السيارة الخاطفة!

ترك «أحمد» قيادة السيارة ﻟ «إلهام» التي كانت جالسة بجواره … خلف عجلة القيادة الأخرى، وقام بفحص أجهزة الاتصال وأجهزة الاستقبال من الأقمار الصناعية، وعلى شاشة صغيرة بالتابلوه، ظهرت صورة متعرِّجة مُشوَّشة، ما لبثت أن اتضحت بمجرد تحريكه لبعض الأزرار، إلَّا أنها عادت لِمَا كانت عليه بمجرد عودته لعجلة القيادة مرَّة أخرى … فبدت له صورة مشوشة لرسالة شفرية، فأسرع بتسجيل محتوياتها في مفكرته الخاصة قبل أن تختفي، إلَّا أنه شعرَ بميل السيارة ميلًا شديدًا يصل إلى حد الخطورة، فالْتَفتَ إلى عجلة القيادة، ثم إلى «إلهام» فوجدها في حيرة شديدة وقد تبدَّى عليها القلق، والعرق يتصبَّب منها، وقد قفزت الأرقام في عداد السرعة إلى ٣٠٠ كيلومتر.

فسألها قائلًا: أتحتاجين لمعاونة؟

إلهام: لا أعرف إن كانت ستُجدي أم لا!

أحمد: اخفضي السرعة.

إلهام: لقد فقدتُ السيطرة عليها.

عثمان: تولَّ أنت القيادة يا «أحمد».

ولم ينتظر «أحمد» ما قاله «عثمان»، بل أمسك بعصا القيادة، إلَّا أنها لم تَستجِب له … ولولا أن الطريق الصحراوي مُمتَد وخالٍ من العوائق، ولولا ارتفاع السيارة في الهواء وعدم اعتمادها على العجلات في السير؛ لانقلبت بنفس قوة اندفاعها … وعبَثًا حاولَ تقليل سرعتها … فلم يُفلِح حتى في تغيير الاتجاه.

فاقترح «عثمان» استشارة الكمبيوتر الخاص بها … ورأت «إلهام» أن هذا الكمبيوتر يقتصر دوره على متابعة موجات الرادار، والتعامل مع العوائق، وإعطاء تقرير عن أعطال السيارة، وتحديد مواقعها.

أحمد: هذا ما نحتاجه بالضبط … إلَّا أنني أتوقَّع أن يكون عنده حلول لها … وكان الوقت يمرُّ سريعًا، والسيارة تندفع كالطلقة الطائشة، إلَّا أن ما اندهش له الشياطين أنها كانت تميل في المنحنيات، وتدور مع دوران الطريق، ممَّا يعني أنها سيارة ذكية، تقرأ الطريق كالإنسان بالضبط … إن لم تكُن تفوقه.

وقرأت «إلهام» ما يدور في ذهن عثمان، ورأت أنه على حق … فحتى لو كانت السيارة تخضع لتوجيه ذاتي وكان الطريق مُبرمَجًا عليها، فما كانت ستتخذ القرار من تلقاء ذاتها، بل يجب أن يتركوا لها القيادة بمحض إرادتهم … فهل اختطفتهم السيارة؟ ولو كان هذا اختطافًا، فهل بقرار ذاتي أم أن هناك توجيهًا خارجيًّا؟

أحمد: بما أن السيارة في حالة اختبار لأجهزتها … فأعتقد أن ما يحدث شيء عادي، وأنها مُجهَّزة للتوجُّه الذاتي.

عثمان: ولكن هذا هو طريقنا؟

أحمد: عندك حق، لقد خرجت بنا عن الطريق المرصوف! وهذه المنطقة مشهورة بالرمال المتحركة.

إلهام: وإلى أين تتجه بنا؟ وماذا سنفعل في عمق الصحراء؟

عثمان: أترين هذا الوادي المنخفض؟

إلهام: أنا لا أرى غير ذلك الجبل الضخم الذي تتجه إليه السيارة … يجب أن يكون هناك حلٌّ.

وقبل أن تبلغ السيارة الجبل، مالت ميلًا شديدًا، وهي تنحرف في دائرة واسعة مرتفعة إلى أعلى، وقفزت الأرقام في عداد السرعة إلى ٤٠٠ كيلومتر، والشياطين ينظرون لبعضهم في حيرة … والابتسامة تعلو وجوههم ممَّا تفعله هذه السيارة المحترفة التي تحوَّلَت إلى طائرة، ولا يعرفون إلى ماذا ستتحوَّل في المرة القادمة!

وعند قمة الجبل دارت السيارة حول نفسها … وسرعتها آخِذة في الانخفاض … إلى أن توقَّفَت تمامًا، وارتفع من مقدمتها تلقائيًّا … هوائي استقبال حديث للغاية … وعاد الكمبيوتر للعمل … وعلى شاشته الصغيرة بدَت صورة أحد رجال المنظمة بالمقرِّ يقول: طبعًا أنتم مُندهِشون لِمَا حدث … وسأفسِّره لكم. لقد كان هناك مَن يتعقَّبكم، وحاولنا تحذيركم؛ فالتعقُّب كان راداريًّا وبالأقمار الصناعية … ولكننا وجدنا أننا بتحذيركم سنسهل مهمته … فأرسلنا أوامر شفرية للسيارة بالخروج من الطريق، وكنا نرسل الأوامر كلما استدعى الأمر … فبرنامج السيارة مُهيَّأ للتعامل مع مثل هذه المواقف والظروف … وأعتقد أنكم رأيتم بأنفسكم … كم كانت محترفة هذه السيارة!

أحمد: تقصد الطائرة!

المقر: لا نستطيع أن نطلق عليها ذلك؛ لأن مسافات طيرانها محدودة.

إلهام: وهل هي كذلك في المدن؟

المقر: بالطبع لا … فالزحام في المدن لا يسمح لغير عقل الإنسان بالقيادة … تستطيعون الآن إكمال طريقكم إلى «القاهرة» … وفَّقكم الله!

عثمان: وهل هي مُهيَّأة للعودة … أم للذهاب فقط؟

ابتسم رجل المقر وهو يقول: بالطبع ستعود بكم إلى الطريق الرئيسي.

ورغم كل ما حدث وخروج السيارة عن الطريق الرئيسي، وتوغُّلها في الصحراء وعودتها مرة أخرى، فإنهم لاحظوا أن الوقت ما زال مبكرًا، وأنهم لم يستغرقوا وقتًا طويلًا … وما زالت فكرة العودة بهذه السيارة فكرة راجحة.

وعلى الطريق شعروا أنهم أكثر ثقة في التعامل مع السيارة … وأثناء الطريق ارتفعت الأرقام في عدَّاد السرعة إلى ٤٠٠ كيلومتر، ممَّا دفع «إلهام» لأن تعلِّق على ذلك قائلة: أشعر أني أركب سيارة الأخطار في «ديزني لاند».

وقبل أن ترحل الشمس وصلت السيارة وبها ثلاثتهم إلى المقر السري بالهرم، وأعلنت أجهزة كمبيوتر المقر وصولهم … في نفس وقت تواجدهم في غرفة المعلومات، وكانت «ريما» منشغلة مع «فهد» في التجهيز لاجتماع رقم «صفر» في مساء نفس اليوم، وعندما شعرت بوجود «أحمد» الْتَفتَت إليه مُرحِّبة، فنظر إليها ضاحكًا وهو يقول: ما رأيك … أسرع من «الهارد ديسك»؟!

فضحكَت كثيرًا لمداعبته … فقد كانت ترتاح لتواجده … وتحب خفة دمه.

وقبل الاجتماع بساعة كان الشياطين كلهم أمام أجهزة الكمبيوتر، يسترجعون المعلومات عن حادثة «رملة بولاق»، وعن حرب البطاطس المشتعلة بين «مصر» ودولة معادية لا تحب مصلحتنا.

وفي الميعاد المحدَّد، ارتفع صفير متقطِّع … فأعطى الشياطين الأمر لأجهزتهم، لتدخل على الشبكة … وأصبحت كلُّ أجهزة الكمبيوتر مُهيَّأة لحضور الاجتماع، وظهر على شاشاتها … خطوط بيانية متراصَّة، وخرج صوت رقم «صفر» يُلقي عليهم تحية المساء … والخطوط تتحرَّك صعودًا وهبوطًا مع صوته.

وبدأ رقم «صفر» الحديث قائلًا: مبروك السيارة الجديدة يا «أحمد».

فابتسم «أحمد» وأكملَ رقم «صفر» كلامه قائلًا: الرحلة كانت يسيرة جدًّا ولكنها كانت مثيرة … أليس كذلك؟

كاد «أحمد» يجيبه لولا أنه استطرد قائلًا: عرفتم أن الحروب القديمة انتهى عهدها، والآن … هناك حرب واحدة تسود العالم أجمع … وتتجمَّع لها الدول في تكتُّلات، إنها الحرب الاقتصادية.

زبيدة: وأيضًا حرب المعلومات؟

رقم «صفر»: لا … إن المعلومات هي سلاح هذه الحرب، وبعد أن كانت صناعة السلاح هي أكثر الصناعات رواجًا في العالم، حَلَّت محلها الآن صناعة المعلومات.

ريما: وما هي صناعة المعلومات؟

رقم «صفر»: هي تحويل المعلومة إلى كائن مفيد بذاته … وبما ينشأ بينه وبين باقي المعلومات من علاقة تؤدِّي إلى نتائج، تُدار بها كل حياتنا الآن.

أحمد: وهل نحن مستعدون الآن لهذه الحرب؟

رقم «صفر»: ليس بالقَدْر الكافي … ولكننا على الطريق، والطريق أمامنا طويل.

إلهام: وكيف نقصِّر ذلك الطريق؟

رقم «صفر»: بتوحيد إمكاناتنا، وتوجيه ثرواتنا إلى البحث العلمي … فنحن نبيع لهم البترول، وهم يبيعون لنا نتاج مراكز البحوث عندهم.

أحمد: نعم … فاليابان مثلًا، ليس لديها موارد طبيعية … ونحن لدينا ثلثا احتياطي البترول في العالم … ومع ذلك فهي ضمن أكثر دول العالم غنًى … ونحن لا.

رقم «صفر»: ونحن في «مصر» استفدنا من جهود علمائنا في زراعة أجوَد أصناف البطاطس المطلوبة عالميًّا … بكميات كبيرة … وأصبحنا من أكبر المُصدِّرين لها … ولكن هناك مَن لا يريدون لنا ذلك … ويحاربوننا بوسائل شتَّى.

إلهام: وقد فعلوا ذلك معنا خارج «مصر» من قبل.

رقم «صفر»: ولأنهم فشلوا … فقد ضاعفوا جهودهم في الداخل والخارج.

فهد: لقد توصَّلتُ إلى معلومات تفيد بأن بعض الرجال الذين ينتمون لمنظمة معادية خارج «مصر» … أتَوْا كمُستثمِرين … يشجِّعون زُرَّاع البطاطس على زراعة محصول آخَر، ويَعِدونهم بشرائه … بأسعار مُشجِّعة، بحيث تفوق أرباحهم ما يُحقِّقونه من زراعة البطاطس، وذلك بحجة احتياج السوق العالمي لهذا المحصول، وارتفاع سعره.

رقم «صفر»: إنها تشبه عملية الإغراق.

عثمان: وما هو الإغراق؟!

رقم «صفر»: أي أن تدعم دولة إنتاجها من سلعة مُعيَّنة (كالسُّكَّر مثلًا)، وتُصدِّره لدولة أخرى بسعر غير حقيقي … أقل من سعر السلعة في هذه البلاد … فيُقبل الناس عليها … ويُعرِضون عن إنتاج بلدهم، وتموت صناعة «السُّكَّر» في هذا البلد … فيتحكَّمون في الأسعار بعد ذلك.

أحمد: تقصد أنهم يُشجِّعون زُرَّاع البطاطس على زَرْع محصول آخَر، ويشترونه بسعر غير حقيقي، حتى يقضون على زراعة البطاطس في «مصر»، وبعد ذلك يتركونه حتى لا يجد مَن يشتري منه ذلك المحصول.

رقم «صفر»: نعم.

إلهام: إذَن مهمتنا هي توعية الزُّرَّاع … ورصد هذه العناصر … والقضاء عليها.

رقم «صفر»: هذا جانب.

ريما: وعلى الجانب الآخَر … هناك مكتب تصدير حاصلات زراعية، تُديره سيدة لبنانية كانت صديقة لوالدتي، وعرفتُ منها أن صاحب هذا المكتب لبناني الجنسية … وبالتحرِّي عنه عرفتُ أنه يعمل في مجال الاستيراد والتصدير منذ فترة كبيرة، وقد افتتح مكتبه هنا … منذ الحرب الأهلية اللبنانية … وله علاقات عديدة في أكثر من دولة بالمنطقة … ومعظم دول العالم … لكن المثير في الأمر أنه من أكبر مُصدِّري الزهور لفرنسا، وبالمناسبة فهي من أكثر الدول استيرادًا للزهور منا. وقد قام بتشجيع كثير من الزُّرَّاع على التحوُّل من محاصيل هامة للدول ﮐ «القمح» و«القطن»، إلى زراعة «الزهور» ونصب الصوبات لزراعة «الخيار» وغيره من خضراوات التصدير.

رقم «صفر»: تقصدين أن هناك احتمالًا أن يكون ضالعًا في إحجام بعض الزُّرَّاع عن زراعة البطاطس؟

ريما: أنا في دوري لإثبات ذلك.

أحمد: على ذلك قد يكون له دورٌ أكبر من ذلك.

رقم «صفر»: بداية الغَزْل خيط … ومعكم طرفُه … وفَّقكم الله!

اختفت الخطوط من على الشاشة، وظهر بدلًا منها عبارة «وفَّقكم الله!» فأخرجوا أجهزتهم من على الشبكة وأغلقوها. وبرغبة جماعية انتقلوا يتحادثون إلى قاعة الترويح، حيث الموسيقى الناعمة … تنبعث من جنباتها … وغابة من أشجار الزينة … والورود ذات الألوان الساحرة تحتضن المقاعد الوثيرة في تنسيق بديع … وتزيد بهاء الأضواء الخافتة … ذات الألوان الدافئة … وخفتت أصوات الشياطين بمجرد أن دخلوها، وكأنهم خضعوا لقوانين المكان … وكان ذلك هو المقصود من تصميم القاعة … فالأصوات العالية، والضوضاء الصاخبة، والمكان المزدحم، كل ذلك لا يساعد العقل على التفكير السليم.

وطلب «أحمد» من «إلهام» أن تُعِد لهم مشروبًا ساخنًا، ولا تعتمد في ذلك على عامل البوفيه … فسألَتْه: ماذا تشرب؟

أحمد: بطاطس!

ضحك الشياطين، وطلبوا من «إلهام» إعداد مشروبهم العالمي المفضل «الشاي».

فقالت لهم: إنه أصعب اختبار؛ فالشاي يحتاج لخبراء في صناعته.

أحمد: أما البطاطس، فتحتاج لأن نعرف ماذا سيفعل هذا اللبناني، والذي أشكُّ في جنسيته، غير تشجيع الزُّرَّاع على التحول عن زراعتها.

إلهام: ربما سيبث رجاله في أماكن التخزين في الموانئ، ليحقنوا صناديق الشحن بموادَّ … تؤدِّي لتلف عبواتها … قبل الوصول إلى الموانئ الأوروبية وفَحْصها.

مصباح: وبذلك تُرفَض الشحنة كلها.

قيس: ليس هذا فقط … بل هناك احتمال أن يكتب تقريرًا معه للجهات المسئولة فتمنع استيراد البطاطس المصرية.

بو عمير: وكالعادة … تتناول الصحف العالمية هذا الموضوع بصورة تُسيء إلى «مصر»، ونخسر أسواقًا يكسبها أصحاب المصلحة.

ريما: وكذلك نخسر احترام العالم لنا.

أحمد: كفاكم. لقد جعلتموني أشعر أن الحرب العالمية الثالثة ستقوم.

إلهام: إذَن، فهذا الرجل هو مفتاح مهمتنا.

عثمان: ألا تعرفين اسمه يا «ريما»؟

ريما: نعم … اسمه السيد «كنعان».

عثمان: وأنا «كنعان» أقصد جوعان … فما رأيكم في ساندويتشات؟

أحمد: إن كان لا بد … فساندويتش «شيبسي».

إلهام: أوه … بطاطس مرَّة أخرى.

تأخَّر الوقت، وذهب الشياطين إلى أسِرَّتهم، وهم يُفكِّرون في هذا النوع الجديد من العصابات … ورغم أن الموضوع غير مثير … فإنه خطير … وتذكَّرَ «أحمد» قبل أن ينام حرب القطن، وكيف أن قطننا المصري طويل التيلة والمطلوب جدًّا في الأسواق العالمية … بالذات الأسواق الأمريكية، قابَل حروبًا كثيرة للقضاء على احتكاره للسوق، وتذكَّر مزارع البطاطس، في أرض المقر السري الكبير بالصحراء الغربية … وكيف تسلَّل إليها هؤلاء الرجال لينشروا فيها الآفات الضارة … وقد رآهم على شريط الفيديو الذي قامت بتصويره غرفة المراقبة بالمقر، وقد كان أحدُهم منحنيًا يدفن شيئًا في الأرض، فماذا كان يخفي؟

فانتبهت حواسه وشعرَ أن شيئًا خطيرًا قد حدَث … فالآفات الزراعية لا تحتاج إلى دفن في الأرض … وعملية الدفن هذه لم يُسمَع عنها إلَّا في التعامل مع النفايات الذريَّة … وإن صحَّ ذلك، فهو يُعرِّض المنطقة كلها لخطر التلوُّث الإشعاعي … فالمقر والمزرعة الملحقة به في خطرٍ … وعليه أن يتصل الآن — وليس بعد الآن — بالمقر السري الكبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤