تصدير

نهاية المطاف للجبهة الأولى

«من النقل إلى العقل» هي محاولة لإعادة بناء العلوم النقلية الخمسة بعد أن تركها القدماء والمُحدَثون كما وضعها الأوائل مكتفين بوضعها تاركين للزمن تطويرها، وهي: علوم القرآن، علوم الحديث، علم التفسير، علم السيرة، علم الفقه، بصرف النظر عن الترتيب. وهي العلوم السائدة في الكليات الأزهرية والكليات الدينية والتي تخشى كليات الآداب عامة وأقسام الفلسفة خاصة الاقتراب منها، وهي الأقدر على دراستها، خاصة وأنها كليات الآداب والعلوم الإنسانية.

وهي أكثر العلوم تأثيرًا في الحياة العامة والخاصة استشهادًا بحجة القول «قال الله» و«قال الرسول» القائم على منهج الانتقاء والانتزاع من السياق والاختيار وفقًا للأهواء، اعتمادًا على سلطة النص منفصلًا عن سلطة العقل؛ فيتحول النص إلى مُقدَّس، يدخل في معارك التفسير والتأويل والتي تصل إلى حد التكفير، وتقوي جذور السلفية منذ أحمد بن حنبل وابن تيمية وابن القيم ورشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب.

والسؤال بالنسبة لنا: لماذا تبقى هذه العلوم نقليةً خالصة ولا تنضم على الأقل إلى مجموعة العلوم النقلية العقلية مثل الكلام والفلسفة وأصول الفقه والتصوف؟ لماذا لا يتم تحويلها إلى علومٍ إنسانية؛ فالقرآن علم النص، والحديث علم الرواية، والتفسير علم الهرمنيطيقا، والسيرة علم التاريخ، والفقه علم القانون؟ إن العقل أساس النقل، ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل، النقل دون عقل يبقى ظنيًّا خالصًا في حين أنه بتأسيسه على العقل يصبح أقرب إلى اليقين، ولماذا ندافع عن العقلانية ولا نقضي على جذور اللاعقلانية من تراثنا القديم؛ أي من ثقافتنا الشعبية بعد أن تحولت أجزاء فيه إلى أمثالٍ عامية؟ وهل تنجح المشاريع العربية المعاصرة مثل «نقد العقل العربي» في إرساء قواعد العقلانية في أرضٍ ثقافتها نقلية؟ وهل تنجح عقلانيةٌ عربيةٌ مستمَدَّة من العقلانية الغربية العلمية أو الرياضية ومقلِّدة لها والعقلية العربية مغروزة في العلوم النقلية؟

ولماذا تظل العلوم الإسلامية القديمة ثابتة في لحظةٍ تاريخيةٍ واحدة لا تتطور، والزمن يتغير؟ إن العلوم جزء من الثقافة، والثقافة تتغير بتغير العصور والأزمان. العلوم مثل الفلسفات والفنون، جزء من تصورات العالم التي تعبر عن تطور الوعي الإنساني.

إن أخطر ما يهدد العلم نزعتان متناقضتان: القطعية والشك. الأولى تجزم باليقين المطلق الثابت الذي لا يتغير حتى لو عارضت اليقين العقلي أو اليقين الحسي، والثانية الشك في كل شيءٍ وعدم التسليم بشيء حتى لو كان البداهة العقلية أو الحسية، وهما النزعتان اللتان تؤديان إلى الإثبات المطلق أو الرفض المطلق، وقد تكون مرحلتَين متتاليتَين؛ البداية بالقطعية والنهاية أو البداية الثانية بالشك. هكذا كان الحال في الغرب عندما بدأ بالقطعية عند بوسويه وليبنتز، وكانت البداية الثانية بالشك عند ديكارت في القرن السابع عشر. ويكفينا نحن أن نتساءل دون إصدار حكم، ونترك إصدار الأحكام إلى الأجيال القادمة. والتساؤل جزء من ثقافتنا داخل في قلب النص «ويسألونك عن …» سماه ياسبرز الفلسفة «التساؤلية». وكانت الأسئلة قديمًا من وحي عصرها: المحيض، الإنفاق، الخمر والميسر، الأهِلَّة، الشهر الحرام، اليتامى، الجبال، الروح، ماذا ينفقون، ونسأل نحن في هذا العصر عن: الاستبداد، والقهر، وحقوق الإنسان، والفقر، والظلم، والاستعمار، والصهيونية، والعولمة. والأحكام تتغير وتتبدَّل فيما عُرف باسم الناسخ والمنسوخ طبقًا لتغيُّر الأزمان؛ فالأحكام الشرعية تسير وفقًا للمصالح العامة.

لقد آن الأوان أن نبدأ الإصلاح من الجذور بدلًا من أن نبدأه منذ قرنَين من الزمان، ويكبو جيلًا وراء جيل، حتى نحصل على ثورةٍ دائمة بدلًا من مجرد الطموح إليها ولا تأتي بل تكبو؛ إذ إنها تبدأ عاجزة. لذلك أصبح التقدم لدينا دائريًّا أو متجهًا إلى الخلف وليس متجهًا إلى الأمام. ونؤجل معركته خوفًا من الصدام مع معوقاته، وفي نفس الوقت نعجب بمفهوم التقدم المستمر إلى الأمام في الغرب الذي دخل معاركه وانتصر فيها.

لقد ظهر الجزء الأول من «من النقل إلى العقل» عن «علوم القرآن»، والجزء الثاني عن «علم الحديث» في بيروت ٢٠١٠م لما عرفت عنه من شجاعةٍ فكرية وحرية رأي، ويبدو أنه لا عاصمة عربية تعلو على القاهرة التي احتضنت الأجزاء الخمسة: القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه كمقدمة للطبعة الثمانينية لأحد مفكريها. تتلوها «من النص إلى الواقع» في علم أصول الفقه، ثم «من الفناء إلى البقاء» في علوم التصوف ثم «محمد إقبال». وعسى أن يطول الأجل لإتمام باقي الأجزاء وآخرها الجبهة الثالثة «الموقف من الواقع» أو «نظرية التفسير». وتظل الهيئة العامة للكتاب الأمينة على حرية الرأي منذ بولاق حتى الضفة الأخرى كورنيش النيل. وحاضنة لمفكريها الأحرار بالرغم مما يبدو عليها من كبواتٍ وقتية سرعان ما تنهض بعدها لتستأنف تاريخها.

حسن حنفي
مدينة نصر، ٣٠ / ٦ / ٢٠١٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤