن يتلفت، عن الحديث في منتصف جملة انتقاد للأسرة. لكن فلامبو، الذي كان يقترب بوجهه من الصورة، كان يقول بالفعل بصوت مرتفع: «الأخوان سارادين، على ما أعتقد، كلاهما تبدو عليه البراءة الشديدة؛ وعليه من الصعب على المرء معرفة أيهما الصالح وأيهما الشرير.» ثم حين أدرك وجود السيدة، حوَّل مجرى الحوار إلى الحديث عن بعض الأمور التافهة، بعدها خرج إلى الحديقة. إلا أن الأب براون واصل تحديقه في الصورة الطباشيرية الحمراء، وواصلت السيدة أنتوني التحديق في الأب براون.

كانت تمتلك عينين كبيرتين بُنِّيتي اللون، ولمع وجهها الداكن باستغراب فضولي مؤلم، مثلما يبدو على شخص يشك في هوية شخص غريب أو في أغراضه. وسواء أكانت عباءة القس القصيرة وعقيدته قد أثارتا بعض ذكريات الاعتراف الجنوبية لديها، أو سواء أنها تصورت بأنه يعلم أكثر مما يعرفه حقًّا، فقد تحدثت إليه بصوت منخفض كما لو كانت تتحدث إلى شريكها المتآمر: «إن صديقك محقٌّ في أمرٍ واحد. لقد قال إنه من الصعب تحديد أي الأخوين الطيب وأيهما الشرير. حسنًا، هذا من الصعب حقًّا. من الصعوبة بمكانٍ أن تُحدد الطيِّب من بينهما.»

قال الأب براون: «أنا لا أفهمكِ.» وبدأ يتحرك مبتعدًا عنها.

خطَت المرأة خطوة لتقترب منه، وهي ترفع حاجبيها على نحوٍ مرعب، وتنحني نحوه انحناءة متوحشة، مثل ثور يخفض قرنيه.

همست له قائلة: «لا يوجد شخص طيب؛ فقد كان القبطان شريرًا في استيلائه على كل هذه الأموال، لكني لا أعتقد أن ثمة أي طيبة في إعطاء الأمير إياها له؛ فالقبطان ليس وحده هو المخطئ.»

ظهرت علامات الفهم على وجه القس الذي كان قد أشاح به عن الخادمة وتشكَّلت على فمه في صمت كلمة «ابتزاز». وفي هذه الأثناء تحوَّل وجه السيدة فجأة إلى اللون الأبيض وكادت تسقط على الأرض؛ فقد فُتح الباب دون إصدار صوت ووقف بول شاحب اللون مثل شبح في مدخل الغرفة. وبفعل الخدعة الغريبة لهذه الجدران العاكسة بدا كما لو أن خمس نسخ من الخادم بول دخلوا الغرفة من خمسة أبواب في وقت واحد.

قال: «لقد وصل سموُّه للتوِّ.»

وبالسرعة نفسها مرَّ خيال رجل خارج النافذة الأولى، عابرًا الممر المُضاء بأشعة الشمس مثل مسرح مضيء. بعد هذا بلحظة مرَّ أمام النافذة الثانية، وعكست المرايا العديدة في إطاراتها المتعاقبة صورة الوجه ذاته الذي يشبه النَّسر والجسم المتحرك. كان رجلًا مستقيم القامة ونشيطًا، لكن شعره كان أبيض اللون وبشرته ذات لون أصفر عاجي غريب. كانت لديه الأنف الرومانية القصيرة التي تناسب بوجه عام الوجنتين والذقن الطويل والنحيل، ولكن هذه الأجزاء كانت مغطَّاة جزئيًّا بشارب ولحية مدببة. كان الشارب داكنًا أكثر من اللحية، مما يعطي تأثيرًا دراميًّا مبالغًا فيه نوعًا ما، وكان يرتدي زيًّا أنيقًا؛ إذ كان يرتدي قبعة طويلة بيضاء اللون، وكانت ثمة زهرة أرجوانية معلَّقة في معطفه. كان يرتدي صدرية صفراء وقفَّازين أصفرين، كانا يرفرفان أثناء سيره. حين وصل إلى الباب الأمامي سمعوا بول الغليظ يفتحه، وسمعوا القادم الجديد يقول في سعادة: «حسنًا، ها أنا قد أتيت.» انحنى السيد بول المتيبس وأجاب إجابة غير مسموعة، ولبضع دقائق لم يكن من الممكن سماع حديثهما. بعدها قال كبير الخدم: «كل شيء كما أمرت.» ثم دخل الأمير سارادين الذي يرفرف قفازاه إلى الغرفة لتحيتهما في سعادة. ورأيا مرةً أخرى هذا المشهد الشبحي؛ إذ دخل خمس نسخ من الأمير إلى الغرفة من خمسة أبواب.

وضع الأمير القبعة البيضاء والقفازين الأصفرين على الطاولة ومد يده بمودة.

قال: «تسعدني رؤيتك هنا يا سيد فلامبو؛ فأنا أعرفك جيدًا من سُمعتك، إن لم تكن هذه ملحوظة حمقاء.»

رد فلامبو وهو يضحك: «كلَّا على الإطلاق، فأنا لستُ حسَّاسًا. فقليلًا جدًّا ما تُكتسب الشهرة بالفضيلة الخالصة.»

رمقه الأمير بنظرة حادة سريعة ليرى ما إذا كان هذا الرد يكمن وراءه أي غرض شخصي، ثم ضحك أيضًا ودعا الجميع للجلوس جالسًا معهم.

قال دون تأثُّر: «أعتقد أن هذا المكان الصغير رائع، أليس كذلك؟ أخشى أنه لا يوجد الكثير من الأشياء التي يمكن أن يفعلها المرء هنا، لكن صيد الأسماك يكون جيدًا للغاية.»

كان القس، الذي ظل ينظر إليه نظرة رضيع متأمل، منشغلًا بتصورٍ يفوق كل وصف. لقد نظر إلى الشعر الرمادي المجعَّد بعناية، والوجه الأبيض المائل للصفرة، والجسم النحيل والمظهر المسرف في الأناقة إلى حدٍّ ما. لم يكن أيٌّ من هذا غير طبيعي، على الرغم من وجود بعض الأشياء المميزة، مثل ملابسه التي تشبه ملابس الشخصيات المسرحية. إلا أن الاهتمام البالغ كان منصبًّا على شيء آخر؛ على إطار وجهه؛ فقد كان براون يعذِّبه الشعور بأنه رأى هذا الوجه في مكانٍ ما من قبل. بدا الشخص مثل صديق قديم له متأنق الملابس. ثم تذكَّر فجأة المرايا، وعزا تصوُّره هذا إلى نوعٍ من التأثير النفسي نتيجة وجود العديد من النسخ من الوجه البشري.

وزَّع الأمير سارادين اهتمامه الاجتماعي بين ضيفَيْه في بهجة وبراعة كبيرَتين. وحين علم أن المحقق من النوع المحب للرياضة، وأنه شغوف باستثمار إجازته، أرشد فلامبو وقاربه إلى أفضل بقعة لصيد الأسماك في مجرى النهر، وعاد في زورقه الصغير بعد عشرين دقيقة لينضم إلى الأب براون في المكتبة كي ينغمس معه بأدب في اهتماماته التي يغلب عليها الطابع الفلسفي. بدا أنه يعرف الكثير عن صيد الأسماك وعن الكتب أيضًا، على الرغم من عدم كونه واسع الثقافة فيهما. كان يتحدث خمسًا أو ست لغات، على الرغم من أنه لم يكن يعرف منها إلا اللهجات الدارجة في الأساس. من الواضح أنه عاش في مدن مختلفة ومجتمعات متنوعة للغاية؛ إذ كان بعضٌ من قصصه الأكثر مرحًا عن نوادي القمار وأوكار الأفيون، أو عن الخارجين عن القانون من الأستراليين، أو عن قطَّاع الطُّرق الإيطاليين. كان الأب براون يعلم أن سارادين الذي حظي بالشهرة في وقت من الأوقات قضى السنوات القليلة الماضية في سفرٍ لا يكاد ينقطع، لكنه لم يكن ليتوقع أن هذه الرحلات سيئة السمعة لهذه الدرجة أو مسلِّية إلى هذا الحد.

في الواقع، بكل ما يحمل من وقار رجل خبير بجوانب الحياة، كان الأمير سارادين يشعُّ، لمُلاحظ حسَّاس مثل القس، أجواءً معينةً من الحراك المستمر بل وحتى عدم الموثوقية. كانت ملامح وجهه تشي بأنه شخص شديد التدقيق، لكن عينه كانت جامحة؛ فلم يكن لديه الكثير من الحركات العصبية، مثل رجل أعياه تناول الخمر أو المخدرات، ولم يحدث من قبل أنه كان المتحكم في زمام الأمور داخل المنزل، وحتى هو لم يزعم ذلك. كانت جميع الشئون المنزلية متروكة لهذين الخادمين المخضرمين، خاصةً كبير الخدم، الذي من الواضح أنه كان الركيزة الأساسية في المنزل. في الواقع لم يكن السيد بول كبير خدمٍ بقدر كونه كبير المسئولين عن المنزل، أو حتى حاجبًا أو كبير أمناء البلاط؛ فقد كان يتناول طعامه بمفرده، لكن بالقدر نفسه من الفخامة تقريبًا التي يحظى بها سيده؛ وكان جميع الخدم يخشونه، وكان يتشاور مع الأمير بكل احترام، لكن بصرامة نوعًا ما، كما لو أنه المستشار القانوني للأمير. أما مدبرة المنزل العابسة فلم تكن أكثر من طيفٍ مقارنةً به، وفي واقع الأمر بدت وكأنها قد محت وجودها بحيث أصبح شغلها الشاغل هو طاعة كبير الخدم، ولم يسمع براون المزيد من هذا الحديث الثائر الهامس الذي أخبره بنصف الحقيقة عن الشقيق الصغير الذي ابتزَّ أخاه الأكبر. لم يكن القس يستطيع التأكد مما إذا كان الأمير بالفعل قد تعرض للاستنزاف على هذا النحو من القبطان الغائب أم لا، لكن كان ثمة شيء غير مطمئن وغامض بشأن سارادين جعل القصة من الصعب تصديقها بأي حال من الأحوال.

حين دخلا مرةً أخرى إلى الردهة الطويلة ذات النوافذ والمرايا العديدة، كان المساء الأصفر اللون ينسدل على صفحة المياه وضفاف النهر الكثيفة الحشائش، وبدا طائر الواق من مسافة بعيدة وكأنه عفريت قزم يقرع طبلته الضئيلة. خيَّم الشعور نفسه من الحزن والشر المرتبط بأرض الجن مرةً أخرى على ذهن القس مثل سحابة رمادية، وتمتم قائلًا: «أرجو أن يعود فلامبو.»

سأله الأمير سارادين المرتبك فجأة: «هل تؤمن بالحساب؟»

رد الضيف: «كلَّا، أنا أومن بيوم الحساب.»

استدار الأمير بوجهه من النافذة وحدَّق فيه تحديقة غريبة، وعلى وجهه ظلٌّ من غروب الشمس، وسأله: «ماذا تقصد؟»

أجاب الأب بروان: «أقصد أننا هنا على الجانب الخطأ من نسيج الكون؛ فالأشياء التي تحدث هنا لا يبدو أن لها أيُّ معنًى؛ إن لها معنًى ولكن في مكانٍ آخر. ففي مكان آخر سينال المسيء جزاءه الحقيقي. أما هنا فيبدو دومًا كأن الجزاء يقع على الشخص الخطأ.»

أصدر الأمير صوتًا من الصعب تفسيره كما لو كان حيوانًا، وفي وجهه المظلل بدت عيناه تلمعان لمعانًا غريبًا. خطرت بذهن القس فكرة جديدة وذكية. هل ثمة مغزًى آخر من وراء المزيج الموجود في شخصية سارادين الذي يجمع فيه بين الذكاء والفظاظة؟ هل كان الأمير … صحيحًا تمامًا من الناحية العقلية؟ كان يكرر: «الشخص الخطأ … الشخص الخطأ» عدة مرات أكثر من الطبيعي في سياق تعجب اجتماعي.

ثم أفاق الأب براون متأخرًا على حقيقة ثانية. في المرايا الموجودة أمامه، كان يستطيع رؤية الباب الصامت مفتوحًا، والسيد بول الصامت واقفًا أمامه، بوجهه الشاحب الفاتر كما هي عادته.

قال بأسلوب يتَّسم بالاحترام الذي تخالطه صرامة كما لو أنه محامٍ قديم للعائلة: «ظننتُ أنه من الأفضل أن أُبلَّغ على الفور أن قاربًا به ستة رجال يجدِّفون به قد جاء إلى المرسى، وثمة رجل نبيل في مؤخرة القارب.»

ردد الأمير: «قارب! رجل نبيل؟» ثم هبَّ واقفًا على قدميه.

خيَّم صمت مفزع لم يكسره إلا الصوت الغريب للطائر الذي صدر من بين أعواد نبات السعادي، ثم قبل أن يتمكن أي شخص من الكلام مرةً أخرى، مرَّ وجه وهيئة جديدان أمام النوافذ الثلاث المضاءة بضوء الشمس، تمامًا مثلما مرَّ الأمير من ساعة أو ساعتين. إلا أنه بخلاف واقعة أن كليهما كان له وجه يشبه النسر، لم يكن يوجد أي شيء مشترك بينهما. وبدلًا من القبعة البيضاء الطويلة الجديدة التي كان يرتديها سارادين، كان ثمة قبعة سوداء عتيقة أو أجنبية الشكل، وتحتها كان ثمة وجه شاب وقور للغاية، حليق الذقن، يكاد يشبه نابليون في شبابه. وقد عزَّز هذا التشبيه سيادة الطابع القديم والغريب على كامل ملبسه، كما لو أنه شخص لم يكترث قطُّ بتغيير نمط زي أجداده. كان يرتدي معطفًا أزرق اللون طويلًا مشقوق الذيل وباليًا، كما كان يرتدي صدرية حمراء تبدو كتلك التي يرتديها ضباط الجيش، وسروالًا فضفاضًا قصيرًا أبيض اللون من نوعية السراويل البيضاء الفضفاضة التي كانت شائعة في أوائل العصر الفيكتوري، لكنها على نحوٍ يدعو للاستغراب صارت غير مألوفة في العصر الحالي. ووسط كل هذه الملابس القديمة، برز وجهه البني المائل للصُّفرة وهو يتألَّق شبابًا وصدقًا على نحوٍ يثير الدهشة.

قال الأمير سارادين: «يا إلهي!» وأمسك بقبعته البيضاء واتَّجه هو نفسه نحو الباب، وفتحه على مصراعيه لتظهر للعيان تلك الحديقة التي تغرب عنها الشمس.

في هذا الوقت كان الوافد الجديد وأتباعه يقتربون من المرج مثل جيش صغير. كان البحَّارة الستة قد سحبوا قاربهم وثبَّتوه جيدًا على الشاطئ، وكانوا يحرسونه بطريقة تنطوي على شيء من التوعُّد؛ إذ كانوا يمسكون المجاديف منتصبة كما لو أنها رماح. كانوا رجالًا داكني البشرة، وكان بعضهم يرتدي أقراطًا. إلا أن واحدًا منهم وقف إلى الأمام بجوار الشاب الأسمر البشرة ذي الصدرية الحمراء، وكان يحمل حقيبة سوداء ضخمة غريبة الشكل.

قال الشاب: «هل تُدعى سارادين؟»

رد سارادين موافقًا دون اكتراث.

كانت عينا هذا الوافد الجديد كئيبة وبنية اللون أشبه بعيني الكلب، وتختلف تمام الاختلاف عن عينَي الأمير اللامعتين المتقدتين بالحماس الرماديتي اللون. لكن مرةً أخرى عَذَّب الأبَ براون الشعورُ بأنه قد رأى نسخةً طبق الأصل من هذا الوجه في مكان ما، ومرةً أخرى تذكَّر النسخ المكررة في الغرفة المشتملة بالمرايا، وأرجع الأمر لفرضية الصدفة. تمتم قائلًا: «اللعنة على هذا القصر البلوري! فالمرء يرى كل شيء أكثر من اللازم. إنه أشبه بالحلم.»

قال الشاب: «إذا كنت أنت الأمير سارادين، فلعلي أخبرك بأن اسمي أنتونيلي.»

كرر الأمير بوَهن: «أنتونيلي، أذكر هذا الاسم إلى حدٍّ ما.»

قال الشاب الإيطالي: «اسمح لي بأن أقدِّم لك نفسي.»

وفي هدوء، نزع بيده اليسرى قبعته الطويلة القديمة الطراز، وبيده اليمنى وجَّه للأمير سارادين لكمة قوية مدوِّية في وجهه أدت إلى سقوط قبعته الطويلة البيضاء على درجات السُّلم، وجعلت أحد أصيصي الورود الأزرقين يهتز على قاعدته.

لم يكن الجُبن من بين صفات الأمير، أيًّا كانت؛ فقد انقض على عنق عدوه وكاد يطرحه أرضًا على ظهره. إلا أن عدوه حرَّر نفسه منه بأسلوب فريد غير مناسب من التحول سريعًا إلى التعامل بأسلوب مهذب.

قال بالإنجليزية وهو يلهث ويعرج: «لا بأس، لقد أسأت، وسأعطيك فرصة المبارزة. ماركو، افتح الحقيبة.»

شرع الرجل الذي كان يقف إلى جواره ويرتدي الأقراط ويحمل الحقيبة السوداء الكبيرة في فتحها؛ أخرج منها سيفين إيطاليين طويلين لهما مقبضان ونصلان رائعان من الصُّلب، غرس طرفيهما إلى الأسفل في المرج. وقف الشاب الغريب مواجهًا للمدخل بوجهه الأصفر الانتقامي، وانتصب السيفان في المرج كصليبين داخل مقبرة، وظهر من خلفهما صفٌّ من الأبراج المرتبة، مما أضفى على المشهد بأكمله مظهرًا غريبًا أشبه بساحة محكمة بربرية. إلا أن كل شيء آخر ظل على حاله ولم يتغير، فقد كانت هذه المقاطعة فجائية. فقد ظل الضوء الذهبي للشمس في أثناء غروبها يشعُّ على المرج، وظل طائر الواق يُصدر أنينه معلنًا حدوث شيء مصيري مروِّع.

قال الرجل الذي يُدعى أنتونيلي: «الأمير سارادين، حينما كنتُ لا أزال طفلًا في مهدي قتلتَ أنت والدي وسرقت والدتي، وقد كان أبي أوفر حظًّا. أنت لم تقتله بشهامة كما سأفعل أنا الآن؛ فقد جعلته أنت ووالدتي الآثمة يقود السيارة إلى طريق مهجور في صقلية، ورميته من أعلى منحدر، ومضيت في طريقك. يمكنني تقليد ما فعلته معك إن أردتُ ذلك، لكن تقليدك ينطوي على كثير من الخِسة. لقد تبعتك في جميع أنحاء العالم، وكنت تهرب مني دومًا. لكن هذه نهاية العالم، ونهايتك أيضًا. لقد وقعت في قبضتي الآن. وأنا أعطيك الفرصة التي لم تعطِها قطُّ لوالدي. اختر أحد هذين السيفين.»

بدا التردد على الأمير سارادين، الذي عقد حاجبيه، للحظة، لكن أذنيه كانتا لا تزالان تطنَّان جرَّاء الصفعة، فانطلق إلى الأمام وانتزع أحد السيفين. انطلق الأب براون إلى الأمام أيضًا محاولًا احتواء النزاع، لكنه سرعان ما أدرك أن وجوده شخصيًّا زاد الأمور سوءًا؛ فقد كان سارادين ماسونيًّا فرنسيًّا وملحدًا شديد الإلحاد، وكان وجود قس يؤثر فيه بفعل قانون الأضداد. أما بالنسبة إلى الرجل الآخر، فلم يكن يؤثر فيه مطلقًا وجود قس أو عدم وجوده؛ فهذا الشاب الذي كان يمتلك وجهًا أشبه بوجه نابليون بونابرت، وعينين بُنيتين أكثر صرامة بكثير من عينَي شخص تطهيري — أيْ: وثني — كان قاتلًا من عصر ما قبل التاريخ؛ إنه رجل من العصر الحجري، إنه رجل من حجر.

بقي أمل واحد فقط، وهو استدعاء الموجودين داخل المنزل؛ ولهذا ركض الأب براون إلى داخل المنزل. إلا أنه وجد أن جميع الخدم أعطاهم بول المستبد إجازة بعيدًا عن الشاطئ، ولم يكن يوجد سوى السيدة أنتوني التي كانت تتحرك بارتباك في أرجاء الغرفة الطويلة، إلا أنها حين التفتت إليه بوجهها المروع، حُلَّ أحد ألغاز منزل المرايا هذا. لقد كانت عينا أنتونيلي البنية الداكنة تشبه تمامًا عينَي السيدة أنتوني، وفي طرفة عين، فطن إلى نصف الحقيقة.

قال لها دون إهدار للكلام: «ابنك بالخارج، سيُقتل هو أو الأمير. أين السيد بول؟»

قالت السيدة أنتوني بوَهَنٍ: «إنه عند المرسى. إنه يرسل إشارة … يطلب المساعدة.»

قال الأب براون بجدية: «سيدة أنتوني لا وقت للهراء. إن صديقي معه قاربه يصطاد به في النهر، أما قارب ابنك فيعكف رجاله على حراسته. ليس أمامنا إلا هذا الزورق الصغير، ما الذي يفعله به السيد بول؟»

قالت: «يا إلهي! لا أعرف.» وسقطت مغشيًّا عليها على الأرض المكسوة بالسجاد.

رفعها الأب براون إلى إحدى الأرائك، وصبَّ عليها قدحًا من الماء، وصاح طلبًا للمساعدة، ثم أسرع إلى مرسى هذه الجزيرة الصغيرة، إلا أنه وجد الزورق الصغير بالفعل في منتصف مجرى النهر، ويجدف فيه العجوز بول بأقصى طاقته من أجل تحريكه في الماء.

صاح وعيناه تبرقان بجنون: «سأنقذ سيدي، سأنقذه بالتأكيد!»

لم يسَع الأب براون أن يفعل شيئًا عدا مراقبة القارب وهو يشق طريقه بصعوبة في مجرى النهر، ويصلي لعل العجوز يستطيع إيقاظ البلدة الصغيرة في الوقت المناسب.

تمتم قائلًا، وهو يفرك شعره الرمادي اللون: «المبارزة سيئة بما يكفي، لكن ثمَّ خطبٌ ما في هذه المبارزة، حتى بوصفها مبارزة. أشعر بهذا في أعماقي، لكن ماذا يمكن أن يكون هذا؟»

وبينما هو واقف يحدِّق في الماء، الذي كان بمنزلة مرآة متحركة تعكس غروب الشمس، سمع من الطرف الآخر من حديقة الجزيرة صوتًا خفيضًا ولكنه واضح للغاية؛ لقد كان صوت صليل السيوف، فاستدار بوجهه.

رأى على أبعد لسان في هذه الجزيرة الصغيرة الطويلة، على شريط من المروج وراء آخِر صفٍّ من الأزهار، أن المتبارزَين قد بدآ المبارزة بالفعل. كان المساء فوق رءوسهما مثل قبة من اللون الذهبي الخالص، وعلى الرغم من بُعدهما الشديد، فإن كل التفاصيل كانت واضحة للغاية؛ فقد خلعا معطفيهما، لكن الصدرية الصفراء والشعر الأبيض لسارادين، والصدرية الحمراء والسروال الأبيض لأنتونيلي، لمعا مثل ألوان الدُّمى الآلية الراقصة. كذلك لمع السيفان من مقبضيهما حتى طرفَيْ نصليهما، مثل دبوسين ماسيَّين. كان ثمة شيء مخيف في مظهر الرجلين؛ إذ كانا صغيرَي الحجم وشديدَي الغرابة. كانا يبدوان مثل فراشتين تحاول كلٌّ منهما تثبيت الأخرى على فلِّين.

ركض الأب براون بأقصى قوته، فأطلق ساقَيه القصيرتين كأنهما عجَلتان. إلا أنه حين وصل إلى ساحة القتال وجد أنه وصل متأخرًا للغاية ومبكرًا للغاية؛ وصل متأخرًا للغاية بحيث لم يعد بإمكانه وقف القتال، الذي كان يحدث في حضور الصقليين المتجهمين المتكئين على مجاديفهم؛ ومبكرًا للغاية بحيث لا يتأتَّى له التنبؤ بالعواقب الكارثية المترتبة على هذا القتال. كان الرجلان متكافئين للغاية على نحوٍ فريد؛ فقد كان الأمير يستخدم مهارته بثقة تخالطها استهانة، في حين كان الشاب الصقلي يستخدم مهارته بدافع من الرغبة في القتل. لم تشهد المدارج الرومانية المكتظة مباريات مبارزة أفضل من هذه المباراة التي كانت تلمع وتطنُّ على هذه الجزيرة المنسية في نهر القصب. ظلت هذه المبارزة الحمقاء متوازنة لوقتٍ طويل وبدأ الأمل يتجدد في نفس القس المعترض؛ فعلى الأرجح لا بدَّ أن بول سيعود قريبًا ومعه الشرطة، بل كان سيصبح أمرًا جيدًا أن يعود فلامبو من رحلة صيده، وهذا لأن فلامبو يعدل من حيث قوته البدنية قوة أربعة رجال. إلا أنه لم يظهر أثر لفلامبو، والأغرب من هذا أنه لم يظهر أثر لبول أو الشرطة. ولم يعد يوجد أي لوح خشبي أو عصا لاستخدامه في الطفو على صفحة الماء، ففي هذه الجزيرة المفقودة وبركة المياه الشاسعة المغمورة هذه، كانوا منقطعين عن العالم كما لو كانوا على صخرة وسط المحيط الهادئ.

مثلما توقَّع، ارتفع صليل السيوف حتى وصل إلى حدِّ القعقعة، وظهر ذراعا الأمير وقد ارتفعتا في الهواء. اخترق طرف النصل صدره وخرج من ظهره بين كتفيه. اختل توازنه وصار يترنح ويدور حول نفسه، تمامًا مثل عجلة متدحرجة. طار السيف من يده كأنه أحد الشُّهب، وغاص في النهر البعيد. أما الأمير فقد سقط على الأرض سقوطًا مدويًا، حتى إنه هشَّم شجرة ورد كبيرة بجسده وأثار سحابة من التراب الأحمر، كأنها دخان يتصاعد من قربانٍ وثني يحترق. لقد قدَّمَ الصقلي قربانًا بشريًّا إلى شبح والده.

جثا القس على ركبتيه على الفور بجوار الجثة، لكي يتأكد فحسب من أنها صارت جثة بالفعل. وبينما كان لا يزال يُجري بعض الفحوصات الأخيرة البائسة، سمع لأول مرة أصواتًا من مكان بعيد في النهر، ورأى قارب الشرطة يشق طريقه بسرعة نحو المرسى. كان القارب يحمل على متنه عددًا من رجال الشرطة وأشخاصًا مهمين آخرين، من بينهم بول. وقف القس القصير بتجهم مريب.

تمتم قائلًا: «الآن؟! لماذا بحق السماء، لماذا بحق السماء لم تأتوا في وقت مبكر عن هذا؟»

بعد نحوِ سبع دقائق احتل الجزيرة أهالي القرية وهيمنت الشرطة عليها، وفي وقت لاحق ذكَّروا المبارز المنتصر كالمعتاد أن أي شيء سيقوله قد يُتخذ دليلًا ضده.

قال الرجل المضطرب عقليًّا بوجهٍ رائع ومسالم: «لن أقول أي شيء، لن أقول أي شيء بعد الآن. فأنا سعيد للغاية، وأنا لا أريد إلا أن أُشنق.»

بعد هذا أطبق فمه وهم يأخذونه. والحقيقة الغريبة المؤكدة أنه لم يفتح فمه مرةً أخرى في هذا العالم، إلا ليقول: «مذنب»، في محاكمته.

حدَّق الأب براون في الحديقة التي اكتظت بالناس فجأة، وفغر فاه إزاء اعتقال القاتل، وحمل الجثة بعد فحص الطبيب لها. كان يتابع كل هذا كما لو كان شخصًا يشاهد نهاية حلم سيئ؛ لم يكن يستطيع حراكًا كما لو كان في كابوس. أعطى اسمه وعنوانه بوصفه شاهدًا، لكنه رفض العرض الذي قدموه له بإعطائه قاربًا يحمله إلى الشاطئ، وظل وحده في حديقة الجزيرة يُحدِّق في شجرة الورد المهشمة والمسرح الأخضر بأكمله لهذه المأساة السريعة وغير المفهومة. اختفى الضوء على طول النهر، وساد الضباب الضِّفاف المستنقعية، وكان ثمة عدد قليل من الطيور المتأخرة تطير على نحوٍ متقطِّع عبر النهر.

عَلَقت بشدة في عقله الباطن (الذي كان نشطًا على نحو استثنائي) حقيقة دامغة مفادها أنه ما زال ثمة شيء لم يُفسَّر بعد، ولم تُمكِّنه خيالاته بشأن «أرض المرايا» من تفسير هذا الشعور الذي رافقه طوال اليوم. فهو إلى حدٍّ ما لم يرَ القصة الحقيقية، بل تلك كانت مجرد لعبة أو مسرحية تنكرية. ومع هذا فإن الأشخاص لا يُشنقون أو يتعرضون للقتل لمجرد تمثيل مسرحية هزلية.

وبينما هو جالس على درجات سلَّم المرسى يتأمل، أبصر ظلًّا طويلًا داكنًا لمركب شراعي يقترب في صمت على صفحات النهر اللامع، فهبَّ واقفًا على قدميه وانتابه شعور جارف حتى إنه كاد يبكي.

صاح: «فلامبو!» وأخذ يهز صديقه بكلتا يديه مرارًا وتكرارًا، مما أثار دهشة هذا الرياضي، وهو ينزل على الشاطئ ومعه عِدة الصيد. قال: «فلامبو، أنت لم تُقتل؟»

كرر الصياد بذهول كبير: «أُقتل؟ ولماذا أُقتل؟»

قال رفيقه بحماس شديد: «حسنًا، أقول ذلك لأن هذا ما حدث للجميع تقريبًا، فقد قُتل سارادين، وأنتونيلي يريد أن يُشنق، ووالدته فقدت الوعي، وأنا، أما أنا، فلا أعلم إذا ما كنت في هذا العالم أم في العالم الآخر. لكن حمدًا لله أنك في العالم نفسه الذي أنا فيه.» وأمسك بذراع فلامبو الذاهل.

حين ابتعدا عن المرسى وصلا إلى أسفل إفريز منزل البامبو المنخفض، ونظرا عبر إحدى النوافذ، تمامًا مثلما فعلا حين وصلا لأول مرة. وجدا المكان بالداخل جيد الإضاءة مما جذب أنظارهما. كانت الطاولة الطويلة في غرفة الطعام قد أُعدت لتناول الطعام حين حطَّ قاتل سارادين على الجزيرة كالصاعقة. وكان تناول الطعام يسير في هدوء؛ إذ جلست السيدة أنتوني في تجهم عند نهاية المائدة، بينما جلس السيد بول، كبير الخدم، على رأسها، يأكل ويشرب بكامل شهيته، في حين جحظت عيناه الزرقاوان الضعيفتا الإبصار على نحو غريب في وجهه، وكان وجهه الكئيب تعلوه ملامح غامضة لكنها لم تكن تخلو بأي حال من الأحوال من الرضا.

في حركة من نفاد صبر شديد قرع فلامبو على النافذة، وفتحها بقوة، وأطل برأسه الساخط داخل الغرفة المضاءة بالمصابيح.

صاح قائلًا: «حسنًا، يمكنني أن أتفهَّم أنكما بحاجة إلى نوع من التغيير، لكن أن تسرقا طعام سيدكما وهو مقتول في الحديقة …»

أجاب العجوز الغريب في هدوء: «لقد سرقت الكثير من الأشياء على مدى حياتي الطويلة والجميلة، وهذا الطعام هو أحد الأشياء القليلة التي لم أسرقها. فهذا الطعام وهذا المنزل وهذه الحديقة كلهم ملك لي.»

خطر ببال فلامبو فكرة فبادر بالقول: «هل تقصد أن تقول إن وصية الأمير سارادين …»

أجاب العجوز وهو يمضغ حبة لوز مملحة: «أنا الأمير سارادين.»

قفز الأب براون، الذي كان ينظر إلى الطيور بالخارج، كما لو أنه أُصيب بطلق ناري، وأدخل رأسه من النافذة. صار وجهه شاحبًا كلون اللِّفت.

ردد قائلًا بصوت حاد: «أنت ماذا؟»

قال الرجل الوقور بأدب وهو يرفع كأسًا من خمر: «بول، الأمير سارادين، تحت أمرك. أنا أعيش هنا في هدوء شديد بصفتي أحد الخدم في هذا المنزل، وبغرض التواضع أطلقت على نفسي اسم السيد بول، حتى أُميِّز نفسي عن أخي البائس السيد ستيفن. فقد مات، كما سمعت، مؤخرًا في الحديقة. بالطبع هذا ليس خطئي إذا تبعه الأعداء إلى ذاك المكان. السبب فيما حدث هو نمط حياته المضطرب المؤسف. فهو لم يكن شخصًا عاديًّا.»

صمت قليلًا، وواصل التحديق في الجدار المقابل له فوق رأس السيدة أنتوني المنحني والمكتئب، واستطاعا أن يريا بوضوحٍ التشابه الأُسري الواضح الذي ظل يؤرقهما في وجه القتيل. ثم بدأت كتفا الرجل الهرمتان ترتفعان وتهتزان بعض الشيء، كما لو أنه كان يختنق، لكن ملامح وجهه لم تتغير.

صاح فلامبو بعد فترة من الصمت: «يا إلهي! إنه يضحك!»

قال الأب براون، الذي ابيضَّ لونه تمامًا: «هيا بنا. هيا بنا نبتعد عن هذا المنزل الجهنمي. دعنا نركب قاربًا حقيقيًّا مرةً أخرى.»

كان الليل قد خيَّم على الشجيرات والنهر في هذا الوقت الذي جدَّفا فيه مبتعدَين عن الجزيرة، وسارا في مجرى النهر في الظلام الدامس، يُدفئان نفسيهما باثنين من السيجار الكبير كانا يُضيئان كأنهما مصباحا هذا القارب. أخرج الأب بروان سيجاره من فمه وقال: «أعتقد أنك تستطيع تخمين القصة بأكملها الآن، أليس كذلك؟ ففي النهاية، ما هي إلا قصة بدائية. كان لرجل عدوَّان، وكان رجلًا حكيمًا؛ ولهذا اكتشف أن عدوين أفضل من عدو واحد.»

رد فلامبو: «لا أفهم مقصدك.»

رد الأب على صديقه قائلًا: «حسنًا، إن الأمر بسيط بالفعل، بسيط لكنه أبعد ما يكون عن البراءة. كان كلا الأخوين سارادين محتالَين، لكن الأمير، وهو الأكبر سنًّا، من نوع المحتالين الذي يصل إلى القمة، في حين أن أخاه الأصغر، القبطان، كان من النوع الذي يغرق وصولًا إلى القاع. هذا القبطان الحقير تحوَّل من متسول إلى مبتز، وفي يوم ما أحكم قبضته على أخيه الأمير. من الواضح أن هذا لم يكن من أجل أمر تافه؛ إن الأمير بول سارادين كان فاسقًا على نحوٍ لا يخفى على أحد؛ ومن ثَم لم يكن ليبالي إذا اتُّهم بارتكاب أيٍّ من الجرائم الاجتماعية العادية … في الواقع، كان الأمر يتعلق بمسألة قد تؤدي إلى شنقه، وقد استغلها شقيقه ستيفن لتضييق الخناق على أخيه. فقد اكتشف بطريقة ما الحقيقة بشأن قضية صقلية، واستطاع إثبات أن بول قتل أنتونيلي الأب في الجبال. حصل القبطان على كمٍّ هائل من الأموال كي لا يكشف الحقيقة طوال عشر سنوات، حتى بدأت ثروة الأمير الهائلة تنفد.

إلا أن الأمير سارادين كان يحمل عبئًا آخر بخلاف أخيه الذي يستنزفه؛ فقد علم أن ابن أنتونيلي، الذي كان مجرد طفل صغير وقت مقتل أبيه، قد تربى على الولاء الصقلي الشديد للأسرة، ولم يكن يسعى للانتقام بالوسائل المشروعة (إذ لم يكن يمتلك الدليل القانوني الذي كان لدى ستيفن ضد أخيه)، بل كان يشرع في الثأر منه باستخدام أسلحة قديمة. فقد تدرب هذا الفتى على استخدام الأسلحة إلى حد الإتقان التام، وحين أصبح في سن يسمح له باستخدام هذه الأسلحة، بدأ الأمير سارادين، على حدِّ ما ورد في الصحف، في السفر. في الحقيقة إنه بدأ في الهرب حفاظًا على حياته، وظل ينتقل من مكان لآخر مثل مجرم هارب، لكن لم يكن يتعقبه إلا رجل واحد فقط. هكذا كان وضع الأمير بول، ولم يكن بأي حال من الأحوال وضعًا جيدًا؛ فكلما زاد كمُّ ما ينفقه من مال للهرب من أنتونيلي، قلَّ ما يوجد لديه من مال لينفقه من أجل إسكات ستيفن. وكلما زاد ما يعطيه لستيفن ليسكته، قلَّت فرصة هروبه في النهاية من أنتونيلي. ثم أثبت أنه رجل عظيم، رجل عبقري مثل نابليون.

فبدلًا من مقاومة عدوَّيْه، استسلم فجأة لكليهما. لقد استسلم مثل مصارع ياباني مخادع تظاهر بالاستسلام ثم انقضَّ على خصمه؛ فقد توقَّف عن الترحال فرارًا حول العالم، وأعطى عنوانه للشاب أنتونيلي، ثم تنازل عن كل شيء لأخيه. فأرسل مالًا كافيًا لستيفن من أجل شراء ملابس أنيقة والسفر بسهولة، مع خطاب يخبره فيه بأسلوب جاف: «هذا كل ما تبقَّى لدي. لقد أخذتَ كل مالي، ولكن ما زال عندي منزل صغير في نورفوك، به خدم وقبو، وإذا أردت الحصول على المزيد مني؛ فلا بدَّ لك أن تستولي على هذا المنزل. تعالَ واحصل عليه إن أردت هذا، وسأعيش فيه معك بهدوء كصديق لك أو موظف لديك أو أي شيء من هذا القبيل.» لقد كان يعلم أن الفتى الصقلي ربما لم يرَ الأخوين سارادين من قبلُ إلا في الصور، ولم يكن يعرف أنهما متشابهان إلى حدٍّ ما؛ فكلاهما لديه لحية مدببة رمادية اللون. بعد ذلك حلق لحيته وانتظر. وقد أفلح الفخ الذي نصبه؛ فقد دخل القبطان التعيس الحظ المنزل دخول المنتصرين بملابسه الجديدة بوصفه أميرًا ليتعثر في سيف الفتى الصقلي.

كانت ثمة عقبة واحدة، وهي تأتي إجلالًا للطبيعة البشرية؛ فالأرواح الشريرة مثل سارادين عادةً ما تتعثر حين لا تتوقع وجود الخير والفضيلة أبدًا لدى البشر؛ فقد اعتبر أنه من المسلَّم به أن ضربة الإيطالي، حين تأتي، ستكون غامضة وعنيفة ومجهولة المصدر، تمامًا مثل الضربة التي تُوجَّه ثأرًا لها؛ بمعنى أن يتعرض ضحيتها لطعنة سكين في الليل، أو تُطلق عليه النيران من وراء سياج من الشجيرات، وهكذا سيموت من دون أن ينبس ببنت شفة. ولهذا كانت لحظة عصيبة بالنسبة إلى الأمير بول حين اقترح أنتونيلي لشهامته إجراء مبارزة رسمية، بكل ما فيها من تفسيرات ممكنة. وعندها رأيته وهو يفر في قاربه بعينين جامحتين؛ فقد هرب عاري الرأس في قارب مفتوح قبل أن يتبين أنتونيلي حقيقة شخصيته.

بيْد أنه على الرغم من غضبه الشديد، لم يتملكه اليأس تمامًا؛ فقد كان يعرف المغامر وكان يعرف المتعصب. فقد كان من المرجح بشدة أن يلزم ستيفن، المغامر، الصمت وألا يُفصح عن أي شيء، لمجرد استمتاعه المُفرط بتأدية أحد الأدوار، ورغبته الشديدة في التمسك بمسكنه الجديد الوثير، وثقته الحمقاء في الحظ، ومهارته في المبارزة. كما كان من المؤكد أن أنتونيلي، المتعصب، سيلزم الصمت أيضًا، وسيواجه الشنق دون أن يسرد قصة أسرته. تلكأ بول في النهر حتى علم أن المعركة انتهت. بعد هذا ذهب مسرعًا إلى البلدة، وأحضر معه الشرطة، ورأى عدويه المهزومَين يتلاشيان إلى الأبد، فجلس يضحك وهو يتناول الطعام.»

قال فلامبو وقد انتابته رعدة شديدة: «يضحك، فليساعدنا الرب! هل يحصلون على مثل هذه الأفكار من الشيطان؟»

رد عليه القس: «لقد حصل على هذه الفكرة منك أنت.»

صاح فلامبو: «معاذ الله! مني أنا! ماذا تقصد؟»

أخرج القس بطاقة دعوة من جيبه ورفعها في الوهج الخافت لسيجارته، وكان مكتوبًا عليها بحبر أخضر.

سأله قائلًا: «ألا تذكر دعوته الأصلية لك، وإطراءه على مآثرك في مجال الجريمة؟ فهو يقول: «خِدْعتُك تلك التي جعلتَ بها محقِّقًا يُلقي القبض على محقق آخر.» لقد قلَّد خدعتك بالضبط؛ فحين وجد عدوين له من كلا الجانبين، انسلَّ من بينهما وتركهما يصطدمان ويقتل أحدهما الآخر.»

انتزع فلامبو بطاقة الأمير سارادين من يد القس ومزقها بشراسة إلى قطع صغيرة.

قال وهو ينثر القطع على أمواج النهر المعتمة التي تظهر وتختفي: «هكذا تختفي هذه الرسالة المسمومة، لكني أخشى أن تتسبب في تسمم الأسماك.»

غرق آخر وميض للبطاقة البيضاء والحبر الأخضر في الماء وتلاشى تمامًا، وغيَّر ضوء خافت ونابض بالحياة شكل السماء في الصباح، وازداد لون القمر خلف الحشائش شحوبًا، وانزلقا على صفحة ماء النهر في صمت.

قال فلامبو فجأة: «أيها الأب، هل تعتقد أن هذا كان حلمًا؟»

هز القس رأسه إما معارضةً أو استنكارًا، لكنه ظل صامتًا. وصلت لهما رائحة نبات الزعرور البري وروائح البساتين عبر الأجواء المظلمة، لتخبرهما بأن ثمة ريحًا ثائرة، وفي اللحظة التالية هزت هذه الريح قاربهما الصغير وأدت إلى انتفاخ الشراع، واندفعت بهما في مجرى النهر إلى أماكن أسعد حالًا وإلى منازل أناس ليس من طبائعهم إيذاء غيرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤